تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 9 من 15 الأولىالأولى 123456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 161 إلى 180 من 282

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #161
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة (159)

    من صــ 449 الى صـ 456


    فَيُقَالُ لَهُمْ مَنْ فَسَّرَ مُرَادَ مُتَكَلِّمٍ: أَيِّ مُتَكَلِّمٍ كَانَ بِمَا يَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ خِلَافُ مُرَادِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ وَلَوْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مِنَ الْمُتَنَبِّئِي نَ الْكَذَّابِينَ، فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ كَذِبَهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَعَرَفَ مُرَادَهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ: أَرَادَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ قَبِيحٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ سَوَاءً كَانَ صَادِقًا أَوْ كَاذِبًا فَكَيْفَ بِمَنْ يُفَسِّرُ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَعْلَمُ كُلُّ مَنْ خَبَرَ حَالَهُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بَلْ يَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهُ أَرَادَ الْعُمُومَ.

    فَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [آل عمران: 85] صِيغَةٌ عَامَّةٌ، وَصِيغَةُ " مَنْ " الشَّرْطِيَّةُ مِنْ أَبْلَغِ صِيَغِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] (7) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] ثُمَّ إِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ، فَإِنَّ هَذَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي أَثْنَاءِ مُخَاطَبَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاظَرَتِهِ لِلنَّصَارَى، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى وَرَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا وَفِيهِمُ السَّيِّدُ وَالْأَيْهَمُ وَالْعَاقِبُ وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.
    وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِذَمِّ دِينِ النَّصَارَى الَّذِي ابْتَدَعُوهُ وَغَيَّرُوا بِهِ دِينَ الْمَسِيحِ وَلَبَّسُوا الْحَقَّ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الْمَسِيحُ بِالْبَاطِلِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ حَتَّى صَارَ دِينُهُمْ مُرَكَّبًا مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَاخْتَلَطَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مَعَهُ مَنْ يَعْرِفُ مَا نَسَخَهُ الْمَسِيحُ مِنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِمَّا أَقَرَّهُ وَالْمَسِيحُ قَرَّرَ أَكْثَرَ شَرْعِ التَّوْرَاةِ وَغَيَّرَ الْمَعْنَى وَعَامَّةُ النَّصَارَى لَا يُمَيِّزُونَ مَا قَرَّرَهُ مِمَّا غَيَّرَهُ فَلَا يُعْرَفُ دِينُ الْمَسِيحِ.
    قَالَ - تَعَالَى -: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] (79) {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا فَهُوَ كَافِرٌ فَمَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِمْ أَرْبَابًا كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ النَّصَارَى اتَّخَذُوا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ أَرْبَابًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]

    قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّ هُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّ هُ وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا قَالُوا، فَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ} [آل عمران: 81] وَهَذِهِ اللَّامُ الْأُولَى تُسَمَّى اللَّامَ الْمُوَطِّئَةَ لِلْقَسَمِ وَاللَّامُ الثَّانِيَةُ: تُسَمَّى لَامَ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْكَلَامُ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ شَرْطٌ وَقَسَمٌ وَقُدِّمَ الْقَسَمُ سَدَّ جَوَابُ الْقَسَمِ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْقَسَمِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75]
    وَقَوْلُهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] وَقَوْلُهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا} [النور: 53] وَقَوْلُهُ: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [فاطر: 42] وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] (وَقَوْلُهُ): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] (وَقَوْلُهُ): {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 149] وَقَوْلُهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُون َ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]

    وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73] وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم: 58] وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} [العنكبوت: 10] وَقَوْلُهُ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَحَيْثُ لَمْ يُذْكَرِ الْقَسَمُ فَهُوَ مَحْذُوفٌ مُرَادُ تَقْدِيرِ الْكَلَامِ - وَاللَّهِ - {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} [الحشر: 12]- وَاللَّهِ - {وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ } [الحشر: 12] وَمِنْ مَحَاسِنِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَحْذِفُ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ اخْتِصَارًا وَإِيجَازًا لَا سِيَّمَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ كَالْقَسَمِ (وَقَوْلُهُ): {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] هِيَ مَا الشَّرْطِيَّةُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ، وَلَا تَكْتَفُوا بِمَا عِنْدَكُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمْ مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ عَلَى أَنْ تَتْرُكُوا مُتَابَعَتَهُ بَلْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَتَنْصُرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَلَا يُغْنِيكُمْ مَا آتَيْتُكُمْ عَمَّا جَاءَ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
    فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ مُحَمَّدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ كِتَابٌ وَحِكْمَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ وَيَنْصُرَهُ كَمَا قَالَ {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّ هُ} [آل عمران: 81]
    وَقَدْ أَقَرَّ الْأَنْبِيَاءُ بِهَذَا الْمِيثَاقِ وَشَهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]
    قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ مُسْلِمُونَ. فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] فَقَالُوا: لَا نَحُجُّ فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرَ حَجَّ الْبَيْتِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
    وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَرَوْنَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ حَتَّى أَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ".



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #162
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة (160)

    من صــ 457 الى صـ 464





    وَهُوَ مَحْفُوظٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ الشَّهَادَتَيْن ِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ.
    وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: فِي أَوَّلِ السُّورَةِ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] (18) {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] (19) {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّين َ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]

    فَقَدْ أَمَرَهُ - تَعَالَى - بَعْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] أَنْ يَقُولَ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ، وَأَنْ يَقُولَ لِلَّذِينِ أُوتُوا الْكِتَابَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْأُمِّيِّين َ وَهُمُ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ: أَأَسْلَمْتُمْ، فَالْعَرَبُ الْأُمِّيُّونَ يَدْخُلُونَ فِي لَفْظِ الْأُمِّيِّينَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.
    وَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ: فَإِمَّا أَنْ يَشْمَلَهُ هَذَا اللَّفْظُ أَوْ يَدْخُلَ فِي مَعْنَاهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُبَيِّنَةِ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ.
    قَالَ - تَعَالَى -: {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] فَقَدَ أَمْرَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِسْلَامِ كَمَا أَمَرَ بِهِ الْأُمِّيِّينَ وَجَعَلَهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا مُهْتَدِينَ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَقَدْ قَالَ: (إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) أَيْ تُبَلِّغُهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّكَ إِلَيْهِمْ وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُهُمْ فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يُبَلِّغُ الْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِسْلَامِ كَمَا يُحَاسِبُ الْأُمِّيِّينَ.
    وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ إِلَى هِرَقْلَ مَلِكِ النَّصَارَى «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجَرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّين َ».

    وَ {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَعْقُوبَ وَأَتْبَاعِهِمْ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

    قَالَ - تَعَالَى -: عَنْ نُوحٍ أَوَّلِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] (71) {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72] فَهَذَا نُوحٌ الَّذِي غَرِقَ أَهْلُ الْأَرْضِ بِدَعْوَتِهِ وَجَعَلَ جَمِيعَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
    وَأَمَّا الْخَلِيلُ فَقَالَ - تَعَالَى -: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] (127) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128] قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] (130) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] (131) {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَ الْخَلِيلَ بِالْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَصَّى بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ وَصَّى بَنِيهِ أَنْ لَا يَمُوتُنَّ إِلَّا وَهُمْ مُسْلِمُونَ.
    وَقَالَ - تَعَالَى -: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67] (67) {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وَقَالَ - تَعَالَى -: عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ ابْنِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف: 101] وَقَالَ - تَعَالَى -: عَنْ مُوسَى {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] وَقَالَ عَنِ السَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى: {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] (50) {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51] وَقَالُوا أَيْضًا {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] وَقَالَ - تَعَالَى -: فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] (30) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] وَقَالَ {قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] وَقَالَ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42]
    وَقَالَ عَنْ بِلْقِيسَ الَّتِي آمَنَتْ بِسُلَيْمَانَ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] وَقَالَ: عَنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وَقَالَ - تَعَالَى - عَنِ الْحَوَارِيِّين َ: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّين َ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] وَقَالَ - تَعَالَى - {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
    فَهَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وَقَوْلَهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] لَا يَخْتَصُّ بِمَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ بَلْ هُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَلِهَذَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111].

    (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)

    قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ كَلَامٍ سَبَقَ -:
    قال في كتابه: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فأخبر الله أنه غفور رحيم لمن تاب بعد الردة وذلك يقتضى مغفرته له في الدنيا والآخرة ومن هذه حاله لم يعاقب بالقتل.

    يبين ذلك ما رواه الإمام أحمد قال: حدثنا على بن عاصم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من الأنصار ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين فأنزل الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} إلى آخر الآية فبعث بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه ورواه النسائي من حديث داود مثله.
    وقال الإمام أحمد: حدثنا علي عن خالد عن عكرمة بمعناه وقال: "والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الله والله أصدق الثلاثة فرجع تائبا فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه وخلى عنه.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #163
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة 161)

    من صــ 465 الى صـ 472



    وقال: ثنا حجاج عن ابن جريج حديثا عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} في أبي عامر بن النعمان ووحوح بن الأسلت والحارث بن سويد بن الصامت في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في الحارث بن سويد بن الصامت.
    وقال: ثنا عبد الرزاق نا جعفر عن حميد عن مجاهد قال: "جاء الحارث ابن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه القرآن: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: والله إنك ما علمت لصادق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه".
    وكذلك ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في الحارث بن سويد وجماعة معه ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة كهيئة البدء ولحقوا بمكة كفارا فأنزل الله فيهم هذه الآية فندم الحارث وأرسل إلى قومه: أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه.
    فهذا رجل قد ارتد ولم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى الإسلام ولأن الله تعالى قال في إخباره عن المنافقين: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} فدل على أن الكافر بعد إيمانه قد يعفى عنه وقد يعذب وإنما يعفى عنه إذا تاب فعلم أن توبته مقبولة.

    وذكر أهل التفسير أنهم كانوا جماعة وأن الذي تاب منهم رجل واحد يقال له مخشي بن حمير وقال بعضهم: كان قد أنكر عليهم بعض ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم فلما نزلت هذه الآيات برئ من نفاقه وقال: "اللهم إني لا أزال أسمع آية تقر عيني تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك" وذكروا القصة.

    وفي الاستدلال بهذا نظر ولأنه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} إلى قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
    وذلك دليل على قبول توبة من كفر بعد إسلامه وأنهم لا يعذبون في الدنيا ولا في الآخرة عذابا أليما: بمفهوم الشرط ومن جهة التعليل ولسياق الكلام والقتل عذاب أليم فعلم أن من تاب منهم لم يعذب بالقتل لأن الله سبحانه قال: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فبين أن الذين هاجروا إلى دار الإسلام بعد أن فتنوا عن دينهم بالكفر بعد الإسلام وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم ومن غفر له ذنبه مطلقا لم يعاقبه عليه في الدنيا ولا في الآخرة.
    وقال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة: خرج ناس من المسلمين يعني المهاجرين فأدركهم المشركون ففتنوهم فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه} الآية ونزل فيهم: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه} الآية ثم إنهم خرجوا مرة أخرى فانقلبوا حتى أتوا المدينة فأنزل الله فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} إلى آخر الآية ولأنه سبحانه قال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} فعلم أن من لم يمت وهو كافر من المرتدين لا يكون خالدا في النار وذلك دليل على قبول التوبة وصحة الإسلام فلا يكون تاركا لدينه فلا يقتل ولعموم قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فإن هذا الخطاب عام في قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة سواء كان مشركا أصليا أو مشركا مرتدا.
    وأيضا فإن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد ارتد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بمكة وافترى على الله ورسوله ثم إنه بعد ذلك بايعه النبي صلى الله عليه وسلم وحقن دمه وكذلك الحارث بن سويد وكذلك جماعة من أهل مكة أسلموا ثم ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فحقنت دماؤهم وقصص هؤلاء وغيرهم مشهورة عند أهل العلم بالحديث والسيرة.
    وأيضا فالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفى ارتد أكثر العرب إلا أهل مكة والمدينة والطائف واتبع قوم منهم من تنبأ فيهم مثل مسيلمة والعنسي وطليحة الأسدي فقاتلهم الصديق وسائر الصحابة رضي الله عنهم حتى رجع أكثرهم إلى الإسلام فأقروهم على ذلك ولم يقتلوا واحدا ممن رجع إلى الإسلام ومن رؤوس من كان قد ارتد ورجع طليحة الأسدي المتنبي والأشعث بن قيس وخلق كثير لا يحصون والعلم بذلك ظاهر لا خفاء به على أحد وهذه الرواية عن الحسن فيها نظر فإن مثل هذا لا يخفى عليه ولعله أراد نوعا من الردة كظهور الزندقة ونحوها أو قال ذلك في المرتد الذي ولد مسلما ونحو ذلك مما قد شاع فيه الخلاف.
    (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
    وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
    عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} الْمُرَادُ بِهِ أَمْنُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْكُفْرِ عِنْدَ عَرْضِ الْأَدْيَانِ؟ أَمْ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَحْدَثَ حَدَثًا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ؟.

    فَأَجَابَ:
    التَّفْسِيرُ الْمَعْرُوفُ فِي أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَرَمَ بَلَدًا آمِنًا قَدْرًا وَشَرْعًا فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَسْفِكُ بَعْضُهُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا دَخَلُوا الْحَرَمَ أَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ لَمْ يَهْجُرُوا حُرْمَتَهُ فَفِي الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ وَأَشَدُّ. لَكِنْ لَوْ أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ فَهَلْ يَكُونُ آمِنًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ آمِنًا كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدِ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا}.
    فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُولُوا: إنَّمَا أَحَلَّهَا اللَّهُ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحِلَّهَا لَك. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ إنَّمَا أُبِيحَ لَهُ فِيهَا دَمُ مَنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْحِلِّ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أُبِيحَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {وَمَنْ دَخَلَهُ} الْحَرَمُ كُلُّهُ. وَأَمَّا عَرْضُ الْأَدْيَانِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَيُبْتَلَى بِهِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ {مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا} وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    وأما قوله تعالى {ومن دخله كان آمنا} فهذا من باب البيت. كما قال تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} وقال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقال تعالى: {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء} فكانوا في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا خارج الحرم فإذا دخلوا الحرم أو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه وكان هذا من الآيات التي جعلها الله فيه كما قال: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} والإسلام زاد حرمته. فمذهب أكثر الفقهاء أن من أصاب حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه كما قال ابن عمر وابن عباس.
    وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما؛ لما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرا وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس}.

