«سنة أولى التزام»



مصطفى دياب




الحمد...لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم وبعد، فهل تذكر أولى أيام التزامك؟ هل تذكر حرارة الالتزام؟ هل تذكر فرحك بطاعة تُؤديها؟ ومعصية تتركها؟ هل تذكر الآيات التي تحفظها فتفرح بها وتجتهد لحفظ غيرها؟ هل تذكر أذكارك واستغفارك وصلاة قيامك وصيام أيامك؟ هل تذكر أبواب البر التي كنت تسأل عنها وتحاول أن تفتحها وتدخلها؟.

هل تذكر حرصك على طلب العلم والعمل به والدعوة إليه؟ هل تذكر حلمك أن تكون أحد أفراد فريق العمل لمجلة مسجدك أو خدمة منطقتك أو أحد قطاعات دعوتك؟ هل تذكر هذا الحلم؟ وهل تذكر كذلك أن الله مَنَّ عليك وأصبحت أحد أفراد فريق العمل في دعوتك وأصبحت مؤثراً؟ ثم ماذا؟ لقد طالت الأيام ومرت الأشهر والأعوام وأنت وكأنك اعتدت الطاعات ومللت كثيراً منها ولعلك لم تُنصت لصوت النبي صلى الله عليه وسلم : «عليكم أيها الناس من العمل ما تطيقون؛ فإن الله تعالى لا يَملُّ حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»، قال تعالى: {والذين هم على صلاتهم دائمون}، مواظبون على أدائها لا يَخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ربما يكون مَلَلُكَ لنسيان الأجر المترتب على العمل (هان سهر الحراس لَمَّا علموا أن أصواتهم بمسامع الملك)، فكأنك نسيت ذلك أو لعل الشيطان يتغلب عليك أحياناً ويفوز عليك مرة بعد أخرى فتسقط في بئر الفتور والتقصير الذي تظن أنك لا ترى له سبباً ونسيت ذنوبك فمللت، ونسيت أن الله لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه، ومن نعمه أن يُبَصِّرُكَ بتقصيرك وتفريطك ويُيَّسر لك التوبة والعودة والاستقامة على أمره, لقد حبَبَّ الله إليك العمل الصالح فعملت مع إخوانك، بل وزين هذا العمل لك فأصبح من أحب الأعمال إليك وأرجاها قال تعالى: {وحبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}.

وهذه نعمة أن يستعملك الله ولا يستبدلك فإذا بك تنتقي من الأعمال والتكاليف ما تشاء، بل ولا تريد أن تكون جندياً في مكان محدد كي لا يسألك أحد ولا يحاسبك أحد لأنك قد ترى أن أحدا لا يرتقي أن يحاسبك ويَسِّول لك الشيطان أنك ستكون جندياً في كل ميدان، وأنك بمقدورك أن تنفع الأمة من فوق كل منبر ومن أي مكان دون أن تكون حبيس قيد أدبّي أو عملٍ جماعيٍ ولعلك رأيت مع الانفتاح أخطاءً فيما تظن لبعض العاملين السابقين فيحملك ذلك على ترك الكيان وأنت لا تدري أنك في نعمة لكنك مَللتَ هذه النعمة وأنت لا تدري، ويقول بن القيم: «وليس على العبد أضر من مَلَلِهِ لنعم الله فإنه لا يراها نعمة ولا يشكره عليها ولا يفرح بها بل يسخطها ويشكوها ويَعُدُّها مصيبة, هذا وهي من أعظم نعم الله عليه»، فقد يرى أحدنا في العمل ما يحمله على نقده وهدمه ويعد التزامه بهذا العمل مضيعة لوقته النفيس وعمره الغالي ولا يدري المسكين أن عمله هذا من أعظم نعم الله عليه, يقول ابن القيم: «فكم سعت إلى أحدهم من نعمةٍ وهو ساعٍ في ردها بجهده, وكم وصلت إليه وهو ساعٍ في دفعها وزوالها بظلمه وجهله» قال تعالى: {ذلك بأن الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.

أخي الحبيب: كم من باب للخير فُتِحَ أمامك لتكون من الداخلين، وكم من عملٍ كنت تقوم به وحَقَّره لك الشيطان وأبدى لك سوءاته وشاركته في إضرام النار فيه وفي ذلك خُسرانٌ لك وأنت لا تدري قال ابن القيم: «فليس للنعم أعدى من نفس العبد, فهو مع عدوه ظهيراً على نفسه, فعدوه يطرح النار في نعمه بطرح الشبهة أو السلبية على هذه النعم وهو ينفخ فيها, فهو الذي مكّنهُ من طرح النار ثم أعانهُ بالنفخ يتذكر هو للعمل سلبيات أكثر، فإذا اشتد ضرامُها استغاث من الحريق».

أخي الحبيب: لا تنفخ النار في نعم الله عليك فتُحرق ثم تندم على فواتها وأنت حارقها، من حقك أن تنصح وأن تنقد نقداً بناءً حرصاً منك على مؤسستك وبقائها ونموها، ولكن اعرف مكانك ودورك في القرار فإن قائدك غالباً يرى ما لا ترى ويحسب أموراً قد لا تنتبه أنت لها.

فانصح والتزم بآداب النصح والنقد، وحافظ على النعمة التي أنت فيها فقد يكون غيرك صاحب القرار والكل يعمل ابتغاء مرضاة الله وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.