الكراسي العلمية بين الماضي والحاضر





الكراسي العلمية ظاهرة تربوية تعليمية، تميزت بها الجوامع والمدارس في العالم الإسلامي والمغرب على وجه الخصوص، ففي مجال التعليم العالي ازدهرت الكراسي العلمية في المغرب، ولم يكن هذا الازدهار بمعزل عن نظام الوقف وما حققه لتلك الكراسي من الدعم والاستمرار .

فقد كان التنافس قوياً بين العلماء في التفرد بكرسي علمي، أو بمجموعة من الكراسي، ولاسيما الكراسي الخاصة بالتعليم العالي التي كان يحفرها الطلبة والعلماء والمختصون، ولا يتم ذلك للعالم إلا إذا كان مرجعاً وحجة في مادته.
وقد اشتهرت كراس عديدة بأسماء أصحابها، ومن أبرز العلماء الذين كانت لهم كراس علمية مشهورة: الونشريشى أبو الربيع سليمان الفارس (ت705هـ) ، والفقيه محمد ابن أحمد العارمي السليماني (ت771هـ)، وعبد العزيز الورياغلي (ت880هـ)، وأنو الغازي المراكشي أبو محمد (ت919هـ ) والخطيب أبو محمد عبد الله بن على بن أحمد العاصي (ت908هـ)(1).
وممن كانت لهم كراس علمية عديدة لسعة معارفهم؛ الفقيه أبو العباس أحمد بن على المنجور (ت995هـ ) كانت له كراسي التفسير والسيرة، وكانت أجور هؤلاء العلماء وغيرهم ممن اعتلوا الكراسي العلمية، تؤدى من مال الوقف(2).
وكانت هناك ظاهرة علمية أخرى في الجوامع والمدارس، انتعشت ونمت؛ بفضل مال الوقف، وهي ظاهرة المجالس العلمية؛ حيث كان العالم يلقي دروسه وهو جالس على الأرض بدلاً من الكرسي، والظاهرتان معاً – أي الكراسي والمجالس العلمية- ما زالتا قائمتين في المساجد في عصرنا الحاضر.
ولم تكن لتزدهر الكراسي العلمية بمعزل عن المدارس ، التي كانت تبنى من مال الوقف، ويرفق معها مرافق أساسية من سكن الطلبة وأساتذتهم، وتخصص منح للطلبة المنتسبين إلى المدرسة، وهي كالأحياء الجامعية بكل متطلباتها، وكان لنماء مال الوقف دور في الإنفاق الباهظ على تلك المدارس ومرافقها.
وكانت أجور المدرسين مناسبة لمعيشتهم؛ حتى لا يبحثون عن عمل آخر ليكملوا حاجاتهم المعيشية، فقد كفتهم أحوال الوقف عن التفكير في أمر تدبير المعيشة لهم ولأسرهم.
وفي المغرب بلغ حرصهم في المحافظة على المدارس، أنهم كانوا ينقشون الموقوفات على رخام كان يبنى في جدرانها؛ حفاظاً على استمرار إنفاقه عليها(3).
وكانت المدارس في المغرب تستقبل الطلبة بعد حفظهم للقرآن الكريم في الكتاتيب، دون أن يُشترط تحديد السن، وهذا ما جعل الطلبة يقبلون عليها من البوادي والحواضر.
كرسي سمير شما لتاريخ المسكوكات والحضارة الإسلامية:
ومن التطبيقات المعاصرة للوقف على الكراسي العلمية في الجامعات، وقف كرسي سمير شما لتاريخ المسكوكات والحضارة الإسلامية في جامعة اليرموك ، وقد أُسس هذا الكرسي بموجب وقفية اتفاقية خاصة بين رجل الأعمال والباحث المعروف في مجال المسكوكات الإسلامية المرحوم سمير شما (توفي 2002م) وجامعة اليرموك في 1985م ؛ وبموجب هذه الوقفية الاتفاقية؛ فقد تأسس في كلية الآداب كرسي سمير شما للمسكوكات الإسلامية؛ بهدف تشجيع البحث العلمي في هذا المجال.
وفي هذا الإطار فقد تم تعيين أستاذ متخصّص على حساب الكرسي؛ لتدريس مادة «المسكوكات الإسلامية» في قسم التاريخ ، وتم تكوين نواة مكتبة متخصصة في المسكوكات ، وإرسال بعض الطلبة للتخصص في الخارج.
كما تم في 1989م إصدار أول مجلة علمية محكمة في المشرق «اليرموك للمسكوكات» التي تنشر الأبحاث المتخصصة في اللغتين العربية والإنجليزية، وصدر منها عدة مجلدات.
وقد طرأ تطور ملحوظ على هذا الكرسي في 1994م؛ حين نقل من قسم التاريخ بكلية الآداب إلى معهد الآثار والأنثربولوجيا الذي يقدم عدة برامج أكاديمية على مستوى البكالوريوس والماجستير، ويقوم بإجراء الأبحاث الميدانية؛ حيث أصبح نواة لبرنامج جديد في الماجستير في المسكوكات الإسلامية. كما تم في 1996م بموجب تبرع خاص من شما لإنجاز مبنى خاص، يضم متحف المسكوكات الإسلامية في جوار المعهد، ويتميز اليوم بمجموعة قيمة من المسكوكات الإسلامية المتنوعة. انظر للاستزادة مجلة «اليرموك للمسكوكات»، المجلد الثاني، أربد، 1415هـ/1996م.
وعموماً يمكن القول: إن هذه الوقفية تعد من النماذج الناجحة المعاصرة للوقف في التعليم الجامعي والبحث العلمي؛ إذ إنها حققت الهدف منها، بل وتجاوزته بتوسيع دائرة الاهتمام بالمسكوكات الإسلامية، وتشجيع البحث والنشر العلمي، وتكوين نواة من المتخصصين في هذا المجال؛ مما سمح في النهاية بتأسيس برنامج ماجستير في المسكوكات الإسلامية، هو الوحيد من نوعه في بلاد الشام.
والوقف الإسلامي مد بمداخله المستمرة العطاء، المدارس، والتعليم ومجالس العلم، وكبار العلماء، ووفر الوقف كذلك أجور المدرسين المناسبة لمعيشتهم وكفاهم التفكير في أمر تدبير المعيشة لهم ولأسرهم؛ فزاد العلم، وانتشر العلماء، وشاعت الكتب، وكثر طلاب العلم، وخصصت لهم المنح والكفالة؛ ليتفرغوا للعلم.
ولإحياء التعليم من جديد، لا مناص من إحياء الكراسي العلمية ودورها في نشر العلم النافع ، وإخراج العلماء والباحثين، ولا يتم ذلك إلا إذا أوجدنا أوقافاً ناجحة مستمرة العطاء؛ لتوفر لتلك الكراسي والمجالس الدعم والاستمرار.
الهوامش:
1 - د. محمد الحجوي، مقال بعنوان المدارس والزوايا والخزنات التي ازدهرت بمال الوقف في المغرب، مجلة الأوقاف- الأمانة العامة للأوقاف، الكويت، العدد: 7 شوال 1425هـ - نوفمبر 2001م، ص: (103).
2 - انظر جامع القرويين (2/278).
3 - الزوايا والخزنات التي ازدهرت بمال الوقف في المغرب، د. محمد الحجوي، مجلة الأوقاف، العدد: 7، ص: (102).



اعداد: عيسى القدومي