وقول الإمام الشنقيطي في دفع إيهام الإضطراب :
وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآيات المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين , ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ , إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ )
وقوله تعالى ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )
وقوله ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُم ْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )
وقوله ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي )
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها :
أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء :
الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة, وعليه فلا إشكال إذ لا حجة مع الشيطان البتة كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي )
الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه , فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه, فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته لا يتضمن سلطانا للشيطان على النبي بل هو من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) الآية . اهـ
فأقر رحمه الله أنه لا خلاف بين الآية موضوع البحث وبين الآيات التي تنفي سلطان الشيطان ..
لكنه رحمه الله اختار أن إلقاء الشيطان في أمنية النبي ، من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق !!
وهذا يقوله هروبا من القول بجواز الإلقاء في كلامه .. فهو تأويل لظاهرها مع مخالفة فهم السلف وتفسيرهم لها .
كما أن نفيه للسلطان في هذه الحالة آكد لأن النبي لم يتعمده أولا ، ولأن الله أحكمه ثانيا فلم يقره على الباطل .
كما قال شيخ الإسلام : وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس .
ومجمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقام :
أن من قال أن هذا الإلقاء هو في مسامع المشركين ولم يتلفظ به النبي يعتبر تأويلا للآية وخروجا عن نصها الظاهر .
فقول الشيخ الشنقيطي أن إلقاء الشيطان في أمنية النبي من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق !! تأويل مثل من قال أن الإلقاء هو في سمع المستمعين ولم يتكلم به الرسول لاشتراكهم في القول بمنع جواز الإلقاء في كلامه .
كما أن القول بأن الإلقاء إنما هو بالوسوسة والشبه قد خالف نص الآية من وجهين :
الأول : أن القول بأن ما يلقيه الشيطان من جنس الوسوسة والشبه ، من يراد به ؟ إن أريد به النبي صلى لله عليه وسلم ، فباطل بداهة .. لأنه لو كان في خاطره صلى لله عليه وسلم فلا يترتب عليه سبب الفتنة للكفار لأنه غير معلوم أو مسموع لهم .
وإن أريد به المستمعين ، فقد استمعه المؤمنون والكفار ، فإن كان لهما معا أو لأحدهما انفرادا عن الآخر ، فكيف يتجه عليه القول بالنسخ ؟ وأي شيء ينسخه الله ؟ هل ينسخ الشبه والوساوس من قلوب الكفار ؟
الثاني : أنه مخالف لتفسير السلف قاطبة ولم يعرف لهم مخالف ممن عاصرهم كما قال شيخ الإسلام : والذي عليه عامة السلف ومن اتبعهم ، أن الإلقاء في نفس التلاوة كما دلت عليه الآية وسياقها من غير وجه كما وردت به الآثار المتعددة ..
وقال أبو المظفر السمعاني [ وهو من أئمة أهل السنة الكبار حتى قال عنه الذهبي : تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة ، وكان شوكا في أعين المخالفين ، وحجة لأهل السنة ] في تفسيره (3/449):
الأكثرون من السلف ذهبوا إلى أن هذا شيء جرى على لسان الرسول بإلقاء الشيطان من غير أن يعتقد، وذلك محنة وفتنة من الله (وعادة) [ قوله (وعادة) أي في رسل الله وأنبيائه ]، والله تعالى يمتحن عباده بما شاء، ويفتنهم بما يريد، وليس عليه اعتراض لأحد وقالوا: إن هذا وإن كان غلطا عظيما، فالغلط يجوز على الأنبياء، إلا أنهم لا يقرون عليه. اهـ
وقال الإمام ابن جرير مستخلصا :
واختلف أهل التأويل في معنى قوله تمنى في هذا الموضع، وقد ذكرت قول جماعة ممن قال: ذلك التمني من النبيّ صلى الله عليه وسلم ما حدثته نفسه من محبته، مقاربة قومه في ذكر آلهتهم ببعض ما يحبون، ومن قال ذلك محبة منه في بعض الأحوال أن لا تذكر بسوء. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا قرأ وتلا أو حدّث.
وهذا القول [ يعني الأخير ] أشبه بتأويل الكلام، بدلالة قوله:( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ) على ذلك; لأن الآيات التي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيله، فمعلوم أن الذي ألقى فيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله، ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.
فتأويل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلم، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه، أو في حديثه الذي حدث وتكلم( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) يقول تعالى: فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله. اهـ
وقال الإمام القرطبي في تفسيره (12/85) :
قوله تعالى : " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة " يرد حديث النفس . وقد قال ابن عطية (5/6) : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة ، بها وقعت الفتنة . اهـ
وقال البيضاوي في تفسيره : ( ليجعل ما يلقي الشيطان ) علة لتمكين الشيطان منه وذلك يدل على أن المُلقَى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل .
فما ذهب إليه الإمام الشنقيطي من أن هذا الإلقاء هو بالشبه والوساوس ليس بجديد .. بل هو عين رأي المتأخرين ..
مع أنه أمر بدهي معلوم بالضرورة من فعل الشيطان ، ولا يحتاج إلى أن القول بنسخه وإبطاله .
بقيت جملة للإمام الشنقيطي - رحمه الله – وهي قوله : أنها كلمة شرك أكبر وكفر بواح ..
وهذا حق لا شك .. ولها تقديران :
فإن كانت من كلام الشيطان في الوحي ، فلا تعدوا أن تكون لغوا من قبله ، قد جرت به الفتنة ، وقد أحكم الله آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان .
وإن كانت مما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن أثر الشيطان ، وهو منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الخطأ والسهو لم يتعمده يقينا ، بل هو معصوم وإخوانه من تعمد مثل هذا ، ومن الإقرار عليه .. والقرينة التي ذكرها الشيخ تؤيد هذا ، وهي قراءته بعد ذلك ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) ..
ومع ذلك فقد أحكم الله آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان .
وفي الأخير .. قد بين شيخ الإسلام رحمه الله أن الخلاف ها هنا محير حتى قال في مجموع الفتاوى (19/8) :
كثر نزاعهم مع ذكائهم في مسائل ودلائل يجعلها أحدهم قطعية الصحة ويجعلها الآخر قطعية الفساد بل الشخص الواحد يقطع بصحتها تارة وبفسادها أخرى وليس في المنزل من عند الله شيء أكثر ما في الباب أنه ( إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ) فغاية ذلك غلط في اللسان يتداركه الله فلا يدوم .
وجميع ما تلقته الأمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا باط لفيه ؛ وهدى لا ضلال فيه ؛ ونور لا ظلمة فيه . وشفاء ونجاة . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . اهـ