السلام عليكم

أسباب الاجتهاد في رمضان *
د. الأستاذ محمد حاج عيسى
جامعة تلمسان 2 - الجزائر
24 أبريل 2020م

أما بعد،
فإن شهر رمضان الاجتهاد في الطاعات والتنافس في الخيرات، شهر النفحات الربانية التي ينبغي السعي للتعرض لها، وقد جاء في الحديث :" افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، سلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمن روعاتكم"-الصحيحة للألباني(1890)- فعلى العبد الكيس أن يستغل هذا الشهر وأن ينظر في ما يعينه على استغلاله، وأن يجعل نصب عينيه قول الحسن البصري :"إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا ، وتخلف آخرون فخابوا ! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون"، وفي هذه المقالة بيان لأسباب الاجتهاد المعنوية ودوافعه النفسية، نسأل الله تعالى أن ينفع بها.
1- الشعور بالتقصير والحاجة إلى الأعمال المكفرة
من أهم ما يدفعنا إلى الاجتهاد في رمضان أن نعلم أننا بحاجة التوبة إلى الله تعالى، وأن نشعر بأننا قد قصرنا في طاعاته عز وجل، فإن الرجوع إلى الله تعالى في شهر رمضان، من واجب كل مسلم وليس من واجب بعض الناس دون بعض، فإذا شعرنا بالذنب والتقصير اجتهدنا وإذا اغتررنا وأحسنا الظن بأنفسنا تركنا الاجتهاد لغيرنا، إن من رحمة الله بنا ومن منِّه وكرمه أن جعل في هذه الدنيا محطات نتعرض فيها إلى رحمته، فعلينا أن لا نضيعها عسى أن تصيبهم نفحة منها فنرحم رحمة لا نشقى بعدها أبدا، فعلينا أن ندع الغرور والاستعلاء وتزكية النفس جانبا، عسى أن يرحمنا ربنا.
2- محاسبة النفس
ومن أسباب الاجتهاد محاسبة النفس بسؤالها عن رمضان الفارط والذي قبله، وعن أعمال السنة التي رفعت في شعبان، كم صلينا؟ كم صلينا من صلاة في المسجد؟ كم من صلاة ضيعناها وأخرجناها عن وقتها؟ كم من صلاة نمنا عنها؟ نحاسب أنفسنا في الزكاة، هل نحن نؤدي الصدقة الواجبة؟ هل نحن نعين الفقراء؟ كم من صدقة تصدقنا بها؟ كم من بيت من بيوت الله أسهمنا في بنائه؟ في الصيام كم صمنا من النوافل؟ في العلم كم من مجلس علم حضرناه؟ كم من مسألة تعلمناها في هذه السنة؟ وكم من مجلس علم أعرضنا عنه وضيعناه؟ كم من عمل خير قمنا به؟ وكم من عمل خير كان أمامنا وكان بإمكاننا أن نقوم به أو نسهم فيه فضيعناه؟ فلنحاسب أنفسنا عن كل ذلك وغير ذلك؟ كم من رمضان فات وانقضى من السنوات الماضية وندمنا بعده؟ ندمنا بعد أن تصرمت أيامه وانقضت ساعاته، بعد ذلك قلنا يومها وساعتها يا ليتنا عملنا ويا ليتنا اجتهدنا، ويا ليتنا أطعنا وسارعنا؟ كم قد مر علينا من رمضان، فلم نعرف كيف نستغله؟ وكيف نستثمره؟
3- الشعور بنعمة رمضان
إن من أعظم نعم الله تعالى علينا أن نوفق لإدراك شهر رمضان، ومما يدلنا على هذه الحقيقة أن نتذكر هذا الخبر الذي رواه الإمام أحمد وغيره: أسلم رجلان من قضاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في زمن واحد، ولعل ذلك كان في يوم واحد، أما أحدهما فاستشهد وأما الآخر فعاش بعد الأول سنة كاملة، فرأى أحد الصحابة الثاني منهما سبق الشهيد إلى الجنة، فجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لما يعرفه من فضل الشهادة وأنها مكفرة للذنوب وأنها من أسباب مغفرة الله تعالى ودخول الجنة، فكيف يسبقه إلى الجنة هذا الذي مات ميتة عادية؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاش بعده سنة صام فيها رمضان وصلى وكذا وكذا من صلاة لم يصلها الأول.
إنه شهر رمضان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا كان أو ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة" (رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة) إنه رمضان الذي نهاره صوم ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول :"من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "غفر ما تقدم من ذنبه" ليس أمرا سهلا أن تغفر جميع الذنوب ولكنَّ فضل الله عظيم، إنه شهر رمضان الذي ليله قيام ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول :"من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، قيام رمضان نافلة ليس واجبا ومع ذلك من فضل الله تعالى علينا من منه وكرمه ومن سعة رحمته سبحانه وتعالى أن جعله كفارة لجميع الذنوب والخطايا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، قال الله عز وجل: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ". لأن الصوم هو الصبر إن شهر الصوم هو شهر الصبر، والله تعالى يقول عن الصابرين :" إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر:10)، ولأنه العمل الذي يمتحن فيه العباد ويظهر إخلاصهم لله تعالى، كل العبادات الظاهرة يراها الناس، قد يكون للعباد فيها حض، لكن الصوم بينك وبين الله تعالى، عبادة ظاهره لكنها خفية، من الذي يطلع عليك من الذي يراك إلا الله تعالى.
4- الخوف من ضياع الشهر
من أسباب الاجتهاد الخوف من تضييعه ، وإن نبينا صعد يوما المنبر فقال: آمين آمين آمين، فقيل يا رسول فقد فعلت كذا وكذا فما الخبر فقال:" إن جبريل جاءني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت آمين.
من أدركته كل هذه الفضائل من أدركته هذه المنحة الربانية، ثم بعد ذلك أعرض عنها ولوى عنقه وولاها ظهره ولم يأبه بها ولم يلتفت إليها، المنادي ينادي أقبل إلى الله تب إليه وحاسب نفسك، ها هي أبواب الجنة قد فتحت وهو لا يبالي، إن من كان كذلك يستحق من الله تعالى أن يبعده من رحمته. دعاء دعا به جبريل عليه السلام وأمن عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
إن من ضيَّع شهر رمضان فهو لما سواه أضيع، من غفل في رمضان مع أن مردة الشياطين مصفدة ونفسه للطاعة مهيئة، وفي النهار صيام في الليل قيام، إن من غفل مع كل ذلك متى يستيقظ من غفلته؟ رمضان شهر الإخلاص ومراقبة الله تعالى، شهر من عاشه كما أراد الله تعالى وصل إلى حقيقة التقوى، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). والجنة لا يدخلها إلا المتقون، والله تعالى إنما يتقبل من المتقين.
5- دراسة أسباب الغفلة لاجتنابها
ولننظر أيضا في الأسباب التي جعلتنا نضيع رمضان في السنوات الماضية، لماذا أضعتَ رمضان؟ لنسأل أنفسنا ما هي الأشياء التي شغلنا؟ وما هي الأشياء التي صدنا عن سبيل الله وعن طريق الله؟ ما هي الأشياء التي جعلنا محرومين أو مقصرين؟ وهذا الكلام لجميع الناس، وأنا أولكم، لا يوجد إنسان -فيما أظن- إذا انقضى رمضان يقول بأنه قد قامه إيمانا واحتسابا، وصامه إيمانا واحتسابا، وقدم فيه من الطاعات كل ما كان بوسعه، إنه لا يزعم ذلك إلا مغرور، وإننا لنقرأ كلام العباد الزاهدين والعلماء الصالحين يأسفون على ذهاب هذا الشهر العظيم، ويخافون أن لا تتقبل أعمالهم، فهل نحن خير منهم؟ ما من إنسان عمل إلا وكان بإمكانه أن يعمل أكثر، فالكلام موجه إلى جميع المؤمنين، إلى جميع من يرجوا الله واليوم الآخر دون استثناء.
6- وضع برنامج تفصيلي للأعمال في رمضان
وكذلك علينا أن نسطر برنامجا يوميا مكثفا لأعمالنا في هذا الشهر المبارك-كل واحد منا له برنامجه وأعماله وواجباته-، لأن أيامه ستنقضي بسرعة البرق، علينا أن نضع البرنامج الذي نقدر على المداومة عليه، وإن يوم الصائم يبدأ قبل الفجر، ابتداء من وقت السحر، فإن السحور بركة، فإذا استيقظ في وقت السحر نال بركة السحور وبركة تأخيره، وقام في الثلث الآخر من الليل يدعو الله تعالى حين ينزل إلى السماء الدنيا، وإذا استيقظ في هذا الوقت فإنه يحافظ على صلاة الفجر ونجعلها في هذه الأيام في بيوتنا الجماعة، ننتظر المؤذن لنجيبه ثم نصلي سنة الفجر وندعو الله قبل الإقامة، ومن بقى في مصلاه يذكر الله تعالى ويدعو ويستغفر فإن الملائكة تستغفر له ما دام كذلك ويحافظ على أذكار الصباح وعلم من نفسه قوة يبقى كذلك إلى أن يصلي صلاة الضحى في أول وقتها ومن علم من نفسه ضعفا فلا يطل ولينم ساعة ليستيقظ بعدها فلا يضيع عليه البكور ويشرع فيما تيسر له من عمل وواجبات، وينبغي تجنب نوم الصبحة قدر الطاقة ومن أراد القيلولة فليجعلها ساعة قبل الزوال فهو أفضل أوقاتها أو بعد صلاة الظهر، وفي هذا الشهر نحن نحتاجها من أجل قيام الليل –وهي مع الحجر المنزلي ممكنة- ولنجعل لأنفسنا وردا من القرآن في النهار بعد صلاة الظهر وبعد صلاة العصر للتلاوة أو لمراجعة ما نصلي به في الليل ، وعلينا نصلي التراويح بعد العشاء مباشرة ولا نطيل فيها كثيرا حتى نتمكن من الاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل.
7- قراءة أحوال السلف في رمضان
ومما يرفع همتنا في هذا الشهر أن نطالع أحوال السلف في رمضان، ففي قراءة القرآن مثلا كان الأسود بن يزيد يختم القرآن في كل ليلتين وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال. وكان سعيد بن جبير يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء، وكان قتادة يختم القرآن في سبع وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.
وفي باب القيام نجد قول عبد الرحمن بن هرمز الأعرج كان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، فإذا قام بها في ثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف، وقال الربيع بن سليمان: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة" وفي رواية:"كل ذلك في الصلاة"، وكان محمد بن إسماعيل البخاري يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ويقوم التروايح كل ثلاث ليال بختمة.
وفي باب النفقة نجد أن حماد بن أبي سليمان كان يفطر في شهر رمضان خمس مئة إنسان، وأنه كان يعطيهم بعد العيد لكل واحد مئة درهم، وفي رواية :"كان يفطر كل يوم في رمضان خمسين إنسانا فإذا كان ليلة الفطر كساهم ثوبا ثوبا".
إلى غير ذلك من الآثار التي ترفع الهمم وتدفع إلى الاستزادة من الخير نسأل الله تعالى أن يتقبل منا أعملنا وصيامنا وقيامنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. اهـ.

* منقول من صفحة فضيلة الأستاذ على الفيسبوك.

تابع لهذا الموضوع... هنا :
عوائق الاجتهاد في رمضان

والله الموفق.