اللغات الأخرى في القرآن الكريم وموقف الطبري منها(1)
سعد محمد الكردي
كما تناول كلمة (طور) وكلمة (سيناء أوسينين) لورودهما في عدة آيات كريمة. ففي قوله تعالى (ورفعنا فوقكم الطور)(26).
نقل عن قتادة، وعن مجاهد، وعن ابن زيد أقوالهم، الطور: هو الجبل بالسريانية(27) وفي قوله (وشجرة تخرج من طورِ سيناءَ)(28)، نقل عن الضحاك قوله: الطور: الجبل بالنبطية، ومعنى سيناء: حسنة بالنبطية.(29) وفي قوله تعالى (وطورِ سينينَ)(30)، نقل عن عكرمة قوله: (وطورِ سينين) هو الحسن بلغة الحبشة، يقولون للشيء الحسن: سينا سينا.
قال الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: طور سينين: جبل معروف، لأن الطور هو الجبل ذو النبات فإضافته إلى سينين تعريف له، ولو كان نعتا للطور، كما قال من قال معناه: حسن أو مبارك، لكان الطور منوناً، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير علة تدعو إلى ذلك.(31)
وتناول كلمة (السَّريّ) في قوله تعالى (قد جعل ربّك من تحتك سَريّا)(32)، فنقل عن مجاهد، السّرى: نهر بالسريانية.
وقول سعيد بن جبير، السَّريّ: هو الجدول، النهر الصغير، وهو بالنبطية السَّريّ. وقول الضحاك، السريّ: جدول صغير بالسريانية. قال قتادة: والسّريّ هو الجدول، تسمية أهل الحجاز.
قال الطبري: والسَّريّ معروف من كلام العرب أنه النهر الصغير، ومنه قول لبيد:
فتوسّطا عُرْضَ السَّريِّ وَصَدَّعا ْ * * * * * مسجورةً متجاوراً(33)قلاَّ مها(34)
وتناول كلمة (طه) من قوله تعالى (طه. ما أَنْزَلنَا عليك القرآن لتشقى(35)) فقال: اختُلِف في تأويلها: فقال بعضهم: معناه: يا رجل. وذهب ابن عباس وعكرمة إلى أنها بالنبطية تعني: يا رجل، أو يا إنسان.
وذهب سعيد بن جبير وقتادة إلى أنها تعني بالسريانية: يا رجل.
وقال آخرون: اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو حروف هجاء.
وقال آخرون: هو حروف مقطّعة، كلّ حرف منها يدل على معنى.
قال الطبري: والصواب عندي معناه: يا رجل، لأنها كلمة معروفة في عكٍّ فيما بلغني، وأن معناه فيهم: يارجل، أُنْشِدتُ لمتمم بن نويرة:(36)
هتفت بِطَه في القتالِ فلم يُجِبْ ْ * * * * * فَخِفْتُ عليه أَنْ يكونَ موائِلا
وقال آخر: إن السفاهةَ طهَ من خلائِقِكُمْ * * * * * لا باركَ اللّهُ في القومِ الملاعينِ(37)
فإذا كان ذلك معروفاً فيهم على ما ذكرنا فالواجب أنْ يوجّه تأويله إلى المعروف فيهم من معناه، ولا سيما إذا وافق ذلك تأويل أهم العلم من الصحابة والتابعين فتأويل الكلام إذن: يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.(38)
ظهر من هذه الأمثلة التي سقناها موقفه من الألفاظ الواردة في القرآن وقد وافقت في اللفظ والمعنى ألفاظاً من لغات أجناس الأمم الأخرى، وهو عدم إقراره بوجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، ولذلك جعل كلَّ الألفاظ التي تحدثنا عنها ذات دلالات عربية لأنها مستعملة في كلامهم بهذه الدلالات، بل راح يطبّق عليها قواعد النحو العربي -كما ظهر في أثناء تحليله لكلمتي طور سيناء أو سينين- إيماناً منه بأنها من كلامهم لأنها مستعملة فيهم بهذه المعاني، وهذا ما جعل موقفه من مسألة الدخيل واضحاً بوجهه النظري والتطبيقي، تمشياً مع مذهبه الذي حدّده في مقدمة تفسيره المطولة، وهو عدم إقراره بوجود ألفاظ غير عربية في القرآن الكريم، ولذلك رأيناه يجعل دلالة كثير من الكلمات -التي أثبت علم اللغة الحديث بدراساته التأصيلية أنها دخيلة غير عربية -ذات أصل عربي مثل الإبلاس (في تفسير معنى إيليس) والسجيِّل والأوّاه، والفاسق، والطور، والمسيح، وغيرها من الكلمات.
ويلاحظ أن الأئمة الذين نقل عنهم الطبري معاني هذه الألفاظ الدخيلة في لغتها الأصلية كانوا على معرفة بلغات الأمم المجاورة لهم لكنهم اكتفوا بالإشارة إلى أصول هذه الألفاظ غير العربية، ولم يقبلوا على البحث فيها معتمدين على التحليل الذي يؤدي بهم إلى الوصول إلى القوانين العامة أو استخلاص الأحكام، كما هو مأمول من مثل هذا اللون من البحث. ولم يهدفوا من دراسة الدخيل إلى إظهار قضية التبادل اللغوي بين اللغات، أو البرهنة على صلتها بعضها ببعض، وما لتلك الصلات والألفاظ الدخيلة من آثار سلبية أو إيجابية في اللغة التي تأخذها، ولكن على الرغم من كل ذلك تبقى لإشارتهم تلك إلى دلالات تلك الألفاظ بلغات الأمم الأخرى، منزلتها العلمية، وخصوصاً إذا نظرنا إليها في ضوء الظرف التاريخي المبكر الذي بحثت فيه، والذي لم يعرف البحوث اللغوية المقارنة، ولا البحوث التأصيلية، ولم يعرف من أدوات البحث ووسائله وطرائقه مايعرفه علماء اليوم، ولو وجد من تابعهم في عملهم هذا، لكان في صنيعهم وصنيع من خلفهم فوائد جمّة، وخير عميم، يصيبه الباحثون المهتمون بالدراسات اللغوية المقارنة والتأصيلية والتقابلية.
ولعل موقف الطبري هذا من مسألة الدخيل ناتج من عدم معرفته الصحيحة باللغات السامية كالعبرية والسريانية...، وغيرها من لغات الأمم الأخرى المجاورة للعرب كالفارسية والرومية، مما جعله غير موفق في رد كثير من الكلمات الدخيلة إلى أصولها الأجنبية.
ولكن على الرغم من كل ذلك تعد جهود الطبري في أصل الدلالة حلقة مبكرة من حلقات اهتمام العلماء العرب بهذا الموضوع، أراد من خلال ذلك أن يكشف الستار عن المعنى الأصلي لكثير من ألفاظ القرآن الكريم وأن يبين أن دلالاتها عربية الأصل على الرغم من اتفاقها في اللفظ والمعنى مع ألفاظ أجناس الأمم الأخرى، وعمله هذا لم يكن مقصوداً لذاته، بل جاء على شكل ظواهر لغوية نثرها في تفسير لآيات الذكر الحكيم، لكنها تعد إسهاماً في التحليل الدلالي لبنية اللغة، وترمي إلى استكناه دلالة الكلمة والوقوف على أصولها وصفاً وتطبيقاً.
المصادر والمراجع:
1- أبحاث في اللغة والأدب، د. مسعود بوبو، دار شمأل للطباعة والنشر، دمشق- 1994
2- الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، المطبعة الأزهرية، القاهرة -1318هـ.
3- أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج، د. مسعود بوبو، وزارة الثقافة دمشق - 1982م.
4- الأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، طبعة دار الكتب، بيروت- 1960.
5-تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1349هـ= 1931م.
6- تفسير الطبري= (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري، ط2، شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1954-1958م وهي المقصودة بالرمز (ح).
7-تفسير الطبري = (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) لابن جرير الطبري حققه وعلق حواشيه محمود شاكر راجعه وخرج أحاديثه أحمد شاكر، دار المعارف بمصر، 1955-1969 (طبع منه 16 جزءاً) وهي المقصودة بالرمز (ش).
8- التنبيه والإشراف، للمسعودي، تحقيق الصاوي، مصر1938.
9- الخصائص، لابن جني، حققه محمد علي النجار، دار الهدى، بيروت 1952م.
10- ديوان لبيد بن ربيعة العامري، دار القاموس الحديث، بيروت (بلا تاريخ).
11- طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، حققه محمود شاكر، دار المعارف بمصر- 1952م.
13- طبقات المفسرين: طبعة ليدن 1829هـ.
14- طبقات المفسرين، للداودي، حققه عمر علي عمر، مركز تحقيق التراث بدار الكتب، ط1- 1392هـ = 1972م.
15- فتوح البلدان، للبلاذري، طبعة مصر -1901م.
16- كتاب المصاحف، للسجستاني (عبد الله بن سليمان بن الأشعث)، مصر - 1936م.
17- لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، ط1، حيدر آباد الدكن -1331هـ.
18- المزهر في علوم اللغة وأنواعها، حققه محمد جاد المولى وزملاؤه، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي-1958م.
19- مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، د. ناصر الدين الأسد، ط3 دار المعارف بمصر - 1966م.
20- المعارف، لابن قتيبة، تصحيح الصاوي، المطبعة الرحمانية- 1935م.
21- معجم الأدباء، ياقوب الحموي، مطبوعات دار المأمون بمصر (بلا تاريخ)
22- معجم الشعراء (ع-ي ) للمرزبائي، تصحيح وتعليق كرنكو، القاهرة- 1954م.
23- المعرَّب من الكلام الأعجمي للجواليقي، حققه أحمد شاكر، دار الكتب، القاهرة 1361هـ.
(1) محمد بن جرير الطبري ولد بـ (آمل) سنة 224هـ، انصرف إلى طلب العلم منذ نعومة أظفاره في بلده، ثم طوّف في الأمصار الإسلامية فحصّل علوماً كثيرة أهلته لأن يصبح من كبار أعلام الثقافة العربية الإسلامية ترك لنا كتباً كثيرة أهمها (تاريخ الرسل والملوك) وتفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) توفي سنة 310هـ (ينظر: تاريخ بغداد: 2/162، ومعجم الأدباء: 18/40 وما بعدها، ولسان الميزان: 5/100، وطبقات الشافعية الكبرى: 2/135، وطبقات المفسرين للسيوطي: 30، طبقات المفسرين للداودي: 2/106، وغيرها....).
(2) فتوح البلدان، للبلاذري: 479، كتاب المصاحف للسجستاني: 3 التنبيه والإشراف للمسعودي: 246 الأغاني: 2/101-102، 3/120، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: 54-55.
(3) المعارف لابن قتنيبة: 192، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية: 56.
(4) أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: 5-6.
(5) أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: 7.
(6) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 115، وأبحاث في اللغة والأدب، د. مسعود بوبو: 98.
(7) أثر الدخيل على العربية الفصحى: 70-71.
(8) ينظر: المعرب للجواليقي: 4-5 والإتقان في علوم القرآن: 1/136-140 والمزهر في علوم اللغة: 1/266- 269.
(9) أبحاث في اللغة والأدب: 111
(10) تفسير الطبري: 1/12ش.
(11) تفسير الطبري: 2/157-159ش وينظر كذلك: 1/509-510ش.
(12) يوسف: 2
(13) الشعراء: 192-195
(14) يُنظر تفسير الطبري: 1/11-13، 17-18، 21ش.
(15) نفسه: 1/14-15ش.
(16) المزهر في علوم اللغة: 1/266-267.
(17) تفسير الطبري: 1/15ش.
(18) نفسه.
(19) الخصائص: 1/114.
(20) الأحزاب: 5
(21) تفسير الطبري: 1/17ش.
(22) البقرة: 40.
قال الجواليقي في المعرب: 221: (قال ابن قتيبة الطور الجبل بالسريانية في حين أنه ينسب لمجاهد (ت 103هـ) تفسير الطبري: 2/158ح
(23) البقرة: 97
(24) التوبة: 10
(25) تفسير الطبري: 2/389-392ش.
(26) البقرة: 63
(27) تفسير الطبري: 2/158-159ح
(28) المؤمنون: 20
(29) تفسير الطبري: 18/13ح.
(30) التين: 2
(31) تفسير الطبري: 30/240-241ح.
(32) مريم: 24.
(33) ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 220، العرض: الناحية. التصديع: التشقيق. السجر: الملء. أي عيناً مسجورةً حذف الموصوف لمّا دلّت عليه الصفة. القلاّم: ضرب من النبت.
(34) تفسير الطبري: 16/69-71ح.
(35) طه: 1-2.
(36) متمم بن نويرة، شاعر مخضرم، من أصحاب المراثي المقدمين. (طبقات فحول الشعراء: 169- 170 معجم الشعراء: 466
(37) لم أقف على قائل البيت وهو في (تفسير الطبري: 16/135-137ح.
(38) تفسير الطبري: 16/135-137ح.