هل الإنسانية قبل التدين ؟؟


أحمد قوشتي عبد الرحيم


من أوسع أبواب الباطل : صك المصطلحات المضللة والشعارات المجملة وإشاعتها بين الناس حتى تتحول إلى حقيقة لا تقبل النقاش .
ومن تلك الشعارات التي تتكرر كثيرا حتى عبر صفحات المؤسسات الدينية الرسمية : شعار الإنسانية قبل التدين رغم ما فيه من إشكال وإجمال بل تضليل .
فهل فعلا الإنسانية قبل التدين ، أو الذوق قبل الدين ، أو الأخلاق قبل الدين ، أو الإنسان قبل الأديان ، أو أن تكون إنسانا قبل أن تكون متدينا !!
الحقيقة أن هذه العبارات كلها ، قائمة على مغالطة واضحة ، ونوع من الافتراضات غير الصحيحة أصلا ، أو الصراع المفتعل الذي لا وجود له ، عبر تقديم ثنائية معينة وعليك اختيار أحد أفرادها ،وتقديمه على الآخر ، وكأنه لا يمكن الجمع ابتداء حتى صرنا بحاجة للمفاضلة أو التقديم .
وقد ظهر من هذه الثنائيات قديما : ثنائية الدين والعقل أو النقل والعقل ، وأيهما الذي يقدم على الآخر ، وكأن الدين شيء في مقابل العقل ، أو أنه مجموعة نصوص خالية تمام من أية مضامين عقلية وربما كانت مناقضة له ، أو أن العقل جوهر مستقل ، يمكن أن يهتدي ويصل للحقائق كلها بلا دين .
ووجه الخطأ في تلك العبارات السابقة ، هو افتراض وجود دين بلا إنسانية ، أو تحقق معنى الإنسانية بلا دين ، أو أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا جميلا مهذبا ، وفقط ينقصه ( شوية دين ) لتكتمل الصورة اللطيفة ،وكل ذلك باطل.
وأشد منه بطلانا : التصور الخاطئ للدين أو للمتدين ، وتصدير نموذج منفر لا يعبر بحال عن حقيقة الدين أو التدين ، وتصويره على أنه مناط المقارنة ، وكأن المتدين مثلا : رجل يصلي ، ويصوم ، ويحج ، ولحيته تملأ صدره ، لكنه مرتش ، آكل للحرام ، سفاك للدماء ، فظ غليظ ، خال من كل أدب أو خلق ، وهمه فقط إشباع شهواته.
وبالله عليك : هل هذا متدين حقا ، أو هل هو نموذج حقيقي للمتدين ، أو هل هذا ما جاءت الأديان لتدعو إليه ، أو هل هذا الذي يوضع في مقابل الإنسانية على سبيل المقارنة ، ويخير الناس بين النموذجين ؟
وفي المقابل يتم تصوير نموذج الإنسان في أجمل صورة وأرقها ، فهو الرجل المهذب ، دمث الأخلاق ، الذي يخدم البشرية ، ويقوم بأعمال خيرية ، ويقرأ كتب الأدب ، ويهوي الموسيقي الكلاسيكية ، والفنون التشكيلية ، ويتردد باستمرار على الأوبرا ، ويحتسى القهوة في الصباح ، وطبعا لابد أن يكون ( جنتلمان ) في التعامل مع المرأة ويناديها بسيدتي الجميلة ، لكن ينقصه فقط أنه لا يصلي ولا يصوم ولا يلتزم بالأحكام الشرعية تحليلا وتحريما ، وربما كان ملحدا ، أو لا يؤمن بدين أصلا لكنه إنسان رائع حقا !!
وقناعتي أن الإنسان إذا أعرض عن الله ، ولم يؤمن بالوحي ، ولم يقم بالغاية التي وجد على الأرض من أجلها ، وهي العبادة بمفهومها الواسع والصحيح لا المزيف أو الشكلي ، فقد تخلى عن أهم مقوم لإنسانيته ، ومناط تفضيله وتكريمه ، وحينها فهو شر من الأنعام منزلة .
ويدل على ذلك قول الله سبحانه { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وقال سبحانه { لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } وقال سبحانه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} وقال سبحانه {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وقال تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}

وخلاصة الأمر :
أنه لا إنسانية حقيقية من غير دين صحيح ، ولا تدين تام من غير خلق فاضل وتحقق بالمعنى الصحيح للإنسانية ، والفصل بين الأمرين مغالطة وتضليل .