من آيات رمضان












د. أحمد فؤاد شميس



جاءت أيام رمضان ، و حلت لياليه ، و بدت تجلياته ، و تنسمنا عليل هوائه ،فأشرقت الأرواح ، و تهذبت النفوس ، وصفت القلوب ، فطابت العبادة ، و أنس القرب بالله ، رمضان شهر الخير و البركة و شهر التقى و الإيمان ، و شهر البر و الصلات ، شهر الطاعة و القربات ، تحلق فيه الروح ، روح المؤمن فتسمو نحو العلياء ، و تترفع عن الترهات ، يحيط المرء نفسه بحدود ، و يسيجها عن المعاصي بأسلاك ،و يبعدها عن الشهوات بالجوع ، " الصيام جنة و وجاء " كما أخبر الصادق المصدوق صلوات ربي و سلامه عليه .

رمضان واحة يستريح إليها المسافر من ضنك الدنيا ، و يفزع إليها من هموم الحياة ، فيأنس بالعبادة ، و يسعى إليها ، فيجد في الصلاة راحة و طمأنينة ، و في القرآن أنس و قرب ، و في الإنفاق زيادة و نماء .

رمضان نعم الضيف ينزل، و نعم الأنيس يحل ، و نعم الناصح يفيد ، و نعم الكريم يمنح ، النفل فيه بالأجر كالفريضة ، و الفريضة كسبعين فيما سواه .

" يا أيها الذين آمنوا " ... آمنوا بقلوبهم و قرنوا إيمانهم بالعمل الصالح ،فصَدَّقوا ، و صُدِّقوا ، فمنحهم الله القرب ، و وهبهم العطاء ، فعاشوا في أنس الطاعة ، و رتعوا في نعيم المغفرة .

" كتب عليكم " فرض الله عليكم بمَنِّ منه وفضل و جود و كرم ،، فهو الذي هداكم ، و ضل غيركم ، و أرشدكم و تاه سواكم ، و اصطفاكم ، و تحول إليكم .

" الصيام " هذا الفرض العظيم ، و هذا الركن المكين ، و هذه المنحة الوافية ، فهو إمساك ومنع و صد بأمر الله ، و بحكم الله و بشرع الله ، في وقت معين ، فهو صوم عن الطعام و الشراب و عن اللغو و الفحشاء ، و عن الكذب و النميمة و غيرها من مفسدات الأخلاق ومن دروب الآثام ، يقابله عطاء غير محدود ، و جزاء غير ممنون ، بانتظاركم باب الريان ، باب عظيم كبير ، مصرعاه كما بين مكة و بصرى ، يلج إلى جنة عرضها عرض السموات و الأرض ، فيها ما لا عين رأت ، و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب البشر .

" كما كتب على الذين من قبلكم " ففرقوا و بدلوا و غيروا ، فحكموا أهواءهم ، و خضعوا لرغباتهم ، و مشوا وراء حظوظ أنفسهم ، و انساقوا لشياطينهم ، فأضلوهم عن الطريق القويم ، و أبعدوهم عن الصراط المستقيم ، فغدوا من " الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا "

" لعلكم تتقون " لعلكم ترجون من أنفسكم وتشفقون عليها ، و توطنوها على أن تعيش في جو كبير من التقوى ، و من النأي عن وسوسات الشيطان و ميل الهوى ، و لا يحصل ذلك إلا عند الجهل بالعاقبة .

و قيل في معنى تتقون معان كثيرة ، منها هُنَا تَضْعُفُونَ , فَإِنَّهُ كُلَّمَا قَلَّ الْأَكْل ضَعُفَتْ الشَّهْوَة , وَكُلَّمَا ضَعُفَتْ الشَّهْوَة قَلَّتْ الْمَعَاصِي ، فلذلك تجد حالة من الضعف و الوهن ماثلة واضحة بينة ، قبيل الغروب ، حين يستبد الجوع و العطش في الإنسان ، الإنسان الذي كان قبل رمضان تنتابه عزة النفس و كبرياء باطل ، تجده الساعة وقد استكان و لان ، و طأطأ الرأس لعزة الرحمن ، فلا يأكل إلى بأمر الله و لو أخذ الجوع منه كل مأخذ ، و لا يشرب إلا بإشارة البدء و لو أمسى صاديا يلهث .

و إشارة البدء هي كلمة الله أكبر الله أكبر ، حين يسمعها تنطلق ، يستشعر معناها و قد غمر قلبه ، الله أكبر على حظ النفس ، الله أكبر على الشهوات ، الله أكبر على المعاصي ، الله أكبر على الشيطان و وسواساته

أياما معدودات ، ليست بالأيام الكثيرة و لا بالشهور الطويلة ، إنما هي أيام معدودات ، لا بل هي ساعات تمر سراعا ، تمر مر السحاب على من عاش في لذة الطاعة ، و ذاق حلاوة الإيمان ، لا يتمنى الصائم أن تنقضي و لا يحب أن تنتهي ، فبرمضان تتبدل الدنيا ، و يتغير النهار و الليل ، فشمس رمضان غير شمس غيره من الشهور ،و كأنها شمس جديدة ، بحلة قشيبة ، تضحك للصائم ، و تبتسم للجائع ، تداعبه بحرارتها ، وهو قائظ متقبل قانع راض منحني منكسر لله تبارك و تعالى .


ثم يقول ربنا بعدُ : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " الشهود بالعين ، و الحضور بالقلب ، و الرؤية بالروح ،فليصم جميع الشهر بجميعه ، بعقله بصده عن التفكر بالمعاصي ، و بنفسه عن كمحها عن غوايتها ، و بقلبه عن النبض إلا بذكر الله ، و بجوارحه عن اقتراف الذنوب والآثام ، و ذلك بالعمل على تحقيق صيام الخاصة و العامة ما استطاع لذلك سبيلا ، و ليكن صومك صوم المخلص التائب العابد الناسك الذي لا رياء فيه و لا سمعة و لا شوائب ، و نزه نفسك عن المكر الخفي ، " فأما الصوم فإنه لي و أنا أجزئ به يوم القيامة "

اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا و قرآننا و أعمالنا ، و انصرنا على أعدائنا نصرا قريبا مؤزرا تفرح به عبادك و تقهر به أعداءك ..