العلامة المربي القدوة عبد الرحمن الباني (يرحمه الله)


(1335-1432 هـ)

محمد زياد التكلة






توفي قبيل فجر الخميس 9/6/1432هـ في الرياض الشيخ العلامة الزاهد، مؤسس علم التربية الإسلامية، التقي النقي الخفي، الشيخ الصالح القدوة المعمر، أبو أسامة، عبد الرحمن بن محمد توفيق الباني الحسني الدمشقي، نزيل الرياض، والمتوفى بها، إثر مرض عضال، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وأخلف على المسلمين من أمثاله.

أهكذا البدر تخفي نوره الحفر


ويفقد العلم لا عين ولا أثر



خبت مصابيح كنا نستضيء بها




وطوحت للمغيب الأنجم الزهر
واستحكمت غربة الإسلام وانكسفت




شمس العلوم التي يهدي بها البشر
تخرم الصالحون المقتدى بهم




وقام منهم مقام المبتدأ الخبر

فلست تسمع إلا "كان ثم مضى"




ويلحق الفارط الباقي كما غبروا
والناس في سكرة من خمر جهلهم




والصحو في عسكر الأموات لو شعروا
نلهو بزخرف هذا العيش من سفه



لهو المنبت عودًا ما له ثمر



نسب الشيخ وأسرته

ينتسب لأسرة دمشقية عريقة، معروفة بالعلم والأدب، وتعدد العلماء والفضلاء في الأسرة، ولعل أشهرهم العلامة السلفي الشيخ محمد سعيد الباني (ت1351) مؤلف "عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق"، وهو عم شيخنا، ومنهم الشيخ محمد توفيق الباني (ت 1338) – والد شيخنا – وكان من أهل العلم المشتغلين بالتجارة، وكان قد خلف والده (جد الشيخ) معيدًا لدرس البخاري تحت قبة النسر في الجامع الأموي، من أيام جده لأمه الشيخ مسلم الكزبري، إلى أيام بدر الدين الحسني، ووالدة شيخنا إحدى الفضليات الصالحات، واسمها فاطمة القاري.
الدراسة وطلب العلم

دخل شيخنا المدرسة الجوهرية السفرجلانية، لصاحبها معلم الأجيال في دمشق الشيخ محمد عيد السفرجلاني، واستفاد كثيرًا من توجيهاته ونصائحه، واستفاد أيضاً من مدرسيها، وعلى رأسهم الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، والشيخ سعيد البرهاني، وكان الطلبة يدرسون فيها اليوم كاملاً، ويصلون الظهرين في جامعها، ويأتون بغذائهم في السفرطاس (حافظة الطعام).
ثم أكمل دراسته في مكتب عنبر، ثم في مدرسة جودة الهاشمي، وكان منذ ذلك الوقت يناديه المدرسون: "السيد الباني"، احترامًا لشخصيته وعلمه وسلوكه، وكانوا يقدمونه فيها، ومن أساتذته الذين تأثر بهم الشيخ عبد القادر المبارك، والشيخ محمد سليم الجندي، والشاعر محمد البزم.
ثم دخل معهد المعلمين، وكان الأول على دفعته، وكتب فيه بحثًا عن ابن خلدون، وآخر عن أسلوب التربية، وحصل شهادة أهلية التعليم سنة 1362 (يوافقها 1943م).
ودرس بعد تخرجه في مدرسة التهذيب قرب جامع الحنابلة في الصالحية، ومدرسة سعادة الأبناء التي أنشأها الشيخ علي الدقر، ومدرسة عمر بن عبد العزيز في حي عرنوس، درس فيها الصف الأول.
الانتقال إلى السعودية

بقي شيخنا رأس المناهج الشرعية في سورية نحو عشر سنين، وكانت سمعته وجهوده العلمية وصلت لكبار العلماء في السعودية، فحاول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ضمه للجامعة الإسلامية أوائل تأسيسها، عندما سعى لاستقطاب كبار علماء العالم الإسلامي للجامعة، ولكن اعتذر شيخنا بأن بقاءه في المناهج الشرعية أكثر نفعًا، وفي وقت مقارب استدعاه وزير المعارف في السعودية معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ رحمه الله للعمل في الوزارة، وأرسل له الشيخ عبد العزيز المسند رحمه الله –وهو حدثني بذلك- فرأى شيخنا أن هناك مجالاً جديدًا رحبًا لخدمة الإسلام عبر المناهج في السعودية، إضافة للتضييق الذي حصل له في بلاده، فانتقل إلى الرياض سنة 1383 تقريبًا (نحو سنة 1964م)، وحدثني معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي- أمين الجامعة الإسلامية آنذاك- قال: كنا حريصين جدًا على قدوم الشيخ الباني للجامعة، ولكن "خطفته منا" وزارة المعارف!
وبانتقاله للسعودية صار شيخنا من أركان التعليم الحديث فيها، فعمل في وزارة المعارف، وفي إدارة معاهد إعداد المعلمين، وأيضًا كان عضوًا في لجنة المراجعة النهائية للموسوعة العربية العالمية التي صدرت في ثلاثين مجلدًا برعاية ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، وعضوًا في لجان جائزة الملك فيصل العالمية ثلاث سنوات.
وشارك في عدد من المؤتمرات العلمية والإسلامية داخل المملكة العربية السعودية وخارجها

من صفات شيخنا الجليل

الإخلاص:

كل من يعرف الشيخ يعلم أنه كان مبتعدًا تمامًا عن الأضواء، ويهرب منها، ويعمل أعمالاً كبيرة في صمت، مع كره بالغ للثناء، لقد عمل الشيخ أكثر من ستة عقود في مجال التربية والتوجيه والتعليم مشرفًا ومؤسسًا ومدرسًا، ومع ذلك ما كان يتكلم عن أعماله إلا نادرًا، وكم رأيناه يكره الثناء ويحرج من ثناء بعض الكبار عليه إذا اجتمعوا، ومنها مجلس عامر في الرياض سنة 1423 تقريبًا لما زار الشيخان الباني والصباغ شيخنا المحدث عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله، فطفق يثني على الشيخ الباني، ويعدد لنا فضائله وكلام بعضهم عنه، والشيخ الباني يشير له بيديه أن توقف!
الأدب:

إن الشيخ هو الأخلاق الفاضلة إذا تجسدت! وسمو أخلاقه موضع إجماع، وسمعت من جمع قولهم: إنهم لم يروا مثل الشيخ في تواضعه وأخلاقه، وأخباره في هذا كثيرة جدًا.
ومنها أنه كان إذا خرج من غرفة الضيوف ثم أراد الدخول ثانية ينقر الباب بلطف، ثم يدخل، مع أنه في بيته!
لطائف:

كان شيخنا في حديثه على طريقة شيخه الطنطاوي في كثرة الاستطراد وتشعب الفوائد، حتى يكاد يذهب الموضوع الأصلي، ولكن كان له من يذكره، لاسيما صاحبه المخلص الدكتور عبد الله حجازي.
علمه ومؤلفاته

انشغل شيخنا بالتربية وتأسيس المناهج والتدريس عن التأليف، وصدر له "المدخل إلى التربية في ضوء الإسلام"، و"الفيلم القرآني"، وصدرا بإلحاح من وقف عليهما، وله جملة مقالات ومقدمات مفيدة للغاية، أشهرها مقدمة كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، واستوفى تراثه أخي الشيخ أيمن ذو الغني في ترجمته.
وشارك في تحقيق وتصحيح مشكاة المصابيح، وذكر أنه شارك في تصحيح مختصر الخرقي، وكان له دور كبير في المكتب الإسلامي في توجيه بعض الكتب، وفي غيره، وكان شيخنا السبب في تأليف الإمام الألباني كتبه آداب الزفاف، وأحكام الجنائز، وجلباب المرأة المسلمة.
وهناك عدد من المؤلفات والترجمات والدراسات صدرت بسببه المباشر، وتجد شكره في مقدمات عدد من الكتاب لإمدادهم بالمراجع والفوائد، ومنهم علامة التربية عبد الرحمن النحلاوي في كتابه أصول التربية الإسلامية، والشيخ محمد عجاج الخطيب في كتابه لمحات في المكتبة (ص 130).
من ثناء أهل العلم عليه


وأثنى عليه الشيخ علي الطنطاوي في مواضع من كتابه الذكريات وغيره، وعده في (5/ 266): أحد علماء العربية الذين حفظ الله بهم العربية في الشام.
وقال في تقديمه لكتاب الشيخ الصباغ لمحات في علوم القرآن (ص 13 ): "هو العالم العامل الصالح الأستاذ عبد الرحمن الباني".
وقال العلامة محب الدين الخطيب في تقديم آداب الزفاف: "أرجوا الله عز وجل أن يأخذ بيد أخي المؤمن المجاهد الأستاذ السيد عبد الرحمن الباني في جميع مراحل حياته، حتى يحقق له آماله ملتزمًا سنة الإسلام في ذلك ما استطاع".
وقال الأستاذ عصام العطار في رثائه للفقيد (منشور): "لقد كان كل جانب من جوانب حياته وجهاده وعمله كافيًا ليكون به عظيمًا بين العظماء، ولكنه لم يكن يحب، بل لم يكن يقبل، أن يعلن أو يعلن عن عمله، بل ربما أعطى حصيلة جهوده العلمية والفكرية لآخرين لتظهر بأسمائهم إذا رأى ذلك أنفع للإسلام والمسلمين، وأرجى للنجاح وتحقيق المراد، قلت مرة – وما أزال أقول-: أنا لا أعرف على كثرة من عرفت في عالمنا وعصرنا من الناس أتقى من عبد الرحمن الباني، نعم عرفت قليلاً مثله، ولكنني لم أعرف أتقى منه... ولقد كان من سعادتي أني عرفته في مختلف جوانب حياته ونشاطه، وكان بيننا من الأخوة والصداقة والمحبة والثقة المتبادلة ما ندر نظيره هذه الأيام، وإني لأشهد شهادة العارف الخبير أنه –ولا أزكي على الله أحدًا- كان من أخلص المسلمين، وأبصرهم وأحسنهم خلقًا وعملاً في عالمنا وعصرنا الذي عشنا وما نزال نعيش فيه".