    ومن ظن أن من دخل الحرم كان آمنا من عذاب الآخرة مع ترك الفرائض من الصلاة وغيرها ومع ارتكاب المحارم فقد خالف إجماع المسلمين فقد دخل البيت من الكفار والمنافقين والفاسقين من هو من أهل النار بإجماع المسلمين. والله أعلم.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #164
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة 162)

    من صــ 473 الى صـ 480





    وسئل:
    عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي أفضل من المسجد الحرام؟.
    فأجاب:

    وأما " التربة " التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدا من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض. فذكر ذلك إجماعا وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه. ولا حجة عليه بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد.
    وأما ما فيه خلق أو ما فيه دفن فلا يلزم إذا كان هو أفضل أن يكون ما منه خلق أفضل. فإن أحدا لا يقول إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء فإن الله يخرج الحي من الميت والميت من الحي. ونوح نبي كريم وابنه المغرق كافر وإبراهيم خليل الرحمن وأبوه آزر كافر. والنصوص الدالة على تفضيل المساجد مطلقة لم يستثن منها قبور الأنبياء ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقا لكان مدفن كل نبي بل وكل صالح أفضل من المساجد التي هي بيوت الله فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وهذا قول مبتدع في الدين مخالف لأصول الإسلام.
    وسئل أيضا:
    عن رجلين تجادلا فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض وقال الآخر: الكعبة أفضل. فمع من الصواب؟
    فأجاب:
    الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه.
    وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام بل الكعبة أفضل منه ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه أحد إليه ولا وافقه أحد عليه. والله أعلم.
    [مسألة تفسير الاستطاعة في الحج]
    مسألة: إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام.
    في هذا الكلام فصول: -
    (أحدها):

    أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القرآن والسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين ومعنى قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه: ملك الزاد والراحلة فمناط الوجوب: وجود المال ; فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه، ومن لم يجد المال: لم يجب عليه الحج، وإن كان قادرا ببدنه قال: في رواية صالح - إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج.
    وسئل - أيضا - في رواية أبي داود: على من يجب الحج؟ فقال: إذا وجد زادا وراحلة وقال - في رواية حنبل -: وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة.
    فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام، ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة " قال: يا رسول الله: فما الحاج؟ قال: "الشعث التفل " وقام آخر فقال: يا رسول الله: ما الحج؟ قال: "العج والثج " قال وكيع: يعني بالعج: العجيج بالتلبية، والثج: نحر البدن».
    رواه ابن ماجه، والترمذي وقال حديث حسن، وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه.
    وعن ابن جريج قال: وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الزاد والراحلة» " يعني قوله: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97]
    وعن ابن عباس قال: «من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج، وحرم عليه نكاح الإماء» رواه أحمد وأيضا قوله: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا».
    فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب: وجود الزاد والراحلة مع علم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي.
    وأيضا فإن قول الله - سبحانه - في الحج: {من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] إما أن يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة، أو قدرا زائدا على ذلك. فإن كان المعتبر هو الأول، لم يحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك، وليس هو إلا المال.

    وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد.
    ودليل الأصل قوله - تعالى -: {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} [التوبة: 91] إلى قوله - تعالى -: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} [التوبة: 92] الآية. وأيضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة.

    (فصل في أن لفظ القدرة يتناول نوعين)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    لفظ القدرة يتناول نوعين:
    أحدهما القدرة الشرعية المصححة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي. (والثاني القدرة القدرية الموجبة للفعل التي هي مقارنة للمقدور لا يتأخر عنها. فالأولى هي المذكورة في قوله تعالى {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} فإن هذه الاستطاعة لو كانت هي المقارنة للفعل لم يجب حج البيت إلا على من حج فلا يكون من لم يحجج عاصيا بترك الحج سواء كان له زاد وراحلة وهو قادر على الحج أو لم يكن. وكذلك {قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب} وكذا قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وقوله صلى الله عليه وسلم {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} لو أراد استطاعة لا تكون إلا مع الفعل لكان قد قال فافعلوا منه ما تفعلون فلا يكون من لم يفعل شيئا عاصيا له وهذه الاستطاعة المذكورة في كتب الفقه ولسان العموم.
    والناس متنازعون في مسمى الاستطاعة والقدرة فمنهم من لا يثبت استطاعة إلا هذه ويقولون الاستطاعة لا بد أن تكون قبل الفعل ومنهم من لا يثبت استطاعة إلا ما قارن الفعل وتجد كثيرا من الفقهاء يتناقضون؛ فإذا خاضوا مع من يقول من المتكلمين - المثبتين للقدر - أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل وافقوهم على ذلك وإذا خاضوا في الفقه أثبتوا الاستطاعة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي. وعلى هذا تتفرع " مسألة تكليف ما لا يطاق " فإن الطاقة هي الاستطاعة وهي لفظ مجمل. فالاستطاعة الشرعية التي هي مناط الأمر والنهي لم يكلف الله أحدا شيئا بدونها فلا يكلف ما لا يطاق بهذا التفسير وأما الطاقة التي لا تكون إلا مقارنة للفعل فجميع الأمر والنهي تكليف ما لا يطاق بهذا الاعتبار فإن هذه ليست مشروطة في شيء من الأمر والنهي باتفاق المسلمين.
    سئل:
    عن عرض الأديان عند الموت: هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا؟ وقوله صلى الله عليه وسلم {إنكم لتفتنون في قبوركم} ما المراد بالفتنة؟ وإذا ارتد العبد - والعياذ بالله - هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا؟ أفتونا مأجورين
    فأجاب:

    الحمد لله رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرا عاما لكل أحد ولا هو أيضا منتفيا عن كل أحد بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته؛ ومنهم من لا تعرض عليه وقد وقع ذلك لأقوام. وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا: منها: ما في الحديث الصحيح {أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال}. ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة.
    وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {الأعمال بخواتيمها} وقال صلى الله عليه وسلم {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع؛ فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها}. ولهذا روي: {أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدا}.

    وحكاية عبد الله بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول: لا بعد. لا بعد: مشهورة. ولهذا يقال: إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ملك زادا أو راحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج: فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا}. قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} قال عكرمة لما نزلت هذه الآية: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون. فقال الله لهم: {ولله على الناس حج البيت} فقالوا لا نحجه فقال الله تعالى {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #165
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة( 163)

    من صــ 481 الى صـ 490





    وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم " محمد "؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول المؤمن: الله ربي والإسلام ديني ومحمد نبيي. ويقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه. فينتهرانه انتهارة شديدة - وهي آخر فتنه التي يفتن بها المؤمن - فيقولان له: كما قالا أولا. وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم وهي عامة للمكلفين؛ إلا النبيين فقد اختلف فيهم. وكذلك اختلف في غير المكلفين كالصبيان والمجانين. فقيل: لا يفتنون لأن المحنة إنما تكون للمكلفين وهذا قول القاضي وابن عقيل. وعلى هذا فلا يلقنون بعد الموت.
    وقيل يلقنون ويفتنون أيضا وهذا قول أبي حكيم وأبي الحسن بن عبدوس ونقله عن أصحابه وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام. وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه عن أهل السنة واختاره وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد.

    وأما " الردة عن الإسلام " بأن يصير الرجل كافرا مشركا أو كتابيا فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء كما نطق بذلك القرآن في غير موضع. كقوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} وقوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} وقوله: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} وقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك}. ولكن تنازعوا فيما: إذا ارتد؛ ثم عاد إلى الإسلام. هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدا؟ على قولين مشهورين؛ هما قولان في مذهب الإمام أحمد والحبوط: مذهب أبي حنيفة ومالك. والوقوف: مذهب الشافعي. وتنازع الناس أيضا في " المرتد ". هل يقال كان له إيمان صحيح يحبط بالردة؟ أم يقال بل بالردة تبينا أن إيمانه كان فاسدا؟ وأن الإيمان الصحيح لا يزول ألبتة؟ على قولين لطوائف الناس وعلى ذلك يبنى قول المستثنى: أنا مؤمن - إن شاء الله - هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان؟ أو يعود إلى الموافاة في المآل والله أعلم.
    (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102)
    وفي الآية الأخرى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] وهذه مفسرة لتلك.
    ومن قال من السلف هي ناسخة لها، فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته: ما يعجز البشر عنه ; فإن الله لم يأمر بهذا قط. ومن قال إن الله أمر به، فقد غلط. ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم، أو ظاهر، أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا، ومنهم من يسمي الاستثناء نسخا إذا تأخر نزوله.
    (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ... (103)
    فلما نهاهم عن التفرق مطلقا دل ذلك على أنهم لا يجتمعون على باطل؛ إذ لو اجتمعوا على باطل لوجب اتباع الحق المتضمن لتفرقهم وبين أنه ألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا كما قال: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} فإذا كانت قلوبهم متألفة غير مختلفة على أمر من الأمور كان ذلك من تمام نعمة الله عليهم؛ ومما من به عليهم فلم يكن ذلك اجتماعا على باطل؛ لأن الله تعالى أعلم بجميع الأمور.
    (قاعدة: في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي)

    وقال شيخ الإسلام:
    " قاعدة " في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي: مثل الأذان والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة ورفع الأيدي فيها ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل التمتع والإفراد والقران في الحج ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة والشعائر أوجب أنواعا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون:

    " أحدها " جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله والذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته والذي أمرهم باتباعه.
    " الثاني " ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم: تارة بنهيهم عما لم ينه الله عنه وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه. وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه حتى يقدمون في الموالاة والمحبة وإعطاء الأموال والولايات من يكون مؤخرا عند الله ورسوله ويتركون من يكون مقدما عند الله ورسوله لذلك.
    " الثالث " اتباع الظن وما تهوى الأنفس حتى يصير كثير منهم مدينا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة. وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة: كالخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} وقال في كتابه: {ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل}.

    " الرابع " التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضا ويعاديه ويحب بعضا ويواليه على غير ذات الله وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله.

    والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} - إلى قوله - {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة بخروجه من السنة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة التي أمر الله بها ورسوله قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} وقال تعالى: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات} وقال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} وقال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى: {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} وقال تعالى: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة} وقال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} وقال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} وقال: {إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
    وهذا الأصل العظيم: وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه. ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة وخاصة مثل قوله: {عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة} وقوله: {فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد} وقوله: {من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه} وقوله: {ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين}. وقوله: {من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان} وقوله: {يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم} وقوله: {ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة ناجية واثنتان وسبعون في النار - قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال - هي الجماعة يد الله على الجماعة}.
    وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة. بل وفي غيرها: هو التفرق والاختلاف فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم. وإن كان بعض ذلك مغفورا لصاحبه لاجتهاده الذي يغفر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك؛ لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره. وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة.
    النوع الخامس هو شك كثير من الناس وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون؛ بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارة ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى.
    أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله وأمر أزواج نبيه بذكره حيث يقول: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} وحفظه من أن يقع فيه من التحريف ما وقع فيما أنزل قبله.

    كما عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة فعصم حروف التنزيل أن يغير وحفظ تأويله أن يضل فيه أهل الهدى المتمسكون بالسنة والجماعة وحفظ أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم عما ليس فيها من الكذب عمدا أو خطأ بما أقامه من علماء أهل الحديث وحفاظه الذين فحصوا عنها وعن نقلتها ورواتها وعلموا من ذلك ما لا يعلم غيرهم حتى صاروا مجتمعين على ما تلقوه بالقبول منها إجماعا معصوما من الخطأ؛ لأسباب يطول وصفها في هذا الموضع. وعلموا هم خصوصا وسائر علماء الأمة بل وعامتها عموما ما صانوا به الدين عن أن يزاد فيه أو ينقص منه مثلما علموا أنه لم يفرض عليهم في اليوم والليلة إلا الصلوات الخمس وأن مقادير ركعاتها ما بين الثنائي والثلاثي والرباعي وأنه لم يفرض عليهم من الصوم إلا شهر رمضان ومن الحج إلا حج البيت العتيق ومن الزكاة إلا فرائضها المعروفة إلى نحو ذلك.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #166
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الرابع
    الحلقة( 164)

    من صــ 491 الى صـ 500





    وعلموا كذب أهل الجهل والضلالة فيما قد يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمهم بكذب من يزعم من الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصا قاطعا جليا وزعم آخرين أنه نص على آل العباس. وعلموا أكاذيب الرافضة والناصبة - التي يأثرونها في مثل " الغزوات " التي يروونها عن علي وليس لها حقيقة كما يرويها المكذبون الطرقية: مثل أكاذيبهم الزائدة في سيرة عنتر والبطال - حيث علموا مجموع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن القتال فيها كان في تسعة مغاز فقط ولم يكن عدة المسلمين ولا العدو في شيء من مغازي القتال عشرين ألفا.
    ومثل " الفضائل " المروية ليزيد بن معاوية ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من الكرامية في الإرجاء ونحوه والأحاديث التي يرويها كثير من النساك في صلوات أيام الأسبوع وفي صلوات أيام الأشهر الثلاثة والأحاديث التي يروونها في استماع النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه وتواجده وسقوط البردة عن ردائه وتمزيقه الثوب وأخذ جبريل لبعضه وصعوده به إلى السماء وقتال أهل الصفة مع الكفار واستماعهم لمناجاته ليلة الإسراء والأحاديث المأثورة في نزول الرب إلى الأرض يوم عرفة وصبيحة مزدلفة ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في الأرض بعين رأسه وأمثال هذه الأحاديث المكذوبة التي يطول وصفها فإن المكذوب من ذلك لا يحصيه أحد إلا الله تعالى.
    لأن الكذب يحدث شيئا فشيئا ليس بمنزلة الصدق الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يحدث بعده وإنما يكون موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو محفوظ محروس بنقل خلفاء الرسول وورثة الأنبياء. وكان من الدلائل على انتفاء هذه الأمور المكذوبة وغيرها وجوه:
    أحدها: أن ما توفرت همم الخلق ودواعيهم على نقله وإشاعته يمتنع في العادة كتمانه فانفراد العدد القليل به يدل على كذبهم كما يعلم كذب من خرج يوم الجمعة وأخبر بحادثة كبيرة في الجامع مثل سقوط الخطيب وقتله وإمساك أقوام في المسجد إذا لم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر أن في الطرقات بلادا عظيمة وأمما كثيرين ولم يخبر بذلك السيارة وإنما انفرد به الواحد والاثنان ويعلم كذب من أخبر بمعادن ذهب وفضة متيسرة لمن أرادها بمكان يعلمه الناس ولم يخبر بذلك إلا الواحد والاثنان وأمثال ذلك كثيرة فباعتبار العقل وقياسه وضربه الأمثال يعلم كذب ما ينقل من الأمور التي مضت سنة الله بظهورها وانتشارها لو كانت موجودة. كما يعلم أيضا صدق ما مضت سنة الله في عباده أنهم لا يتواطئون فيه على الكذب من الأمور المتواترة والمنقولات المستفيضة فإن الله جبل جماهير الأمم على الصدق والبيان في مثل هذه الأمور دون الكذب والكتمان كما جبلهم على الأكل والشرب واللباس فالنفس بطبعها تختار الصدق إذا لم يكن لها في الكذب غرض راجح وتختار الأخبار بهذه الأمور العظيمة دون كتمانها. والناس يستخبر بعضهم بعضا ويميلون إلى الاستخبار والاستفهام عما يقع وكل شخص له من يؤثر أن يصدقه ويبين له دون أن يكذبه ويكتمه والكذب والكتمان يقع كثيرا في بني آدم في قضايا كثيرة لا تنضبط كما يقع منهم الزنا وقتل النفوس والموت جوعا وعريا ونحو ذلك لكن ليس الغالب على أنسابهم إلا الصحة وعلى أنفسهم إلا البقاء فالغرض هنا أن الأمور المتواترة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكذب والأخبار الشاذة يعلم أنهم لم يتواطئوا فيها على الكتمان.
    (الوجه الثاني: أن دين الأمة يوجب عليهم تبليغ الدين وإظهاره وبيانه ويحرم عليهم كتمانه ويوجب عليهم الصدق ويحرم عليهم الكذب فتواطؤهم على كتمان ما يجب بيانه كتواطئهم على الكذب وكلاهما من أقبح الأمور التي تحرم في دين الأمة وذلك باعث موجب الصدق والبيان.
    الثالث: أنه قد علم من عدل سلف الأمة ودينها وعظيم رغبتها في تبليغ الدين وإظهاره وعظيم مجانبتها للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب أعظم العلوم الضرورية؛ بأنهم لم يكذبوا فيما نقلوه عنه ولا كتموا ما أمرهم بتبليغه وهذه العادة الحاجية الخاصة الدينية لهم غير العادة العامة المشتركة بين جنس البشر.
    (الرابع: أن العلماء الخاصة يعلمون من نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبة عليهم التبليغ ومن تعظيمهم لأمر الله ورسوله ومن دين آحادهم: مثل الخلفاء ومثل ابن مسعود وأبي ومعاذ وأبي الدرداء - إلى ابن عمر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم. يعلمون علما يقينا - لا يتخالجه ريب - امتناع هؤلاء من كتمان قواعد الدين التي يجب تبليغها إلى العامة كما يعلمون امتناعهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويعلم أيضا أهل الحديث مثل أحوال المشاهير بمعرفة ذلك مثل الزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ومثل مالك والثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم أمورا يعلمون معها امتناعهم من الكذب وامتناعهم عن كتمان تبليغ هذه الأمور العظيمة التي تأبى أحوالهم كتمانها لو كانت موجودة ولهم في ذلك أسباب يطول شرحها وليس الغرض هنا تقرير ذلك. وإنما الغرض التنبيه على ما وقع من الشبهة لبعض الناس من أهل الأهواء.
    قالوا: هذا الذي ذكرتموه معارض بأمر الأذان والإقامة فإنه كان يفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم خمس مرات ومع هذا فقد وقع الاختلاف في صفته وكذلك الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر وحجة الوداع من أعظم وقائعه وقد وقع الاختلاف في نقلها وذكروا نحو هذه الأمور التي وقعت فيها الشبهة والنزاع عند بعض الناس وجعلوا هذا معارضا لما تقدم ليسوغوا أن يكون من أمور الدين ما لم ينقل بل كتم لأهواء وأغراض.

    وأما جهة الرأي والتنازع فإن تنازع العلماء واختلافهم في صفات العبادات بل وفي غير ذلك من أمور الدين صار شبهة لكثير من أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم وقالوا: إن دين الله واحد والحق لا يكون في جهتين: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

    فهذا التفرق والاختلاف دليل على انتفاء الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة ويعبرون عنهم بعبارات تارة يسمونهم الجمهور وتارة يسمونهم الحشوية وتارة يسمونهم العامة ثم صار أهل الأهواء لما جعلوا هذا مانعا من كون الحق فيما عليه أهل السنة والجماعة كل ينتحل سبيلا من سبل الشيطان.
    فالرافضة تنتحل النقل عن أهل البيت لما لا وجود له وأصل من وضع ذلك لهم زنادقة مثل رئيسهم الأول عبد الله بن سبأ الذي ابتدع لهم الرفض ووضع لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة وأنه ظلم ومنع حقه وقال إنه كان معصوما وغرض الزنادقة بذلك التوسل إلى هدم الإسلام ولهذا كان الرفض باب الزندقة والإلحاد فالصابئة المتفلسفة ومن أخذ ببعض أمورهم أو زاد عليهم - من القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والحاكمية وغيرهم - إنما يدخلون إلى الزندقة والكفر بالكتاب والرسول وشرائع الإسلام من باب التشيع والرفض والمعتزلة ونحوهم تنتحل القياس والعقل وتطعن في كثير مما ينقله أهل السنة والجماعة ويعللون ذلك بما ذكر من الاختلاف ونحوه. وربما جعل ذلك بعض أرباب الملة من أسباب الطعن فيها وفي أهلها فيكون بعض هؤلاء المتعصبين ببعض هذه الأمور الصغار ساعيا في هدم قواعد الإسلام الكبار.
    (فصل: زوال الفرقة والاختلاف يكون بالسنة والجماعة)
    فصل:
    إذا تبين بعض ما حصل في هذا الاختلاف والتفرق من الفساد فنحن نذكر طريق زوال ذلك ونذكر ما هو الواجب في الدين في هذه المنازعات وذلك ببيان الأصلين اللذين هما " السنة والجماعة "
    المدلول عليهما بكتاب الله فإنه إذا اتبع كتاب الله وما تضمنه من اتباع رسوله والاعتصام بحبله جميعا حصل الهدى والفلاح وزال الضلال والشقاء. أما الأصل الأول: وهو " الجماعة " وبدأنا به لأنه أعرف عند عموم الخلق ولهذا يجب عليهم تقديم الإجماع على ما يظنونه من معاني الكتاب والسنة. فنقول: عامة هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات؛ فإن الرجل إذا حج متمتعا أو مفردا أو قارنا كان حجه مجزئا عند عامة علماء المسلمين وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها ومن الناصبة من يحرم المتعة ولا يبيحها بحال. وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع فإنه أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وسواء ربع التكبير في أوله أو ثناه وإنما يخالف في ذلك بعض شواذ المتفقهة كما خالف فيه بعض الشيعة فأوجب له الحيعلة " بحي على خير العمل " وكذلك الإقامة يصح فيها الإفراد والتثنية بأيها أقام صحت إقامته عند عامة علماء الإسلام إلا ما تنازع فيه شذوذ الناس. وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة كلاهما جائز لا يبطل الصلاة وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو يكره الآخر أو يختار أن لا يقرأ بها. فالمنازعة بينهم في المستحب وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عوام العلماء فإنهم وإن تنازعوا بالجهر والمخافتة في موضعهما هل هما واجبان أم لا؟ وفيه نزاع معروف في مذهب مالك وأحمد وغيرهما فهذا في الجو الطويل بالقدر الكثير مثل المخافتة بقرآن الفجر والجهر بقراءة صلاة الظهر. فأما الجهر بالشيء اليسير أو المخافتة به فمما لا ينبغي لأحد أن يبطل الصلاة بذلك وما أعلم أحدا قال به. فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في صلاة المخافتة يسمعهم الآية أحيانا وفي صحيح البخاري {عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة. قال: سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول}.

    ومعلوم أنه لولا جهره بها لما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الراوي. ومعلوم أن المستحب للمأموم المخافتة بمثل ذلك وكذلك ثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يجهر بدعاء الاستفتاح " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وهذا فعله بين المهاجرين والأنصار. والسنة الراتبة فيه المخافتة وكذلك كان من الصحابة من يجهر بالاستعاذة وفي الصحيح عن ابن عباس أنه جهر بقراءة الفاتحة على الجنازة وقال: لتعلموا أنها السنة ولهذا نظائر.

    وأيضا فلا نزاع أنه كان من الصحابة من يجهر بالبسملة كابن الزبير ونحوه ومنهم من لم يكن يجهر بها كابن مسعود وغيره وتكلم الصحابة في ذلك ولم يبطل أحد منهم صلاة أحد في ذلك. وهذا مما لم أعلم فيه نزاعا وإن تنازعوا في وجوب قراءتها فتلك مسألة أخرى. وكذلك القنوت في الفجر إنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته وسجود السهو لتركه أو فعله وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت وأنه ليس بواجب وكذلك من فعله إذ هو تطويل يسير للاعتدال ودعاء الله في هذا. . . (1) الأذان فإذا كان كل واحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأحد النوعين صار ذلك مثل تعليمه القرآن لعمر بحرف ولهشام بن حكيم بحرف آخر كلاهما قرآن أذن الله أن يقرأ به. وكذلك الترجيع في الأذان هو ثابت في أذان أبي محذورة وهو محذوف من أذان بلال الذي رووه في السنن وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة بها صح الجهر بها عن طائفة من الصحابة وصحت المخافتة بها عن أكثرهم وعن بعضهم الأمران جميعا.

    وأما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم فالذي في الصحاح والسنن؛ يقتضي أنه لم يكن يجهر بها كما عليه عمل أكثر الصحابة وأمته ففي الصحيح حديث أنس وعائشة وأبي هريرة يدل على ذلك دلالة بينة لا شبهة فيها وفي السنن أحاديث أخر: مثل حديث ابن مغفل وغيره وليس في الصحاح والسنن حديث فيه ذكر جهره بها والأحاديث المصرحة بالجهر عنه كلها ضعيفة عند أهل العلم بالحديث ولهذا لم يخرجوا في أمهات الدواوين منها شيئا ولكن في الصحاح والسنن أحاديث محتملة. وقد روى الطبراني بإسناد حسن {عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها إذ كان بمكة وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات}ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ وهذا.
    __________
    Q (1) سقط في الأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #167
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 165)

    من صــ 1 الى صـ 10





    ورواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ وهذا يناسب الواقع؛ فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون بها وكذلك أكثر البصريين وبعضهم كان يجهر بها ولهذا سألوا أنسا عن ذلك. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بعض الأحيان أو جهرا خفيفا إذا كان ذلك محفوظا وإذا كان في نفس كتب الحديث أنه فعل هذا مرة وهذا مرة زالت الشبهة.
    وأما القنوت فأمره بين لا شبهة فيه عند التأمل التام؛ فإنه قد ثبت في الصحاح {عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الفجر مرة يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه} ولم يكن تركه نسخا له لأنه ثبت عنه في الصحاح أنه قنت بعد ذلك يدعو للمسلمين: مثل الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين ويدعو على مضر وثبت عنه أنه قنت أيضا في المغرب والعشاء وسائر الصلوات قنوت استنصار. فهذا في الجملة منقول ثابت عنه لكن اعتقد بعض العلماء من الكوفيين أنه تركه ترك نسخ فاعتقد أن القنوت منسوخ واعتقد بعضهم من المكيين أنه ما زال يقنت في الفجر القنوت المتنازع فيه حتى فارق الدنيا والذي عليه أهل المعرفة بالحديث أنه قنت لسبب وتركه لزوال السبب.

    فالقنوت من السنن العوارض لا الرواتب؛ لأنه ثبت أنه تركه لما زال العارض ثم عاد إليه مرة أخرى ثم تركه لما زال العارض وثبت في الصحاح أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا هكذا ثبت عن أنس وغيره ولم ينقل أحد قط عنه أنه قنت القنوت المتنازع فيه لا قبل الركوع ولا بعده ولا في كتب الصحاح والسنن شيء من ذلك بل قد أنكر ذلك الصحابة كابن عمر وأبي مالك الأشجعي وغيرهما. ومن المعلوم قطعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان كل يوم يقنت قنوتا يجهر به لكان له فيه دعاء ينقله بعض الصحابة فإنهم نقلوا ما كان يقوله في القنوت العارض وقنوت الوتر فالقنوت الراتب أولى أن ينقل دعاؤه فيه فإذا كان الذي نستحبه إنما يدعو فيه لقنوت الوتر علم أنه ليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يعلم باليقين القطعي كما يعلم عدم النص على هذا وأمثاله فإنه من الممتنع أن يكون الصحابة كلهم أهملوا نقل ذلك فإنه مما يعلم بطلانه قطعا. وكذلك المأثور عن الصحابة مثل عمر وعلي وغيرهما هو القنوت العارض قنوت النوازل ودعاء عمر فيه وهو قوله: " اللهم عذب كفرة أهل الكتاب " إلخ. يقتضي أنه دعا به عند قتله للنصارى وكذلك دعاء علي عند قتاله لبعض أهل القبلة. والحديث الذي فيه عن أنس: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} مع ضعف في إسناده وأنه ليس في السنن إنما فيه القنوت قبل الركوع. وفي الصحاح عن أنس أنه قال: {لم يقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرا} والقنوت قبل الركوع هو القيام الطويل؛ إذ لفظ القنوت معناه دوام الطاعة فتارة يكون في السجود وتارة يكون في القيام كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
    وأما حجة الوداع وإن اشتبهت على كثير من الناس فإنما أتوا من جهة الألفاظ المشتركة حيث سمعوا بعض الصحابة يقول: إنه تمتع بالعمرة إلى الحج وهؤلاء أيضا يقولون إنه أفرد الحج ويقول بعضهم إنه قرن العمرة إلى الحج ولا خلاف في ذلك. فإنهم لم يختلفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل من إحرامه وأنه كان قد ساق الهدي ونحره يوم النحر وأنه لم يعتمر بعد الحجة في ذلك العام لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة أمر أخاها أن يعمرها من التنعيم أدنى الحل وكذلك الأحاديث الصحيحة عنه فيها أنه لم يطف بالصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طوافه الأول. فالذين نقلوا أنه أفرد الحج صدقوا لأنه أفرد أعمال الحج لم يقرن بها عمل العمرة كما يتوهم من يقول إن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين ولم يتمتع تمتعا حل به من إحرامه كما يفعله المتمتع الذي لم يسق الهدي؛ بل قد أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة ويهلوا بالحج بعد قضاء عمرتهم. اهـ
    (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106)
    (فصل في الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة».

    وقال: «إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به».
    هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية. رواه عنه غير واحد، منهم: أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة. رواه أحمد وأبو داود في سننه.
    وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخرى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، واثنتان وسبعون؛ لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم.
    ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدماء وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
    وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث، هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا} [آل عمران: 105].
    وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159] وقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل} [الأنعام: 153] وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه «أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها».
    وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي: أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا».

    ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: «وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».

    وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته؛ لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: «سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: " كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه مسلم.
    نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه،وعلل ذلك: بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا.
    ولهذا قال حذيفة لعثمان " أدرك هذه الأمة، لا تختلف في الكتاب كما اختلف فيه الأمم قبلهم " لما رأى أهل الشام والعراق يختلفون في حروف القرآن، الاختلاف الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
    فأفاد ذلك بشيئين: أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
    والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.

    واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء؛ تجده من هذا الضرب، وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته، أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات، لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادا - إذ الضدان لا يجتمعان.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #168
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 166)

    من صــ 11 الى صـ 20





    ومثل ذلك: ما رواه مسلم - أيضا - عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: «هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب».
    فعلل غضبه صلى الله عليه وسلم بأن الاختلاف في الكتاب سبب هلاك من كان قبلنا، وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا، وفي غيره نوعا.
    والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان:
    أحدهما: يذم الطائفتين جميعا، كما في قوله: {ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك} [هود: 118 - 119] فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: {ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] وكذلك قوله: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19] وقوله: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105]وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159].

    وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14].
    ووصف اختلاف اليهود بقوله: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله} [المائدة: 64] وقال: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: 53].

    وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ قال: «كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة» وفي الرواية الأخرى: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».
    فبين: أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة.
    وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض ونحو ذلك، فيجب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك، لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
    ويكون سببه - تارة - جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق: في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا.
    والجهل والظلم: هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 72].
    [أنواع الاختلاف]
    أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
    اختلاف تنوع واختلاف تضاد.
    واختلاف التنوع على وجوه: منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن».
    ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل.

    ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف؛ ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيثارها، ونحو ذلك، وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ؛ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى قول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
    ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جدا.
    ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين.
    ثم الجهل أو الظلم: يحمل على ذم إحدهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم.
    وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتنافيان: إما في الأصول وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: " المصيب واحد "، وإلا فمن قال: " كل مجتهد مصيب " فعنده: هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
    وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.
    ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة: من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور.

    وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك إذا لم يحصل بغي كما في قوله: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله} [الحشر: 5].
    وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار فقطع قوم وترك آخرون.

    وكما في قوله:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 78 - 79] فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم.
    وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة.
    وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر». . ونظائره كثيرة.
    وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة أقسام.
    وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] إلى قوله:
    {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا} [البقرة: 253].
    فقوله: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253] حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم للآخرى، وكذلك قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} [الحج: 19] إلى قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الحج: 23] مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: " أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد.

    وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك.
    وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} [البقرة: 213]؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.

    وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #169
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 167)

    من صــ 21 الى صـ 30





    وقريب من هذا الباب: ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم» فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال،
    ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية، كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة.
    لكن هذا الاختلاف على الأنبياء: هو - والله أعلم - مخالفة الأنبياء كما يقول: اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه.
    والاختلاف الأول: مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف عليه هو الاختلاف فيما بينهم، فإن اللفظ يحتمله.
    ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف، كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو، فإن حديث عمرو بن شعيب يدل على ذلك، إن كانت هذه القصة قال أحمد في المسند: حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان! فقال: " أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم: أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا؛ إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا عنه» وقال (حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
    وداود بن أبي هند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، وهم يتنازعون في القدر - فذكر الحديث)
    وقال أحمد.

    حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم: أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، قد احمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: " مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم: باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، وإنما أنزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه».

    وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم، والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال: فقال لهم: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم»، قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده.
    هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية، كما سقناه.
    وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث، وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار " إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض " وهذا لعلمه - رحمه الله - بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم.
    وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال: " حديث حسن غريب " وقال: " وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس ".
    وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا، وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها؛ إذ الأمر في هذا الحديث - كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم - أصل هلاك بني آدم: " إنما كان التنازع في القدر "، وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين: النور والظلمة، ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين بقدم العالم، ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم.
    وهذا مذهب كثير ممن عطل الشرائع.

    فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله، فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات، فوقعوا في غاية الضلال؛ إما بأن فعله ما زال لازما له، وإما بأن الفاعل اثنان؛ وإما بأنه يفعل البعض، والخلق يفعلون البعض، وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه، وما أمر به لم يقدر خلافه وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره، حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر، وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر، حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال، وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر.

    وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء القليل قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال: «ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه».
    والغرض بذكر هذه الأحاديث: التنبيه من الحديث على مثل ما في القرآن من قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} [التوبة: 69].
    ومن ذلك: ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] لتركبن سنن من كان قبلكم» رواه مالك والنسائي والترمذي وقال: (هذا حديث حسن صحيح) ولفظه «لتركبن سنة من كان قبلكم».
    وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟».
    وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع "، قالوا: فارس والروم؟ قال: " فمن الناس إلا أولئك؟».

    وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات.
    فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم، مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك، فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها.
    وأيضا: لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة؛ لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك؛ فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم.
    وفي لفظ: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
    وإنكار القلب هو: الإيمان بأن هذا منكر، وكراهته لذلك.
    فإذا حصل هذا، كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر؛ ارتفع هذا الإيمان من القلب.
    وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه، أو تمحو بعضه، وقد يقلل منه، وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر، ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر، ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم، بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد - وقول كثير من أهل العلم.
    على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك، ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: «لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله».
    وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة، بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه.
    وسئل:
    عن الشيخ عبد القادر أنه أفضل المشايخ والإمام أحمد أنه أفضل الأئمة فهل هذا صحيح أم لا؟
    فأجاب:
    أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض؛ مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه؛ أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره؛ كمن يرجح الشيخ عبد القادر أو الشيخ أبا مدين؛ أو أحمد أو غيرهم: فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس؛ فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم الله ورسوله كما قال تعالى:

    {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدع والفرقة. فما دخل في هذا الباب مما نهى الله عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم: فإنه يجب النهي عنه فليس لأحد أن يدخل فيما نهى الله عنه ورسوله.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #170
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 168)

    من صــ 31 الى صـ 40



    وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده كما تنازع المسلمون: أيهما أفضل الترجيع في الأذان أو تركه؟ أو إفراد الإقامة أو تثنيتها؟ وصلاة الفجر بغلس أو الإسفار بها؟ والقنوت في الفجر أو تركه؟ والجهر بالتسمية؛ أو المخافتة بها؛ أو ترك قراءتها؟ ونحو ذلك: فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده من كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر وخطؤه مغفور له فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك.
    ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانا أفضل من فلان فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجح متبوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه كما أن من يرجح قولا أو عملا لا يقبل قول من يفتي بخلاف ذلك لكن إن كان الرجل مقلدا فليكن مقلدا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق فإن كان مجتهدا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقد قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} لكن عليه أن لا يتبع هواه ولا يتكلم بغير علم قال تعالى: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم} وقال تعالى {يجادلونك في الحق بعدما تبين} وما من إمام إلا له مسائل يترجح فيها قوله على قول غيره ولا يعرف هذا التفاضل إلا من خاض في تفاصيل العلم والله أعلم.

    (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... (110)
    قال أبو هريرة في قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس فهم خير الأمم للخلق. والخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.

    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    وقد خص الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا، أفضل شرعة وأكمل منهاج.
    كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.

    فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة، والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث، والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "، ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه السلام وأتباعه.

    واليهود إذا حاضت عندهم المرأة، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرمون وطء الحائض.
    وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.
    ولذلك المسلمون وسط في الشريعة ; فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائضه، ومعايبه من الفقر، والبخل، والعجز، كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.
    [فصل: فضل أمة محمد على غيرها من الإيمان. والعمل آية لنبوته]
    ومما يبين به فضل أمته على جميع الأمم - وذلك مستلزم لكونه رسولا صادقا كما تقدم، وهو آية وبرهان على نبوته، فإن كل ملزوم فإنه دليل على لازمه.
    إن الأمم نوعان: نوع لهم كتاب منزل من عند الله، كاليهود والنصارى، ونوع لا كتاب لهم كالهند، واليونان، والترك، وكالعرب قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وما من أمة إلا ولا بد لها من علم وعمل بحسبهم، ويقوم به ما يقوم من مصالح دنياهم، وهذا من الهداية العامة التي جعلها الله لكل إنسان بل لكل حي، كما يهدي الحيوان لجلب ما ينفعه بالأكل والشرب، ودفع ما يضره باللباس والكن، وقد خلق الله فيه حبا لهذا، وبغضا لهذا. قال تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [الأعلى: 1]وقال موسى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقال في أول ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم:
    {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1] وقال تعالى: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين} [البلد: 8]، ثم الأمم متفاضلون في معرفة الخالق تعالى، وفي الإقرار بالمعاد بعد الموت، إما للأرواح فقط، وإما للأبدان فقط، وإما لمجموعهما كما هو قول سلف الأمة المسلمين وأئمتهم وعامتهم أهل السنة والجماعة، ومتفاضلون فيما يحمدونه، ويستحسنونه من الأفعال والصفات، وما يذمونه ويستقبحونه من ذلك لكن عامة بني آدم على أن العدل خير من الظلم، والصدق خير من الكذب، والعلم خير من الجهل، فإن المحسن إلى الناس خير من الذي لا يحسن إليهم.
    وأما المعاد فهو إما للأرواح أو للأبدان، وإن الناس بعد الموت يكونون سعداء أو أشقياء، فيقر به كثير من الأمم غير أهل الكتاب، وإن كان على وجه قاصر كحكماء الهند، واليونان، والمجوس، وغيرهم، وذلك أن أهل الأرض في المعاد على أربعة أقوال: أحدها: وهو مذهب سلف المسلمين من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورين، وغيرهم من أهل السنة، والحديث من الفقهاء، والصوفية، والنظار، وهو إثبات معاد الأرواح والأبدان جميعا وأن الإنسان إذا مات كانت روحه منعمة، أو معذبة، ثم تعاد روحه إلى بدنه عند القيامة الكبرى، ولهذا يذكر الله في كثير من السور أمر القيامتين:

    القيامة الصغرى بالموت، والقيامة الكبرى حين يقوم الناس من قبورهم وتعاد أرواحهم إلى أبدانهم، كما ذكر الله القيامتين في سورة الواقعة حيث قال في أولها:{إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 1].

    ثم ذكر سبحانه حال الأصناف الثلاثة في القيامة الكبرى وقال في آخر السورة: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم} [الواقعة: 83] وكذلك في سورة القيامة:{لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} [القيامة: 1] فذكر القيامة الكبرى، ثم قال في آخر السورة: {كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 26] ولبسط هذا موضع آخر، فإن ذكر ما ينال الروح عند فراق البدن من النعيم والعذاب كثير في النصوص النبوية،وأما وصف القيامة الكبرى في الكتاب والسنة فكثير جدا لأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وقد بعث بين يدي الساعة، فلذلك وصف القيامة بما لم يصفها به غيره كما ذكر المسيح - في صفته - فقال: إنه يخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للرب

    والقول الثاني: قول من يثبت معاد الأبدان فقط، كما يقول ذلك كثير من المتكلمين الجهمية، والمعتزلة المبتدعين من هذه الأمة، وبعض المصنفين يحكي هذا القول عن جمهور متكلمي المسلمين، أو جمهور المسلمين، وذلك غلط، فإنه لم يقل ذلك أحد من أئمة المسلمين، ولا هو قول جمهور نظارهم، بل هو قول طائفة من متكلميهم المبتدعة، الذين ذمهم السلف والأئمة.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #171
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 169)

    من صــ 41 الى صـ 50




    والقول الثالث: المعاد للنفس الناطقة بالموت فقط، وأن الأبدان لا تعاد. وهذا لم يقله أحد من أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى. بل هؤلاء كلهم متفقون على إعادة الأبدان، وعلى القيامة الكبرى. ولكن من تفلسف من هؤلاء فوافق سلفه من الصابئة والفلاسفة المشركين على أن المعاد للروح وحده، فإنه يزعم أن الأنبياء خاطبوا الجمهور بمعاد الأبدان، وإن لم يكن له حقيقة وخاطبوهم بإثبات الصفات لله، وليس له حقيقة، وأن الأنبياء لم يظهروا الحقائق للخلق،وأنه لا يستفاد من أخبارهم معرفة شيء من صفات الله ولا معرفة شيء من أمر المعاد.

    وحقيقة قولهم أن الأنبياء كذبوا للمصلحة، وهؤلاء ملاحدة كفار عند المتبعين للأنبياء من المسلمين، واليهود، والنصارى. وإن كان هؤلاء كثيرين موجودين فيمن يتظاهر بأنه من أهل الملل، لظهور أديانهم، وهو في الباطن على هذا الرأي. وهؤلاء القائلون بمعاد الأرواح فقط، منهم من يقول بأن الأرواح تتناسخ إما في أبدان الآدميين، أو أبدان الحيوان مطلقا، أو في موضع الأجسام النامية، ومنهم من يقول بالتناسخ للأنفس الشقية فقط، وكثير من محققيهم ينكر التناسخ

    والقول الرابع: إنكار المعادين جميعا، كما هو قول أهل الكفر من العرب، واليونان، والهند،، والترك، وغيرهم، والمتفلسفة أتباع أرسطو كالفارابي وأتباعه، لهم في معاد الأرواح ثلاثة أقوال: قيل: بالمعاد للنفس العالمة والجاهلة، وقيل: بالمعاد للعالمة دون الجاهلة، وقيل: بإنكار الاثنين، والفارابي نفسه قد قال الأقوال الثلاثة، وبسط الكلام على هذه الأمور له موضع آخر، إذ المقصود هنا أن كل ما عند أهل الكتاب بل وسائر أهل الأرض من علم نافع وعمل صالح فهو عند المسلمين.

    وعند المسلمين ما ليس عند غيرهم في جميع المطالب التي تنال بها السعادة والنجاة. وعقلاء جميع الأمم تأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، وتنهى عن الظلم، والفواحش، ولهم علوم إلهية وعبادات بحسبهم، ويعظمون أهل العلم والدين منهم. والهند، واليونان، والفرس في ذلك أكمل من كفار الترك، والبربر، ونحوهم، مع أن هؤلاء أيضا فيهم قسط من ذلك. ومعلوم عند الاعتبار أن الأمم الذين لهم كتاب كاليهود، والنصارى أكمل من الأمم الذين لا كتاب لهم في الفضائل العلمية، والعملية، فإن ما لم يأخذه الناس عن الأنبياء يعلم بالعقل، والاعتبار، أو بالمنام، والإلهام، وأخبار الجن ونحو ذلك من طرق الأمم. وكل طريق صحيح من الطرق العقلية، والإلهامية، وغيرها، شارك أهل الكتاب فيه من لا كتاب له. ويمتاز أهل الكتاب بعلوم وأعمال أخذوها عن الأنبياء، ليس في قوة من ليس بنبي أن يعلمها، وهذا ظاهر في الأخلاق، والسياسات المنزلية والمدنية.

    فإن جنس أهل الكتاب ولو كان منسوخا مبدلا أحسن حالا ممن لا كتاب له. وأما في العبادات والإيمان بالله واليوم الآخر فرجحانهم فيه ظاهر، وأما علوم وأعمال يكون ضررها راجحا، كالسحر، والطلسمات، وما يتوسل به من الشرك إلى استخدام الشياطين، ونحو ذلك، فهذا وإن كان غير أهل الكتاب أقوم به، فإنما ذاك لاستغناء أهل الكتاب بما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة. ولهذا لما ذكر الله سبحانه في قصة سليمان براءته عن ذلك، وكانت الشياطين قد كتبت كتب كفر وسحر، ودفنتها تحت كرسي سليمان، فلما مات أظهروا ذلك وقالوا: إنما كان يسخر الجن بهذه الأسماء والعزائم، فصدقهم فريقان:
    فريق قدحوا في سليمان بل كفروه، من أهل الكتاب، وقال: من فعل ذلك فهو كافر، وفريق قالوا: نحن نقتدي بسليمان ونفعل كما كان يفعل، وهم أهل العزائم والطلاسم التي يستخدمون بها الجن، ويقولون: إن سليمان كان يستخدمهم بها، حتى يقولوا: إن هذه الأسماء كانت مكتوبة على تاجه، وهذا صورة خاتمه، وهذا كلام آصف بن برخيا إلى أمثال ذلك مما يضيفونه إليه، وهو كذب على سليمان. وقد ذكر ذلك علماء المسلمين في تفسير قوله تعالى:{ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} [البقرة: 101]
    فذم سبحانه من عدل عن اتباع كتاب الله ورسله، واتبع ما تتلوه الشياطين على عهد سليمان، وبين سبحانه أن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين كفروا، وأنهم يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل وأن الملكين: هاروت وماروت، ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وأخبر سبحانه أنهم لا يضرون به أحدا إلا بإذن الله،وأنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ثم قال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} [البقرة: 102] أي من نصيب، أي هؤلاء يعلمون أن صاحبه لا نصيب له في الآخرة، وإنما يطلبون أنهم يقضون به أغراضهم الدنيوية لما لهم في ذلك من الهوى، وذلك ضار لهم لا نافع، كما قال في المشرك: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} [الحج: 13] قال تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون} [البقرة: 103]
    فبين سبحانه أنه بالإيمان والتقوى يحصل من ثواب الله ما هو خير لهم من هذا، فإنهم إنما يطلبونه لما يرجون به من الخير لهم، وهذا خير لهم، وهذا كقوله: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم} [الجمعة: 9]فإن ما تطلبه النفوس فيه لها لذة، يجعل خيرا بذلك الاعتبار، لكن إذا كان الألم زائدا على اللذة كان شره أعظم من خيره. والشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما تترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره. ولهذا أمر تعالى أن نأخذ بأحسن ما أنزل إلينا من ربنا. فالأحسن: إما واجب وإما مستحب، قال تعالى: {فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} [الأعراف: 145] وقال: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] فأمر باتباع الأحسن والأخذ به، وقال تعالى:
    {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله} [الزمر: 17] فاقتضى أن غيرهم لم يهده، وهذا يقتضي وجوب الأخذ بالأحسن، وهو مشكل، وقد تكلم الناس فيه، ونظيره قوله تعالى:{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم} [الإسراء: 53]، وقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} [المؤمنون: 96] مع قوله تعالى في موضع آخر: {ويدرءون بالحسنة السيئة} [الرعد: 22]، وقال تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125]، وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]، وقال تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في موضعين.
    وقد يقال: هذا نظير قوله تعالى: فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم، وقوله تعالى: آلله خير أم ما يشركون، وقوله تعالى: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وقوله: والله خير وأبقى، وقوله: والآخرة خير وأبقى، وقوله: فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وقوله أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وقوله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء: 125]، وقوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8]، وقوله: {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا} [النساء: 66] ونظائر هذا كثيرة، مما يذكر فيه أن المأمور به خير وأحسن من المنهي عنه، وإن كان الأول واجبا والثاني محرما.
    وذلك لأن المأمور به قد يشتمل على مفسدة مرجوحة، والمنهي عنه يشتمل على مصلحة مرجوحة، فيكون باعتبار ذلك في هذا خير وحسن، وفي هذا شر وسيئ، لكن هذا خير وأحسن وإن كان واجبا. فقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] هو أمر بالأحسن من فعل المأمور أو ترك المحظور، وهو يتناول الأمر بالواجب والمستحب، فإن كلاهما أحسن من المحرم والمكروه. لكن يكون الأمر أمر إيجاب، وأمر استحباب، كما أمر بالإحسان في قوله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} [البقرة: 195] والإحسان منه واجب، ومنه مستحب.
    (فصل: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين؛ فإن رسالة الله: إما إخبار وإما إنشاء. فالإخبار عن نفسه وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد. والإنشاء الأمر والنهي والإباحة.

    وهذا كما ذكر في أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد؛ إذ هو قصص؛ وتوحيد؛ وأمر. وقوله سبحانه في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} هو بيان لكمال رسالته؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر؛ وأحل كل طيب وحرم كل خبيث؛ ولهذا روي عنه أنه قال: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}. وقال في الحديث المتفق عليه: {مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة؛ فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها؛ ويقولون: لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة}. فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #172
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 170)

    من صــ 51 الى صـ 60


    وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات كما قال: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم}. وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى: {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة}. وتحريم الخبائث يندرج في معنى " النهي عن المنكر " كما أن إحلال الطيبات يندرج في " الأمر بالمعروف " لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول؛ الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف وقد قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا. وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ولهذا قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس:

    فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم؛ لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم وهذا كمال النفع للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف؛ ولا نهوا كل أحد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك. بل منهم من لم يجاهد والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم كما يقاتل الصائل الظالم؛ لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} {قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} إلى قوله: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.

    وقال تعالى: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} " فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم؛ ولم يكونوا يطئون بملك اليمين. ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما {قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: عرضت علي الأمم؛ فجعل يمر النبي ومعه الرجل؛ والنبي معه الرجلان؛ والنبي معه الرهط؛ والنبي ليس معه أحد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي؛ فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل لي: انظر هكذا وهكذا فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك وكنا آمنا بالله ورسوله؛ ولكن هؤلاء أبناؤنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
    هم الذين لا يتطيرون والا يكتوون؛ ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون: فقام عكاشة بن محصن فقال:أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: نعم فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: سبقك بها عكاشة}. ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب؛ أو تحريم حلال أو إخبار عن الله تعالى؛ أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف: من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف وما لم تنه عنه فليس من المنكر. وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
    وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة: فكيف يشترط فيما هو من توابعها؟ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم. ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه:كان التفريط منهم لا منه. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان}.

    وإذا كان كذلك فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر. وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح.

    وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذم المفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم وهذا معنى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال. وذلك يكون تارة بالقلب؛ وتارة باللسان؛ وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان} وقال: {ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}.
    وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان. وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية؛ كما {قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته: إنكم تقرءون هذه الآية {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه}.
    والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا؛ من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر كما في {حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يدان لك به فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أيام الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله}. فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء؛ كالخوارج والمعتزلة والرافضة؛ وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك وكان فساده أعظم من صلاحه؛ ولهذا {أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة؛ ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة وقال: أدوا إليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم}. وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة.
    وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: " التوحيد " الذي هو سلب الصفات؛ و " العدل " الذي هو التكذيب بالقدر؛ و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " الذي منه قتال الأئمة. وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع. وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة ":

    فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت؛ فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به؛ بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل إن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما؛ بل إما أن يفعلوهما جميعا؛ أو يتركوها جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا من منكر؛ ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به؛ وإن استلزم ما هو دونه من المنكر.

    ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه؛ بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات وإن كان المنكر أغلب نهى عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف. ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر؛ وتارة يصلح النهي؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
    وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية؛ وإذا تركها كان عاصيا فترك الأمر الواجب معصية؛ وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية.

    وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم؛ وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قولا الذي أحسن فيه: حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان المعروف وبغضه للمنكر؛ وإرادته لهذا؛ وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه وإرادته وكراهته الشرعيين. وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته: فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد قال: {فاتقوا الله ما استطعتم}. فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #173
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 171)

    من صــ 61 الى صـ 70

    وَأَمَّا فِعْلُ الْبَدَنِ فَهُوَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ وَمَتَى كانت إرَادَةُ الْقَلْبِ وَكَرَاهَتِهِ كَامِلَةً تَامَّةً وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَعَهَا بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ: فَإِنَّهُ يُعْطَى ثَوَابَ الْفَاعِلِ الْكَامِلِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ حُبُّهُ وَبُغْضُهُ وَإِرَادَتُهُ وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها؛ لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى؛ فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} فإن أصل الهوى محبة النفس ويتبع ذلك بغضها ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه؛ فإن ذلك قد لا يملك وإنما يلام على اتباعه؛ كما قال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقال تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال النبي صلى الله عليه وسلم {ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه}.

    والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وإرادة؛ وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؛ بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات. فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين؛ كما قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم} الآية؛ إلى أن قال: {بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم} وقال تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} الآية وقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير} وقال تعالى في الآية الأخرى: {ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} وقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}.

    ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء وذلك إن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله؛ ولهذا قال تعالى في موضع: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم} وقال في موضع آخر: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}. فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه. ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدى الله الذي أنزله على رسوله؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض. لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله؛ فإنه قد قال: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله. ومجرد الحب والبغض هوى؛ لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله: ولهذا قال: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد} فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله. وهو السبيل إليه.
    وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون الله والصواب أن يكون على السنة. فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده؛ كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو كله للذي أشرك}.
    ثم قال - رحمه الله تعالى -:

    والناس هنا ثلاثة أقسام: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم؛ فلا يرضون إلا بما يعطونه ولا يغضبون إلا لما يحرمونه؛ فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرا - ينهى عنه ويعاقب عليه؛ ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده وصار فاعلا له وشريكا فيه؛ ومعاونا عليه؛ ومعاديا لمن نهى عنه وينكر عليه. وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه. وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول؛ فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قوما ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم؛ فيرضى أولئك المنكرون ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له. وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه.

    وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك؛ أو يرضوه ببعض ذلك؛ فتراه قد صار عونا لهم. وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره. وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا. وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس:يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله. وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا؛ وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة؛ ومطمئنة؛ ولوامة. فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء.
    والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: {يا أيتها النفس المطمئنة} {ارجعي إلى ربك راضية مرضية} {فادخلي في عبادي} {وادخلي جنتي}. والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه؛ وتتلون: تارة كذا. وتارة كذا. وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا. ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم {اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر} أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا؛ وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة؛ إذ كانوا في حكم القسم الوسط. ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث؛ فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين؛ وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد؛ فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين؛ واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين:

    وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنه مع الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى؛ ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس؛ وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى. فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله؛ ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه: ويثبته على الهدى والتقوى؛ ولا يتبع الهوى كما قال تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم}. وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات.

    وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين. فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها: فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم؛ كما هو الواقع؛ فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه؛ وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير. فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره -يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا؛ مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ من غير أن ينقص من أجورهم شيئا؛ ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة؛ من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا} وذلك لاشتراكهم في الحقيقة. وأن حكم الشيء حكم نظيره. وشبه الشيء منجذب إليه. فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه؛ ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم؛ ومعاداتهم لمخالفيهم.
    وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك؛ كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم. وإما بالموافقة؛ كما في المجتمعين على شرب الخمر؛ فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك؛ لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم. وإما لئلا يكون له عليهم حجة. وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه؛ أو بمن يرفع ذلك إليهم؛ ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب قال الله تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} وقال تعالى في المنافقين: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء}. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع؛ كالزاني الذي يود أن غيره يزني؛ والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا؛ لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها.
    وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر. فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه؛ أولا ينتهي إلى حد الإكراه ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به. وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى. وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه. وهذه حال غالب الظالمين القادرين. وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه كما قال تعالى: {والذين آمنوا أشد حبا لله} فإن داعي الخير أقوى؛ فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم؛ والصدق والعدل؛ وأداء الأمانة فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر؛ لا سيما إذا كان نظيره؛ لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن. فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين؛ ويبغضه إذا لم يفعل: صار له داع ثالث؛ فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع.
    ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات؛ كما يقابل الطبيب المرض بضده. فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين: بفعل الحسنات. وترك السيئات مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات. وهذه أربعة أنواع. ويؤمر أيضا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه.
    (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} وهذه الآية قيل: إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: إن قوله {منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}. هو عبد الله بن سلام وأصحابه. وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله؛ فإن هؤلاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن؛ لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن؛ ولهذا قال تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} فهو من آل فرعون وهو مؤمن. وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون. ولهذا قال: {وأكثرهم الفاسقون} وقد قال قبل هذا {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} ثم قال: {لن يضروكم إلا أذى} وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم.

    ولهذا قال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل: يا رسول الله وفيهم المكره قال: يبعثون على نياتهم}.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #174
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 172)

    من صــ 71 الى صـ 80



    (من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113)
    [فصل: الرد على النصارى في احتجاجهم بأن الله مدحهم في قوله (من أهل الكتاب أمة قائمة)]

    وأما قوله - تعالى -: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113) {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114] فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله - تعالى -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] (110) {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111] (111) {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112] ثم قال {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113]ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق} [آل عمران: 112] صفة اليهود وكذلك قوله:
    {وضربت عليهم المسكنة} [آل عمران: 112] فقوله عقب ذلك {من أهل الكتاب أمة قائمة} [آل عمران: 113] لا بد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود مع كفرهم بالمسيح ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال - تعالى -:

    {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} [آل عمران: 199] وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا، فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم.

    ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة من يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال - تعالى -: {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة} [النساء: 92] فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون.

    قال - تعالى -:{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} [غافر: 28] (28) {ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29] (29) {وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب} [غافر: 30] (30) {مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد} [غافر: 31] (31) {ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد} [غافر: 32] (32) {يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد} [غافر: 33] (33) {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} [غافر: 34] (34)
    {الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} [غافر: 35] (35) {وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب} [غافر: 36] (36) {أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37] (37) {وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد} [غافر: 38] (38) {ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} [غافر: 39] (39) {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} [غافر: 40] (40) {ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار} [غافر: 41] (41) {تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} [غافر: 42] (42) {لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43] (43) {فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} [غافر: 44] (44) {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب} [غافر: 45] (45) {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46].

    فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله تعالى {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} [التحريم: 11] وامرأة الرجل من آله بدليل قوله: {إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين} [الحجر: 59] (59) {إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين} [الحجر: 60] وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا: و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286] وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي.

    وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما نصراني وإما مشرك وإما معطل.
    كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم ومن هو في الباطن من أهل الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط ما يعجز عنه في ذلك.

    وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: «لما مات النجاشي قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم: تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم} [آل عمران: 199]».
    ذكره ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم وذكره حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «استغفروا لأخيكم النجاشي» فذكر مثله.

    وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا: «نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا: من هو؟ قال: النجاشي فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع وزاد بعضهم: وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: استغفروا له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب} [آل عمران: 199]» وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح - عليه السلام - إلى أن بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فآمن به كما نقل ذلك عن عطاء.
    وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
    والقول الأول أجود، فإن من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل ما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا يعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا؟ وهذا مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما وهؤلاء لا يقال أنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار أنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا يمكن أحد من المنافقين ولا من غيرهم من أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين.
    وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد يتناولهم قوله - تعالى -: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله} [آل عمران: 199] الآية.
    فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم.

    وأما قوله - تعالى -: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113) {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114] فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيرها قوله - تعالى -: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] وهذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا - صلى الله عليه وسلم.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #175
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 173)

    من صــ 81 الى صـ 90





    وهذا الكلام يفسره سياق الكلام، فإنه قال - تعالى -: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]ثم قال - تعالى -: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم وقوله - تعالى -: منهم المؤمنون يتناول من كان منهم مؤمنا قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يتناولهم قوله - تعالى -: {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة} [الحديد: 27] إلى قوله: وكثير منهم فاسقون وكذلك قوله - تعالى -: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 26] وقوله عن إبراهيم الخليل {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} [الصافات: 113] ثم لما قال:
    {وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] قال {لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} [آل عمران: 111] (111) {ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112]

    وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب الله وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتداؤهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - في سورة البقرة {وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [البقرة: 61] ثم قال بعد ذلك {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62] فتناولت هذه الآية من كان من أهل هذه الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكفر قال {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} [آل عمران: 113] (113)
    {يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين} [آل عمران: 114]. وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ، فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] وقوله: {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168] (168) {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} [الأعراف: 169] (169) {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} [الأعراف: 170].
    وقد قال - تعالى -: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أدرك من هؤلاء محمدا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به كان له أجره مرتين.
    (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128)
    (فصل في الرد على من ادعى أن قوله: (ليس لك من الأمر شيء) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وأما قول القائل: إن قوله: {ليس لك من الأمر شيء} عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} فهذا بناء على قول أهل الوحدة والاتحاد وجعل معنى قوله: {ليس لك من الأمر شيء} أن فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه:
    أحدهما: أن قوله: {ليس لك من الأمر شيء} نزل في سياق قوله: {ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين} {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}.

    وقد ثبت في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت فلما أنزل الله هذه الآية: ترك ذلك} فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر؛ بل إن شاء الله تعالى قطع طرفا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة وإن شاء تاب عليهم وإن شاء عذبهم. وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} ونحو ذلك قوله تعالى {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} {قل إن الأمر كله لله}.

    الوجه الثاني: أن قوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى - كما تظنه طائفة من الغالطين - فإن ذلك لو كان صحيحا لكان ينبغي أن يقال لكل أحد حتى يقال للماشي: ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى ويقال للراكب: وما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب ويقال للمتكلم: ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم ويقال مثل ذلك للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك. وطرد ذلك: يستلزم أن يقال للكافر ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب. ومن قال مثل هذا: فهو كافر ملحد خارج عن العقل والدين.
    ولكن معنى الآية أن {النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذ رماهم بالتراب وقال: شاهت الوجوه} لم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم فالله تعالى أوصل ذلك الرمي إليهم كلهم بقدرته. يقول: وما أوصلت إذ حذفت ولكن الله أوصل فالرمي الذي أثبته له ليس هو الرمي الذي نفاه عنه فإن هذا مستلزم للجمع بين النقيضين بل نفى عنه الإيصال والتبليغ وأثبت له الحذف والإلقاء وكذلك إذا رمى سهما فأوصله الله إلى العدو إيصالا خارقا للعادة: كان الله هو الذي أوصله بقدرته.

    (الوجه الثالث) أنه لو فرض أن المراد بهذه الآية أن الله خالق أفعال العباد) فهذا المعنى حق وقد قال الخليل: {ربنا واجعلنا مسلمين لك} فالله هو الذي جعل المسلم مسلما وقال تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا} {إذا مسه الشر جزوعا} {وإذا مسه الخير منوعا} فالله هو الذي خلقه هلوعا لكن ليس في هذا أن الله هو العبد؛ ولا أن وجود الخالق هو وجود المخلوق ولا أن الله حال في العبد. فالقول بأن الله خالق أفعال العباد حق والقول بأن الخلق حال في المخلوق أو وجوده وجود المخلوق باطل. وهؤلاء ينتقلون من القول بتوحيد الربوبية إلى القول بالحلول والاتحاد وهذا عين الضلال والإلحاد.

    (الوجه الرابع) أن قوله تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} لم يرد به إنك أنت الله) وإنما أراد إنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه فمن بايعك فقد بايع الله كما أن من أطاعك فقد أطاع الله ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله؛ ولكن الرسول أمر بما أمر الله به. فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني} ومعلوم أن أميره ليس هو إياه.
    ومن ظن في قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} أن المراد به أن فعلك هو فعل الله أو المراد أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو - مع جهله وضلاله بل كفره وإلحاده - قد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره وذلك أنه لو كان المراد به كون الله فاعلا لفعلك: لكان هذا قدرا مشتركا بينه وبين سائر الخلق وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله ومن بايع مسيلمة الكذاب فقد بايع الله ومن بايع قادة الأحزاب فقد بايع الله وعلى هذا التقدير فالمبايع هو الله أيضا فيكون الله قد بايع الله؛ إذ الله خالق لهذا ولهذا وكذلك إذا قيل بمذهب أهل الحلول والوحدة والاتحاد فإنه عام عندهم في هذا وهذا فيكون الله قد بايع الله. وهذا يقوله كثير من شيوخ هؤلاء الحلولية الاتحادية حتى إن أحدهم إذا أمر بقتال العدو يقول: أقاتل الله؟ ما أقدر أن أقاتل الله ونحو هذا الكلام الذي سمعناه من شيوخهم وبينا فساده لهم وضلالهم فيه غير مرة.
    وأما الحلول الخاص فليس هو قول هؤلاء؛ بل هو قول النصارى ومن وافقهم من الغالية وهو باطل أيضا فإن الله سبحانه قال له: {ليس لك من الأمر شيء} وقال: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} وقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} وقال: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} {ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما}.
    فقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} بين قوله: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} ولهذا قال: {يد الله فوق أيديهم} ومعلوم أن يد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أيديهم كانوا يصافحونه ويصفقون على يده في البيعة فعلم أن يد الله فوق أيديهم ليست هي يد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول عبد الله ورسوله فبايعهم عن الله وعاهدهم وعاقدهم عن الله فالذين بايعوه بايعوا الله الذي أرسله وأمره ببيعتهم. ألا ترى أن كل من وكل شخصا يعقد مع الوكيل: كان ذلك عقدا مع الموكل؟ ومن وكل نائبا له في معاهدة قوم فعاهدهم عن مستنيبه: كانوا معاهدين لمستنيبه؟

    ومن وكل رجلا في إنكاح أو تزويج: كان الموكل هو الزوج الذي وقع له العقد؟ وقد قال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} الآية ولهذا قال في تمام الآية: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما}. فتبين أن قول ذلك الفقير هو القول الصحيح وأن الله إذا كان قد قال لنبيه: {ليس لك من الأمر شيء} فأيش نكون نحن؟ وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله}.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #176
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 174)

    من صــ 91 الى صـ 100



    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان في العشاء الآخرة؟ أو الصبح؟ وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل عليه عند الصحابة؟.
    فأجاب:

    أما القنوت في صلاة الصبح. فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في النوازل. قنت مرة شهرا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم تركه وقنت مرة أخرى يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه.
    وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان يداوم عليه وما كان يدعه بالكلية وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: إن المداومة عليه سنة. وقيل: القنوت منسوخ. وأنه كله بدعة. والقول الثالث: وهو الصحيح أنه يسن عند الحاجة إليه كما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون.
    وأما القنوت في الوتر فهو جائز وليس بلازم فمن أصحابه من لم يقنت ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قنت السنة كلها. والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي وأحمد في رواية ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة والإمام أحمد في رواية والجميع جائز. فمن فعل شيئا من ذلك فلا لوم عليه والله أعلم.
    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:

    فصل:
    وأما القنوت: فالناس فيه طرفان ووسط: منهم من لا يرى القنوت إلا قبل الركوع ومنهم من لا يراه إلا بعده.
    وأما فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما. وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك: أولها ثناء وآخرها دعاء.

    وأيضا فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال: بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر. منهم من قال: إنه منسوخ فإنه قنت ثم ترك. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.
    ومن قال: المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار فلم تبلغه ألفاظ الحديث أو بلغته فلم يتأملها فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال: {سألت أنس بن مالك عن القنوت: هل كان قبل الركوع أو بعده؟ فقال: قبل الركوع قال: فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع قال: كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع أراه بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله عهد وقنت صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو عليهم} وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس عن أنس أنه قال: {ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا} " جاء لفظه مفسرا " أنه: ما زال يقنت قبل الركوع ". والمراد هنا بالقنوت طول القيام لا الدعاء.
    كذلك جاء مفسرا ويبينه ما جاء في الصحيحين عن {محمد بن سيرين قال: قلت لأنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح قال: نعم بعد الركوع يسيرا} " فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتا. كما قال تعالى: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} ولهذا لما سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت الراتب قال: " ما سمعنا ولا رأينا " وهذا قول ومنهم من قال: بل القنوت سنة راتبة حيث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت وروي عنه:
    {أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا}. وهذا قول الشافعي ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة والظهر. لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف. فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه. النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي وهو: {اللهم اهدني فيمن هديت} " إلى آخره. وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ونحو ذلك.

    فإنه قنت مستنصرا كما استسقى حين الجدب فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس. كما قال تعالى: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم} " وكما قال في صفة الأبدال: {بهم ترزقون وبهم تنصرون} " وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده. سبحانه. في قوله: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور} {أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه} ثم ترك القنوت وجاء مفسرا أنه تركه لزوال ذلك السبب.

    وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت وكذلك علي رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم. قالوا: وليس الترك نسخا فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل.
    قالوا: ونعلم مطلقا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ولا أنه قنت دائما يدعو قبله وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن كما يعلم: " أن حي على خير العمل " لم يكن من الأذان الراتب وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة فهذا القول أوسط الأقوال وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ؛ لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة. وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات.
    وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه. وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا.
    وسئل:
    هل قنوت الصبح دائما سنة؟ ومن يقول: إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود وما يجبر إلا الناقص. والحديث {ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا} فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح؟ وهل هو هذا القنوت؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وإن قنت لنازلة: فهل يتعين قوله أو يدعو بما شاء؟.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية} ثم تركه. وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة. وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية وفتح خيبر يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة. ويقول في قنوته: {اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف}. {وكان يقنت يدعو للمؤمنين ويلعن الكفار وكان قنوته في الفجر}.

    وثبت عنه في الصحيح {أنه قنت في المغرب والعشاء وفي الظهر} وفي السنن {أنه قنت في العصر} أيضا. فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه منسوخ فلا يشرع بحال بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت ثم ترك والترك نسخ للفعل كما أنه لما كان يقوم للجنازة ثم قعد. جعل القعود ناسخا للقيام وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره.
    والثاني: أن القنوت مشروع دائما وأن المداومة عليه سنة وأن ذلك يكون في الفجر. ثم من هؤلاء من يقول: السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سرا وأن لا يقنت بسوى: {اللهم إنا نستعينك} إلى آخرها و {اللهم إياك نعبد} إلى آخرها كما يقوله: مالك. ومنهم من يقول: السنة أن يكون بعد الركوع جهرا.

    ويستحب. أن يقنت بدعاء الحسن بن علي الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته: {اللهم اهدني فيمن هديت} إلى آخره. وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} ويقولون: الوسطى: هي الفجر والقنوت فيها. وكلتا المقدمتين ضعيفة: أما الأولى: فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم {أن الصلاة الوسطى هي العصر} وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة. ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم. وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة. فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم.
    وأما الثانية: فالقنوت هو المداومة على الطاعة وهذا يكون في القيام والسجود. كما قال تعالى: {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة} ولو أريد به إدامة القيام كما قيل: في قوله: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي} فحمل ذلك على إطالته القيام للدعاء دون غيره لا يجوز؛ لأن الله أمر بالقيام له قانتين والأمر يقتضي الوجوب. وقيام الدعاء المتنازع فيه لا يجب بالإجماع؛ ولأن القائم في حال قراءته هو قانت لله أيضا. ولأنه قد ثبت في الصحيح: {أن هذه الآية لما نزلت أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام}.
    فعلم أن السكوت هو من تمام القنوت المأمور به. ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله: {وقوموا لله قانتين} لا يختص بالصلاة الوسطى. سواء كانت الفجر أو العصر؛ بل هو معطوف على قوله: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فيكون أمرا بالقنوت مع الأمر بالمحافظة والمحافظة تتناول الجميع فالقيام يتناول الجميع. واحتجوا أيضا: بما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في صحيحه عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا} قالوا: وقوله في الحديث الآخر: {ثم تركه} أراد ترك الدعاء على تلك القبائل لم يترك نفس القنوت.

    وهذا بمجرده لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي. وكثيرا ما يصحح الموضوعات فإنه معروف بالتسامح في ذلك ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده فقال: {ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهرا} فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا فبطل ذلك التأويل. والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع سواء كان هناك دعاء زائد أو لم يكن. فحينئذ فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض وهذا قول شاذ.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #177
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 175)

    من صــ 101 الى صـ 110





    والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به فيكون القنوت مسنونا عند النوازل وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه لما حارب النصارى قنت عليهم القنوت المشهور: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب. إلى آخره. وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان وليس هذا القنوت سنة راتبة لا في رمضان ولا غيره بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء. يناسب مقصوده. فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ليس بسنة دائمة في الصلاة.
    الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتبا بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولا وثانيا. وكما دعا عمر وعلي رضي الله عنهما لما حارب من حاربه في الفتنة فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما ويدعو بدعاء راتب لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه وليس بسنة راتبة كدعائه على الذين قتلوا أصحابه ودعائه للمستضعفين من أصحابه ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم.
    فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح ولا ضعيف بل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في اتباعها كابن عمر وغيره أنكروا حتى قال ابن عمر: " ما رأينا ولا سمعنا " وفي رواية " أرأيتكم قيامكم هذا: تدعون.
    ما رأينا ولا سمعنا " أفيقول مسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت دائما وابن عمر يقول: ما رأينا ولا سمعنا. وكذلك غير ابن عمر من الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة.

    ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب علم علما يقينا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائما في شيء من الصلوات كما يعلم علما يقينيا أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاعلين له في الفجر سنة راتبة. ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به والسبب الذي قنت له وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود نقلوا ذلك في قنوت الفجر وفي قنوت العشاء أيضا.

    والذي يوضح ذلك: أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائما بقنوت الحسن بن علي أو بسورتي أبي ليس معهم إلا دعاء عارض والقنوت فيها إذا كان مشروعا: كان مشروعا للإمام والمأموم والمنفرد؛ بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء لكان حاله شبيها بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر. إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء. وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر وهي أطول. والقنوت يتبع الصلاة وبلغهم أنه داوم عليه فظنوا أن السنة المداومة عليه ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه. فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر. مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر.
    وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة: فكثيرا ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم لسبب فيجعله بعض الناس سنة ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة. وبعض الناس يرى أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات فيراه بدعة ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصا أو منسوخا إن كان قد بلغه ذلك مثل صلاة التطوع في جماعة.
    فإنه قد ثبت عنه في الصحيح {أنه صلى بالليل وخلفه ابن عباس مرة وحذيفة بن اليمان مرة}. وكذلك غيرهما. وكذلك {صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة} {وصلى بأنس بن مالك وأمه واليتيم في داره} فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من " صلاة الألفية " ليلة نصف شعبان والرغائب ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات.

    ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأى أن الجماعة إنما سنت في الخمس كما أن الأذان إنما سن في الخمس. ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة فلا يكره أن يتطوع في جماعة. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجعل ذلك سنة راتبة كمن يقيم للمسجد إماما راتبا يصلي بالناس بين العشاءين أو في جوف الليل كما يصلي بهم الصلوات الخمس كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذانا كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك.
    (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم قال تعالى: {وبشر الصابرين} {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه ويؤجر على صبره وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه؛ فإن الإحسان يكون بجلب منفعة وبدفع مضرة؛ ولهذا سماه الله صدقة. وقد قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين} {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} فذكر: أنه يحب المحسنين والعافين عن الناس. وتبين بهذا أن هذا من الإحسان. والإحسان ضد الإساءة وهو فعل الحسن سواء كان لازما لصاحبه أو متعديا إلى الغير ومنه قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها}.
    فالكاظم للغيظ والعافي عن الناس قد أحسن إلى نفسه وإلى الناس؛ فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه ومع الناس ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه. كما يروى عن بعض السلف أنه قال: ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد وإنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي. قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} وقال تعالى: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها}. ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانا إلى المحسن يعود نفعه عليه لكان فاعلا إثما أو ضررا؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله؛ إما حيث لم يكن فيه فائدة وإما شر من العبث؛ إذا ضر فاعله. والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة: المعروف والإحسان إلى الناس. وجماع ذلك الزكاة. والله سبحانه دائما يأمر بالصلاة والزكاة وهي الصدقة.
    وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال: {كل معروف صدقة} وذلك نوعان: أحدهما: اتصال نفع إليه. الثاني: دفع ضرر عنه. فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه ما يدعوه إليه من إضراره فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه والله تعالى يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فكيف يسقط أجر العافي وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان. كما قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}.
    فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره.
    وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} فسمى إسقاط الدية صدقة. وقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى} فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من استيفائه. وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة.

    وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح. فقيل: هو عفو الزوج وأنه تكميل للصداق للمرأة وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو فهذا العفو إعطاء الجميع وذلك العفو إسقاط الجميع. والذي حمل من قال هذا القول عليه؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا يملك إسقاط حقها الواجب كما لا يملك إسقاط سائر ديونها. وقيل: الذي بيده عقدة النكاح. هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها:كالأب للبكر الصغيرة وكالسيد للأمة وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد.

    ولهذا لم يقل: إلا أن يعفون أو يعفوا هم والخطاب في الآية للأزواج. وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وقال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: {إن ذلك من عزم الأمور} وهنا ذكر الصبر والعفو فقال: {إن ذلك لمن عزم الأمور} وذكر ذلك بعد قوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم: العادل والظالم والمحسن. فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا ولكن لم يكن بذلك مذموما. وذكر الظالم بقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والاقتصاص.
    وذكر المحسنين فقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. والقرآن فيه جوامع الكلم. وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات التي تكون باختيار المتعاملين وهم ثلاثة: محسن وظالم وعادل. فالمحسن: هو المتصدق. والظالم: هو المربي. والعادل: هو البائع. فذكر هنا حكم الصدقات وحكم الربا وحكم المبايعات والمداينات. وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص: غالط جاهل ضال؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه فهو غالط في ذلك.
    كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاث إن كنت لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما نقصت صدقة من مال وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}. فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا وأنه لا تنقص صدقة من مال وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه. وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: {ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء. حتى ينتقم لله}.

    وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فيعفو عن حقه ويستوفي حق ربه. والناس في الباب أربعة أقسام: منهم من ينتصر لنفسه ولربه وهو الذي يكون فيه دين وغضب. ومنهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه وهو الذي فيه جهل وضعف دين. ومنهم من ينتقم لنفسه؛ لا لربه وهم شر الأقسام.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #178
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 176)

    من صــ 111 الى صـ 120


    وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حقه. كما قال {أنس بن مالك: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط. وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه لو قضي شيء لكان}. فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه وأما في حدود الله فلما {شفع عنده أسامة بن زيد - وهو الحب ابن الحب وكان هو أحب إليه من أنس وأعز عنده - في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها: غضب وقال: يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم. أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها}.

    فغضب على أسامة لما شفع في حد لله وعفا عن أنس في حقه. وكذلك لما {أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال: لا إله إلا الله: قال أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله فما زال يكررها حتى قلت: ليته سكت}. والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدا. وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين. وقد قال تعالى لنبيه: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك. قال ابن الزبير: أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} من أموالهم. هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين.
    (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135)
    وقد قيل: في قوله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم} قيل: الفاحشة الزنا وقيل: كل كبيرة وظلم النفس المذكور معها.
    قيل: هو فاحشة أيضا. وقيل: هي الصغائر. وهذا يوافق قول من قال: الفاحشة هي الكبيرة فيكون الكلام قد تناول الكبيرة والصغيرة ومن قال: الفاحشة الزنا يقول: ظلم النفس يدخل فيه سائر المحرمات وقيل: الفاحشة الزنا وظلم النفس ما دونه من اللمس والقبلة والمعانقة وقيل: هذا هو الفاحشة وظلم النفس المعاصي وقيل الفاحشة فعل وظلم النفس قول. والتحقيق أن " ظلم النفس " جنس عام يتناول كل ذنب وفي الصحيحين {أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم}
    وفي صحيح مسلم وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في استفتاحه: اللهم أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت} ". وقد قال أبو البشر وزوجته: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}. وقال موسى: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} وقال ذو النون " يونس ": {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}. وقالت بلقيس: {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}.
    وقد قال عن أهل القرى المعذبين: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم}. وأما قوله: {اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} فقد قيل: إن الذنوب هي الصغائر والإسراف هو الكبائر.
    و " التحقيق " أن " الذنوب " اسم جنس و " الإسراف " تعدي الحد ومجاوزة القصد كما في لفظ الإثم والعدوان فالذنوب كالإثم والإسراف كالعدوان كما في قوله: {غير باغ ولا عاد} ومجاوزة قدر الحاجة فالذنوب مثل اتباع الهوى بغير هدى من الله. فهذا كله ذنب كالذي يرضى لنفسه ويغضب لنفسه فهو متبع لهواه و " الإسراف " كالذي يغضب لله فيعاقب بأكثر مما أمر الله. والآية في سياق قتال المشركين وما أصابهم يوم أحد. وقد أخبر عمن قبلهم بقوله: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}
    وقد قيل على الصحيح المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقتل في معركة فقد قتل أنبياء كثيرون {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} الآية.

    فجمعوا بين الصبر والاستغفار وهذا هو المأمور به في المصائب الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. والقتال كثيرا ما يقاتل الإنسان فيه لغير الله كالذي يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء. فهذا كله ذنوب والذي يقاتل لله قد يسرف فيقتل من لا يستحق القتل ويعاقب الكفار بأشد مما أمر به قال الله تعالى: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} وقال: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}. وقال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} فالإسراف مجاوزة الحد.

    (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    أنزل الله سبحانه هذه الآية وما قبلها وما بعدها في غزوة أحد لما انكسر المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل جماعة من خيار الأمة " وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طائفة يسيرة حتى خلص إليه العدو فكسروا رباعيته وشجوا وجهه وهشموا البيضة على رأسه وقتل وجرح دونه طائفة من خيار أصحابه لذبهم عنه ونعق الشيطان فيهم: أن محمدا قد قتل.
    فزلزل ذلك قلوب بعضهم حتى انهزم طائفة وثبت الله آخرين حتى ثبتوا. وكذلك لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم فتزلزلت القلوب واضطرب حبل الدين وغشيت الذلة من شاء الله من الناس حتى خرج عليهم الصديق رضي الله عنها فقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقرأ قوله: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها الصديق رضي الله عنه فلا يوجد من الناس إلا من يتلوها.
    وارتد بسبب موت الرسول صلى الله عليه وسلم ولما حصل لهم من الضعف جماعات من الناس: قوم ارتدوا عن الدين بالكلية. وقوم ارتدوا عن بعضه فقالوا: نصلي ولا نزكي. وقوم ارتدوا عن إخلاص الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
    فآمنوا مع محمد بقوم من النبيين الكذابين كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وغيرهما فقام إلى جهادهم الشاكرون الذين ثبتوا على الدين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار والطلقاء والأعراب ومن اتبعهم بإحسان الذين قال الله عز وجل فيهم: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} هم أولئك الذين جاهدوا المنقلبين على أعقابهم الذين لم يضروا الله شيئا. وما أنزل الله في القرآن من آية إلا وقد عمل بها قوم وسيعمل بها آخرون.
    [فصل قال الرافضي الثاني عشر قول عمر إن محمدا لم يمت وهذا يدل على قلة علمه والرد عليه]
    (فصل)
    قال الرافضي: " الثاني عشر: قول عمر: إن محمدا لم يمت، وهذا يدل على قلة علمه، وأمر برجم حامل، فنهاه علي، فقال: لولا علي لهلك عمر. وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلون فيها ".
    والجواب أن يقال أولا: ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» " ومثل هذا لم يقله لعلي.
    وأنه قال: " «رأيت أني أتيت بقدح فيه لبن، فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر " قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم».
    فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر.

    وأما كونه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت، فهذا كان ساعة، ثم تبين له موته، ومثل هذا يقع كثيرا قد يشك الإنسان في موت ميت ساعة وأكثر، ثم يتبين له موته، وعلي قد تبين له أمور بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك، بل ظن كثيرا من الأحكام على خلاف ما هي عليه، ومات على ذلك، ولم يقدح ذلك في إمامته كفتياه في المفوضة التي ماتت ولم يفرض لها، وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم.
    وأما الحامل، فإن كان لم يعلم أنها حامل فهو من هذا الباب، فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل، فأخبره علي أنها حامل، فقال: لولا أن عليا أخبرني بها لرجمتها، فقتلت الجنين، فهذا هو الذي خاف منه.

    وإن قدر أنه كان يظن جواز رجم الحامل، فهذا مما قد يخفى، فإن الشرع قد جاء في موضع بقتل الصبي والحامل تبعا كما إذا حوصر الكفار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ونصب عليهم المنجنيق، وقد يقتل النساء والصبيان.
    وفي الصحيح أنه «سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم، فقال: " هم منهم» ".
    وقد ثبت عنه أنه نهى عن قتل النساء والصبيان.
    وقد اشتبه هذا على طائفة من أهل العلم، فمنعوا من البيات خوفا من قتل النساء والصبيان.
    فكذلك قد يشتبه على من ظن جواز ذلك، ويقول: إن الرجم حد واجب على الفور فلا يجوز تأخيره.
    لكن السنة فرقت بين ما يمكن تأخيره كالحد وبين ما يحتاج إليه كالبيات والحصار.
    وعمر رضي الله عنه كان يراجعه آحاد الناس حتى في مسألة الصداق قالت امرأة له: أمنك نسمع أم من كتاب الله؟ فقال: بل من كتاب الله فقالت إن الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} [سورة النساء: 20] فقال: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
    وكذلك كان يرجع إلى عثمان وغيره وهو أعلم من هؤلاء كلهم.
    وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور، لم يقدح هذا في كونه أعلم منه، فقد تعلم موسى من الخضر ثلاث مسائل، وتعلم سليمان من الهدهد خبر بلقيس.
    وكان الصحابة فيهم من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وكان عمر أكثر الصحابة مراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بموافقته في مواضع: كالحجاب، وأسارى بدر، واتخاذ مقام إبراهيم مصلى، وقوله: {عسى ربه إن طلقكن}، وغير ذلك.
    وهذه الموافقة والمراجعة لم تكن لا لعثمان ولا لعلي.
    وفي الترمذي: " «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» "، " «ولو كان بعدي نبي لكان عمر» ".
    (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146)
    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: {أولما أصابتكم مصيبة} الآية وقال: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} الآيات - والأكثرون يقرءون قاتل - والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف: هم الجماعات الكثيرة.

    قال ابن مسعود وابن عباس في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة وقرئ بالحركات الثلاث في الراء فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه: الذين ما وهنوا وما ضعفوا. وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان: - أحدهما: يوافق الأول أي الربيون يقتلون فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم أي ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا.
    والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل معه ربيون كثير فما وهن من بقي منهم لقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يناسب صرخ الشيطان أن محمدا قد قتل لكن هذا لا يناسب لفظ الآية فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا؛ لم يحتج إلى تكثيرهم بل تقليلهم هو المناسب لها؛ فإذا كثروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة.
    وأيضا لم يكن فيه حجة على الصحابة؛ فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم فيقولون ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون.
    وأيضا فقوله: {وكأين من نبي} يقتضي كثرة ذلك وهذا لا يعرف أن أنبياء كثيرين قتلوا في الجهاد.
    وأيضا فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير وهذا لم يوجد؛ فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزو؛ بل ولا يعرف نبي قتل في جهاد فكيف يكون هذا كثيرا ويكون جيشه كثيرا والله سبحانه أنكر على من ينقلب سواء كان النبي مقتولا أو ميتا فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف بل على الانقلاب على الأعقاب ولهذا تلاها الصديق رضي الله عنه بعد موته صلى الله عليه وسلم فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.
    ثم ذكر بعدها معنى آخر: وهو أن من كان قبلكم كانوا يقاتلون فيقتل منهم خلق كثير. وهم لا يهنون فيكون ذكر الكثرة مناسبا لأن من قتل مع الأنبياء كثير وقتل الكثير من الجنس يقتضي الوهن فما وهنوا وإن كانوا كثيرين ولو وهنوا دل على ضعف إيمانهم ولم يقل هنا: ولم ينقلبوا على أعقابهم فلو كان المراد أن نبيهم قتل لقال فانقلبوا على أعقابهم لأنه هو الذي أنكره إذا مات النبي أو قتل فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات أو قتل والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو؛ ولهذا قال: {فما وهنوا لما أصابهم} إلخ. ولم يقل: فما وهنوا لقتل النبي ولو قتل وهم أحياء لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} ومعلوم أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي.

    وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير: لا يستلزم أن يكون النبي معهم في الغزاة بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه وكذلك كل من قتل على دينه فقد قتل معه وهذا الذي فهم الصحابة؛ فإن أعظم قتالهم كان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حتى فتحوا البلاد شاما ومصرا وعراقا ويمنا وعربا وعجما وروما ومغربا ومشرقا وحينئذ فظهر كثرة من قتل معه فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم على دينه وإن كان قد مات والصحابة الذين يغزون في السرايا والنبي ليس معهم: كانوا معه يقاتلون وهم داخلون في قوله: {محمد رسول الله والذين معه} الآية وفي قوله: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم} الآية.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #179
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 177)

    من صــ 121 الى صـ 130



    ليس من شرط من يكون مع المطاع أن يكون مشاهدا للمطاع ناظرا إليه. وقد قيل في: {ربيون} هنا: إنهم العلماء فلما جعل هؤلاء هذا كلفظ الرباني وعن ابن زيد هم الأتباع كأنه جعلهم المربوبين. والأول أصح من وجوه: -
    أحدها: أن الربانيين عين الأحبار وهم الذين يربون الناس وهم أئمتهم في دينهم ولا يكون هؤلاء إلا قليلا.
    الثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهم. وأصحاب الأنبياء لم يكونوا كلهم ربانيين وإن كانوا قد أعطوا علما ومعهم الخوف من الله عز وجل.
    الثالث: أن استعمال لفظ الرباني في هذا ليس معروفا في اللغة.
    الرابع: أن استعمال لفظ الربي في هذا ليس معروفا في اللغة بل المعروف فيها هو الأول والذين قالوه قالوا: هو نسبة للرب بلا نون والقراءة المشهورة (ربي بالكسر وما قالوه إنما يتوجه على من قرأه بنصب الراء وقد قرئ بالضم فعلم أنها لغات.

    الخامس: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد سواء كان من الربانيين أو لم يكن.
    السادس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} الآية. وفي قوله: {ولكن كونوا ربانيين} فهناك ذكرهم به مناسب.
    السابع: قيل: إن الرباني منسوب إلى الرب فزيادة الألف والنون كاللحياني وقيل إلى تربيته الناس وقيل إلى ربان السفينة وهذا أصح فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة لأنهم منسوبون إلى التربية وهذه تختص بهم وأما نسبتهم إلى الرب فلا اختصاص لهم بذلك بل كل عبد له فهو منسوب إليه إما نسبة عموم أو خصوص ولم يسم الله أولياءه المتقين ربانيين ولا سمى به رسله وأنبياءه فإن الرباني من يرب الناس كما يرب الرباني السفينة ولهذا كان الربانيون يذمون تارة ويمدحون أخرى ولو كانوا منسوبين إلى الرب لم يذموا قط وهذا هو الوجه الثامن: أنها إن جعلت مدحا فقد ذموا في مواضع وإن لم تكن مدحا لم يكن لهم خاصة يمتازون بها من جهة المدح وإذا كان منسوبا إلى رباني السفينة بطل قول من يجعل الرباني منسوبا إلى الرب فنسبة الربيين إلى الرب أولى بالبطلان.
    التاسع: أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب: فلا تدل النسبة على أنهم علماء نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله وهذا يعم جميع المؤمنين فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله والصحابة كلهم كذلك ولم يسموا ربانيين ولا ربيين وإنما جاء أن ابن الحنفية قال لما مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة وذلك لكونه يؤدبهم بما آتاه الله من العلم والخلفاء أفضل منهم ولم يسموا ربانيين وإن كانوا هم الربانيين وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره فهم أهل الأمر والنهي والإخبار يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدث به وإن لم يأمر أو ينه وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني نقل عن علي قال: " هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها " وعن ابن عباس قال: " هم الفقهاء المعلمون ".
    قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء.
    قال ابن قتيبة: واحدهم رباني وهم العلماء المعلمون. قال أبو عبيد: أحسب الكلمة عبرانية أو سريانية وذلك أن أبا عبيد زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قلت: اللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة الذي ينزلها ويقوم لمصلحتها ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل.

