يجدر بنا في البداية أن نتتبع كلمة الدين في اللغة مما قد يفيدنا في إعطاء صورة عامة عن الإطار الذي تشكلت في ضوئه جملة التعريفات المختلفة للفظ الدين في الفكر الإسلامي.
تنطوي كلمة الدين على معانٍ عديدة ومتشعِّبة حتى يبدو لك أنه يستعمل في معاني متباعدة بل متناقضة، فالدين هو الملك وهو الخدمة هو القهر هو الذل هو الإكراه هو الإحسان هو العادة والعبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام والتوحيد وهو اسم لكل ما يُعتقد أو لكل ما يُتعبَّد به2.
وتبعا لهذا التبايُن والاختلاف في تحديد معنى الدين لغةً أُثيرت مسألة عدم أصالة هذه الكلمة في اللغة العربية، وأنها دخيلة من لغات كالعبرية أو الفارسية.
والمتصفِّح في اشتقاق هذه الكلمة ووجوه تصريفها يستشف من هذا الاختلاف الظاهر تقاربا شديدًا، بل توافقا وانسجاما في جوهر المعنى، إذ يجد أن تنوع هذه المعاني مرده إلى ثلاثة مضامين تكاد تكون متصلة باعتبار أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق إنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.
إن كلمة الدين تأتي مرة من فعل متعدٍّ بنفسه: دانه يدينه، وأحيانا من فعل متعدٍّ باللام: دان له، وتارة من فعلٍ متعدٍّ بالباء: دان به، وباختلاف الاشتقاق يختلف المضمون الذي تعطيه العبارة.
1- إذا قلنا دانه دينا قصدنا بذلك أنه ملكه، وساسه وقهره، وحاسبه، وجازاه وكافأه. فالدين هنا يأخذ معنى الجلال والملك والتصرف بما هو ميزة الملوك من الملك والتصرف. ومن ذلك: مالك يوم الدين أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" أي حكمها وضبطها، والديَّان الحكم القاضي.
2- وإذا قلنا دان له بمعنى أطاعه وخضع له. فالدين هنا هو الطاعة والخضوع والعبادة، كقوله تعالى: "إنا لمدينون" أي مملوكون.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له دانه فدان له، أي أجبره على الطاعة فخضع وأطاع.
3- وإذا قلنا دان بالشيء بمعنى أنه اتخذه دينا ومذهبا أي اعتقده أو اعتاده أو تخلق به. فالدين هنا هو المذهب والطريقة التي يلتزم بها الشخص نظريًّا أو عمليا. تقول العرب: ما زال ديني وديدني أي عادتي، والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه، ومن ذلك قولهم دينت الرجل أي وكلته إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يعتنقه.
4- تأكيدًا على هذه المعاني اللغوية فإن كلمة الدين عند العرب تتضمن علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له، فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرا وسلطانا، وحكما وإلزاما، وإذا وُصف بها إلى طبيعة العلاقة بين الطرفين كانت هي الطريقة المنظمة لتلك العلاقة، أو الشكل الذي يمثلها.
إن محاولة تحديد مفهوم الدين لغة يضعنا أمام مجموعة مرادفات تصبُّ بشكل أو بآخر في نفس الاتجاه والذي ينصب حول لزوم الانقياد ففي الاستعمال الأول هو إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني هو التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث هو المبدأ الذي يلتزم الانقياد له3.
تأكيدا لما سبق ذكره فإن كلمة الدين بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وإن ما ادَّعاه بعض المستشرقين من أنها دخيلة معربة عن العبرية أو الفارسية لا يعد صحيحا.
مع أن هذه التحليلات الاشتقاقية كلها تصبُّ في نفس الاتجاه، وتقرُّ بأصالة المعنى في اللغة لكنها لا تشفي غليلنا في معرفةٍ حقيقية لماهيَّة الدين كما هي في عرف المتدينين، فالبَوْن مازال شاسعا برأي الدكتور عبد الله دراز بين المعنى اللغوي، والمعنى العرفي ذلك أنه ليس كل خضوع وانقياد يسمَّى في العرف تدينا، فخضوع العبد لسيده وطاعة الابن لأبيه وإكبار الخادم لمسئوله لا يجسِّد بأي معنى الدين الذي نعنيه، كما أنه ليس كل اتجاه أو مذهب يسمى دينا.
الدين.. اصطلاحًا
فإذا كان هذا شأن الدين في اللغة، فكيف يكون حاله في اصطلاح الفكر الإسلامي؟
ثمَّة ملاحظة جديرة بالتذكير، وهي أن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام المثل بالمثل، بل هو ما أبدعته العقلية الإسلامية في محاولتها لإسقاط الإسلام على الواقع وتطبيقه، فهو بذلك محكوم بالأطر الزمانية والمكانية.
فالفكر الإسلامي هو اجتهاد عقلي في فهم النصوص قد يخطئ ويصيب فهو غير معصوم في ذلك كله، الفرق بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي هو الفرق بين ما ينسب إلى الله وما ينسب للإنسان، والعلاقة بينهما هي علاقة بين طرفين أحدهما قام على الآخر واعتمد عليه، ولكن لا على أن يكون مطابقا له تمام التطابق4.
جاء في تعريف إخوان الصفا أن الدين (هو شيئان اثنان أحدهما الأصل وملاك الأمر، وهو الاعتقاد في الضمير والسر. والآخر هو الفرع المبني عليه القول والعمل في الجهر والإعلان)5.
لقد أوضح الجرجاني -بشكل جلي- الفرق بين الدين والملة فهما عنده متحدان بالذات، ومختلفان بالاعتبار، فإن الشريعة من حيث إنها تُطاع تسمى دينا، ومن حيث إنها تُجمع تسمى ملة، ومن حيث إنها يُرجع إليها تسمى مذهبا. وقيل الفرق بين الملة والدين والمذهب: أن الدين منسوب إلى الله تعالى والملة منسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمذهب منسوب إلى المجتهد6.
أما أشهر تعريف للدين في الفكر الإسلامي وأكثره تداولا ما نُسب إلى التهانوي في قوله: إنه (وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وهذا يشمل العقائد والأعمال، ويطلق على ملة كل نبي، وقد يخص بالإسلام كما في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، ويضاف إلى الله عز وجل لصدوره عنه، وإلى النبي لظهوره منه وإلى الأمة لتدينهم به وانقيادهم له)7.
ويمكن تلخيصه بأن الدين هو وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات وإلى الخير في السلوك والمعاملات.
يبدو من التعريف الإسلامي للدين أنه حصر مسمى الدين في دائرة الأديان الصحيحة، المنبثقة من الوحي الإلهي، وهي التي تتخذ معبودا واحدا هو الخالق المهيمن على كل شيء فالديانة الطبيعية التي تستند إلى العقل، والديانات الخرافية التي هي ثمرة الأوهام والأساطير، والديانات الوثنية التي تتخذ من التماثيل آلهة لا ينطبق عليها تعريف الدين مع أن القرآن الكريم قد سماها كذلك حيث يقول: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا" ويقول: "لكم دينكم ولي دين".