من المنابر إلى المؤسسات
مسفر بن علي القحطاني



تُعدّ المنابر الخطابية في التاريخ الإسلامي العمود الفقري للتواصل الفكري مع المخاطبين، وهي بلا شك مجال للتأثر والتأثير، وقد صنعت المنابر في تاريخها الماضي أمجادًا من العلم والمعرفة، أو ضلالاً من البدع والخرافة، وأحرقت كلمات المنابر دولاً وأشعلت حروبًا، كان فيها دور فرسان الكلمة لا يقل أثرًا عن فرسان السيف في البناء أو الدمار.
وفي عصرنا الحاضر وقد تعدّدت المنابر حتى وصلت إلى بيت الفرد وفي عقر داره؛ فيختار ما يريد ويدع ما يشاء من صنوف لا تنتهي من أشكال الخطب التي يشاهدها في الفضائيات، ويسمعها في المسجلات، ويحاكيها في برامج الإنترنت المتنوعة. ولا يعني هذا أن دور المسجد قد تلاشى من التأثير، ولكن مزاحمة الوسائل الأكثر جذبًا وإثارة قد قلل من شأن المنابر في النفوس والأفكار.
هذه المقدمات السابقة لو أردت إسقاطها على أدبيات الصحوة وميادينها الدعوية فإني أعتقد أن المنابر كانت قبل التسعينيات الميلادية هي المؤثر الوحيد ووسيلة التواصل الأقوى مع الناس، ولذلك كان أبرز رجالات الصحوة هم من الخطباء البلغاء فأخذوا زمام القيادة الدعوية والتفت الجماهير حولهم؛ كونهم المبلغين والواعظين والمرشدين لأوضاع الناس، ثم تغير الزمان وتطورت احتياجات المجتمع، وتزاحمت المؤثرات الفكرية ومنتجات العولمة على عقول الناس ومعتقداتهم، وهؤلاء الخطباء الدعاة هم أنفسهم لا يزالون أصحاب القيادة والتأثير، وبنفس الدور السابق الذي برزوا فيه للناس، وليس هذا نقصاً في قدرهم، ولا تقليلاً من جهدهم وجهادهم، ولكن خطاب الأمس قد لا يكون هو احتياج اليوم، والوعظ والإرشاد أصبح متوفرًا في كل بيت من خلال الفضائيات والأشرطة والإنترنت وغيرها، وهذا من فضل الله -عز وجل- بينما هناك احتياجات معاصرة، وتساؤلات ملحّة تتجاوز حاجة الناس لليقظة العاطفية أو الصحوة الوعظية، إلى حاجتهم للنهوض الذي يتبع اليقظة والصحوة التي تزيل الغفلة؛ من أجل تنمية مجتمعاتهم وفق الشرع الحنيف، وتحويل الخطابات إلى مشاريع ومؤسسات عمل تحارب البطالة والفقر والفساد، والجنوح الخلقي والاستبداد القهري وغيرها من قضايا تستدعي تحويل خطاب المنابر إلى مشاريع جماعية ومؤسسات مدنية تكمّل دور الجهات الرسمية الأخرى في البناء والنهضة.
واعتقد أن عددًا من التجارب الإسلامية الناجحة قد فتحت الباب لتحويل الخطابات المنبرية التي ينتهي أثرها بخروج المصلي من باب الجامع، إلى أن تدخله مرة أخرى إلى باب العمل الاجتماعي والمركز الثقافي والمعهد المهني، لهذا أرى أن المنبر للداعية ليس كل شيء أو منتهى الواجب المعمول، والأعداد الغفيرة التي تشهد معه الخطب ليس دليل نجاح أو إخفاق، فكم غرّت الجماهير أصحابها، وحجبت الهتافات حقيقة الواقع المنظور، والعاقل البصير من جعلها مفتاح التعبير عن الحق، واستكمل بعد أثرها مشروع التغيير في الخلق