    (ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير (156)

    سئل:
    عمن سمع رجلا يقول: لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا. فقال له رجل آخر سمعه: هذه الكلمة قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهي كلمة تؤدي قائلها إلى الكفر فقال رجل آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة موسى مع الخضر: {يرحم الله موسى وددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما} واستدل الآخر بقوله صلى الله عليه وسلم {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف} - إلى أن قال: - {فإن كلمة لو تفتح عمل الشيطان} فهل هذا ناسخ لهذا أم لا؟
    فأجاب:
    الحمد لله، جميع ما قاله الله ورسوله حق و " لو " تستعمل على وجهين: (أحدهما على وجه الحزن على الماضي والجزع من المقدور فهذا هو الذي نهى عنه كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم}

    وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان} أي: تفتح عليك الحزن والجزع وذلك بضر ولا ينفع بل اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك كما قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} قالوا: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
    (والوجه الثاني أن يقال: " لو " لبيان علم نافع كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ولبيان محبة الخير وإرادته كقوله: " لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثل ما يعمل " ونحوه جائز.
    وقول النبي صلى الله عليه وسلم {وددت لو أن موسى صبر ليقص الله علينا من خبرهما} هو من هذا الباب كقوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أحب أن يقص الله خبرهما فذكرهما لبيان محبته للصبر المترتب عليه فعرفه ما يكون لما في ذلك من المنفعة ولم يكن في ذلك جزع ولا حزن ولا ترك لما يحب من الصبر على المقدور.
    وقوله: {وددت لو أن موسى صبر} قال النحاة: تقدير وددت أن موسى صبر. وكذلك قوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} تقديره ودوا أن تدهن وقال بعضهم: بل هي " لو " شرطية وجوابها محذوف والمعنى على التقديرين: معلوم وهو محبة ذلك الفعل وإرادته ومحبة الخير وإرادته محمود والحزن والجزع وترك الصبر مذموم والله أعلم.
    (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إ
    فصل:
    لا غنى لولي الأمر عن المشاورة؛ فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} وقد روي {عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم}. وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي: من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك فغيره - صلى الله عليه وسلم - أولى بالمشورة. وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.
    وإذا استشارهم فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
    وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.

    (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)

    سئل شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
    عن حسن إرادة الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأنام وهل يخلق لعلة أو لغير علة؟ فإن قيل لا لعلة فهو عبث - تعالى الله عنه - وإن قيل لعلة فإن قلتم إنها لم تزل لزم أن يكون المعلول لم يزل وإن قلتم إنها محدثة لزم أن يكون لها علة والتسلسل محال.
    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة كبيرة من أجل المسائل الكبار التي تكلم فيها الناس وأعظمها شعوبا وفروعا وأكثرها شبها ومحارات؛ فإن لها تعلقا بصفات الله تعالى وبأسمائه وأفعاله وأحكامه من الأمر والنهي والوعد والوعيد وهي داخلة في خلقه وأمره فكل ما في الوجود متعلق بهذه المسألة فإن المخلوقات جميعها متعلقة بها وهي متعلقة بالخالق سبحانه وكذلك الشرائع كلها: الأمر والنهي والوعد والوعيد متعلقة بها وهي متعلقة بمسائل القدر والأمر وبمسائل الصفات والأفعال وهذه جوامع علوم الناس فعلم الفقه الذي هو الأمر والنهي متعلق بها.
    وقد تكلم الناس في " تعليل الأحكام الشرعية والأمر والنهي " كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل والصلاة والزكاة والصيام والحج والنهي عن الشرك والكذب والظلم والفواحش هل أمر بذلك لحكمة ومصلحة وعلة اقتضت ذلك؟ أم ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة؟ وهل علل الشرع بمعنى الداعي والباعث؟ أو بمعنى الأمارة والعلامة؟
    وهل يسوغ في الحكمة أن ينهى الله عن التوحيد والصدق والعدل ويأمر بالشرك والكذب والظلم أم لا؟ وتكلم الناس في تنزيه الله تعالى عن الظلم هل هو منزه عنه مع قدرته عليه أم الظلم ممتنع لنفسه لا يمكن وقوعه؟ وتكلموا في محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه هل هي بمعنى إرادته أو هي الثواب والعقاب المخلوق أم هذه صفات أخص من الإرادة؟ وتنازعوا فيما وقع في الأرض من الكفر والفسوق والعصيان هل يريده ويحبه ويرضاه كما يريد ويحب سائر ما يحدث؟
    أم هو واقع بدون قدرته ومشيئته وهو لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا؟ أم هو واقع بقدرته ومشيئته؟ ولا يكون في ملكه ما لا يريد وله في جميع خلقه حكمة بالغة وهو يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يريده الإرادة الدينية المتضمنة لمحبته ورضاه وإن أراده الإرادة الكونية التي تتناول ما قدره وقضاه؟ وفروع هذا الأصل كثيرة لا يحتمل هذا الموضع استقصاءها.
    ولأجل تجاذب هذا الأصل ووقوع الاشتباه فيه صار الناس فيه إلى التقديرات الثلاثة المذكورة في سؤال السائل وكل تقدير قال به طوائف من بني آدم من المسلمين وغير المسلمين.

    فالتقدير الأول: هو قول من يقول خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا باعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة وهذا قول كثير ممن يثبت القدر وينتسب إلى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم. وقد قال بهذا طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول الأشعري وأصحابه وقول كثير من " نفاة القياس في الفقه " الظاهرية كابن حزم وأمثاله. ومن حجة هؤلاء أنه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونها مستكملا بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء أو يكون وجودها أولى به. فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملا بها فيكون قبلها ناقصا.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #180
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,769

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
    سُورَةُ آل عمران
    المجلد الخامس
    الحلقة( 178)

    من صــ 131 الى صـ 140





    ومن حجتهم ما ذكره السائل من أن العلة إن كانت قديمة وجب تقديم المعلول؛ لأن العلة الغائية وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد - كما يقال: أول الفكرة آخر العمل وأول البغية آخر الدرك. ويقال إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلا - فلا ريب أنها متأخرة في الوجود عنه؛ فمن فعل فعلا لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديما كان الفعل قديما بطريق الأولى. فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة وإن قيل إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران:
    أحدهما: أن يكون محلا للحوادث؛ فإن العلة إذا كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها وإذا قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثا فتقوم به الحوادث.
    المحذور الثاني أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين
    أحدهما: أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضا مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم وإن كانت لعلة عاد التقسيم فيها فإذا كان كل ما أحدثه أحدثه لعلة والعلة مما أحدثه لزم تسلسل الحوادث

    الثاني: أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كانت مرادة لنفسها امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن كانت مرادة لغيرها فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل. فهذا ونحوه من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه.
    والتقدير الثاني: قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقول ذلك طوائف من المسلمين كما سيأتي بيانه وكما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة القائلين بقدم العالم، وهؤلاء أصل قولهم أن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها لا يجوز أن يتأخر عنها معلولها. وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلا إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما يستلزم المعلول فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة - التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل إن لم يكن جميعها في الأزل - فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل.
    قالوا فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلية ولكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية ويقولون مع هذا ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم باطل من وجوه كثيرة.
    منها أن يقال: هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وأن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث. ومعلوم أن بطلان هذا أبين من بطلان التسلسل وبطلان الترجيح بلا مرجح وذلك أن العلة التامة المستلزمة لمعلولها يقترن بها معلولها ولا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها فكل ما حدث من الحوادث لا يجوز أن يحدث عن هذه العلة التامة وليس هناك ما تصدر عنه الممكنات سوى الواجب بنفسه الذي سماه هؤلاء علة تامة فإذا امتنع صدور الحوادث عنه وليس هناك ما يحدثها غيره لزم أن تحدث بلا محدث.
    (وأيضا فلو قدر أن غيره أحدثها فإن كان واجبا بنفسه كان القول فيه كالقول في الواجب الأول وأصل قولهم: إن الواجب بنفسه علة تامة تستلزم مقارنة معلوله له فلا يجوز أن يصدر على قولهم عن العلة التامة حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة؛ لأن تلك الواسطة إن كانت من لوازم وجوده كانت قديمة معه فامتنع صدور الحوادث عنها وإن كانت حادثة كان القول فيها كالقول في غيرها.
    وإن قدر أن المحدث للحوادث غير واجب بنفسه كان ممكنا مفتقرا إلى موجب يوجب به. ثم إن قيل أنه محدث كان من الحوادث وإن قيل أنه قديم كان له علة تامة مستلزمة له وامتنع حينئذ حدوث الحوادث عنه فإن الممكن لا يوجد هو ولا شيء من صفاته وأفعاله إلا عن الواجب بنفسه؛ فإذا قدر حدوث الحوادث عن ممكن قديم معلول لعلة قديمة قيل: هل حدث فيه سبب يقتضي الحدوث أم لا؟ فإن قيل: لم يحدث سبب لزم الترجيح بلا مرجح وإن قيل: حدث سبب لزم التسلسل كما تقدم.
    (الوجه الثاني الذي يبين بطلان قولهم أن يقال: مضمون الحجة أنه إذا لم يكن ثم علة قديمة لزم التسلسل أو الترجيح بلا مرجح والتسلسل عندكم جائز فإن أصل قولهم إن هذه الحوادث متسلسلة شيئا بعد شيء وإن حركات الفلك توجب استعداد القوابل لأن تفيض عليها الصور الحادثة من العلة القديمة سواء قلتم: هي العقل الفعال أو هي الواجب الذي يصدر عنه بتوسط العقول أو غير ذلك من الوسائط وإذا كان التسلسل جائزا عندكم لم يمتنع حدوث الحوادث عن غير علة موجبة للمعلول وإن لزم التسلسل؛ بل هذا خير في الشرع والعقل من قولكم. وذلك أن الشرع أخبر أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام وهذا مما اتفق عليه أهل الملل: المسلمون واليهود والنصارى.

    فإن قيل: إنه خلقها بسبب حادث قبل ذلك كان خيرا من قولكم إنها قديمة أزلية معه في الشرع وكان أولى في العقل؛ لأن العقل ليس فيه ما يدل على قدم هذه الأفلاك حتى يعارض الشرع وهذه الحجة العقلية إنما تقتضي أنه لا يحدث شيء إلا بسبب حادث فإذا قيل: إن السموات والأرض خلقها الله تعالى بما حدث قبل ذلك لم يكن في حجتكم العقلية ما يبطل هذا.

    (الوجه الثالث أن يقال: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنا في العقل أو ممتنعا؛ فإن كان ممتنعا في العقل لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكلام وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنا أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسموات والأرض موقوفا على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين.
    ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة وإما أن لا تثبتوا؛ فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات
    و (أيضا فالوجود يبطل هذا القول؛ فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوق العد والإحصاء كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وإن أثبتم له حكمة مطلوبة - وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزمكم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول: بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدا لتلك الحكمة المطلوبة جمع بين النقيضين؛ وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضا ولهذا يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو الإرادة والإرادة هي القدرة وأمثال ذلك كما قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
    وأما التقدير الثالث: وهو أنه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة فهذا قول أكثر الناس من المسلمين وغير المسلمين وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وقول أكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله؛ لكن هؤلاء على أقوال.

    (منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة مخلوقة منفصلة عنه أيضا؛ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم؛ وقالوا: الحكمة في ذلك إحسانه إلى الخلق؛ والحكمة في الأمر تعويض المكلفين بالثواب؛ وقالوا إن فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل؛ فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم؛ ولا قام به فعل ولا نعت.

    فقال لهم الناس: أنتم متناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه على فاعله حكم يحمد لأجله؛ إما لتكميل نفسه بذلك؛ وإما لقصده الحمد والثواب بذلك؛ وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان؛ فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثا في عقول العقلاء وكل من فعل فعلا ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عابثا ولم يكن محمودا على هذا وأنتم عللتم أفعاله فرارا من العبث فوقعتم في العبث؛ فإن العبث هو الفعل الذي ليس فيه مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل؛ ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحدا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر.
    ونشأ من هذا الكلام نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في " مسألة التحسين والتقبيح العقلي " فأثبت ذلك المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث وغيرهم وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسرا بكون الفعل نافعا للفاعل ملائما له وكونه ضارا للفاعل منافرا له أنه يمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وهذا ليس كذلك بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم.
    وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل ومفسدة له.
    والمعتزلة أثبتت الحسن في أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله. ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنا من الأفعال فهو حسن؛ إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك أثبتوا حسنا وقبحا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته إذ عندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون.
    ثم أخذوا يقيسون ذلك على ما يحسن من العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته وعدله ولا يثبتون له مشيئة عامة ولا قدرة تامة فلا يجعلونه على كل شيء قديرا ولا يقولون " ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن " ولا يقرون بأنه خالق كل شيء ويثبتون له من الظلم ما نزه نفسه عنه سبحانه فإنه قال {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}

    أي لا يخاف أن يظلم فيحمل عليه من سيئات غيره ولا يهضم من حسناته. وقال تعالى {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما {يجاء برجل من أمتي يوم القيامة فتنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقال له: هل تنكر من هذا شيئا؟. فيقول: لا يا رب فيقال له: ألك عذر ألك حسنة؟ فيقول لا يا رب فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم قال فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة}. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلم بل يثاب على ما أتى به من التوحيد كما قال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.

    وجمهور هؤلاء الذين يسمون أنفسهم " عدلية " يقولون: من فعل كبيرة واحدة أحبطت جميع حسناته وخلد في نار جهنم. فهذا الذي سماه الله ورسوله ظلما يصفون الله به مع دعواهم تنزيهه عن الظلم ويسمون تخصيصه من يشاء برحمته وفضله وخلقه ما خلقه لما له فيه من الحكمة البالغة ظلما. والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع ولكن نبهنا على مجامع أصول الناس في هذا المقام.
    وهؤلاء المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة يوجبون على الله سبحانه أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وتنازعوا في وجوب الأصلح في دنياه ومذهبهم أنه لا يقدر أن يفعل مع مخلوق من المصلحة الدينية غير ما فعل ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا.
    وأما سائر الطوائف الذين يقولون بالتعليل من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وأهل الكلام كالكرامية وغيرهم والمتفلسفة أيضا فلا يوافقونهم على هذا؛ بل يقولون إنه يفعل ما يفعل سبحانه لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى وقد يعلم العباد أو بعض العباد من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك. والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فإن إرساله كان من أعظم النعمة على الخلق وفيه أعظم حكمة للخالق ورحمة منه لعباده كما قال تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} وقال تعالى
    {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} وقال تعالى {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} قالوا هو محمد. صلى الله عليه وسلم فإذا قال قائل: فقد تضرر برسالته طائفة من الناس كالذين كذبوه من المشركين وأهل الكتاب كان عن هذا جوابان:

    أحدهما أنه نفعهم بحسب الإمكان فإنه أضعف شرهم الذي كانوا يفعلونه لولا الرسالة بإظهار الحجج والآيات التي زلزلت ما في قلوبهم وبالجهاد والجزية التي أخافتهم وأذلتهم حتى قل شرهم ومن قتله منهم مات قبل أن يطول عمره في الكفر فيعظم كفره فكان ذلك تقليلا لشره والرسل - صلوات الله عليهم -




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •