تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 123
النتائج 41 إلى 43 من 43

الموضوع: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

  1. #41
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,118

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (43)

    وفوق كل ذي علم عليم



    من الحكم القرآنية البليغة قوله عز وجل: {وفوق كل ذي علم عليم}، وقد اشتملت هذه العبارة الموجزة على فوائد جليلة، نذكر منها على سبيل الاختصار:
    1 - فضل العلم:
    يستفاد من هذه الآية الكريمة فضل العلم وشرفه، فقد بيـّن سبحانه أن رفعة يوسف عليه السلام على إخوته إنما كانت بالعلم كما قال عز وجل: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}، قال القاسمي: «{نرفع درجات من نشاء} أي بالعلم»اهـ، وقال الشيخ ابن سعدي: «{نرفع درجات من نشاء} بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف» اهـ.
    ولا شك أن طلب العلم من أهم الواجبات وأفضل المطلوبات بعد أداء الفرائض والقيام بالشعائر، كما قال الثوري: «ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم»، حيث أمر الله تعالى بالعلم الشرعي ومدح العلماء وطلبة العلم، وذم الجهل وأهله، وذلك في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، ومنها هذه الآية التي جعل فيها سبحانه وتعالى معيار التفاضل بين يوسف وإخوته (العلم) مما يؤكد فضله وشرفه.
    2- تفاوت العلم والعلماء:
    لا يخفى أن العلم يتفاوت في الشرف والفضل، فالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته أفضل العلم وأعلاه درجة؛ لأنه يتعلق بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، ثم يليه العلم بالطريق الموصل إليه، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب موضوعها وأثرها في دين المكلف ودنياه.
    وأيضا فإن العلماء يتفاضلون تبعا لما يحملونه من العلم وما يقومون به من أعمال نافعة لأنفسهم ولأمتهم، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {وفوق كل ذي علم عليم} فيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس».
    3- العلم ينتهي إلى الله عز وجل:
    مما تفيده الآية الكريمة أن العلم من مواهب الله عز وجل للعلماء، وهو سبحانه العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما، قال الطبري: « وَقَوْله: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَفَوْق كُلّ عَالِم مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ يُوسُف أَعْلَم إِخْوَته، وَأَنَّ فَوْق يُوسُف مَنْ هُوَ أَعْلَم مِنْ يُوسُف، حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى اللَّه تَعَالَى.
    وذكر بسنده عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، قَالَ: حَدَّثَ ابْن عَبَّاس بِحَدِيثٍ، فَقَالَ رَجُل عِنْده: الْحَمْد لِلَّهِ {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْعَالِم اللَّه، وَهُوَ فَوْق كُلِّ عَالِم.
    وعَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْن عَبَّاس: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: يَكُون هَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَهَذَا أَعْلَمَ مِنْ هَذَا، وَاَللَّه فَوْقَ كُلّ عَالِم.
    وعَنْ مُحَمَّد بْن كَعْب، قَالَ: سَأَلَ رَجُل عَلِيًّا عَنْ مَسْأَلَة، فَقَالَ فِيهَا، فَقَالَ الرَّجُل: لَيْسَ هَكَذَا وَلَكِنْ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَلِيّ: أَصَبْتَ وَأَخْطَأْتُ: {وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}.
    عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: اللَّه أَعْلَم مِنْ كُلّ أَحَد.
    وعَنِ الْحَسَن، فِي قَوْله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيم} قَالَ: لَيْسَ عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ عَالِم حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه.
    وعَنْ بَشِير الْهُجَيْمِيّ، قَالَ: سَمِعْت الْحَسَن قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة يَوْمًا: {وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم}، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا أَمْسَى عَلَى ظَهْر الْأَرْض عَالِم إِلَّا فَوْقَهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، حَتَّى يَعُود الْعِلْم إِلَى الَّذِي عَلَّمَهُ»اهـ.
    4- تواضع العالم:
    إذا اعتقد المكلف أن العلم ينتهي إلى الله، فمنه المبدأ وإليه المنتهى كما قال قَتَادَة في قَوْله: «{وَفَوْق كُلّ ذِي عِلْم عَلِيم} حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْم إِلَى اللَّه، مِنْهُ بُدِئَ، وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاء، وَإِلَيْهِ يَعُود»اهـ، فإن ذلك يحمل العالم على التواضع لله عز وجل، فلا يعجب بما عنده من العلم، ولا يتكبر على غيره من الناس، فأجمل ما يتحلى به العالم التواضع، وأقبح ما يتصف به الكبر والعجب، قال عمر رضي الله عنه: « تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه، ولمن علمتموه، ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم».
    وقال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «حلية طالب العلم»: «فالزم رحمك الله اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك وهضمها، ومراغمتها عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب ونحو ذلك من آفات العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علما أو رفعة في ولاية فالزم ذلك تحرز سعادة عظمى، ومقاما يغبطك عليه الناس»اهـ.
    وانظر إلى تواضع الأئمة الكبار، فقد سئل أبو حنيفة: بم حصلت العلم العظيم؟ قال: «ما بخلت بالإفادة، ولا استنكفت عن الاستفادة»، وقال الحميدي -وهو تلميذ الشافعي-: «صحبت الشافعي من مكة إلى مصر، فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث»، وعن وكيع وابن عيينة والبخاري قالوا: « لا يكون المحدث كاملا أو الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه».
    5- الحرص على زيادة العلم:
    مما يستفاد من هذه الآية الكريمة الحرص على الاستكثار من العلم، والازدياد منه؛ لأن الآية تدل على تفاوت العلم والعلماء، ولاشك أن هذا التفاوت له أثره في الدنيا والآخرة لذا فإن المسلم عموما، وطالب العلم خصوصا يحرص على الاستكثار من العلم الشرعي، ولو لم يكن في شرف العلم إلا ما جاء من أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالزيادة من العلم لكفى به شرفا وفضلا كما قال عز وجل: {وقل رب زدني علما} قال الشيخ ابن سعدي: «أمره تعالى أن يسأله زيادة العلم، فإن العلم خير، وكثرة الخير مطلوبة، وهي من الله، والطريق إليها: الاجتهاد، والشوق للعلم، وسؤال الله، والاستعانة به، والافتقار إليه في كل وقت»اهـ. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #42
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,118

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (44)

    لا تــؤذوا المسلمـين



    مفهوم التدين عند بعض الناس غير مكتمل الجوانب، وذلك لقلة علمهم وضعف بصيرتهم، فظنوا أن حقيقة التدين تكمن في كثرة الصلاة والصيام والذكر. وهذا لا شك من المطلوبات الدينية، إلا أنهم غفلوا عن جانب مهم في فقه التدين اعتـنت به النصوص الشرعية التي بينت قواعد الدين وركائزه، ألا وهو رعاية حق المسلم بالبر والإحسان وكف الأذى والإساءة، وهذا مجال رحب للتقرب إلى الله عز وجل لو كانوا يعلمون.
    فمن الآيات الكريمة في هذا الشأن قوله عز وجل: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا}.
    قال ابن كثير: «أَيْ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِمْ مَا هُمْ بُرَآء مِنْهُ لَمْ يَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ، وقوله: {فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَهَذَا هُوَ الْبَهْت الْكَبِير أَنْ يُحْكَى أَوْ يُنْقَل عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ عَلَى سَبِيل الْعَيْب وَالتَّنَقُّص لَهُمْ، ثم ذكر عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: قَالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأصْحَابِهِ أَيّ الرِّبَا أَرْبَى عِنْد اللَّه؟ قَالُوا: اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم، قَالَ: «أَرْبَى الرِّبَا عِنْد اللَّه اِسْتِحْلال عِرْض اِمْرِئٍ مُسْلِم» ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدْ اِحْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
    ويعلل الشيخ ابن سعدي سبب استحقاق من يؤذي المؤمنين للإثم المبين بأنهم: «تعدوا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللّه باحترامها».
    وأما الشيخ الطاهر بن عاشور فقد بـيّـن مناسبة هذه الآية لما قبلها وهي قوله عز وجل: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} فقال: «ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وعطف (المؤمنات) على (المؤمنين) للتصريح بمساواة الحكم وان كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
    والمراد بالأذى: أذى القول بقرينة قوله {فقد احتملوا بهتانا}؛ لأن البهتان من أنواع الأقوال، وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين، والمراد بالمبين العظيم القوي، أي أنه جرم من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه».
    ويوضح الشيخ ابن عثيمين حقيقة الأذى ومجالاته فيقول: «والأذية: هي أن تحاول أن تؤذي الشخص بما يتألم منه قلبيا، أو بما يتألم منه بدنيا، سواء كان ذلك بالسب أم بالشتم أم باختلاق الأشياء عليه أم بمحاولة حسده أم غير ذلك من الأشياء التي يتأذى بها المسلم.
    وهذا كله حرام؛ لأن الله تعالى بيـّن أن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.
    قال أهل العلم: وأنواع الأذى كثيرة، منها أن يؤذي جاره، ومنها أن يؤذي صاحبه، ومنها أن يؤذي من كان في عمل من الأعمال، وإن لم تكن بينهم صداقة، بالمضايقة وما أشبه ذلك، وكل هذا حرام، والواجب على المسلم الحذر منه».
    وجاء في السنة المطهرة من الأحاديث الكثيرة ما يحذر من إيذاء المسلمين كقوله [: «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» أخرجه مسلم.
    قال ابن رجب:» قوله: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر».
    وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله»، أخرجه الترمذي في باب ما جاء في تعظيم المؤمن.
    فهذا نهي صريح من النبي صلى الله عليه وسلم عن إيذاء المسلمين، والفعل في سياق النهي يعم سائر أوجه الإيذاء البدني والمعنوي كما تقدم.
    ومما يؤكد حرمة إيذاء المسلم ما ورد من الأحاديث التي تدل على أن الله تعالى يكره إيذاء المؤمن، فقد أخرج الترمذي والطبراني أن النبي [ قال: «لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن».
    فكيف يجرؤ مسلم أن يفعل ما يكره الله عز وجل، ومن ذلك إيذاء المسلم، ولهذا قال الفضيل: «لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلباً أو خنزيراً بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق»؟ وقال قتادة: «إيّاكم وأذى المؤمن فإنّ الله يحوطه، ويغضب له».
    ومن عجيب ما ورد في النصوص الشرعية النهي عن إيذاء المسلم ولو بسب قريبه الكافر، فلما شكا عكرمة بن أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال له: ابن عدو الله، قام خطيبا فقال صلى الله عليه وسلم : «لا تؤذوا مسلما بشتم كافر» أخرجه الحاكم والبيهقي.
    وقال صلى الله عليه وسلم : «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» أخرجه الترمذي، قال المناوي: «لا تسبوا أموات المسلمين فتؤذوا الأحياء من أقاربهم».
    والخلاصة كما يقول ابن رجب: «تضمنت النصوص أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق».
    وانظر إلى هذا الخلق الرفيع الذي تصوره أقوال السلف، فعن يحيى بن معاذ قال: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة، إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه»، وقال الربيع بن خثيم: «الناس رجلان؛ مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله»، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه».
    فما أجدر المسلم أن يوسع أفقه ويزيد علمه فيعلم أن التدين ليس عبادة فحسب، وإنما هو قيام بحق الله عز وجل، وهو كذلك قيام بحقوق العباد، فكف الأذى عن الغير صدقة يتصدق بها العبد على نفسه، وهو قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #43
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,118

    افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

    الحكمة ضالة المؤمن (46)



    يقوم بعض الناس بالتهاون في أداء الواجبات أو التقصير في الالتزام بالقوانين أو احترام الأعراف العامة، فيكسر القانون، ويتمرد على العرف العام، ويقصر في أداء مسؤولياته الفردية تجاه المجتمع والآخرين، ويجعل لنفسه مسوغاً يتكئ عليه ألا وهو: كل الناس يفعلون ذلك، أو أن الدنيا كلها بهذه الصورة، وإذا أدى غيري واجبه قمت بأداء واجبي، أو يقوم بإلقاء اللوم والعتب على المسؤولين لأنهم مقصرون في أداء أعمالهم، ويتخذ من ذلك مسوّغاً لإهماله وتقصيره ومخالفاته.
    ونصوص الشريعة وقواعدها تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية، وهي كون الشخص مكلفاً بأداء ما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين بحسب وسعه وطاقته، وأن قيامه بتلك التكاليف إنما يكون بالإخلاص لله عز وجل، والإحسان في العمل؛ لأنه سيسأل عن أعماله وسيجازى عليها إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، إلا أن يعفو الله ويتجاوز.
    فقيام الفرد بمسؤولياته الدينية والدنيوية عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى، فهي ليست مصالح متبادلة يقوم بها الشخص رداً على إحسان الدولة إليه أو مقابلة لجميل أسداه غيره إليه، والمسؤولية ليست فضلاً يمتن به المرء على أسرته أو مجتمعه أو دولته، فمسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه الآخرين أساسها إيمان الشخص بالله واليوم الآخر، وأداؤه لتلك المسؤوليات هو أثر لإيمانه، وانعكاس لدينه، وهذا ما يفرق بين المسؤولية في الإسلام والمسؤولية في النظم الغربية؛ حيث يكون أداء الإنسان لواجباته مناطاً برقابة القانون وحضوره، أما عند غيبة الرقيب فإن الشخص يتهرب من مسؤولياته والتزاماته.
    فمن الآيات الكريمة التي تؤكد مبدأ المسؤولية الفردية قوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} قال الشيخ ابن سعدي: أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قال الشيخ ابن سعدي: وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه، أي: ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازماً له لا يتعداه إلى غيره، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله، وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} فيه ما عمله من الخير والشر حاضراً صغيره وكبيره ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}، وهذا من أعظم العدل والإنصاف أن يقال للعبد: حاسب نفسك ليعرف بما عليه من الحق الموجب للعقاب.
    وقال تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، قال الشيخ ابن سعدي: أي: هداية كل أحد وضلاله لنفسه لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يدفع عنه مثقال ذرة من الشر، والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة، وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
    وأما ما جاء في السنة المطهرة مما يؤكد مبدأ المسؤولية الفردية فما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته» متفق عليه.
    قال النووي: «قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء، فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته».اهـ
    قال الطيبي: «في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوباً لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك فينبغي ألا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
    قال ابن حجر: وقال غيره:«دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد، فإنه يصدق عليه أنه راع على جوارحه حتى يعمل بالمأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقاً واعتقاداً، فجوارحه وقواه وحواسه رعيته».
    فالأمر خطير؛ إذ إن كل إنسان سيسأل بمفرده عن أعماله ويجازى عليه، ولن ينفعه أو يدفع عنه أفعال الآخرين أو أعذارهم، وعليه أن يعد لكل تصرف جواباً يجيب به ربه، كما جاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر وزاد في آخره: «فأعدوا للمسألة جوابا» قالوا: وما جوابها؟ قال: «أعمال البر» قال ابن حجر: «أخرجه ابن عدي والطبراني في الأوسط وسنده حسن».اهـ
    فهذه المقولة: «إذا نظف كل منا أمام بيته صار الشارع نظيفاً» هي مثل بريطاني يصور حقيقة المسؤولية الفردية بصورة تقريبية واضحة وسهلة الفهم؛ حيث إن قيام كل فرد بما كلف به وحده دون انتظار للآخرين سيؤدي في النهاية إلى شيوع النظام واستقامة الأمور، وتقلص الفوضى وانحسار الفساد، أما أن ينتظر كل فرد من غيره أن يقوم بواجباته وواجبات غيره، فهنا تتعطل مصالح المجتمع، ويشيع الفساد، وينمو التواكل والأنانية، وتبرز صفة اللامبالاة وقلة الاهتمام، وهذا يتنافى مع ما قرره الدين من الأخوة الإيمانية في قوله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة}، وما أكده من تلاحم المجتمع وأخذه على أيدي المقصرين والمهملين حتى لا ينهار المجتمع بسبب سوء تصرفهم وقلة فهمهم كما قال صلىالله عليه وسلم :«‏مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» أخرجه البخاري، فالحديث يؤكد أهمية تعاون الجميع لحفظ بقاء المجتمع وسلامته، وأن إهمال البعض أو تقصيره وحتى سلبيته قد يكون سبباً لهلاك المجتمع وفوات مصالحه، فأهم الأمور أن يقوم الفرد بما كلف به تجاه ربه ونفسه والآخرين، إخلاصاً لله تعالى وإحسانا للغير، وإتقاناً للعمل، وبالله التوفيق.


    اعداد: د.وليد خالد الربيع

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •