وهذا لا يتحقق إلا بتقديم النية على أول الصوم ، وهل ذلك شامل للفرض والنفل والأداء والقضاء والكفارات والنذور . وفي ذلك تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى :
1- تبييت النية من الليل شرط لصحة صوم الفرض أداء أو قضاء ، وكذلك النذور والكفارات ، وإلى هذا ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وأبو محمد بن حزم وقال أبو حنيفة : " لا يصح صوم القضاء ولا الكفارات إلا بنية .. من الليل مستدلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) السلسلة الصحية" .
والجمهور من أرباب هذه المذاهب يحيزون إيقاع النية في أي جزء من الليل لقوله عليه الصلاة والسلام : ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) السلسلة الصحيحة.
والقبلية تتناول كل جزء من الليل ، ولأن أول وقت الصوم يخفى فوجب تقديم النية عليه بخلاف سائر العبادات .
ومن الشافعية من قال: لا تجوز إلا في النصف الثاني من الليل قياسًا على آذان الصبح والدفع من مزدلفة وفي قول المالكية وبعض الشافعية جواز إيقاعها مع الفجر؛ لأن الأصل في النية أن تكون مقارنة لأول العبادة .
قلت: والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ، وابن حزم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من لم يبيت النية من الليل فلا صيام له ) إرواء الغليل، وفي لفظ: ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) السلسلة الصحيحة. وقد بينا أن القبلية تصدق على كل جزء من أجزاء الليل واشتراط أن تكون النية بعد النصف الثاني من الليل قياسًا على الآذان والدفع من المزدلفة قياس بعيد إذ لا علة جامعة ثم أن الأولى منه القياس في العبادات ، وجواز إيقاعها مع الفجر ممنوع من وجهين :
الأول : أن ذلك منافٍ للنص الصريح وهو ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر ) السلسلة الصحيحة .
الثاني : أن أول وقت الصوم يخفى ، فالأولى الأخذ بعموم النص واعتبار كل الليل صالحًا لإيقاع النية سواء من أوله أو قبل الفجر بلحظات ، ولو كلفنا غير ذلك لأدى إلى الحرج والمشقة والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ولم يجعل علينا في الدين حرجًا . ولو قيل بغير ذلك للزمنا السهر مراعاة لتبين الفجر .
وإنما ألزمنا النية من الليل ثم نحن على هذه النية حتى يتبين الفجر وإن نمنا أو غفلنا فاستصحاب حكمها كافٍ ما لم نتعمد إبطالها .
* تبييت النية من الليل في صيام النفل :
للعلماء في ذلك قولان :
القول الأول : أن ذلك شرط لصحته عند المالكية ، و داود و ابن حزم من الظاهرية و المزني من الشافعية وهو قول عبدالله بن عمر استدلالاً بعموم قوله عليه الصلاة والسلام : ( من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له ) إرواء الغليل .
قال أبو محمد بن حزم : "وهذا عموم لا يحل تخصيصه ولا تبديله ولا الزيادة فيه ولا النقص منه إلا بنص آخر صحيح ، وأجاب ابن حزم عما ورد " أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أم المؤمنين عائشة قال لها : ( هل عندكم من شيء؟ وقال مرة : هل عندكم من غذاء ؟ قلنا : لا . قال : فإني صائم ) رواه مسلم. ونحو ذلك من الآثار.. قائلاً : معاذ الله أن نخالف شيئًا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن نصرفه عن ظاهره بغير نص آخر ، وهذا الخبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه ليس له فيه أنه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل ولأنه عليه السلام أصبح مفطرًا ثم نوى الصوم بعد ذلك ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به ، ولكن فيه أنه عليه السلام كان يصبح متطوعًا صائمًا ثم يفطر وهذا مباح عندنا لا نكرهه كما في الخبر عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : يا عائشة هل عندك شيء ؟ فقلت : يا رسول الله ما عندنا شيء قال : فإني صائم . قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية -أو جاءنا زور- قالت : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله! أهديت لنا هدية أو جاءنا زور قد خبأت لك شيئًا . قال : ما هو ؟ قلت : حيس - أي طعام يتخذ من التمر والأقط والسمن - قال : هاتيه . فجئت به فأكل ثم قال : قد كنت أصبحت صائمًا ) رواه مسلم . قال طلحة : فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال : " ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها " .
فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا وكان قد صح عنه عليه الصلاة والسلام : ( لا صيام لمن لم يبيته من الليل ) لم يخبر أن نترك هذا اليقين ولو أنه عليه الصلاة والسلام أصبح مفطرًا ثم نوى الصوم نهارًا بنيته .
2- القول الثاني : ذهب جمهور الفقهاء وهم الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن تبييت النية من صيام النفل ليس شرطًا بل يصح بنية من النهار وهو قول أبي الدرداء و أبي طلحة و ابن مسعود وحذيفة بن اليمان و سعيد بن المسيب و سعيد بن جبير مستدلين بما روت عائشة رضي الله عنها قالت : ( دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم من شيء ؟ قلنا : لا . قال : فإني صائم ) رواه مسلم.
* والصحيح اشتراط تبييت النية لصيام النفل ، وذلك أن عمدة ما استدل به الجمهور على صحة صيام النفل من النهار ( فإني صائم ) وهو محتمل ، فإن الاستدلال به على صحة صيام النفل بنية من النهار ليس صريحًا وذلك من وجوه :
1- ورد في بعض روايات الحديث : ( قد كنت أصبحت صائمًا ) .
2- في لفظ الحديث ( إني صائم ) وهذا إخبار عن وقت سابق لحالة التكلم .
3- ابتداء الصوم في الأصل من أول طلوع الفجر حتى غروب الشمس لقول الله تعالى : (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ )) [ البقرة : 187 ] .
4- أن نهار الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وهو جزء واحد لا يتجزأ فلا يصح أن يخلو جزء منه عن نية .
5- حديث : ( لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل ) صريح عام لجميع أنواع الصيام ، وحديث عائشة ليس صريحًا في أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح مفطرًا فكيف يخصص به الصريح العام .
6- الآثار التي وردت عن بعض السلف واستدل بها على جواز صوم النفل بنية من النهار غير صريح في الاستدلال وذلك أنها دائرة على أمرين :
الأمر الأول : أن المتطوع أمير نفسه إن شاء استمر في صومه وإن شاء أفطر وهذا ما دل عليه حديث عائشة .
الأمر الثاني : أنهم يصبحون وقد أرادوا الصوم من الليل لكنهم لم يعزموا ومعنى هذا اعتبار تبييت النية من الليل ولهذا اشترط في صحة صوم النفل ألا يكون أكل أو شرب بعد طلوع الفجر .
7- ومما استدل به على صحة صوم النفل بنية من النهار حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء: أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل ) رواه البخاري ، فعن هذا الدليل ثلاثة أجوب :
1- أن هذا خاص بصيام يوم عاشوراء وكان صيامه فرضًا ثم نسخ بصيام رمضان .
2- أن الحديث صريح في إلزام الناس بالصيام من أكل ومن لم يأكل وهذا لا يقول به من أجاز الصيام بنية من النهار .
3- إذا صح الاستدلال بهذا الحديث فأقرب ما يستدل به في إلزام الناس بحالات الصيام الطارئة كمن لم يبلغه ثبوت رمضان إلا نهارًا .