لقد راعني ما قرأته في تصدير كتبه الأستاذ رجاء النقاش منذ سنوات لمختاراته من كتاب (وحي القلم) الذي أصدرته الهيئة العامة للكتاب ضمن مشروع مكتبة الأسرة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي حيث كشف حقائق مؤلمة تؤكد ما ذهبنا إليه في هذه المقدمة وما كتبناه سابقًا ، إذ يشير - كان ذلك في عام 1995 - إلى أنَّ الحياة الأدبية العربية بدأت تكتشف الرافعي من جديد بعد أن أهملته ما يقرب من ستين سنة متصلة ، وبعد أن نظرت إليه على أنه أديب تقليدي تصعب قراءته؛ لأن كتابته مليئة بالتعقيد والتكلف كما كان يقال عنه !! الآن فقط ، وبعد وفاة الرافعي بثمانية وخمسين عامًا بدأ الأدباء يعودون إلى الرافعي ويعيدون التفكير فيه ويرون أن نظرتهم إليه كانت خاطئة وأن أسرار الجمال في أدبه كانت أكثر بكثير مما توهَّم المتوهمون الذين حكموا عليه بالغموض واتعقيد". ومما يؤسف له أن دور النشر في مصر قد سارت على نفس الطريق في إهمال الرافعي وإعطاء ظهرها له " فلم تنشر له دار مصرية كلمة واحدة منذ ما يقرب من نصف قرن كامل".
ورغم الحملات المنظمة التي لا تزال تشن على الرافعي وأدبه ؛ فإن مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة على الشبكة العنكبوتية قد أعادت للرافعي بعض حقه ؛ إذ سرت عباراته وكلماته في هذا العالم الافتراضي وشاعت بشكل ملحوظ، وأسس بعض القراء عشرات الصفحات والمنتديات باسمه تارة ، وتارة أخرى باسم كتبه ؛ فكشفوا عن لآليء أدبه ودرره في الدين والحياة ، وفي كل يوم يكتسب هذا الرجل أرضًا جديدة بين محبي العربية رغم التعتيم المتعمد حول أدب وشخصيته .
لقد كنت أتوخى مراجعة المقالات وأحرص على تدقيقها وتفسير غوامضها وإضافة بعض ما من شأنه توضيح النص للقاريء الكريم ، وعزو ما ورد فيها من نصوص وأشعار؛ وحاولت جهدي أن أقدم النص كما أراده صاحبه ؛ فصححت مجتهدًا ما تراءى لي من أخطاء ، وضبطت الكلمات في المواضع التي قد تلتبس على القاريء الكريم ، أو في المواطن التي قد تعينه على فهم أفضل مع حرصي على ألا أثقل النص بالحواشي الزائدة التي لا تزيد القاريء إلا خبالاً ، أما الحواشي التي وضعها الرافعي فقد أثبتها كما هي ووضعت اسمه في آخرها ين قوسين هكذا : ( الرافعي ) .
وقد رأيت إيراد المقالات حسب تاريخها من الأقدم إلى الأحدث مع توضيح مناسبتها في الحاشية كلما عنَّ ذلك ؛ وأثبتُّ عددًا من الوثائق والصور النادرة التي تحصلت على كثير منها من ذاكرة مصر المعاصرة بمكتبة الإسكندرية .
فلهم مني خالص الشكر والتقدير ، وعساي أن أكون قد أصبت الطريق الصحيح في التعامل مع هذه الأعمال التي تقدم للقاريء أول مرة.
إن تراث الرافعي المجهول الذي لم يصل إلى القاريء ليس محدودًا كما يظن خطأ ، ولا هو قليل الفائدة ، فقد صاحبنا مكثرًا من الكتابة لا يتردد في تلبية أي دعوة للكتابة مهما كان حجم المجلة أو الصحيفة ، ولست أزعم أني قد جمعت كل مجهولاته بحيث لم أترك شاردة ولا واردة ؛ بل هناك أعمال أخرى كثيرة بتوقيعه أو باسم وهمي كما كان شأنه في كثير من المقالات ، فضلا عن خزائن ورثته وورثة أصدقائه وأقربائه وتلاميذه الذين كانت له معهم مراسلات .
وبعد ؛ فرغم كل العنت الذي لاقيته مذ ولجت سبيل الرافعي الشائكة هذه حتى بلغت معه السعي في هذا الكتاب الذي تقدمه ( المجلة العربية ) للقاريء الكريم مشكورة ؛ فقد كنت حريصًا على ألا أتكاسل أو أتوانى عن تأدية هذا العمل الشاق؛ إذ إن أدب هذا الرجل الصلب جزء أصيل لا يتجزأ من هوية هذه الأمة ، وبعث هذا التراث والمحافظة عليه أمر واجب تحتمه الظروف الراهنة القاسية التي نصارع فيها من أجل البقاء، والغارة على ثوابتنا قائمة ومستعرة ؛ فهل سنفيد من ماضينا لحاضرنا ومستقبلنا ؛ أم سنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا ؟!
وليد عبد الماجد كساب
ثغر الإسكندرية - سيدي بشر
الأحد 11 ذو القعدة 1437 هـ
14 أغسطس 2016 م