معالم الحكمة في أساليب الدعوة
صالح بن عبد اللّه بن حميد
يقصد بالأساليب هنا: ما يتعاطاه رجل الدعوة، من طرق وصيغ يتوصل من خلالها إلى إبلاغ الحق إلى الناس، وتبصيرهم بما ينفعهم ودفع ما يضرهم.
وهذه الأساليب في جملتها قولية كلامية، أو تعامل مباشر مع المدعوين في ترفق ولين، وغض عن الهفوات، وسلوك نهجي الترغيب والترهيب، والشدة واللين.
وهذا شيء من بسط لهذه الأساليب:
المعلم الأول: القول الحسن:
إذا أحكم صاحب الدعوة قوله وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما، يقول الله - عز وجل -: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83].
ويقول طلحة بن عمر: "قلت لعطاء: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة؛ فأقول لهم بعض القول الغليظ؟ فقال: لا تفعل؛ يقول الله - تعالى -: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83]". يقول عطاء: "فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي!".
وأورد القرطبي في تفسيره على هذه الآية حديثا عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((يا عائشة! لا تكوني فحاشة؛ فإن الفحش لو كان رجلاً لكان رجل سوء))[1].
ويعلق القرطبي - رحمه الله - فيقول: "وهذا حض على مكارم الأخلاق؛ فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطا طلقاً مع البر والفاجر، والقريب والغريب، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه...إلخ"[2].
والقول يكون حسنا وحكمة بقدر ما يعتني بأصول الكلام، ويبتعد عن فضوله، يتحرك بنبضات القلب الحي، وهواجس النفس الصادقة.
ويحسن الكلام حين يكون قصداً عدلاً، ليس بالإيجاز المخل ولا الطويل الممل، وقد كانت خطبه - عليه الصلاة والسلام - قصداً، كما في الحديث الصحيح عند مسلم من رواية جابر بن سمرة - رضي الله عنه -،
وتأملوا في هذا الحوار الهادئ، والقول الحسن في الجدال الحسن، فهذا حصين الخزاعي والد عمران، كانت قريش تعظمه وتجله، فطلبت منه أن يكلم محمداً - صلى الله عليه وسلم - في آلهتها؛ فقد كان محمد يذكرها ويسبها، فجاء حصين ومعه قريش حتى جلسوا قريباً من باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودخل حصين، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أوسعوا للشيخ))، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا، فقال: ((يا حصين! كم تعبد من آله؟))، قال: سبعاً في الأرض، وواحداً في السماء، فقال: ((فإذا أصابك الضر فمن تدعو؟))، قال: الذي في السماء، قال: ((فإذا هلك المال من تدعو؟))، قال: الذي في السماء، قال: ((يستجيب لك وحده وتشرك معه؟، يا حصين! أسلم تسلم))، فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه.
فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شيعوه إلى منزله))[3].
عجباً! دخل كافراً ناقماً منتقماً، فخرج مسلماً صادقاً، ليت شعري كيف كان حال قريش مع صاحبها ووجيهها!!.
ويدخل في ذلك: القول اللين، الذي يستثير النوازع البشرية ووشائج القربى، وعبارات الحنو والشفقة، فإبراهيم - عليه السلام - ينادي أباه بكلمات شفوقة، (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 43 - 47].
وكل نبي يقول لقومه: يا قوم! تذكيرا بأواصر القربى ومواطن الحب والشفقة.
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يقول لقومه في كلمة رقيقة في دعوة رفيقة: ((إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غششت الناس جميعاً ما غششتكم)).
المعلم الثاني: التصريح والتعريض:
ومن القول الحسن الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح؛ فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد.
أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة.
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه أيقوله له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن تعرض.
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها، كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مخاطبة أصحابه: ((ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا)).
المعلم الثالث: النصيحة لا الفضيحة:
أردت تخصيص النصيحة بالذكر هنا، وإن كانت داخلة في كل ما سبق، بل النصيحة مقصود أعظم في الدعوة، إن لم تكن هي الدعوة كلها.
ولكن المراد هنا الإشارة إلى آداب النصيحة، كمظهر من مظاهر الحكمة في الدعوة، وبخاصة إذا ما حاولنا البعد بالنصيحة عن أن تكون تشهيراً وفضيحة.
يوضح ذلك في ما رمناه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حين يقول: "والنصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة، مراد الناصح بها وجه الله ورضاه، والإحسان إلى خلقه... ".
فهي دعوة إصلاح يجب أن يتمخض فيها الإخلاص لله، مع المحافظة على مشاعر المنصوح، على نحو ما سبق في المعالم السابقة؛ لئلا ينقلب النصح مخاصمة وجدالاً، وشراً ونزاعاً.
يؤكد جانب الدقة في هذا الأمر أن ذكر الإنسان بما يذكره هو على أصل التحريم. وقد قيل لبعض السلف: "أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا".
ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - السيد أن يثرب أمته أي: يلومها على ذنبها - فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب...)) الحديث[4].
يقول الفضيل: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير"، وكانوا يقولون: "من أمر أخاه على رءوس الملأ فقد عيره".
ذلك أن الناصح الصادق ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة، وإخراج أخيه من غوائلها.
وشتان بين من قصده النصيحة، ومن قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى، وكما قالت أم الدرداء: "من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه".
المعلم الربع: أدب التعامل:
كان الكلام فيما سبق تنبيهاً على مواطن الحكمة في القول والمخاطبة، وحسن المجادلة.
وفي هذه الفقرات إشارات إلى بعض ما ينبغي من أدب التعامل مع المدعوين، وبخاصة حينما يرى عليهم ما يستحق التنبيه، ويستوجب الملاحظة والتغيير.
وسوف ينتظم هذا الحديث صوراً من اللين في التعامل، ثم المداراة وإقالة العثرات، ومواطن الترغيب والترهيب.
يتبع