زبد المعاني إلى بلوغ المعالي
بِسْم الله الرحمن الرحيم
اعلم سلمني الله وإياك أن العبد خلق لعبادة ربه وطاعته ، ولا يبلغ ذلك إلا بتعليمه وهدايته ، وأصل ذلك تعلم الوحي وهو مشتمل على أمرين : الإيمان ، والكتاب .
والنَّاس ضربان : نبي ، وغير نبي .
أما النبي فأصل معرفته بالإيمان والكتاب ؛ الوحي .
وأما غير النبي فأصل معرفته بهما ؛ الرسالة ، وهي مبنية على الإيمان بالله ورسله .
وطريق اكتساب ذلك يكون بوراثة الأنبياء بأخذ العلم عنهم .
والعلم النبوي هو فقه الحق بدلائله المثمر للعمل الصالح .
والعلم له حقيقة في نفسه وطرق في اكتسابه وطرق في تعليمه وإبلاغه ، وعليه أقول :
اعلم وفقك الله إلى رضاه أن العلم ضربان : عمد ، وملح .
والعمد : غايات ، ووسائل .
والغايات : مقاصد ، ومصادر .
والمقاصد : عقائد ، وشرائع .
فأما العقائد ؛ فأصولها ثلاثة : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد .
وأما الشرائع ؛ فأنواعها ثلاثة : العبادات ، والمعاملات ، والأخلاق .
وأما المصادر ؛ فأصولها ثلاثة ؛ الكتاب العظيم ، والسنة الصحيحة ، وإجماع الصحابة .
وأما الوسائل ؛ فأصولها ثلاثة : اللغة العربية ، وعلوم الحديث ، وأصول الفقه .
وما لم نذكره فهو راجع إلى ما سبق متفرع عنه .
وأما الملح ؛ فمعتبرة ، وفضله .
والمعتبرة : كل ما أعان على استنهاض الهمم إلى العلم أو العمل ، وأنفعها ما تعلق بالعلماء والعباد من التراجم والحكم .
والفضلة : ما عدا ذلك مما ليس بحرام ولا ملهي .
وطرق تحصيل العلم ضربان :
السؤال ، والطلب .
والسؤال نوعان : لرفع الاشتباه ، أو لكشف المجهول .
والاشتباه نوعان : في الألفاظ ، وفي المعاني .
فأما اشتباه الألفاظ ، فكل ما أدى إلى تحريف النصوص ، وهو التأويل الفاسد .
وأما اشتباه المعاني ، فكل ما أدى إلى تعطيل الحقائق ، وهو القياس الفاسد .
فأنفع الأسئلة هنا ما كان طريقا إلى معرفة محكمات النصوص الشرعية .
وكشف المجهول نوعان :
ما تطلب معرفته ، وما لا تطلب .
وما تطلب معرفته نوعان : واجب ، ومستحب .
والواجب نوعان : عيني ، وكفائي .
والعيني : ما لزم كل واحد معرفته - بحسبه - .
وضابطه : أنه ما تتوقف عليه صحة عقائد كل أحد وعباداته ومعاملاته الواجبة .
والكفائي : ما تطالب الأمة بإيجاده بقيام من يكفي في تحقيقه .
وأما المستحب فكل ما يطلب تعلمه مما عدا ذلك .
وأما ما لا تطلب معرفته من المجهول فنوعان :
المسكوت عنه في الشريعة ، والذي لا يعني العبد .
فأما المسكوت عنه ، فهو كل ما لا ينبني على معرفته حكم شرعي ولا يعين على ذلك ، فهو من باب العلم الذي لا ينفع والجهل الذي لا يضر .
وأما ما لا يعني العبد ، فهو كل ما لا ينبني عليه زيادة في علم العبد ولا عمله ولا يكون عونا على ذلك ، فهو من باب التنطع والتشبع والحمق والتعمق .
وأما الطريق الثاني / الطلب فنوعان : بالقلم ، وبالسماع .
فأما القلم : فنوعان الكتابة ، والقراءة .
والكتابة نوعان : لتحصيل العلم ، ولتثبيته ونمائه .
فأما تحصيله فبكتابة أصوله ومختصراته في كل فن .
وأما تثبيته ونماؤه فنوعان : تحقيقه وتحريره ، وجمع شوارده وفوائده .
فأما تحقيقه وتحريره ، فبكتابة الأبحاث العلمية ولو لنفسه ، وتأليف الكتب المحررة من المتأهل لذلك .
وأما جمع شوارده وفوائده ، فبمصاحبة القلم وملازمته في الطلب يصيد به كل ما يعن له مما يرى منفعته ، ولا يتكل على الحافظة إلا محروم .
وأما القراءة فضربان : لحفظ العلم ، ولفهمه .
فأما حفظ العلم فبقراءة المختصرات والمتون في كل فن بحسبه .
وأما فهمه فبقراءة الشروح والتعليقات عليها .
والضابط في الأمرين شيئان :
الأول / أن يكون المتن أو شرحه للراسخين في الفن ؛ لأنهم أقعد بالصنعة .
الثاني / أن يكون المتن في الغالب مخدوما لا مغمورا لأن خدمته تحفظ عليك الوقت وتجنبك الزلل لوقوف من سبقوك على أخطائه .
وأما السماع فضربان : مشافهة ، وبواسطة .
فأما المشافهة فضابطها أمران :
الأول / أن تأخذ العلم عن متمكن في الفن سلفيا ورعا .
الثاني / أن تأخذ منه ما تحتاج إليه ، لتجنب ضياع وقته ووقتك .
وأما الواسطة فبالاستفادة من الوسائل الحديثة الصوتي منها والمرئي .
وأنفع الطرق في ذلك وضع جدول تنظم فيه وقتك لتجنب آفة عدم الإلزام في هذا النوع من السماع إلا من الوازع الديني .
وأما تبليغ العلم فضربان : تعليمه ونشره ، ورفع ما عارضه .
فأما تعليمه ونشره فنوعان : بالقول ، وبالسمت .
فأما تعليمه بالقول فنوعان : تأصيله ، وتعميمه .
فأما تأصيله أي بجعل أصوله راسخة في الأمة فيكون بإقامة الدروس العلمية ، وبناء المدارس الشرعية .
وأما تعميمه - أي بجعله مبذولا في كل الأمة - فيكون بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - في الخطابة والموعظة والفتوى لمن هو أهل لذلك .
وضابط النوعين : أن يكون بالطريقة الربانية ، وقوامها بأمرين :
الأول / أن يكون المنطلق في التعليم من مقاصد الشريعة التي هي بمنزلة الغذاء للقلب .
الثاني / أن تبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره .
وأما نشره بالسمت فيكون بأمرين :
الأول / التحلي بالأخلاق الفاضلة .
الثاني / مطابقة العمل القول ما أمكن ، فإن حصل تقصير وهو حاصل لا محالة أزال آثاره بالتوبة والاستغفار .
وأما رفع ما عرضه فضربان : رفع الجهل المجرد ، ورفع الهوى .
فأما رفع الجهل المجرد فيكون بالحكمة وهي تعليم الحق بالدليل .
وضابطه خلو الجاهل من المعارض مع حبه للحق .
وأما رفع الهَوَى ، فنوعان : رفع الشهوة الغوية ، ورفع الشبهة المضلة .
فأما رفع الشهوة الغوية فيكون بالموعظة الحسنة ، وهي اقتران تعليم الحق بالدليل مع الترغيب والترهيب . وعمدة الباب الإيمان باليوم الآخر .
والضابط فيه أن يكون المبتلى بالشهوة المانعة من الانقياد محبا للحق .
وأما رفع الشبهة المضلة فيكون بالمجادلة بالتي هي أحسن ، وتمامها بأمرين :
الأول / استعمال أحسن الألفاظ في بيان الحق مع لين الخطاب .
الثاني / اعتماد الحجاج القرآني القائم على الوحي والفطرة العقلية .
فالخير كله في العلم والعمل والتعليم ، وهو حقيقة الفقه في الدين ، كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : " من يرد الله به خيرا يفقه في الدين " .
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
***