الجزء الثاني من البلاء والابتلاء ..
قال تعالى : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُم ْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ) (27) سورة ابراهيم
يوم القيامة بعد أن يستقر الكفار والظالمون والمنافقون في جهنم يخبر الشيطان أولياءه أنه دعاهم الى ما يغضب الله عز وجل وقد استجابوا له، ويحيل عليهم اللوم ثم يتبرأ منهم ..
لذلك وجب علينا أن ننتبه لقوله تعالى:
{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
يتربص بنا الشيطان طوال الوقت، يراقبنا، يطيل النظر الينا، يصاحبنا صحبة لصيقه، ومع هذه الصحبة يفَهم َطبائعنا، يجرب علينا تجارب عديدة، ولو قوينا على الخروج من الذنب يُضْعِفُنا بالمخرج الذي خرجنا منه، ويبقى على هذا الحال حتى يجعلنا في لحظة لا نهاب الله عز وجل، ثم يقول لنا يوم القيامة اّني اخاف الله رب العالمين، يعرض علينا المواقف والمعاصي ويخيرنا بين المعاصي فإن مللنا معصية معينة يغيرها لنا ولربما اخافنا من الله لدرجة القنوط من رحمته فنقترف الكبائر براحتنا لاعتقادنا ان الله لن يغفر لنا..
وقد أمرنا الله ان نتخذ الشيطان عدوا، واتخاذ العدو يكون بتمام الرضا عن الله عز وجل وأقداره، والرضا ليس كلاما بل يكون بالعلم عن الله وحسن الظن بالله ..
تواترت النصوص على أن الله يقبل التوبة والاستغفار من عباده إما بالاستغفار المجرد أي أنه يكون بدون توبة ويحصل به محو السيئات بحسبه، فان قلت أستغفر الله تمحى السيئات بقدر الاستغفار أما ان قلت أستغفر الله وأتوب اليه أي أساله المغفرة على ذنب مضى وأعاهده على عدم العودة للذنب في المستقبل وهذا شرح حديث أن الله يقبل توبة العبد مالم يغرغر يعني قبل لحظات الموت وقبل الغرغرة يصلح الاستغفار عمّا مضى، أما التوبة فلا تصلح لعدم وجود مستقبل ,وإن أنا قلت يا رب أتوب اليك فكأني قلت الأمرين معا ويبقى لساني مستغفرا، وكلما زاد الاستغفار تتحول السيئات الى حسنات، والمشكلة في اعتقاد المذنبين أنّ الله لو أحبهم ورضي عنهم لما تركهم يقعوا في الذنب من البداية، وهذا من خطوات الشيطان يجرّك للمعصية ثم يوسوس لك أنك لو كنت كريما ولك منزلة عند الله لما تركك تقع بهذه المعصية فأنت لا شيء بل أنت حطب جهنم لا محالة، ويقلبك الى شخص يخاصم الله بالقدر إن كان اعتقادك أن الاصل أن يعصمك الله من الوقوع في الذنب أو الفتنة وتغترّ بطاعاتك فيحبط عملك وتخسر كل شيء، أما لو كان ذنبك سببا لاستغفارك المستمر وكسرك لله ورجائك أن يغفر لك، يكون انكسارك هذا مدعاة لاستجابة الدعاء، فطلبك ممن تعتقد انه دون خطايا بان يدعو لك لا يوازي أبدا دعائك لنفسك وانت منكسر ذليل بين يدي الله عز وجل،
وحتى اقرّب لك الصورة حين يمرض ابنك الصغير يلتصق بك ويئن في حضنك ويتلوّى من الوجع، فتكون رحمتك به أضعاف رحمتك في حالة عافيته وصحته، والمثل الاعلى لله حين مرضك وضعفك وذنبك وانكسارك من ذنبك يكون أرحم بك من رحمتك بولدك..
وما دمت عرفت نقاط ضعفك فلا تجعل للشيطان عليك سبيلا ولندعُ الله عز وجل أن يبعد عنا الذنوب، فمثلا بدعاء استفتاح الصلاة ندعو بأن يجعلنا في جهة وذنوبنا في جهة أخرى( اللهم باعد بيني وبين ذنوبي كما باعدت بين المشرق والمغرب) .. وأكيد لن نعيش دون ذنوب، لكن لا نصرّ على الصغائر حتى لا تُقلَب لكبائر، فالوضوء مثلا كفارة للصغائر أما الكبائر فلا تغفر الا بالتوبة لله عز وجل سواء كانت كبائر قلبية أو كبائر بدنية، ولا ننسى توحيدنا لله عز وجل فهو مدعاة لغفران ذنوبنا
قال تعالى :
: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} هود:114
وفي الحديث: اتَّقِ اللَّهِ حيثُ ما كنتَ ، وأتبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها ، وخالقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 1987
خلاصة حكم المحدث: حسن
لمَّا يكون قلبك حيَ كن حريص على أنك لو أخطأت مباشرة ماذا تفعل؟ تتبع السيئة الحسنة .
إذن توبة الله على عباده من آثار عفوه، يعني العفو وصف لله، من آثاره أنه يشرح صدرك للتوبة مع أنك تبارزه بالمعاصي ومع ذلك يشرح صدرك للتوبة، وكما اتفقنا أنه يدفعك إلى بابه دفعا، بأن يكفّر سيئاتك بالأعمال الصالحة، يدفعكإلى بابه دفعاً بأن يصيب منك، يعني يُنزل عليك من المصائب والمكدّرات ما تُنقص منك فتدفع عنك الذنوب، يعاملك بعفوه بأن يشرح صدرك للتوبة. والعجيب في التوبة أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يفرح بتوبة عبده أعظم ما يوصف من فرح.
فإذا كان التوحيد بهذه القيمة لماذا نهمله بهذه الطريقة ؟؟
نذكر حديث الرجل الذي يسأل الله عز وجل أن يقربه لباب الجنة فقط ثم تتوالى طلباته طمعا بكرم الله تعالى، هذا الرجل كان معه أصل التوحيد فله أدنى الدرجات، أما الذي يفوز بالفردوس تحقيقه للتوحيد يكون بشكل تام..
ولنفهم هذا المعنى نتأمل قوله تعالى:
[ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [
لو كان أصل التوحيد عندنا ثابت سيكون فرعه في السماء عاليا سيقبل منا الله أعمالنا جميعها خالصة لله عز وجل: وقد تكلم ابن القيم بكلام رائع عن هذا المثل فقال :
الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وثمر فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه به فعروقها العلم والمعرفة واليقين وساقها الإخلاص وفروعها الأعمال وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدى والدل المرضي فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله والإخلاص قائم في القلب والأعمال موافقة للأمر والهدي والدل والسمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار .
ومنها أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر وإلا أوشك أن تيبس
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثّوبُ ، فاسْألُوا اللهَ تعالَى : أنْ يُجَدِّدَ الإيمانَ في قُلوبِكمْ
الراوي: عبدالله بن عمرو المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 1590
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وبالجملة فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم .
ومنها أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ليس من جنسه فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه كمل الغرس والزرع واستوى وتم نباته وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى وإن تركه أوشك أن يغلب على الغرس والزرع ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به فإنه يفوته ربح كثير وهو لا يشعر فالمؤمن دائما سعيه في شيئين سقي هذه الشجرة وتنقية ما حولها فبسقيها تبقى وتدوم وبتنقية ما حولها تكمل وتتم والله المستعان وعليه التكلان فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الوقفة وقلوبنا المخطئة وعلومنا القاصرة وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار وإلا فلو طهرت منا القلوب وصفت الأذهان وزكت النفوس وخلصت الأعمال وتجرت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم وتتلاشى عنده معارف الخلق وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختص برحمته. ، ثم بعدها النتيجة والأثر كانت في الآية
يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ
27 سورة ابراهيم
تمّ بحمد الله
أم البراء وعائشة بتصرّف