تابع المفهوم وأضربه:
دليل الخطاب:
[المتن]:
[الرابع: (دليل الخطاب)، وهو مفهوم المخالفة؛ كـ دلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه؛ كـ خروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»، وهو حجة عند الأكثرين خلافا لأبي حنيفة وبعض المتكلمين(1)].
[الشرح]:
(1) (الرابع: (دليل الخطاب): وهو مفهوم المخالفة؛ كـ دلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه؛ كـ خروج المعلوفة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ»، وهو حجة عند الأكثرين خلافا لأبي حنيفة وبعض المتكلمين):
(الرابع: "دليل الخطاب"): سُمي دليل الخطاب؛ لأن الخطاب قد دل عليه.
(وهو مفهوم المخالفة): هذا النوع الثاني من نوعي المفهوم.
مفهوم المخالفة: ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم، هذا حدّه، إذًا له مفهوم، لكنه يُخالف المنطوق كما هو المشهور في حديث القلتين: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث»، منطوقه: يدل على نفي نجاسة الماء إذا بلغ قلتين، ومفهومه: يدل على تنجس الماء إذا كان دون القلتين، إذًا المنطوق: نفي النجاسة، والمفهوم: حمل النجاسة، إذًا المسكوت عنه أخذ حكما يُخالف حكم المنطوق، مفهوم المخالفة سُمِّي مفهوما؛ لأنه خالف المنطوق في الحكم، ذاك يحكم بالتحريم، وهذا يحكم بالحل، فحصلت المخالفة بينهما.
أما كونه دل على الحكم لا في محل النطق؛ هذا اشترك فيه الموافقة والمخالفة، كل منهما يشتركان بأن اللفظ يدل عليه لا في محل النطق، وأنهما دلالة لفظية، وأنه مستند إلى اللفظ لا كون اللفظ قد تناوله، ولكن يُنَظَر إلى الحكم هل هو مخالف للمنطوق أو موافق؟
إن كان موافقا؛ كتحريم الضرب مع تحريم التأفيف؛ سمي المفهوم موافقة، وإن كان مخالفا؛ كالحكم بنجاسة الماء بمفهوم حديث القلتين مع المنطوق الحاكم بنفي نجاسة الماء؛ سمي المفهوم مخالفة.
(كدلالة): هذا مثال، وليس بضابط.
(كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه): الشرع إذا قيّد اللفظ بقيد يدل على أن الحكم محصور فيما قُيّد به؛ فحينئذ يدل الحكم بهذا القيد على أنه منفي في غير الحالة المنطوق بها.
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا}، {مُّتَعَمِّدًا} هذا قيد، حال، والحال قيدٌ لعاملها، ووصف لصاحبها، فحينئذ نقول: ما عدا المُتعمد حكمه مخالف لحكم المنطوق به.
(كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه): فيختص الحكم بالمذكور، ويُنفى عما عداه.
وهذا الأصل في القيود الشرعية الواردة في الكتاب والسنة؛ أن الحكم إذا قُيّد بأي وصف سواء كان عددا، أو ظرفا، أو غاية، أو صفة، أو حالا؛ نقول: هذه كلها قيود مرادة؛ لأنه لفظ زِيدَ لمعنى في الأصل، ولا يُعدل إلى غيره إلا بِثَبَتٍ.
(كخروج المعلوفة بقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: «في سائمة الغَنَمِ الزكاة»): المعلوفة: التي يعلفها صاحبها، والسائمة: التي ترعي الحول بنفسها.
«في سائمة الغَنَمِ الزكاة»: هنا خص، «سائمة»: مُضاف، وهو وصف، و «الغنم» مضاف إليه، من إضافة الصفة إلى الموصوف، أصله: "في الغنم السائمة"، وإذا قيل: "في الغنم السائمة"، الغنم: اسم عام يشمل المعلوفة ويشمل السائمة، فإذا قيل: "في الغنم السائمة"، نقول: هذا قيد له معنى.
حينئذ نُثبت الحكم على ما قُيّد به اللفظ، وننفي الحكم عما عداه، فنقول: الزكاة محصورة في الغنم السائمة فقط، وننفي الزكاة عن المعلوفة؛ لأن هذا هو مفهوم المخالفة.
(كدلالة تخصيص الشيء بالذكر على نفيه عما عداه): فحينئذ المنطوق به في الغنم، «في سائمة الغَنَمِ الزكاة».
المنطوق به: كون الزكاة ثابتة في الغنم السائمة.
المفهوم المسكوت عنه: هي المعلوفة.
هل نثبت لها حكم الزكاة أو ننفيه؟
ننفيه؛ بدلالة القيد الذي دلّ على كون المسكوت عنه مخالفا في الحكم للمنطوق به، وهذا هو حقيقة دلالة مفهوم المخالفة، في المنطوق تُثبَت الزكاة، وما عدا ذلك فيما لم يُقيد أو خرج بالقيد فتُنفَى الزكاة عنه.
(وهو): أي مفهوم المخالفة.
(حجة): مفهوم الموافقة يكاد أن يُحكى الإجماع على أنه حجة، وأما مفهوم المخالفة وقع فيه نزاع، والأكثرون على أنه حجة.
(وهو حجة عند الأكثرين من الأصوليين): فقد ورد عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ}، هنا قُيّد القصر بالخوف.
مفهومه: أنه إذا انتفى الخوف ووُجد الأمن فلا قصر، هذا النص ظاهر، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ}، فقد أمن الناس، قال عمر -رضي الله عنه-: عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
عندما عجب عمر فأخبر النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، الفهم صحيح أو لا؟
صحيح، بدليل أن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أقرّه على هذا الفهم، وإنما عدل عن ظاهر الآية بكون القصر صار صدقة، كان عند الخوف ثم لزم فصار صدقة، إذًا مفهوم الموافقة ثبت.
ويثبت أيضًا بالسنة التقريرية، أقرّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- مفهوم المخالفة بفهم عمر -رضي الله عنه-.
وأيضا القيود الواردة في الكتاب والسنة ليست عبثا، ولا بد أن تكون لفائدة؛ وهي تخصيص الحكم بالمذكور، ونفيه عما عداه، وإلا للزم العدول عن الأخصر لا لفائدة، "في الغنم السائمة"، لو كان يستوي الحكم في المعلوفة والسائمة لقال: "في الغنم زكاة"، أيهما أخصر؟
"في الغنم زكاة"، إذا كان ذكر السائمة لا فائدة منه ولم يُقصد به تخصيص الحكم في المذكور ونفيه عما عداه إذًا ما الفرق؟!
المعنى إذا أُدي بلفظين فلا يُعدَل عنه إلى ثلاثة إلا لحشو، وهذا عدم بلاغة وفصاحة، حينئذ نقول: هذه القيود لو لم نُعمل مدلولها ونقيد الأحكام الشرعية بها لصارت عبثا؛ لأن وجودها وعدمها واحد، وتخصيص أحدهما بالذكر مع استوائهما في الحكم ترجيح بلا مُرجح؛ لأن السائمة ليست أولى من المعلوفة، إذا كان الحكم مستويا في السائمة والمعلوفة لمَ خص؟ لمَ ذكر السائمة دون المعلوفة؟ هل هي أولى؟
ليست بأولى.
إذا كان الحكم مستويا في النوعين فذكر السائمة دون المعلوفة صار من باب ترجيح الشيء بلا مُرجح.
(خلافا لأبي حنيفة وبعض المتكلمين): قالوا: لأنه ورد في النصوص الشرعية بعض ما يفيد مفهوم المخالفة فلم يُعمَل به.
نقول: كون مفهوم المخالفة لا يُعمَل به في بعض المواضع؛ لأن من قال بمفهوم المخالفة قيّده بشروط، ليس على إطلاقه.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ثم قال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}، إذًا قيّد هنا الحكم بأربعة أشهر، ما عداها هل يجوز فيها الظلم؟
إذا أخذنا بظاهر اللفظ يجوز الظلم، لكن ليس مرادا باتفاق.
نقول: هذا لكونه مناسبا للواقع، فإذا نزلت الآية وفيها قيد لا بد من اعتبار شروط إعمال مفهوم المخالفة.
ومنها: ألا يكون لبيان واقع، أو مناسبة واقع معين، حينئذ لا يُعتَبر، وسيأتي بيانه.
قالوا: لأنه ورد في بعض النصوص الشرعية مفاهيم مخالَفَة لا يمكن العمل بها، ثم فوائد القيود كثيرة، ولا يمكن أن يُحكَم بكون هذه اللفظة أفادت كذا دون كذا؛ يعني يمكن الاحتراز باللفظ الواحد عن عدة أمور، أما تخصيص أحد المعاني؛ قالوا: هذا ترجيح بلا مُرجّح.
فحينئذ ما حكم المسكوت عنه الذي لم يُقصَد باللفظ؟
قالوا: يبقى على أصله، وهو أنه مسكوت عنه، فيُطلَب الدليل من خارجه.
لكن المرجّح الأول، وهو أنه حجة.