أولا:
ثانيا
كون ابن مسعود ماهرا في القرآن أمر مسلم به ولا مِرية فيه، لكن الله أمرنا برد الاختلاف إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه القضية عندما رددناها إلى كتاب الله وجدنا الآيات التي يستدل بها المحرم عامة واختلف السلف في تفسيرها، وقصرُها على الغناء نوع من التدخل والتعديل في الدين يأبى الله أن يترككم تعبثون بدينه وفق أهوائكم الميالة للتضييق على عباده وإدخالهم جهنم.
ثالثا
روي عن ابن مسعود تفسيرها بالغناء وضَعّف ابن حجر والذهبي الإسناد إليه إن كنت تثق بعلمهما.
رابعا
ذكر أخونا الباحث أحمد فوزي وجيه في كتابه المفيد: "رويداً يا محرم الغناء" بعضَ ما ضُعِّف به الأثر، من ذلك كون أبي معاوية البجلي وهو عمار الدهني لم يسمع من سعيد بن جبير.
ثم هو لا يرويه عن ابن مسعود إلا أبو الصهباء صهيب البكري، وهو مختلف فيه، وثقه ابن زرعة وضعفه النسائي.
وضعف الأثرَ الذهبي في المهذب في اختصار سنن البيهقي.
خامسا
الآية قيدت الذم بقصد الإضلال بالآيات واتخاذها هزؤا وهذا لا يصدر إلا من كافر فهل مبيح الغناء كافر؟
أي هل رواة البخاري ومسلم الذين يبيحون الغناء كفار؟ مثل أبناء الماجشون، والقاضي العنبري، وسعد بن إبراهيم.
سادسا
التفسير المنسوب لابن مسعود لم يُعرج على آلات المعازف وإنما ذكر الغناء فقط، والغناء يشمل عدة أنواع مثل: الترنم، والنصب، والحداء، والإنشاد...إلخ
فهل هذه الأنواع محرمة؟
أليس هناك شبه اتفاق على إباحة الحداء والترنم والإنشاد والنصْب؟
سابعا
كونك تعتبر السمود بمعنى الغناء وعليه فالغناء حرام، فعليك إذاً أن تعتبر الضحك والتعجب كذلك لأن الآية ذكرتها كلها فلمَ تخصيص الغناء فقط بكونه حراما ولم تجعل الضحك والتعجب حراما؟
ثامنا
إن قلتَ لا يُذم الضحك والتعجب إلا إذا استخدما كاستخدام المشركين هنا لهما وهو للسخرية من الدين فقل نفس الشيء عن السمود فلا يذم إلا عند السخرية من الدين والاستهزاء منه، على أن كلمة السمود لا تعني الغناء عند جميع السلف، ففيها عدة أقوال أخر من أضعفها تفسيرها بالغناء على لغة حمير .
تاسعا
تفسير آية الإسراء: "واستفزز من استطعت..."إلخ بالغناء هو تفسير منسوب لمجاهد رحمه الله، وقد خالفه ما نُسب لابن عباس رضي الله عنهما من كون صوت الشيطان: كل داع يدعو إلى معصية الله..
عاشرا
عدم وجود نص من كتاب الله ينص على الغناء باسمه لأكبر دليل على عدم إرادة الله بهذه الآيات الغناء، فهذه الآيات كلها مكية ولو كان الغناء بهذه الخطورة لدرجة تحريمه قبل الخمر والربا ونكاح المحرمات لكان مذكورا في القرآن باسمه الصريح كما هو الشأن في بقية المحرمات مثل الزنا وقتل النفس والسرقة والكذب والغيبة والشرك، أو ذكر في السنة بما لا مطعن فيه من جهة السند وغيره من طرق الإثبات.
والله تعالى تمدح بمحبة الإعذار حتى لا يكون للناس عليه حجة، فأرسل الرسل، ونص على الواجبات والمحرمات بأسمائها الصريحة...
حادي عشر
وعند التحاكم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد كل أحاديث التحريم معلولة لم يثبت واحد منها وفق الطرق التي يجوز بها التحريم والتحليل فحديث المعازف يبدو أنك معترف بكونه معلقا فهل تعرف أن من شروط صحة الحديث الذي يتم به التحريم والتحليل أن يكون متصلا؟
لا أظنك تخالفني في أن المعلق والمرسل والمعضل كلها غير متصلة وعليه فلا حجة في الحديث المعلق، لذلك نفى الأجلاء من العلماء -وذكرتُ بعضهم في تعليقي السابق- صحةَ أي حديث يصرح بتحريم الغناء.
ثاني عشر
مما ذكره الأخ الباحث فوزي وجيه عن حديث "الغناء ينبت النفاق في القلب" ، قال: فهو لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأغلب الناس يسمعون الغناء وفيهم المخلص والصالح والمجاهد والسابق بالخيرات فمن خاف على نفسه أن يتغير قلبه فهو طبيب نفسه وأميرها وهذا في سائر المباحات موجود
ويسري على سائر وسائل اللهو ولا يختص بالغناء وحده.
قال أبو حامد الغزالي: قول ابن مسعود رضي الله عنه "ينبت النفاق" أراد به في حق المغني فإنه في حقه ينبت النفاق إذ غرضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه وذلك أيضاً لا يوجب تحريماً فإن لبس الثياب الجميلة وركوب
الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت في القلب النفاق والرياء وال يطلق القول بتحريم ذلك كله.
ثم إن حديث "الغناء ينبت النفاق في القلب" حديث منكر لم يصح مرفوعا ولا موقوفا على ابن مسعود ولا جابر ولا أبي هريرة رضي الله عنهم..
ثالث عشر
حديث نهى عن كسب الزمارة
الزمارة يقصد بها الزانية التي تزمر نفسها أي تزينها من أجل جلب الزبناء، وراوي هذا الحديث رواه أيضا بلفظ "نهى عن مهر الزمارة"، وهو يوافق ما في الصحاح من النهي عن كسب الإماء، ومهر الإماء، ومهر البغي، فقد كان الجاهلية يُكرهون إماءهم على البغاء..
رابع عشر
ما دمت أعرضت عن الأدلة التي أوردتُّـها في مشاركة سابقة وهي أكثر من 17 دليلا على الإباحة ورميتَ بها عرض الحائط، وتُفضِّل عند التنازع الردَّ إلى المختلفين فإني أنبهك إلى أن ابن حجر رحمه الله قال في الفتح إن الغناء حُكي القول بالإجماع على تحريمه والإجماع على إباحته.
وقد قال غيره من العلماء بإباحته بل ألفوا في ذلك عدة كتب ورسائل لن يسمح لك التعصب بالاطلاع عليها.
خامس عشر
دعوى الإجماع على تحريمه في كل قرن منتقضة بالعلماء الذين يصرحون بإباحته في كل قرن فكيف يُدَّعى إجماع والمخالفون موجودن ويؤلفون ويردون على المحرمين؟
بل إن الإجماع المحكي بالإباحة حكي عن أهل القرن الأول فقد حكاه الشوكاني عن الصحابة رضي الله عنهم زمن أمير المؤمنين علي حيث لم ينكر هو وابن عمر على عبد الله بن جعفر وابن الزبير سماعهما من مغنيات يعزفن بالعود والأوتار.
وفي القرن الثاني نجد أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والمنهال بن عمرو الأسدي المقرئ، ويعقوب بن أبي سلمة المعروف بالماجشون من فقهاء المدينة، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة مفتي المدينة مع مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري من الثقات الحفاظ الكبار روى له الشيخان وغيرهما، أقول: كل هؤلاء يبيحون الغناء ما دام خاليا من منكرات الاختلاط والعري وغيرها ...
سادس عشر
ذكرتَ العلماء القائلين بالإجماع في كل قرن وبدأ بالعلامة يحيى الساجي
وهو متوفى في القرن الرابع لكنه يحسب على القرن الثالث، ولا إجماع في القرن الثالث على تحريم الغناء قطعا بسبب وجود فطاحلة أهل العلم المبيحين له في ذلك الوقت مثل: الخلال، وأبي بكر عبد العزيز، وعبد الملك بن الماجشون مفتي المدينة بعد الإمام مالك، وابن قتيبة خطيب أهل السنة، وعبد الله بن عبد الحكم تلميذ الإمام مالك ومفتي الديار المصرية ، وموسى الصمادحي مفتي إفريقية.
وفي القرن الرابع لا يمكن أن يقع إجماع على التحريم لوجود أبي منصور عبد القاهر البغدادي الشافعي صاحب "الفرق بين الفرق"، وله كتاب حول إباحة السماع، وابن التبان عالم القيروان، والفوراني الشافعي...
وفي القرن الخامس لا إجماع بسبب وجود بعض المُبيحين كالعلامة الحافظ عطية بن سعيد، وأبي إسحاق الشيرازي الشافعي، وإمام الحرمين، والروياتي، وابن حزم...
وفي القرن السادس لا إجماع أيضا بسبب وجود أبي بكر بن العربي المالكي، وجمال الإسلام أبي بكر محمد بن عبد الله العامري، والغزالي الشافعي، وأخيه أبي الفتوح، والشهيد محمد بن يحيى، والكاساني، وابن طاهر...
وفي القرن السابع لم يقع إجماع بسبب مخالفة أبي حامد السهيلي الحاجري، والمحدث عمر بن بدر الموصلي، والرافعي الشافعي، وتاج الدين الشريشي، وزينة علماء الامة شيخ الإسلام ابن دقيق العيد، وعبد السلام المقدسي، والفزاري، وعبد الرحمن بن نجم الشهير بابن الحنبلي...
وفي القرن الثامن لا تصح دعوى الإجماع لمخالفة العلامة ابن الملقن، وشرف الدين الدمياطي، وقاضي القضاة علاء الدين القونوي، والفاكهاني، والسبكي تاج الدين، وعبد السلام الهواري، والأدْفُوي صاحب "الإمتاع في أحكام السماع"
وفي القرن التاسع لم يقع إجماع على التحريم لوجود أمثال ابن ناجي التنوخي، وشمس الدين البساطي مفتي مصر، والإمام القوري مفتي فاس، وابن زغدان التونسي، وأبي بكر العامري الثاني المتأخر..
وفي القرن العاشر شيخ الإسلام القاضي الدمشقي تقي الدين بن قاضي عجلون، والقاضي عيسى بن عبد الرحيم الأحمدآبادي قاضي كجرات...
وفي القرن الحادي عشر عبد الرحمن بن محمد العمادي مفتي الحنفية بدمشق، والشيخ المحدث الفقيه أحمد بن أبي المحاسن يوسف بن محمد الفاسي، والمحدث الفقيه خير الدين الرملي الحنفي...
وفي القرن الثاني عشر الشيخ إسماعيل بن علي بن رجب الحائك مفتي الحنفية وخطيب جامع بني أمية في دمشق، وعبد الغني النابلسي الحنفي...
وفي القرن الثالث عشر نجد الشوكاني، ومرتضى الزبيدي، والمفسر بن عجيبة، وشيخ الأزهر حسن العطار، وابن عابدين الحنفي كلهم يبيحون السماع...
وهكذا لا يخلو قرن من عدة علماء يبيحون ما أحل الله من الغناء والموسيقى إذا كان مجردا عن عري واختلاط وغير ذلك من المنكرات...
الخلاصة أن عدم وجود أدلة تصلح لنقل الشيء عن حكمه الأصلي كفيل بترك ما أباحه الله مباحا إلا من يريد أن ينازع الله في التشريع ، ويحرم وفق هواه كي يظهر للناس بمظهر الناسك الورع فهذا عليه أن يتذكر قوله تعالى: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، وقوله تعالى حكاية عن الكفار: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء، وقوله: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب.
فما بالكم بمسألة ثبت في إباحتها كثير من النصوص ، وقد قدمتها فلا داعي لتكرارها، فمجرد عدم صحة أدلة المحرمين يكفي لإباحة مسألة الغناء، فكيف لو انضاف لها ما ثبت من سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم..