تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين - القاعدة الأولى: البدء بالدعوة إلى التوحيد

    مجلة الفرقان




    إذا تأملنا قصص المرسلين التي وردت في القرآن الكريم، وما حدث لهم مع أممهم، نجد أنهم اتفقوا جميعًا على دعوة واحدة، هي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، واجتناب الشرك، وإن اختلفت شرائعهم، بل إن مسألة الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله هي القضية الأولى التي جاء ذكرها في القرآن الكريم بين الرسل وأممهم، قال الله -تعالى- مخبرًا عما أرسل به الرسل جميعهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال -تعالى-: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ}(الن حل: 2).

    الأصل في دعوة المرسلين

    فجميع الرسل كان أول وأهم ما دعوا إليه هو التوحيد، توحيد الله بالعبادة وتقواه وطاعته وطاعة رسله. وكما ذكر الله عنهم ذلك على سبيل التعميم، فقد ذكر ذلك عن بعضهم على التفصيل: فنوح -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59)، كذلك هود -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 65)، وصالح -عليه السلام- قال لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف:73)، وإبراهيم -عليه السلام- قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} (العنكبوت: 16)، فالدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، وصحة العقيدة وسلامتها هم الأصل الأول في دعوة المرسلين، من لدن نوح إلى محمد -عليهم السلام- وهذا هو الغاية الأولى التي بها تصلح كل شؤون الدنيا والدين، فإذا صحت العقيدة أذعن الناس لله وحده، وأطاعوا رسله، واستقاموا على شرعه على هدى وبصيرة، ومن ثم يصلح كل شيء من أمورهم الدينية والدنيوية.

    أعظم الفضائل

    أعظم الفضائل توحيد الله -تعالى- وتقواه، وأعظم المفاسد الشرك بالله، وهو الظلم العظيم. فكان ذلك أول ما أرسل الله به الرسل، وهكذا كل دعوة لا تقوم على هذا الأساس - في أي زمان وأي مكان - فإنها دعوة قاصرة وناقصة، ويخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معاً؛ لأن هذا أصل عظيم من أصول الدين، متى غفلت عنه الأمم، وقعت في كارثة الشرك والابتداع، نسأل الله السلامة والعافية من ذلك.



    معالم التوحيد في دعوة نوح - عليه السلام-

    بعث الله -تعالى- نوحًا -عليه السلام- يدعو قومه إلى إفراد الله بالعبادة وحده لا شريك له، وألا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالاً ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، وبدأ سيدنا نوح -عليه السلام- بالتوحيد: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأعراف: 59)، فبلغ نبي الله نوح -عليه السلام- رسالة ربه -سبحانه وتعالى- على هدى وبصيرة، ودعا الناس إلى الدين الحق، وقد سلك -عليه السلام- منهجًا قويمًا في دعوته، والمتدبر في الآية يلحظ أنها اشتملت على ثلاثة أصول:

    - الأول: أنه -عليه السلام- أمر قومه بعبادة الله وحده لا شريك له: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، اعبدوا الله الذي لا معبود بحق غيره، «وتذللوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، واتركوا عبادة ما سواه من الأنداد، والآلهة، فإنه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه».

    - الثاني: أنه -عليه السلام- أبطل ما كانوا عليه من الشرك، وعبادة الأصنام من دون الله -تعالى-، وأقر بالتوحيد، فقال لهم: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}. الثالث: خوَّفهم نبي الله نوح -عليه السلام- بعذاب يوم القيامة، إن لم يفعلوا ما يأمرهم به من توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} (هود: 26).

    وهكذا تتحدد الأصول الثلاثة لدعوة نبي الله نوح -عليه السلام- بأنه: لا إله إلا الله، وما دام لا إله غيره، فلا يعبد سواه، وعبادته تكون بطاعة ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، فإن لم نفعل فهناك عذاب عظيم ينتظرنا.



    معالم التوحيد في دعوة إبراهيم - عليه السلام -

    وإبراهيم -عليه السلام- كان المثل والقدوة لكل من أتى بعده، كما أخبر ربنا -سبحانه وتعالى-:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} (الممتحنة:4)؛ إذ كانت دعوته في بواكيرها لأبيه ووصيته بالتوحيد لبنيه، وهذا ما حكاه القرآن في سيرة إبراهيم -عليه السلام-، قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} (41)؛ {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (مريم:41ـ42).

    وكما كانت دعوته لأبيه، كانت نصيحته لبنيه بالتمسك بعقيدة التوحيد، وأن يكونوا على الإسلام، قال -تعالى-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132). فهذه وصيته لبنيه وهي التمسك بالدين، أى دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان، ولا دين عنده غيره، (فَلا تَمُوتُنَّ) أى لا يصادفكم الموت (إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أى مخلصون بالتوحيد محسنون بربكم الظن، وهذا نهى عن الموت في الظاهر وفي الحقيقة عن ترك الإسلام؛ لأن الموت ليس في أيديهم.

    وإن هذا المشهد بين إبراهيم -عليه السلام- وبنيه لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير، فما القضية التي تشغل باله؟ وما الشاغل الذي يطغى على خاطره؟ وما الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ وما التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه، ويحرص على سلامة وصولها إليهم؟ إنها العقيدة، وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل الذي اهتم به إبراهيم -عليه السلام-، ووصى به بنيه.





    معالم التوحيد في دعوة عيسى - عليه السلام -

    كما كان توحيد الله -عزَّ وجل- غاية الأنبياء العظمى، كذلك كان الركيزة الأولى في دعوة عيسى -عليه السلام-، وقد نصَّ القرآن الكريم على أن عقيدة المسيح -عليه السلام- هي التوحيد الكامل، فلا يعبد إلا الله، فالله خالق السماء والأرض وما بينهما فلا شريك له، هذا ما أعلنه المسيح منذ اللحظة الأولى لولادته، وهي أول ما دعا إليه قومه، فلم يشذَّ عيسى -عليه السلام- عن القاعدة العامة التي جاء بها الأنبياء ومن أجلها، فقد دعا قومه إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وكان ذلك أول ما نطق به وهو في المهد قال -تعالى-: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (مريم:30).



    أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه

    وفي هذا القول من عيسى إشارة واضحة إلى أن الذات الوحيدة التي تستحق العبادة هي ذات الله -تعالى- وإلا ما اعترف بعبوديته له، ولما كان بعضهم قد يتوهم من قول عيسى -عليه السلام- أن هذا الإله مخصوص له لا لأحد سواه، نفى القرآن ذلك وأخبر عمَّا جاء على لسانه قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم: 36)، كما أكّد القرآن الكريم أن عيسى -عليه السلام- كان دائم القول والتكرار لهذه الحقيقة بين قومه والتذكير بها فقال -تعالى-: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72)، ويذكر الشيخ رشيد رضا -عند تفسيره لهذه الآية- أن المسيح -عليه السلام- أمرهم بالتوحيد الخالص ودعاهم إليه، وحذَّر من الوقوع في الشرك، وتوعَّدهم عليه ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله -تعالى- هو أن كل من يشرك بالله شيئاً من ملك أو بشر أو كوكب، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك، فإن الله يحرِّم عليه الجنة في الآخرة، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار.





    معالم التوحيد في دعوة هود -عليه السلام-

    وهذا نبي الله هود -عليه السلام- بعد أن دعا قومه إلى إفراد الله -تعالى- بالعبودية وإخلاص الدين له قائلا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, وترك ما كان يعبد آباؤهم من الآلهة الباطلة، فقالوا له متعجبين من دعوته مخبرين له أنه من الجنون أن يطيعوه: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فقال لهم -عليه السلام-: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَن ِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } (الأعراف:71)، وقال لهم أيضا -عليه السلام- معلنا براءته من الشرك: {إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ} (هود).



    معالم التوحيد في دعوة نبينا- صلى الله عليه وسلم -

    إذا تأملنا القرآن الكريم، وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة، نصل إلى حقيقة واضحة كل الوضوح. وهي أن غالب آيات القرآن الكريم جاءت في تقرير عقيدة التوحيد، توحيد الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده لا شريك له، وتثبيت أصول الاعتقاد (الإيمان والإسلام)، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى غالب وقته - بعد النبوة - في تقرير الاعتقاد والدعوة إلى توحيد الله -تعالى- بالعبادة والطاعة، وهذا هو مقتضى (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فالدعوة إلى العقيدة تأصيلاً وتصحيحاً شملت الجزء الأكبر من جهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووقته في عهد النبوة، فكما اهتم - صلى الله عليه وسلم - بإصلاح الدين، كان يعمل على إصلاح دنيا الناس، إنما كان ذلك كله في مرتبة دون الاهتمام بأمر التوحيد وإخلاص الدين لله وحده، وهذا ما يجهله أو يتجاهله المنازع في هذه المسألة.



    تقرير العقيدة وأصولها




    وإذا تأملنا القرآن الكريم، المنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين ومنهاجًا للمسلمين إلى يوم الدين، وجدنا أن أغلبه في تقرير العقيدة وتقرير أصولها، وتحرير العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإن أول شيء نزل به القرآن، وأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم- أن يفعله هو أن يكبر الله -تعالى- ويعظمه وحده، وأن ينذر الناس من الشرك، وأن يتطهر من الآثام والذنوب وغيرها، ويهجر ما هم عليه من عبادة الأصنام، ويصبر على ذلك كله، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}ْ (المدثر: 1-7)، ثم استمر القرآن الكريم، يتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائر العهد المكي، لتثبيت العقيدة وتقريرها، والدعوة إلى إخلاص العبادة والدين لله وحده، واتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم.








    وقد ذكر العلماء أن القرآن: ثلثه أحكام، وثلثه أخبار، وثلثه توحيد. وهذا ما فسروا به قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، فإن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) اشتملت على أعظم التوحيد والتنزيه لله -تعالى. وآيات الأحكام لا تخلو من ذكر للعقيدة وأصول الدين، وذلك من خلال ذكر أسماء الله وصفاته، وطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذكر حكم التشريع... ونحو ذلك، وكذلك آيات الأخبار والقصص أغلبها في الإيمان والاعتقاد، وذلك من خلال أخبار المغيبات والوعيد واليوم الآخر، ونحو ذلك.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    القاعدة الثانية: الصبر على تبليغ الدعوة


    مجلة الفرقان

    لو تأملنا واقع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء من قبله وما ابتلوا به، لوجدنا كثيرا من العبر في اجتهادهم وصبرهم في تبليغ دعوة ربهم إلى أقوامهم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «ولهذا أمر الله الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل المقرون بتبليغ الرسالة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، إذًا: نزل الأمر بالصبر مع أول الأمر بالإبلاغ وبالنذارة، فهما مقترنان معًا.

    ثم قال -رحمه الله-: «فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، والإنذار نفسه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور:48) وقال -تعالى-: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (المزمل:10) وقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف:35) وقال: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (القلم:48) وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النحل:127) وقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (هود:115)».

    معالم الصبر في دعوة نوح عليه السلام

    فهذا نوح -عليه السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، لم يمل من دعوتهم ولم يدع عليهم، ولم ينحرف نحوهم رغم كثرة عدد الكافرين، ورغم أن زوجه وولده كانوا من الكافرين، فلما أعلمه ربه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ}، دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}، وصبر على استهزائهم بدعوته.

    ما آمن معه إلا قليل

    وعاش نوح -عليه السلام- 950 سنة ومع ذلك لم يؤمن به إلا عدد قليل جدًا، يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وما أمن معه إلا قليل}، قيل إن أقصى عدد آمن به هو 80 فردًا فقط طوال الـ 950 سنة، فهي دعوة للصبر والإصرار بلا يأس أو عنف حتى لو لم تحقق أي نتائج، فتخيل صبره وإصراره دون ملل أو عنف طوال هذه المدة.

    أنواع متعددة من الأذى

    صبر نوح -عليه السلام- على أشياء كثيرة، فصبر على مكر قومه وتكذيبهم وأذاهم، مثلما قال القرآن الكريم عنهم {ومكروا مكرًا كبارًا}، وصبر على سخرية قومه يقول الله -سبحانه وتعالى-: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، كما أنه صبر على عدم تحقق أي نتائج {وما آمن معه إلا قليل}، وصبر أيضا على عدم إيمان زوجته وتكذيبها له، ومع ذلك صبر عليها لعلها تؤمن، وصبر أيضا على كفر ابنه، قال الله -تعالى-: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}، كما صبر على فقد ابنه؛ لأنه غرق في الطوفان قال الله -تعالى-: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}.

    الإصرار على الدعوة بكل الوسائل

    ومع كل هذه المحن ظل سيدنا نوح -عليه السلام- مصرًا على دعوة قومه بكل الوسائل الممكنة، يقول الله -تعالى-: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا }، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا}، فهل رأيت إصرارا أكثر من ذلك؟ وكل هذا من غير أي عنف أو تشدد.

    الرغبة في نجاة الجميع

    نبي الله نوح -عليه السلام- لم يصنع قاربا لينجو فيه هو وأهله فقط، لكنه صنع سفينة كبيرة، استمر بناؤها سنين طويلة؛ لأنه يريد إنقاذ أكبر عدد من الناس، فهذه هي نفسية المؤمن المحب للناس، لم يتمنَّ لهم الغرق، بل بنى سفينة وليس قارب نجاة لعلهم ينجون جميعًا.

    معالم الصبر في دعوة إبراهيم عليه السلام

    وكذلك صبر نبي الله إبراهيم -عليه السلام- على دعوة قومه، وكانت الحجة مَنطِقَه الذي يدعوهم به، فحاج ملكهم الذي ادعى أنه إله من دون الله فبهت الذي كفر، وحاج عبّاد الكواكب فغلبهم، وحاج عبّاد الأوثان بالحجة العملية فأقروا أنهم الظالمون، لكن لما غلبهم بالحجة قالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم}، فالعبد الضعيف ينصر إلهه، ضعف الطالب والمطلوب، لكن الله جعل النار بردًا وسلامًا على إبراهيم.

    الصبر على تبليغ الدعوة

    وقد ضرب لنا إبراهيم -عليه السلام- أروع الأمثلة في كيفية الدعوة إلى الله -تعالى- والصبر عليها؛ فنجده بدأ بدعوة أقرب الأقربين منه وهو أبوه آزر، ونجده يخاطب أباه بأرق عبارة، وبألطف إشارة، وبأبلغ بيان، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن ينتهجه القائم بأمر الدعوة كما قال -تعالى-: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)، ثم نجده -عليه السلام- لم يترك وسيلة يتوقع عن طريقها أن يهتدي أبوه وقومه إلا استخدمها، كالدعوة باللين والحكمة ثم بالحجة البالغة عن طريق المشاهدة والمعاينة، ومع ذلك يجب أن يعلم الداعي إلى الله أن الهداية بيد الله وحده كما قال -تعالى-: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (البقرة:272).

    الصبر على المصائب وتحمل الأذى

    وقد لاقى إبراهيم -عليه السلام- في سبيل الدعوة إلى الله -تعالى- الكثير من الأذى من قومه ووالده، فقد هدده والده بالرجم إن لم ينتهِ عن الدعوة، وقام قومه بتسفيهه والتحقير من شأنه، ومع ذلك صبر وواصل مشوار الدعوة حتى أجمع قومه على حرقه في النار، ومع ذلك لم يرجع عن دعوته وإنما صبر وتوكل على الله، وفوض أمره لله -تعالى- وكما في حديث ابن عباسٍ قال: «{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}» (رواه البخاري).



    معالم الصبر في دعوة موسى عليه السلام


    والمتأمل لقصة موسى -عليه السلام- التي تعد أكثر قصص القرآن الكريم ذكرًا؛ حيث ذكر قرابة 136 مرة - يرى قصة نبي صابر محتسب، ابتلي بابتلاءات كثيرة وشديدة، ليس فقط من قوم فرعون، بل من قومه الذين أسلموا معه؛ حيث آذوه في كل مرحلة من مراحل بعثته، رغم تودده إليهم واستعطافهم وتذكيرهم إياهم بما يعلمون من كونه رسولا من الله، وبما شاهدوا من الآيات والمعجزات، قال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}، وشهد له رسول الله بذلك في قصة الأعرابي الذي اتهم رسول الله بعد العدل فقال - صلى الله عليه وسلم -: «رحم الله موسى قد أوذِي بأكثر من هذا فصبر».

    الصبر على الأذى في سبيل الدعوة

    وأوذي كليم الله -عليه السلام- في الله -تعالى- أعظم الأذى؛ فاتهمه فرعون بالسحر لما جاءه بالآيات، وقال: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الشعراء:34), ورماه بالجنون لما عرفه بالله -تعالى- وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء:27)، وادعى أنه مسحور فقال: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} (الإسراء:101)، وزعم أنه في دعوته كذاب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ} (القصص:38), واستصغر فرعون موسى -عليه السلام- وحقّر شأنه وعيره فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}.
    (الزُّخرف:52).


    بلوغ الأذى منتهاه

    وبلغ الأذى بموسى ومن معه منتهاه حين توعدهم فرعون قائلا: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}(الأع راف:127), وموسى -عليه السلام- يثبتهم ويصبرهم ويعدهم بنصر الله -تعالى- فيقول: {اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَك ُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:128-129)، وتآمروا على قتله قبل هجرته -عليه السلام- إلى مدين, وبعد عودته منها بحجة أنه مفسد {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}. (غافر:26).

    الصبر على أذى بني إسرائيل

    واستمر أذى قومه له حتى بعد هلاك فرعون، بتعنت بني إسرائيل، وكثرة سؤالهم واختلافهم، وبطئهم في الامتثال، وعبادتهم للعجل، ورميهم موسى بالسخرية فقالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ} (البقرة:67)، وعصوه في الجهاد وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24)، ولا عجب مع كثرة الأذى الذي ناله وقت فرعون وبعده أن يقول لقومه {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} (الصَّف:5).





    معالم الصبر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم


    أما صبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان أعظم الصبر، حيث صبر - صلى الله عليه وسلم - على أصناف كثيرة من الآلام والمشاقّ والمحن، فقد آذاه المشركون، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، وهو في كل ذلك صابر ثابت محتسب، يبلغ رسالته، ويدعو أمته، كما صبر - صلى الله عليه وسلم - على أذى الـمنافقين.

    صبره - صلى الله عليه وسلم - على المشركين

    صبر - صلى الله عليه وسلم - على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة -عليها السلام- فرفعته من فوق ظهره، ودعت على من صنع»، وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال: فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله -تعالى- وحده لا يشرك به شيئًا».

    صبره - صلى الله عليه وسلم - على أذى المنافقين

    أما المنافقون فقد صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم صبرًا عجيبًا، ومع أنهم كانوا أشد كفراً وأكثر خطراً من المشركين، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخذهم إلا بما ظهر منهم، مع علمه بما هم عليه من النفاق الأكبر، وكان من هديه وسيرته -صلوات الله وسلامه عليه- معهم محاولة إصلاحهم، حتى يكونوا لبنة صالحة في المجتمع، قال ابن القيم: «أما سيرته - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، فإنه أُمر أن يقبل منهم علانيتهم، ويكِل سرائرهم إلى الله، وأن يُجاهدهم بالعلم والحجة»، وقد سلك النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم طريق الإغضاء والعفو عن أخطائهم، يقبل منهم أعذارهم على ضعفها وكذبها، فإذا وقع أحدهم في إساءة أدب معه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحد الذي يجعل الصحابة -رضوان الله عليهم- يطالبونه بقتلهم، إلا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متمسكاً بمنهجية التجاوز والصفح عنهم، وعدم قتل أحد منهم، حتى لا يقال: إن محمداً يقتل أصحابه.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين




    القاعدة الثالثة
    - الرفق واللين والموعظة الحسنة

    مجلة الفرقان

    الدعوة إلى الله هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، والدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس هي دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، وقد تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن التوحيد والصبر بوصفهما معلمين رئيسين من معالم تلك الدعوة، واليوم نكمل ما بدأناه مع قاعدة الرفق واللين والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

    عند تأمل قصص الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- نجد أنهم استعملوا هذا اللفظ (يا قوم) في مخاطبتهم لأقوامهم، فقد جاء ذلك في قصة نوح، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، كما نجد هذا الاستعطاف في دعوة إبراهيم - عليه السلام - لأبيه بقوله: (يا أبت) وتكرارها مرات كثيرة، كما في قوله -سبحانه-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم:41-45)، وهكذا ينبغي للداعية اختيار الألفاظ المناسبة التي تشعر المدعوين بالقرب منه والحرص على مصلحتهم.

    الأصل في منهج الأنبياء

    من هنا فإن الناظر في الشرع الشريف يرى أن خلق الرحمة والرفق واللين هو الأصل في منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- في دعوتهم إلى الله -تعالى- ومعاملتهم مع الخلق، وقد بيَّن الله -عز وجل- لنا في كتابه الكريم وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته وسيرته الشريفة كيف أن الدعوة إلى الله لابد أن تكون برفق وشفقة، بل وخوف على الناس من عدم الإيمان واتباع الوحي المنزل.

    معالم الرفق واللين في دعوة نوح -عليه السلام

    دعا نوح -عليه السلام- قومه ليلاً ونهارًا، وسرًا وجهارًا، مراعاة لأحوال الناس وطبائعهم، {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا}، ففي الآيات الكريمات كشف لحال نوح - عليه السلام - مع قومه في دعوتهم إلى العبادة والتوحيد وأنه واجههم بطريق اللين والرفق، وهذا ما يظهر من حرصه ونصحه، وترغيبهم بأبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود.

    معالم الرفق واللين في دعوة إبراهيم -عليه السلام

    دعا إبراهيم عليه السلام أباه بكل أدب ورفق راجياً هدايته، قال -تعالى-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} قال العلامة السعدي -رحمه الله-: «أي: مستقيما معتدلا وهو: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته في جميع الأحوال، وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى، فإنه لم يقل: «يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل» أو «ليس عندك من العلم شيء» وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما، وأن الذي وصل إلى لم يصل إليك ولم يأتك، فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.

    معالم الرفق واللين في دعوة نبي الله لوط -عليه السلام

    وهذا نبيُّ الله لوط الذي كان قومه يرتكبون أعظم الفاحشة، ومع ذلك لم يعاملهم بالعنف والقسوة، ولم يسلَّ في وجههم سيف الدين، بل راح يعظهم ويقدّم لهم دليلاً ليس دينيًّا، وإنما أمرٌ عقلي مفاده أنّ هذا الفعل لم يسبقكم إليه أحد من قبل، فلو كان فيه جهة حسنة لفعله من سبقكم من الأمم، قال -تعالى-: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ}، وقال -تعالى-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

    معالم الرفق واللين في دعوة موسى -عليه السلام

    أمر الله -تعالى- كليمه موسى -عليه السلام- أن يذهب إلى فرعون الذي تمرد وزاد على الحد في الكفر والفساد والعلو في الأرض، والقهر للضعفاء، حتى إنه ادعى الربوبية والألوهية -قبحه الله- وقد علمه الله كيف يتحاور مع فرعون بالأسلوب اللين والخطاب اللطيف، عسى أن يقبل الحق، فقال -تعالى-: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}.

    وأيضا أمر الله -تعالى- موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون فقال: { اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} قال ابن كثير -رحمه الله-: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي: تمرد وعتا وتكبر على الله وعصاه، {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أُمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، والحاصل أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} الآية (النحل: 125).

    معالم الرفق واللين في دعوة مؤمن آل فرعون

    فهذا مؤمن آل فرعون يقول في دعوته لقومه: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (غافر:30-32)، فأظهر لهم مشاعره الصادقة وخوفه الحقيقي عليهم.

    معالم الرفق واللين في دعوة صالح -عليه السلام

    وهذه دعوة بقية الأنبياء من صالح -عليه السلام- إلى هود -عليه السلام- إلى إبراهيم -عليه السلام-، إلى غيرهم من أنبياء الله الذين ذكرهم القرآن الكريم، ولا ترى في دعوتهم إلا الوعظ والتذكير، والدعوة إلى التأمّل ومراجعة الذات وبيان المعارف الإلهية والنعم التي أنعمها الله على بني البشر، وغيرها من الأساليب التي لا تنطوي إلّا على المحبّة والرفق والخوف على الآخر والنصيحة دون عنف أو قسوة، قال -تعالى-: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وقال -تعالى-: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

    معالم الرفق واللين في دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم

    الرحمة والرأفة كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: هذا خلق محمد - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله به. ويدل لهذا قول الله -تعالى-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}، وقال الله -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} قال ابن كثير -رحمه الله-: «الفظ: الغليظ، والمراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: {غليظ القلب} أي: لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: «إنه رأى صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح «.

    من صور رفقه ولينه - صلى الله عليه وسلم

    ومن صور رفقه ولينه - صلى الله عليه وسلم - من السنة ما جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله؛ إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتّونني لكنني سكت، فلما صلى النبي فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه! فو الله ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (أخرجه مسلم).

    وامتدح الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159)، وقال -عز وجل-: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(التوبة:1 28)، وبلغ من شفقته - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على هداية الناس أن كادت نفسه الشريفة أن تتلف حزنًا على مَن ضل ولم يؤمن حتى واساه الله بقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر:8).
    الشيخ الألباني: الرفق واللين من آداب الدعوة والداعي

    قال الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-: « قال -تعالى-: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، لا شك أن أكبر ضلالة هي التي كان عليها المشركون ومع ذلك فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتلطف معهم ويترفق بهم، إلى أبعد حدود الحسن واللطف، ولعله يحسن بهذه المناسبة أن نُذكّر بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل يهودي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السام عليك يا محمد! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعليك»، فقالت عائشة: فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فسكت، ثم دخل آخر فقال: السام عليك، فقال: «عليك»، فهممت أن أتكلم، فعلمت كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، ثم دخل الثالث فقال: السام عليك، فلم أصبر حتى قلت: وعليك السام وغضب الله ولعنته، إخوان القردة والخنازير، أتحيُّون رسول الله بما لم يحيه؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله لا يُحب الفحش ولا التفحّش، قالوا قولاً فرددنا عليهم، إنّ اليهود قوم حُسدٌ، وإنهم لا يَحْسدُوننا على شيء كما يَحْسُدُوننا على السلام، وعلى آمين».

    الشيخ ابن باز: الرفق واللين أمر للأمة جميعًا

    قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: أما أسلوب الدعوة فبينه الرب -جل وعلا- وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة، هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة، قال -تعالى-: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، هذا الأمر العظيم، وإن كان موجها إلى الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -، فهو أمر للأمَّة جميعًا وإن خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الأصل والأساس، وهو القدوة - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها، ونظامها وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: الآيات والأحاديث: يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان والإيضاح، والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل، والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.

    الشيخ العثيمين: الدعوة باللطف واللين وبيان الحق

    قال الشيخ محمد صالح العثيمين -رحمه الله-: «إننا نحث إخواننا ولا سيما الشباب على أن يحرصوا غاية الحرص على دعوة إخوانهم إلى الحق، وليكن ذلك باللطف واللين وبيان الحق؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» وهذا كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو لا ينطق عن الهوى، فعلى الشباب أن يدعوا إلى الله على بصيرة وعلم بالرفق واللين ولا ييأسوا، قد تحصل من المدعو نفرة في أول الأمر وكراهية، لكن إذا عومل بالتي هي أحسن ودون عنف وباللين، فإن الله -عز وجل- يقول لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا} لماذا؟ {لعله يتذكر أو يخشى} (سورة طه، الآيتان: 43-44)، فهكذا ينبغي على كل داعية إلى الخير أن يقابل الناس باللين وبيان الحق، وأن يصبر على ما يجد من جفوة.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    القاعدة الرابعة
    - التــدرج في الدعـــوة


    مجلة الفرقان

    الدعوة إلى الله هي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، والدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، وقد تفشل بسبب انحرافها عن الصراط المستقيم، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي بالفرقان في استنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، وقد تكلمنا في الحلقتين السابقتين عن التوحيد والصبر بوصفهما معلمين رئيسين من معالم تلك الدعوة، واليوم نكمل ما بدأناه مع قاعدة فقه التدرج في الدعوة.

    سنةٌ ربَّانية إلهية

    إن التدرج سنةٌ ربَّانية إلهية في الرسالات جميعها، منذ نوح -عليه السلام-إلى خاتم الأنبياء والمرسلين -صلى الله عليه وعليهم- أجمعين، ولا عجبَ في ذلك؛ فإن الرسالات جاءت من عند اللهِ الواحد الأحد، والرسل كلهم أرسَلهم الله -تعالى- ليُبلِّغوا للخلقِ رسالة واحدة، هي الإسلام، وليأمروا الناس بعبادةِ الله وحده لا شريك له، ونَبْذ عبادة الأصنام والأنداد، سواء كانت بشرية أم خشبية أم حجرية، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل: 36).

    الدعوة إلى توحيد الله -تعالى

    ويبدأ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - دعوتَه إلى توحيد الله -تعالى- باللِّين وبالرفق، ويُقِيم الأدلة والبراهين، ويدعو بالترغيب قبل الترهيب، ثم ما يلبَثُ الملأُ أصحابُ المصالح الدنيوية بالتكذيب وإلقاء الاتهامات، وقيادة حملات التشكيك والطعن في بشرية الرسول، أو في صدقه، أو في نبل الغاية التي جاء لأجلها، ومع هذا يواجِهُ الرسلُ -صلوات الله عليهم- أجمعين هذه الاتهاماتِ بالصبر وباللين وسَعة الصدر، والأمل في الهداية، وكلُّ هذا بتوجيهٍ من الله -عز وجل.

    فقه التدرج في دعوة نوح -عليه السلام

    أرسل الله -عز وجل- نوحًا -عليه السلام- إلى قومٍ يعبدون أصناما صنعوها لأناس صالحين، ولكن الشيطان خطا بهم خطواته، وزيَّن لهم الأمر شيئًا فشيئًا، وسلك معهم سبيلَ التدرج حتى عبَدوا التماثيل التي صنعوها لهؤلاء الرجال الصالحين، وأصروا على هذا الصنيع، قال -تعالى-: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23)، وقد تعمَّقت جذور الكفر، وتأصَّلت عبادة الأصنام في عقول الناس وقلوبهم بفعل الإضلال الشيطاني؛ ليتبيَّن لنا أن زرع الأفكار وبناء العقائد أو تغييرها لا يمكن أن يتم فجأة أو دفعة واحدة، وإنما يكون على مراحل وبتدرج؛ ولهذا كانت المهمة صعبةً، والظروف قاسية بالنسبة لنوح -عليه السلام-، فلقد ظل يدعو قومه ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ومكث بين قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وقد انقسمت مراحل دعوته إلى الآتي:

    (1) البَدْء بتوحيد الله -عز وجل- ونبذ عبادة الأصنام.

    (2) مواجهة الملأ الذين تصدَّوا لدعوته.

    (3) طول أمد الدعوة؛ مما استدعى تنويع أساليبها وتدرجها من استعمال الرفق واللين والترغيب، ثم التأنيب والتوبيخ، ومواجهة ذلك منهم بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية، وتعرُّضه للمساومة كي يَطرُدَ المؤمنين الفقراء.

    (4) اليأس من إيمانهم بعد إخبار الله -تعالى- له والدعاء عليهم.

    (5) هلاك المكذِّبين.

    سمات التدرج في دعوة نوح -عليه السلام

    وقد اتسمت سُنَّة التدرج في دعوة نوح -عليه السلام- بسمات عدة، منها:

    (1) فهم بيئة الدعوة؛ لتحديد نقطة البَدْء.

    (2) الدعوة إلى نَبْذ الأصنام، وتوحيد الله -عز وجل.

    (3) استعمال الأساليب الممكنة والمتاحة لدى الداعي مع الصبر والتحمل.

    (4) مراعاة أحوال المخاطَبين ودعوتهم بالحكمة.

    (5) البَدْء بأسلوب اللين والرفق مع المدعوِّين، والترغيب أولاً ثم الترهيب والتوبيخ، ثم التعنيف والتخويف، ثم يدعو الله -عز وجل- أن يفتح بينه وبين قومه.

    فقه التدرج في دعوة إبراهيم -عليه السلام

    لقد أثنى الله -تعالى- على خليله إبراهيم -عليه السلام- في مواضع كثيرة، منها قوله -تعالى-: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 37)، وقوله -تعالى-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124)، وهذه شهادة من الله -تعالى- بأنه أتم عهد العبودية، وأما سنة التدرج في قصة إبراهيم -عليه السلام- تتلخص في الآتي:

    (1) البَدْء بدعوة أبيه؛ لأنه أقرب الأقربين إليه، ولأنه كان صانعًا للأصنام، وهذا من باب تجفيف ينابيع الكفر.

    (2) دعوته لقومه، وعلى رأسهم النمرود، وكان هذا في بابل محل نشأته الأولى، وهكذا يكون البَدْء.

    (3) دعوته لأهل حران بعد تركه بابلا؛ حيث كانوا يعبدون الكواكب.

    والمتتبع لقصة إبراهيم -عليه السلام- يجد أنَّ سنة التدرج سنةٌ ثابتة في دعوته -عليه السلام-، ويظهر ذلك فيما يلي:

    (1) البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حيلة ولا حجة، فينهار داخليًّا، ويخر ساقطًا، ولو ظل واقفًا في أعين الناس.

    (2) البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم -عليه السلام-أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.

    (3) لقد ابتعد إبراهيم -عليه السلام-عن أسلوب الصدام المباشر، فقد كان يقر الخصم على سبيل الافتراض أو الجدال؛ ليستدرجه بعد ذلك لما يريد.

    (4) الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس.

    فقه التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم

    بدأ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الدعوة للإسلام بالدعوة لأركان الإيمان، لإفراد الله -عز وجل- بالعبودية ونبذ الشرك والوثنية، وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - ما يقارب نصف عمره بعد الرسالة يدعو إلى هذا التوحيد، ويركز عليه دون غيره، وبعد بضع سنوات من تثبيت عقيدة التوحيد -التي تعد الأساس والأصل- في نفوس الجماعة المؤمنة، فرضت الصلاة ثم الصيام والزكاة والجهاد والحج، دل على ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-؛ حيث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت» (البخاري)، وعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» (رواه البخاري)، يقول ابن حجر مبينًا البدء بالصلاة بعد التوحيد: «وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يشترط بعد التوحيد إقامة الصلاة؛ لأنها رأس العبادات البدنية، ثم أداء الزكاة؛ لأنها رأس العبادات المالية، ثم يعلم كل قوم ما حاجتهم إليه أَمَسُّ».

    الدعوة إلى أصول الأخلاق

    وكما تدرج - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى أركان الإسلام مراعيًا البدء بالأهم ثم المهم، فقد راعى هذا الجانب في الدعوة إلى أخلاق الإسلام؛ حيث بدأ بالدعوة إلى أصول الأخلاق من الصدق والعدل وأداء الأمانة والعفة، مراعيًا في ذلك جانب التدرج في الوجوب والعلو؛ حيث حاجة الفرد إليها أمس، وأداؤها عليه أوجب، وقد جاءت الأدلَّة تؤكد اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجانب في عهد مبكر من دعوته.

    التدرج في تحريم المنكرات

    وبالتدرج نفسه جرى تحريم المنكرات، فتحريم الخمر على سبيل المثال تم على مراحل، بدأت بالتحذير من مضاره وآثامه، ثم انتهت إلى تحريمه على وجه القطع.

    التدرج في الدعوة

    وأما في المدعوين أنفسهم فقد تدرجت دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ بدأ بمحيطه القريب جدا، (زوجته خديجة، وصاحبه أبي بكر، وابن عمه علي بن أبي طالب، وغلامه زيد بن حارثة)، ثم اتسعت الدائرة لتشمل محيطًا من أقاربه أوسع من ذي قبل عملًا بقوله - عز وجل -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) وقضى فترة زمنية ليست بالقصيرة يدعوهم إلى الله -تعالى-، وينذرهم عذابه، فدل هذا على أن البداءة بالأقربين مستمرة في كل زمان، وبعد أن أنذر - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة وصبر على أذاهم طويلًا، دعا أهل الطائف ثم أعيان قبائل العرب ممن يقدمون على بيت الله الحرام.

    دعوة أهل الكتاب

    وبعد الإذن بالهجرة إلى المدينة دعا - صلى الله عليه وسلم - أهل الكتاب، ثم أزال بالجهاد الذين كانوا يعيقون إبلاغ الدعوة إلى الناس، ثم أرسل الكتب إلى زعماء الروم والفرس والحبشة وغيرهم يدعوهم إلى الدخول في دين الله، وبذلك نعلم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - تدرج في تبليغ الإسلام والدعوة إليه متخذا في ذلك الوسائل المناسبة لدعوة الكفار.

    سمات التدرج في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم

    ومن سمات سنة التدرج في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الآتي:

    (1) نزول القرآن منجَّمًا بحسب الوقائع والأحداث.

    (2) البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله -عز وجل.

    (3) البَدْء بدعوة الأقربين.

    (4) الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.

    (5) الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.

    (6) بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.

    (7) عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية بالمدينة المنورة.

    (8) لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة.

    (9) لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت بتدرج.

    (10) قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها.

    مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم

    وتتلخص مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، التي مرت بالمراحل السابقة، وبدأت بالاستضعاف، وانتهت بالتمكين في الأرض في النقاط الآتية:

    (1) البدء بالأقربين.

    (2) البدء بالتوحيد.

    (3) إرساء قواعد العقيدة قَبْل الأمر بالتكاليف؛ حيث بدأ الأمر بالتكاليف في المدينة بعد إقامة الدولة وتمكين الإيمان في القلوب.

    (4) الدعوة باللِّين وبالحكمة والموعظة الحَسَنة، وتحمُّل مشاقِّ الدعوة، والصبر على ذلك، ثم تحمل أذى المعارضين، ولا سيما في مرحلة الاستضعاف.

    (5) عرض الدعوة على جميع الناس: الفقراء والأغنياء، والقريب والبعيد، وإقامة الحجة عليهم، وطلب النصرة.

    (6) استعمال القوة لحماية الدعوة عند الاستطاعة.

    (7) الالتزام الشرعي بالأحكام في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وعدم تغليب الأهواء، وترويض النفس على قَبول حكم الله -عز وجل-، حتى لو كان شاقًّا على النفس؛ حيث لم يؤمَرِ المسلمون بالقتال أو ردِّ العدوان بمكة وقد كانوا أهل شَكيمة وعزة.

    الشيخ صالح الفوزان: التدرج المنهي عنه



    يقول فضيلة الشيخ صالح الفوزان: «فالتدرج في الدعوة معناه: الإتيان بالأهم فالأهم. وذلك بأن يبدأ أول شيء بالتوحيد: دعوة الناس إلى التوحيد وعبادة الله وحده؛ لأن هذا هو الأساس»، ثم قال: «أما التدرج المنهي عنه فهو العكس الذي يسير عليه بعض الدعاة في عصرنا الحاضر وهو أن يبدأ بالأمور التي هي دون الشرك، يبدأ بنهي الناس عن الزنا وعن الكبائر وأكل الربا وغير ذلك، ويترك جانب العقيدة ولا يهتم به، فهذا عكس دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأيضًا هو لا يثمر ولا يفيد؛ لأنه حتى لو ترك الناس هذه الكبائر وتعاملوا بالأخلاق الفاضلة والمعاملات المباحة مع بقاء الشرك فيهم فإن هذه الأعمال لا تنفعهم؛ لأنهم بنوا على أساس غير صحيح، بينما لو أن الإنسان حقق التوحيد وتجنب الشرك، ووقع منه بعض الكبائر وبعض المعاصي، فإنه لا يخرج بذلك من الإيمان، وترجى له المغفرة، وهو تحت المشيئة، قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48) (2) وقال -تعالى-: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء: 31).



    الشيخ ابن باز: الدعوة إلى أصل الدين مقدمة على كل شيء

    يقول سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز: «فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله، بدأ بدعوة الناس إلى التوحيد في مكة، وترك الشرك، ونبذ آلهتهم المعبودة من دون الله، من أشجار وأحجار وأصنام وغيرها، ولهذا لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفي لفظ: فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فأمره أن يدعوهم إلى توحيد الله قبل الصلاة وقبل غيرها، فدل ذلك على أن الدعوة إلى أصل الدين مقدمة، ثم بعد ذلك يتدرج بدعوتهم إلى الصلاة والزكاة وبقية أمور الدين، ولهذا قال له بعده: «فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم... إلخ».



    الشيخ العثيمين: البدء بالدعوة إلى الشهادتين




    يقول فضيلة الشيخ محمد العثيمين: «الدعوة إلى الله مثل ما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم»، فإذا كنا نريد أن ندعو كفارًا فلابد أن ندعوهم كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ -رضي الله عنه-، وإذا أردنا أن ندعو شخصًا بعينه، فلننظر أيضًا هل هو كافر؟ فندعوه إلى أصل الإسلام، ثم بعد ذلك نأمره بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    القاعدة الخامسة
    - التنوع في أساليب الدعوة



    مجلة الفرقان

    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس هي دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع قاعدة مهمة وهي التنوع في أساليب الدعوة.



    إذا نظرنا في أساليب الأنبياء ووسائلهم في دعوتهم لأقوامهم؛ فسنجد أن التنوع سمة عامة في كل الدعوات؛ فكل نبي أو رسول يبدأ دعوته باللين والحجج والبراهين وعرض الدليل تلو الدليل، ومع ذلك الصبر على أذى المعارضين وتكذيب المكذبين، ثم مع تصاعد المواجهة وردود الأفعال تتغيّر المواقف، وبيان ذلك فيما يلي:

    معالم التنوع في دعوة نوح -عليه السلام

    دعا نوح -عليه السلام- قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً مراعاة لأحوال الناس وطبائعهم؛ {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلَّا فِرَارًا (6) وَإنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا} (نوح: ٦ - ٩)، فمن الناس من يكون وعيه وإدراكه في النهار أكثر من الليل بحسب طبيعة نشاطه وسعيه في الحياة، ومنهم من يكون أصفى ذهناً لسماع الدعوة وحججها وأكثر تقبلاً للموعظة بالليل حيث يغلب السكون والتأمل، وهو ما لا يكون بالنهار.

    كما أنه علم أن من الناس من يستنكف عن قبول دعوته إذا وجهت إليه جهراً أمام الملأ وفي العلن؛ فأسر إليه بدعوته ليحرره من قيود وتأثيرات العقل الجمعي العام، وفي الوقت ذاته لم يترك الدعوة العلنية لجماهير الناس لتنشيط الحوار المجتمعي لتثبيت المواقف وتمييز الاتجاهات.

    غير أن الأمور لم تستمر على هذه الوتيرة، ولا سيما أمام الخصوم الذين اتهموه بالضلال، وانطلقت أبواق الدعاية المضادة لتسخر منه وممن آمن معه، وسعوا للصد عن دعوته وصرف الناس عنه، وأمام هذا العداء والعناد والإصرار على الكفر، وبعد إعلام الله -تعالى- له أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، لم يكن هناك من وسيلة إلا الدعاء عليهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} (نوح: 26 - 27)، فاستجاب الله -تعالى- وعاقبهم بالماء المنهمر من السماء والمتفجر من عيون الأرض، فأغرقوا وصاروا إلى يوم الدين عبرة وأحاديث.

    معالم التنوع في دعوة إبراهيم -عليه السلام

    دعا إبراهيم -عليه السلام- أباه بأدب ورفق راجيًا هدايته، كما ناظر قومه من عابدي الكواكب والشمس وجادلهم بالأدلة العقلية في مناظرة استدراجية، موافقاً لهم حتى يكونوا هم الحاكمين على أنفسهم بضلال ما هم عليه من اعتقادات لا سند لها ولا برهان، لكنه لما جادل عباد الأوثان، وبيّن لهم أنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع دعاء ولا تستجيب لداع، توجه إليها - موطناً نفسه على ما قد يلقاه من أذى - فكسرها بيمينه وأهانها وهي لا تحس ألماً ولا تعي ما يفعل بها: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} (الصافات: 93)؛ فسلك بذلك وسيلة القوة، وتغيير هذا المنكر المتمثل في عبادة الأوثان باليد آخذاً بعزائم الأمور، غير عابئ بما قد يناله من عابديها أو صانعيها، وهذ شأن أصحاب الدعوات الذين يضحون بكل ما يملكون من أجل دعوتهم وعقيدتهم، ولا يخافون في الله لومة لائم؛ فعواقب الأمور بيد الله -عز وجل- وحده.

    معالم التنوع في دعوة موسى -عليه السلام

    سلك نبي الله موسى -عليه السلام- في بداية دعوته لفرعون ومَلَئِهِ أسلوب اللين والحوار العقلي الهادئ، لكن مع رعونة فرعون والملأ، وتصاعد حدة التهديدات، وردود الأفعال العدائية والرافضة للدعوة رغم الحجج الواضحة والآيات الدامغة، ما كان من موسى إلا أن سلك مسلكاً آخر، وفاجأ فرعون بهذا الرد الذي يليق بأمثاله: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} (الإسراء: 102).. قال ابن كثير: «أي هالكاً، وقيل ملعوناً، وقيل مغلوباً». ولما رأى موسى -عليه السلام- أنه ومن معه في خطر، وأن الدعوة تمر بمنعطف صعب، وأن العقبات تعوق تقدمها، وأنها مهددة بألا تسير في طريقها، دعا على فرعون وملئه، وتوجه إلى الله -تعالى- بهذا الدعاء: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (يونس: ٨٨)، فأغرق الله فرعون وجنده وجعلهم عبرة لمن خلفهم.

    معالم التنوع في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم

    لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيلا يمكن من خلاله أن يدعو إلى الله إلا سلكه، ولا طريقًا إلا ولجه، فأرشد الدعاة بعده إلى استعمال كل وسيلة مهما تيسرت أسبابها وكانت مشروعة، وفيما يأتي أبرز أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في التربية والدعوة إلى الله، والتي تظهر حرصه الشديد على هداية الناس جميعًا:

    تقديم الترغيب على الترهيب

    عَلِم النبي - صلى الله عليه وسلم - طبيعة النفس البشرية وأن فيها إقبالا وإدبارا، وفيها النشاط والضعف، وأن من النفوس من لا يصلحها إلا الترغيب، ومن النفوس من لا يردعها ويهذبها إلا الترهيب، لذا راعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الاعتبارات، فجمع بين الترغيب والترهيب، بل لقد قدَّم الترغيب على الترهيب؛ لأنه أنفع وأجدى، يتَّضح هذا من موقفه - صلى الله عليه وسلم - مع أبي ذر - رضي الله عنه - الذي يرويه لنا أبو ذر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «مَا مِنْ عَبْدٍ» قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ». قُلْتُ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟» قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ». (متفق عليه)، والمتأمل في تلك القصة يلحظ حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على الترغيب.

    الإقناع العقلي واستخدام الحوار

    كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب العقل في الإنسان، ومن مواقفه - صلى الله عليه وسلم - الدعوية التي تبرز ذلك موقفه من الفتى الذي جاء يستأذنه في الزنا! كيف كان ردُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وكيف تعامل معه؟

    يروي لنا ذلك أبو أُمامة - رضي الله عنه- فيقول: «إِنَّ فتىً شابًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسولَ الله، ائْذَنْ لي بالزِّنا، فأَقْبلَ القومُ عليه فزَجَرُوه»، وقالوا: «مَهْ مَهْ!!» فقال له: «ادْنُه، فدنا منه قريبًا، قال: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟»قال: «لَا واللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِم ْ». قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَاَل: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» قال: «لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ ». قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قال: لا والله، جعلني الله فداءك! قال: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قال: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ!» قَالَ: «وَلَا النَّاسُ جَمِيعًا يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قال: «فوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ»، وقالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ» (رواه أحمد).

    يوضح لنا هذا الموقف كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل بالحوار والإقناع العقلي مع العصاة والمجترئين على المعصية.. تأمَّلْ كيف ردَّ على ذلك الشابِّ بأسلوبٍ عقليٍّ ومنطقيٍّ مُقْنعٍ مُوَضِّحًا له قبيحَ طلَبِه وشناعةَ تلك المعصيةِ، والتي يأباها كل أفراد المجتمع، ثم لما انتهى - صلى الله عليه وسلم - من حديثه مع الشاب وضع يده الشريفة برفق وحنو على صدر الشاب داعيًا له بالمغفرة وطهارة القلب وإحصان الفرج، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا وعملًا حينما قال: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ». (رواه مسلم).

    استثمار المواقف والفرص

    كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستثمر المواقف في التعليم؛ لأنها أوقع أثرًا وأثبت في الذاكرة، ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مع أصحابه يومًا، وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ضمته، هنا أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستثمر هذه الفرصة ويعلم أصحابه مدى رحمة الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قَالُوا: لَا!! قَالَ: «واللهُ لَا يُلْقِي حَبِيبَهُ فِي النَّارِ» (متفق عليه)، والمواقف متنوعة فقد يكون الموقف موقف حزن أو خوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عند القبر، يقول البراء بن عازب - رضي الله عنه-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ (أي: لم ينتهوا من حفر المكان الذي يدفن فيه الميت)، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا»، ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر وفتنته. (رواه أبو داود).

    الاعتدال والوسطية ورفض التشدد

    كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته الاعتدال والوسطية ورفض التشدد، فالتشدد المقيت يؤدي إلى المشقة على النفس ويؤدي إلى التطرف في الدين والبعد عن وسطية الإسلام، وضياع حق النفس وحقوق الآخرين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسألوا عن عبادته، يروي لنا ذلك أنس بن مالك - رضي الله عنه- فيقول: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا»، فَقَالُوا: «وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا»، وَقَالَ آخَرُ: «أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ»، وَقَالَ آخَرُ: «أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ» فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا.. أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (رواه البخاري)، إنه - صلى الله عليه وسلم - القدوة والأسوة الحسنة في دعوته وتعليمه وإشفاقه على الناس والبعد عن التشدد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا...» (رواه البخاري).

    أسلوب الهجر

    وقد استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الهجر في الموقف المشهور لكعب بن مالك - رضي الله عنه - وأصحابه حينما تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لا يكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله -تبارك وتعالى- عليهم، إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هديًا دائمًا له - صلى الله عليه وسلم -، وإنما المعيار في ذلك هو تحقيق المصلحة، فمتى كان الهجر مصلحة وردعًا للمهجور شرع ذلك، وإن كان فيه مفسدة وصد له حَرُم هَجْرُه.

    أسلوب التوجيه غير المباشر

    وتمثل ذلك الأسلوب في مواقف عدة: منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بال أقوام»، دون أن يخصص أحدًا بعينه، ومن ذلك قوله في قصة بريرة حينما صعد على المنبر فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ؟! مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَإِنِ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ» (متفق عليه).

    وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، ومن ذلك حينما استبَّ رجلان عنده - صلى الله عليه وسلم - وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إِنِّي لستُ بِمَجْنُونٍ». (رواه البخاري).

    أسلوب الوعظ والتذكير

    وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخول أصحابه بالموعظة مخافة السآمة والملل، وكان ينتهز كل فرصة مواتية تجمع المسلمين ليوجه إليهم رسائل وعظية وتذكيرية نافعة، منها حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ وَزَرَفَتْ مِنَها العُيُونُ، فَقُلْنَا كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٍ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». (رواه الترمذي).

    أسلوب القصص والأمثال


    وهي وسيلة من أنفع الوسائل، وقد استخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الوسيلة كما في أحاديث كثيرة مشهورة: منها قصة الثلاثة أصحاب الغار، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى، وقصة صاحبي جرة الذهب، وقصة المتداينين من بني إسرائيل، وغيرها من القصص المليئة بالعبر والعظات التي تزخر بها كتب السيرة.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين


    - القاعدة السادسة
    - الاستعانة بالله والتوكل عليه


    مجلة الفرقان




    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع قاعدة مهمة وهي الاستعانة بالله والتوكل عليه.

    حين يقرأ المؤمن سير الأنبياء في القرآن الكريم يجد أن التوكل على الله -تعالى- والاستعانة به هو حصنهم في مقابلة الشدائد، وهو أمضى سلاح واجهوا به المكذبين من أقوامهم؛ ولذا أعلنوا جميعا توكلهم على الله -تعالى-، وقالوا مستنكرين على المشركين {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ} (إبراهيم: 12).

    معالم التوكل في دعوة نوح -عليه السلام

    قال الله -تعالى- على لسان نوح -عليه الصلاة والسلام-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (يونس: 71).

    فالمعنى: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشق عليكم، تذكيري بآيات الله، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك، فعلى الله توكلت، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي، وظهري «فأجمعوا أمركم»، يقول: فأعدوا أمركم، واعزموا على ما تنوون عليه في أمري.

    فنوح -عليه السلام- كان يقابل بغضهم وتجمعهم عليه بالتوكل على الله -تعالى-، يقول صاحب كتاب مفاتيح الغيب في قوله: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ}: «يعني إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي، وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله، واعلم أنه -عليه السلام- كان أبدًا متوكلًا على الله -تعالى-، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة».

    فنوح -صلوات الله وسلامه عليه- قد بلغ الغاية في التوكل، قاطعًا بأنه لا يصل إليه من مكرهم شيء، ولن ينفذ بإذن الله فكان مستسلمًا، لكل ما يصل إليه من الله استسلام المؤمن لله لأجل الدعوة مع أنه في قلة، وضعف، وقومه في كثرة ومنعة، وكان بينهم وحيدًا فريدًا، ولكن وحدته ما كان يوهنها، ويكسرها إلا توكله على العزيز المقتدر، ومن هنا أخذ نوح عليه الصلاة والسلام خلق التوكل ومارسه في دعوته لله -عز وجل- إلى أن وافاه الأجل ولقى ربه.

    معالم التوكل في دعوة إبراهيم -عليه السلام

    وتبرأ الخليل إبراهيم -عليه السلام- من شرك قومه، وهو يعلم ما قد أضمروه من الشر له، وما قصدوه من البطش به، ولم يكن له سلاح يواجه كيدهم به إلا التوكل على الله -تعالى- فقال -عليه السلام- داعيا ربه -عز وجل-: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (الممتحنة: 4). ولما ألقوه في النار ظهرت حقيقة توكله بقوله حسبي الله، فكانت النتيجة آية باهرة، ومعجزة ظاهرة {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 69-70) فمن ذا الذي يخاف كيد الكافرين وقوتهم، وكيد المنافقين ومكرهم بعد هذه الآيات البينات في توكل الخليل ونجاته.

    معالم التوكل في دعوة هود -عليه السلام

    ولما خوّف قوم هود هودًا بآلهتهم تبرأ منهم ومن شركهم، وقابل تهديدهم بتحديهم، ولم يكن له سلاح ولا قوة إلا التوكل على الله -تعالى-، قال لهم: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} (هود: 55- 56).

    معالم التوكل في دعوة يعقوب -عليه السلام

    ولما ألمت بيعقوب -عليه السلام- الملمات، واجتمعت عليه الكربات، وتكالبت الهموم، وتوالت الغموم، لم يكن له مفزع يفزع إليه إلا الله -تعالى-، فألقى عن كاهله حمله، وأخلص لله -تعالى- قلبه، وملأه بالتوكل واليقين، وقال بحزم وعزم، ويقين وتصديق {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو نَ} (يوسف: 67). فأزال الله -تعالى- همه، وكشف كربه، ورد عليه بصره، وأرجع له ولده، ورفع مقامه، وأعلى ذكره، فها نحن بعد قرون من زمنه نتلو قصته، ونذكر صبره وتوكله.

    معالم التوكل في دعوة شعيب -عليه السلام

    وقابل شعيب -عليه السلام- تكذيب قومه وصدودهم وتهديدهم بإعلان التوكل على الله -تعالى- فقال -عليه السلام- {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} (الأعراف: 89) وقال أيضا: {تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).

    معالم التوكل في دعوة موسى -عليه السلام

    وبالتوكل واجه الكليم موسى -عليه السلام- أعتى طاغية ادعى الربوبية، وعبّد لذاته كل البشرية، وامتحن الناس على ذلك بالقتل والتعذيب، حتى مسّ المؤمنين منه بلاء شديد، وأصابهم كرب عظيم، فدعاهم موسى -عليه السلام- للتوكل حصنا يتحصنون به من الفتنة، وطوقا ينجون به في شدة البلوى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (يونس: 84-86) فكانت عاقبة توكلهم على الله -تعالى- أن نجاهم وأهلك أعداءهم.

    معالم التوكل في دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم

    وأما نبينا وقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد أمره الله -تعالى- بالتوكل في كثير من الآيات {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (الفرقان: 58) فما أعظمه من أمر رباني بالتوكل، قد علل بأن المتوكَل عليه حي لا يموت، ولما مر ركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهم بحمراء الأسد، فأخبرهم بأن أبا سفيان جمع لهم -وذلك بُعيد أحد- قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ} أي زاد المسلمين قولهم ذلك {إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ( آل عمران: 173-174 ).

    مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟

    وعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُم ْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (شجر شوك) فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَحْتَ سَمُرَةٍ -شجرى الطلح- فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، فَنِمْنَا نَوْمَةً ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:«إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ» ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (البخاري ومسلم).

    مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا

    وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: إَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» (البخاري ومسلم)، وفي ذلك يقول ربنا:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40)، ولما لحق سراقة بن مالك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بشره بسواري كسرى وهو مطارد، قال له:«كَأَنِّى بِكَ قَدْ لَبِسْتَ سِوَارَىْ كِسْرَى» (سنن البيهقي)، فأي ثقة هذه التي امتلأ بها قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم !

    الأمر بالتوكل على الله -تعالى

    وفي غزوة الأحزاب حين اجتمعت أمم الكفر على أهل الإيمان، وتآزر الكفر مع النفاق، في حال يشبه حالنا اليوم، ما أمر الله -تعالى- المؤمنين بغير التوكل عليه سبحانه، ولم يرخص لهم في ترك شيء من دينهم، فنهاهم عن طاعة الكفار والمنافقين بخطاب حاسم جازم واضح جلي، أعقبه بالأمر باتباع الوحي وعدم ترك شيء منه، ثم ثلث بالأمر بالتوكل عليه سبحانه؛ وهذا يدل على إن أخذ عزائم الدين وتبليغه ومواجهة الكفار والمنافقين لا يقوم بها إلا المتوكلون {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (الأحزاب: 1 - 3).

    وفي وسط السورة الكريمة يؤكد الله -تعالى- هذا النهي والأمر، النهي عن طاعة الكفار والمنافقين، والأمر بالتوكل عليه سبحانه {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} (الأحزاب: 48) فهذه عزيمة لا رخصة فيها، ولا عذر لأحد في التخاذل عن القيام بها؛ فإن طاعة الكفار والمنافقين تركس أصحابها في الذل والمهانة والتبعية، وتوجب لهم العقوبة العاجلة والآجلة.. والتوكل على الله -تعالى- يقتضي الثبات على الحق وإن كان أهله قلة مستضامين، ومقارعة الباطل وإن كان أصحابه كثرة متسلطين، وما أشبه مقولات منافقي اليوم بمقولات منافقي الأمس، ولا مواجهة لها إلا بالتوكل على الله -تعالى-؛ فهو -سبحانه- يعز من يشاء، ويذل من يشاء، {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 49).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    القاعدة السابعة
    - استفراغ الجهد في الطاعات المقدورة


    عادل نصر




    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا؛ لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء المرسلين، واليوم مع القاعدة الثامنة وهي استفراغ الجهد في الطاعات المقدورة وعدم تعجل النتائج.

    من يطالع منهج الأنبياء -عليهم السلام- في الدعوة إلى الله -عز وجل- وإصلاح المجتمعات، وإعلاء كلمة الله في الأرض، يجد من أهم سمات منهجهم المبارك الانشغال بطاعة الوقت المقدور عليها؛ إذ لكل وقت طاعة، ولا تكليف إلا بمقدور، فالمطلوب من المكلفين استفراغ الجهد في الإتيان بالطاعات التي استوفت شروطها وانتفت موانعها، فيأتون بها على أكمل الوجوه، أما ما كان من الطاعات معجوزًا عنه فهذه لا تدخل في دائرة التكليف بالنسبة للعبد، اللهم إلا من حيث اعتقاد وجوبها إن كانت واجبة أو استحبابها إن كانت مستحبة؛ أما من حيث المطالبة بامتثالها والإتيان بها شرعاً فلا يطالب بذلك؛ إذ من شروط الفعل -حتى يصح التكليف به- أن يكون مقدوراً للمكلف له، قال -تعالى- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أمرتكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»، وقال -عز وجل- {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}.

    القدرة نوعان

    قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: «والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، فهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى، وهذه قد تصلح للضدين.

    أمر الله لعباده

    وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة؛ فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، وهذه المذكورة في قول الله -تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ}
    ، وقوله -تعالى-: {وَسَيحلفون بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، وقوله في الكفارة: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل.


    ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» فإنما نفى استطاعة لا فعل معها، وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها؛ فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم في الدين من حرج، فالمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا.

    الاستطاعة الشرعية

    فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك، فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز؟ اهـ.






    الطاعات غير المقدورة

    فالطاعات غير المقدورة لا يكلف العباد بالإتيان بها، نعم قد يكونون مطالبين بالسعي لاستكمال شروطها حتى يتيسر الإتيان بها كما هو الحال في الجهاد؛ حيث يسقط الوجوب عند عدم القدرة من الجهاد إلى الإعداد؛ ولذا أمر الله الأمة أن تعد العدة لجهاد أعدائها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية.

    سير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام

    وفي سير الأنبياء -عليهم صلاة الله وسلامه- بدءًا من نوح -عليه السلام- وهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، وحتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، نجد هذا واضحًا جليًا، فما رأينا نبيًا تجشم قتال قومه حال استضعافه ولا أمر أتباعه بذلك، ولا دخل معهم في ألاعيب سياسية يترتب عليها التنازل عن بعض ما أنزل الله من الحق الذي يدعو إليه، أو موافقتهم في بعض الباطل بغرض العمل على إقامة دولة الإسلام، بل جميعهم -عليهم السلام- يبدؤون أقوامهم بالدعوة إلى التوحد الخالص ونبذ الشرك، فيبلغون الحق للخلق غير وجلين، ولكن بحكمة، وعلى بصيرة، ويأتون بالطاعات المقدورة.

    نبي الله موسى -عليه السلام

    فهذا نبي الله موسى -عليه السلام- عندما قال فرعون عن بني إسرائيل: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} فبماذا أمر قومه -عليه السلام؟ أمرهم بالصبر فقال لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فلم يأمرهم بمواجهة عدوهم وهم مستضعفون، بل أمرهم بالصبر، مع تذكيرهم بأن العاقبة لأهل الحق؛ فلا بد من اليقين في وعد الله.

    النبي - صلى الله عليه وسلم

    وهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتعرض هو وصحبه الكرام في مكة لأشد أنواع التعذيب والتنكيل، وهو مع ذلك صابر محتسب، وأمر صحبه الكرام بالصبر على الأذى وكف الأيدي مع استفراخ الجهد في الطاعات في هذه المرحلة المباركة من مراحل دعوته - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو قائم بالدعوة إلى التوحيد وبيان قبح الشرك مع إقامة الصلاة وتربية النفوس وتزكيتها؛ لتتأهل لحمل الأمانة، وكان بعضهم يود أن لو فرض القتال آنذاك فلم يوافقهم على ذلك؛ إذ لكل وقت طاعة، ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - يصرف همهم إلى طاعة الوقت الحاضر.

    المسلمون في مكة

    يقول العلامة السعدي -رحمه الله-: «كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لفوائد عدة منها:

    - أن من حكمة الباري -تعالى- أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل.

    - ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام؛ فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم».

    مراعاة طبيعة كل مرحلة

    لذلك فإنه يجب على العاملين للإسلام من مراعاة طبيعة كل مرحلة، وما يجب فيها من الطاعات، فيبذلون قصارى جهدهم في تحصيلها على الوجه الأكمل، أما الطاعات الخارجة عن مقدورهم لعدم توفر شروطها، فليسوا مطالبين بها شرعاً؛ فالانشغال بها -ولم يحن وقتها- سيترتب عليه ضياع الواجبات وتفويت المصالح.

    نبي الله شعيب -عليه السلام

    وانظر معي إلى قوله -تعالى- على لسان نبي الله شعيب -عليه السلام-: {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، يقول العلامة السعدي -رحمه الله في معرض ذكره لما في القصة من فوائد وعبر-: «ومنها أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية، ومنها أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه وفي غيره ما يقدر عليه» اهـ.

    الواجبات الشرعية

    فالواجبات الشرعية تتنوع بتنوع القدر، فوقت الاستضعاف له واجباته وطاعاته التي تناسبه، ووقت التمكين له أيضا ما يناسبه من الواجبات والطاعات، ولنا في النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - وصحبه أسوة، فلما كانوا مستضعفين في مكة لا دولة لهم ولا شوكة كانت العبودية في كف الأيدي وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتحمل الأذى مع الاجتهاد في نشر الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون كل مستضعف.

    يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر و الصفح و العفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون» اهـ.

    بيعة العقبة الثانية

    لما بايع الأنصار الكرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة الثانية، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان بمكة بالهجرة إلى المدينة؛ لإقامة الدولة الإسلامية، وتقوية الشوكة؛ فصارت العبودية المطلوبة في هذه المرحلة في ترك الأهل والوطن والمال والهجرة إلى المدينة امتثالاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما صار للمسلمين دولة وشوكة، أذن في الجهاد والجلاد وصارت العبودية في الجهاد.

    الواجب على المسلم

    فالواجب على المسلم أن يكون بصيرًا بزمانه، فيحدد المرحلة التي تعيشها الدعوة، والواجب عليه في هذه المرحلة، فلا تحركه العواطف الهوجاء، بل ينبغي أن ينظر بعين الشرع لا الهوى، فلا يقدم على شيء إلا إذا ثبت بالأدلة الشرعية أنه طاعة في حقه، وأن الإتيان بها لن يترتب عليه مفسدة.

    ولو انتبه أبناء الدعوة لذلك وفقهوا هذا الأمر، لما رأينا من خاض غمار المواجهات حال استضعافه وعجزه فجلب على العمل الإسلامي ما جلب، فتأخرت الدعوات بسبب ذلك سنوات وسنوات، فضلاً عن ضياع الكثير مما تحقق، وفتنة الكثير عن دينهم، ولو فهم أبناء الدعوة ذلك أيضًا، لما رأينا من يتفوه بما يخالف الإسلام جملة وتفصيلاً، ويقدم التنازلات تلو التنازلات؛ بزعم العمل من أجل مصلحة الإسلام، وذلك من أجل الوصول إلى تحكيمه في زعمهم، فمتى كانت المصلحة في هدم ثوابته وطمس معالمه وتمييع الفوارق بينه بوصفه دينا ربانيا يقوم على الوحي المنزل وبين المذاهب الباطلة؟!

    ترك المقدور عليه

    لا شك أن سبب ذلك كله ترك المقدور عليه والانشغال بالمعجوز عنه، أو إن شئت فقل الانصراف عن طاعة الوقت والانشغال بغيرها مما لم يحن وقته بعد، وكما أننا مطالبون شرعاً باستفراغ الجهد في الطاعات المقدورة والإتيان بها على أكمل الوجوه، فإننا مطالبون كذلك بعدم تعجل النتائج، بل على العبد أن يؤدي ما أمر ربه ثم يفوض أمره كله لله -عز وجل- ويحذر التعجل، وليعلم العاملون للإسلام أن ذلك هو السبيل إلى ما يسعون إليه من إعلاء كلمة الله والتمكين لدينه في الأرض.

    عز الإسلام وظهوره

    ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-؛ حيث وضح بأن عز الإسلام وظهوره في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه كان عاقبة صبرهم وتقواهم والتزامهم بطاعة كل مرحلة، فيقول -رحمه الله-: «وذكر غير ابن إسحاق أن اليهود حذرت وذلت وخافت من يوم قتل ابن الأشراف، فلما أتى الله بأمره الذي وعده من ظهور الدين وعز المؤمنين أمر رسوله بالبراءة إلى المعاهدين وبقتال المشركين كافة من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر، وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين


    - القاعدة الثامنة
    - شرعية الوسائل والغايات



    عادل نصر






    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا؛ لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع القاعدة الثامنة وهي شرعية الوسائل والغايات.

    منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه- منهج كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ومتضمن لمصالح العباد، وموصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة، والغايات والوسائل فيه ربانية مشروعة، والوسائل هي الطرائق الموصلة إلى الغايات؛ وذلك لأن منهج الرسل مبني على الوحي المنزل من عند الله -عز وجل-، وهو العليم بخلقه وما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، ولاسيما في الشريعة التي جاء بها خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، فهل يظن أحدٌ بعد ذلك أن هذه الشريعة الكاملة لم تأت بالوسائل كما حددت الغايات؟

    المسلم يتعبد بالوسائل كما يتعبد بالغايات

    إن الحق الذي يجب على المسلم اتباعه في ظل هذه الشريعة المباركة والمنهج الرباني، هو منهج الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- فيتعبد بالوسائل كما يتعبد بالغايات، فكما أن غايته لابد أن تكون شرعية محمودة، فكذلك الوسيلة التي يسلكها للوصول إلى تلكم الغاية، فالغاية لا تسوغ الوسيلة في منهج الأنبياء كما هو الحال في المناهج البشرية الوضعية المخالفة لدين الله -عز وجل.

    إن دعوة رب العالمين لابد وأن تكون ربانية في مصدرها ووسائلها وغاياتها قال الله -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين}، وقوله -تعالى-: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} فيه نسبة هذه الدعوة إلى الله -تعالى-، وما أشرفها من نسبة! ولكن لا يتحقق هذا الانتساب فتكون الدعوة ربانية حتى تكون ربانية في أصلها ومصدرها وفي طريقها ومنهجها وفي غايتها ومقصدها.

    أولا: أصلها ومصدرها

    بأن ترجع إلى الوحي المنزل من عند الله كتابا وسنة، فإن نقاء الأصل في نقاء الثمر وصحته وقوته، قال -تعالى-: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقال -تعالى-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقال -تعالى-: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة}، أما الدعوات التي تتخذ من المناهج الكلامية، أو الأساليب الفلسفية، أو آراء الرجال، أو تحكمات العقول مصدرا لها، فهي لا تستحق أن تكون دعوات ربانية.

    ثانياً: الوسيلة من عند الله

    لابد أن تكون ربانية كذلك على منهج الأنبياء فالغاية في الإسلام لا تسوغ الوسيلة بل الوسيلة من عند الله، كما أن الغاية إليه وحده وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبله من الأنباء فيها البيان لوسائل الدعوة وطريقتها وما يقدم وما يؤخر وما هي موازين المصالح والمفاسد حتى لا تختلط الأمور وتلتبس الأحوال.

    المسلم عبد في كل أحواله

    والمسلم الرباني عبد في كل أحواله وأوقاته فقيراً كان أو غنياً، ممكناً كان أو مستضعفاً مظلومًا، وهذه الربانية هي من سمات الدعوة إلى الله، تعطيها من الصفات الأخرى صفة الثبات والاستقرار، فهي لا تتلون بتلون ما حولها، ولا تغير جلدها ولا رايتها ولا ولاءها بحسب المصلحة كسائر الدعوات الأرضية، وتعطيها كذلك صفة الشمول والاتساع فليست منحصرة في جانب واحد بل نأخذ الدين وتقوم به من جميع جوانبه علماً وعملاً وسلوكاً وخلقاً، وتعطيها كذلك صفة العالمية {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} فليست منحصرة في ملة أو قبيلة أو شعب أو طائفة بل هي دعوة للإنس والجن إلى يوم القيامة، وتعطيها كذلك صفة الواقعية فهي لا تعيش في الخيال ولا تحارب المعارك في الخيال بل تبدل الواقع -بإذن الله- إلى ما يوافق الإسلام ويرضى عنه الرحمن، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه بالدعوى إلى الله يدل على لزومها ووجوبها فكل مسلم يدعو إلى الله بحسب علمه وقدرته وإن لم يجد سوى نفسه فليدعها إلى الله.

    هل الوسائل توقيفية؟

    هذه المسألة غاية في الأهمية، وسؤال لا بد من الإجابة عنه، ولاسيما الآن ونحن نرى الثورة الحديثة في عالم الابتكار والاختراع؛ حيث أنتجت أجهزة ووسائل تنشر الأفكار والثقافات بين جميع بني البشر فتشكل عقولهم وتوجه أفكارهم نحو الجهة التي يريد أصحاب هذه الأفكار توجيه الناس إليها، فهل يا ترى الوسائل في ميدان الدعوة إلى الإسلام ومنهج الإصلاح والتغيير توقيفية؟ بمعنى أن نقتصر فيها على ما نص الشرع على مشروعيتها أو فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أم يجوز لنا أن نستخدم كل وسيلة لا تخالف الشرع وإن لم ينص عليها؟

    طرفان ووسط

    نقول: الناس في هذا طرفان ووسط:طرف قصر الأمر على الوسائل المنصوص عليها، وقال إن الوسائل توقيفية، وطرف آخر على النقيض تماما توسع في الوسائل بغض النظر عن كونها لا تخالف الشرع أم تشمل على مخالفات صريحة.

    ووسط بين هؤلاء وهؤلاء، يرى أن وسائل الدعوة اجتهادية، يراعى فيها المصلحة بشرط ألا تخالف شرعا ولو لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما دامت تخدم مصلحة الدين وتؤدي إلى نشر الملة، وليس معنى قولنا بأن الراجح أن الوسائل ليست توقيفية إطلاق الأمر بلا قيود ولا ضوابط، بل لابد من مراعاة الضوابط التالية:

    ضوابط القول بأن الوسائل ليست توقيفية

    - أولا: ألا تكون هذه الوسائل في العبادات؛ لأن العبادات مبناها على التوقف والمنع، فلا يكون شيء قربى إلا بنص، بخلاف العادات وغيرها فمبناها على الإباحة.

    - ثانيا: ألا تكون هذه الوسائل ممنوعة شرعا: كالسماع المحرم والمعازف ونحوها، وعليها يحمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الرجل الذي حاول أن يتوب الناس ليتركوا المحرمات فجمعهم على السماع المحرم، فحاول إصلاحهم باستخدام وسيلة ممنوعة، وهذا مخالف لمنهج الأنبياء.

    - ثالثا: ألا تباشر هذه الوسائل حتى يعرف حكمها الشرعي سواء من النصوص الشرعية الخاصة أم النصوص العامة أم من القواعد الشرعية العامة ؛ لأن مباشرة العمل دون معرفة حكمه هو اتباع للهوى وعمل بالجهل.

    - رابعا: ألا تصبح هذه الوسائل قربات يتعبد بها لذاتها. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ; لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّلْقِينِ وَالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى، إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ (بِـ) الْإِبْطَالِ; كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ».

    هل الوسائل الممنوعة لا تشرع مطلقا؟

    ينبغي أن نفرق هنا بين عدم جواز سلوك الوسائل الممنوعة للوصول إلى المقاصد المشروعة، وأن هذا هو الأصل، وبين الترخيص في استعمال بعض الوسائل الممنوعة في بعض الأحوال عند الضرورة، فيكون هذا استثناء لذلك الأصل، وفي إطار ما أتت به الشريعة وأن الضرورات تبيح المحظورات قال -تعالى-: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام 119).: أي أن الله -تعالى- بين لكم المحرمات ووضحها لكم غاية الوضوح فتجتنبوها إلا في حالة الاضطرار فإنها تباح لكم، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس الكذب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيراً»، والاستقراء يدل على ذلك، فكشف العورة والنظر إلى الأجنبية منهي عنه لكن يباح شرعا للتوسل به إلى العلاج والشفاء للضرورة. قال الأستاذ البرهان: وأما الثالثة وهي الوسيلة الممنوعة المؤدية إلى الجائز فينبغي أن يكون حكمها المنع تغليبا لجانبه على جانب الجواز.

    الغاية لا تبرر الوسيلة

    ولأن الإسلام يرفض مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) فلا يقبل من الوسائل إلا الجائز أو المطلوب إلا الشريف الطيب المشروع، فلا يجيز السرقة لأجل الإنفاق على العيال، ولا القمار لأعمال الخير، ولا الكذب لترويج البضاعة، لكنها في الواقع على وجهين:

    - الأول: أن تكون مستقلة عن حالة ضرورة، وهذا حكمه المنع جريا على الأصل العام المتمشي مع قواعد الإسلام وأصوله القائمة على الطهارة والخير.

    - والثاني: أن يرافقها حالة ضرورة ملحة، وهذا حكمه الجواز، إن يكن ثمة طريق آخر لتحقيق المقصود الجائز أو المطلوب بشرط أن يقدر الجواز بمقدار الضرورة الملحة كأكل الميتة وشرب الخمر لدفع الموت جوعا أو عطشا.



    القيود الشرعية لاستخدام الوسائل الممنوعة



    - أن تكون الضرورة حقيقية لا وهمية؛ حيث لا يمكن الخلاص منها إلا بالوسائل الممنوعة، فإن كان هناك وسيلة مشروعة فلا يجوز الأخذ بالممنوع.

    - ألا يؤدي الأخذ بها إلى ضرر أكبر.

    - ألا يؤدي رفع الضرورة هنا إلى إلحاق مثلها بالآخر، فالضرورة لا تسقط حقوق الآخرين والضرر لا يزول بمثله

    - أن يباشر الوسيلة الممنوعة بالمقدار الذي تندفع به الضرورة (إذ الضرورة تقدر بقدرها).

    - بذل الجهد للخروج من حالة الضرورة وذلك بالعمل لتحصيل الوسائل المشروعة.





    الفرق بين إباحة الوسيلة الممنوعة عند الضرورة ونظرية الغاية تبرر الوسيلة



    - المحرم والمبيح في الإسلام هو الشارع الحكيم نفسه، أما التبرير في النظرية فأساسها الأهواء والمصالح الشخصية.

    - الغاية التي تبيح الوسيلة الممنوعة في حال الضرورة غاية محمودة ومصلحة حقيقية.

    - إن الترخيص في الإسلام مقيد بقيود تجعل دائرة الضرورة ضيقة وليست عامة في كل شيء، فالقتل وخيانة العهود والزنا ونحو ذلك لا يتوسل بها مطلقا.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين

    القاعدة التاسعة
    - تحقيق المصالح وتكميلها.. ودرء المفاسد وتقليلها


    عادل نصر




    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع القاعدة التاسعة وهي تحقيق المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.

    من قواعد الإصلاح المهمة في منهج الأنبياء والمرسلين وفي دعوتهم إلى الله -عز وجل- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتيا والحكم: العمل على تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، بل إن الشريعة الإلهية مبناها على هذا، فهي تأمر بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وتنهى عن المفاسد الخالصة أو الراجحة، وإن تعارضت المصالح يقدم الأعلى منها ويفوت الأدنى، وإن تزاحمت المفاسد دفعت المفسدة الكبرى بارتكاب الأدنى.

    الْمَصَالِح الْخَالِصَة وَالرَّاجِحَة

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَاد؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَ: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَعَنْ الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ، وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ».

    تحصيل المصالح بحسب الإمكان

    ويقول الإمام ابن القيم: «فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وألا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حصلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع»، ويقول كذلك: «وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت قدم أهمها وأجلها وإن فاتت أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وإن تزاحمت عطل أعظمها فسادًا باحتمال أدناهما».

    إذا دار الأمر بين مصلحتين

    ويقول العلامة السعدي -رحمه الله- في منظومة القواعد الفقهية:

    فإن تزاحم عدد المصالح

    يقدم الأعلى من المصالح

    وضدّه تزاحم المفاسد

    يرتكب الأدنى من المفاسد

    فإذا دار الأمر بين فعل إحدى المصلحتين وتفويت الأخرى؛ بحيث لا يمكن الجمع بينهما روعي أكبر المصلحتين ففعلت وقدمت على الأخرى، كأن تتعارض مصلحة واجبة وأخرى مستحبة فتقدم الواجبة، وإن كانت المصلحتان واجبتين قدمت أوجبهما، فتقدم صلاة الفريضة على صلاة النذر، ويقدم في النفقات اللازمة الأقرب فالأقرب، وإن كانت المصلحتان مستويتين قدم أفضلهما فتقدم الراتبة على النفل المطلق، وكذلك يقدم ما نفعه متعدٍ كالتعليم وعيادة المريض ونحوه على ما نفعه قاصر كالذكر وصلاة النافلة.

    أقسام المصالح

    والمصالح من حيث اعتبار الشارع لها من عدمه تنقسم إلى ثلاث:

    (1) ما نص الشارع على اعتبارها

    وهذه هي المصالح الشرعية كمصلحة حفظ الدين والتي تقوم بنشر العلم الشرعي النافع والدعوة إليه بالفم واللسان والسيف والسنان، وتحريم كل ما يضعفه أو يضاده من العلوم الرديئة كعلم الكلام والأعمال المنحرفة والمظاهر المخالفة، وبالجملة فكل مأمورات الشرع داخلة في هذا، وكذا نواهيه.

    (2) ما قام الشارع بإلغائه وعدم اعتباره

    فهي مصالح ملغاة، ويدخل في هذا كل ما ألغاه الشارع وإن رأى الإنسان بعقله القاصر أنه مصلحة فهو ليس كذلك لمصادمته الشرع أو إخلاله بمقاصده أو لكونه معارضا لمصلحة أعظم.

    (3) ما سكت عنه الشارع فلم يرد طلبه ولا إلغاؤه

    وهذا ما يعرف بالمصالح المرسلة، ولها شروط وضوابط ليس هذا موضعها.

    ثم إن المصالح الشرعية تتفاوت قوة وضعفا، فليست على درجة واحدة، فتنقسم إلى: ضرورية، ثم حاجية، ثم تحسينية.

    فالضرورية هي التي لا بد من توافرها لقيام حياة الناس على الوجه المستقيم، وهي ما يعرف بالضرورات الخمس، والتي جاء الشرع بالمحافظة عليها وهي الدين -وهو أعلاها -، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، أما المصالح الحاجية فهي التي يفتقر إليها الناس لرفع الحرج والضيق، وأما التحسينية فهي الأخذ بمحاسن الأمور والجري على مكارم الأخلاق.






    الأدلة الشرعية

    والأدلة الشرعية على أن الشريعة الإلهية قامت على درء المفاسد وجلب المصالح كثيرة.

    الأدلة من القرآن الكريم

    قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(191 ) فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ(193 )}، فالقتال في سبيل الله يحقق مصلحة عظيمة وهي إعلاء كلمة الله، وجعل الخضوع كله لشرعه، وإذلال الشرك وأهله، فقوله {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: حتى لا يكون شرك، وفيه مفسدة إزهاق الأرواح، إلا أن المصلحة في بقاء الدين وإعلاء كلمة التوحيد وإذلال الشرك ورفع الفتنة لا تقاومها المضرة في إزهاق الأرواح، كما أن حفظ الدين مقدم على حفظ النفوس.

    وقوله -تعالى-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}، أي أن مفسدة صد المشركين عن سبيل الله وكفرهم به وصدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وإخراجهم منه أكبر من مفسدة قتالهم في الشهر الحرام، فتحمل أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما، فلا بأس بالقتال في الشهر الحرام في تلك الظروف.

    وقوله -تعالى-: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فسب آلهة المشركين الباطلة وتحقير الطواغيت وتصغيرهم حتى يضعف شأنهم مصلحة، ولكن لما ترتب على ذلك مفسدة كبيرة لا تقاومها هذه المصلحة، وهذه المفسدة هي سبهم الله، وقدرتهم على ذلك نظرا لضعف المؤمنين حينئذ نهاهم الله من سب آلهتهم، فذلك من باب تفويت مصلحة لدفع مفسدة أكبر.

    ثانيا: الأدلة من السنة

    روى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي قال لها: « يَا عَائِشَةُ، لَوْلاَ قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ - قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِكُفْرٍ - لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُون»، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: (باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاِخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ). قال ابن حجر -رحمه الله-: «وَفِي الْحَدِيث مَعْنَى مَا تَرْجَمَ لَهُ، لِأَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تُعَظِّم أَمْر الْكَعْبَة جِدًّا، فَخَشِيَ- صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَظُنُّوا لِأَجْلِ قُرْب عَهْدهمْ بِالْإِسْلَامِ أَنَّهُ غَيَّرَ بِنَاءَهَا لِيَنْفَرِد بِالْفَخْرِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ تَرْك الْمَصْلَحَة لِأَمْنِ الْوُقُوع فِي الْمَفْسَدَة، وَمِنْهُ تَرْك إِنْكَار الْمُنْكَر خَشْيَة الْوُقُوع فِي أَنْكَر مِنْهُ، وَأَنَّ الْإِمَام يَسُوس رَعِيَّته بِمَا فِيهِ إِصْلَاحهمْ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا مَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا».

    وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟!

    وأخرج مسلم عن جابر قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجِعْرَانَة ِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِى ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِى النَّاسَ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ. قَالَ « وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟! لَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ « مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّى أَقْتُلُ أَصْحَابِى إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».

    الخروج عن منهج النبي - صلى الله عليه وسلم

    وإلى الذين لم يراعوا ما اعتبره الشرع من تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها فخرجوا عن منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة الحكام بزعم الغيرة على الدين والعمل على تحكيم الشريعة، فترتب على أفعالهم مفاسد جمة ومنكرات أعظم، إلى هؤلاء نسوق هذا الكلام النفيس لأهل العلم حتى لا يعود أحد إلى أمثال ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وإذا كان هو -الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر- من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد تُرك واجب وفعل محرم، وهنا يغلط فريقان من الناس؛ فريق يترك ما يجب من الأمر والنهى تأويلا لهذه الآية - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، والفريق الثاني من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك ومالا يصلح وما يقدر عليه ومالا يقدر».

    العالم وتدبر المسائل

    وقال: «فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ مِنْهَا؛ فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ مِثْلَ أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِهِ وَمِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، فَيَسْكُتُ عَنْ النَّهْيِ خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ، فَالْعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ وَتَارَةً يَنْهَى، وَتَارَةً يُبِيحُ وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ، كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ، أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ».

    أصحاب المناهج الدعوية المخالفة

    فليت شعري، أين كان أصحاب المناهج الدعوية المخالفة لمنهج الأنبياء من هذه القاعدة المقررة والضوابط المحررة المبنية على أدلة الكتاب والسنة؟ لقد غلب القوم عواطفهم، وغلب عليهم الجهل فاندفعوا يغيرون بعض المنكرات بعيدا عن ضوابط الشرع؛ فجلبوا المفاسد والمضار، وعطلوا الدعوات، ورموا الناصحين لهم من أهل العلم بالجبن والخور، وحسبوا اندفاعهم وتهورهم شجاعة وإقداما وغيرة.

    ولنا أن نسأل هؤلاء: أأنتم أغير على شرع الله أم سيد الأولين الذي كان يمر على الأصنام وهي تعبد من دون الله فلم يحطمها إلا بعد أن مكنه الله رغم أنه كان يدعو قومه للتوحيد ويسفه أحلامهم ويعيب آلهتهم المزعومة؟ وكان يمر على أصحابه يعذبون فيأمرهم بالصبر ويحثهم على الثبات ويبشرهم بأن العاقبة لهم، وكذلك كان موسى -عليه السلام- لما شكى له قومه أذى فرعون فقال لهم: {اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

    خلاصة القول


    وخلاصة القول أن اعتبار المصالح والمفاسد بالعمل على تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها سمة من سمات منهج الأنبياء -عليهم صلوات الله وسلامه-، وميزان ذلك هو الشرع المنزل لا ميل النفوس ولا أهواء البشر، مع النظر إلى مآلات الأفعال والنتائج المترتبة عليها.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,792

    افتراضي رد: قواعد الإصلاح والتغيير عند الأنبياء والمرسلين


    - القاعدة العاشرة
    - تربية النفوس على التجافي عن دار الغرور والشوق إلى دار النعيم والسرور


    عادل نصر




    الدعوة الصحيحة هي التي تقوم على منهج الأنبياء والرسل، وتنبع من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل دعوة لا تقوم على هذا الأساس دعوة قاصرة وناقصة، يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معًا، لذلك بدأت لجنة البحث العلمي في الفرقان باستنباط بعض قواعد الدعوة والإصلاح من منهج الأنبياء والمرسلين، واليوم مع القاعدة العاشرة وهي تربية النفوس على التجافي عن دار الغرور والشوق إلى دار النعيم والسرور.

    لقد حرص الأنبياء -عليهم السلام- غاية الحرص على تربية أتباعهم على التعلق بالآخرة والعمل لها، وإعداد الزاد ليوم المعاد، والزهد في الدنيا والتجافي عنها واتخاذها مزرعة لدار البقاء والخلود، وطريقا موصلا لبلاد الأفراح، ولما كان التعلق بالدنيا والركون إليها من أعظم مفسدات القلوب، وأخطر العوائق في طريق السالك إلى الله -عز وجل- حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من مغبتها مبينا لهم أنها سبيل الهلاك، وأنه لا يخشى على أمته الفقر بل يخشى عليهم من الدنيا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» .

    الانصراف عن الدعوة وطلب العلم

    وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فها نحن أولاء نرى بعض من مَنَّ الله عليهم بالالتزام، وشرح صدورهم إلى اتباع السنة، نراهم في أول عهدهم مسارعين في الطاعات، ومنافسين في الخيرات، جادين في حفظ كتاب الله وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -،متحمسين للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حريصين عل صحبة أهل الخير، فإذا ما فتحت عليهم الدنيا أو رأوا تجارةً أو لهوًا انفضوا إليها وأقبلوا عليها بكليتهم، شغلتهم أموالهم وأهلوهم عما كانوا يدعون إليه بالأمس، وتغير حالهم، ولم يعد يشغلهم إلا الدرهم والدينار، فإن رحت تنصحهم وتحذرهم عاقبة ما هم فيه وتقول لهم {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}، وتقول لهم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} راحوا يتعللون بالعلل التي هي أوهى من بيت العنكبوت، يسوق أحدهم المسوغات التي لا تغني عنهم من الله شيئا، بل الأدهى والأمر من كل هذا أن منهم من يجاريك فيشكو لك حاله، ويتمنى أن لو عاد إلى ما كان عليه، ولا يدري أن مجرد التشكي والتشهي لن يحول بين العبد وبين العقوبة ما لم يبادر بالتوبة، وينخلع من كل ما يحول بينه وبين ربه، قال -تعالى-: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ(15)} الأنبياء.

    حقيقة الدنيا

    لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على ضرب الأمثال للدنيا ليبين للصحب الكرام حقيقتها، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: « قَامَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخَطَبَ النَّاسَ فَقالَ: لا وَاللَّهِ، ما أَخْشَى علَيْكُم، أَيُّهَا النَّاسُ، إلَّا ما يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيَا فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً، ثُمَّ قالَ: كيفَ قُلْتَ؟ قالَ: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأْتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فَقالَ له رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّ الخَيْرَ لا يَأْتي إلَّا بخَيْرٍ، أَوَ خَيْرٌ هُوَ، إنَّ كُلَّ ما يُنْبِتُ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا، أَوْ يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ، أَكَلَتْ، حتَّى إذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ، ثَلَطَتْ، أَوْ بَالَتْ، ثُمَّ اجْتَرَّتْ، فَعَادَتْ فأكَلَتْ فمَن يَأْخُذْ مَالًا بحَقِّهِ يُبَارَكْ له فِيهِ، وَمَن يَأْخُذْ مَالًا بغيرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ، كَمَثَلِ الذي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ».

    وقريبا من هذا المعنى ما وري عن نبي الله عيسى -عليه السلام-: «طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتى يقتله»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»، فما أسعد من قصر أمله في هذه الحياة وتجهز للقاء ربه بعمل الطاعات!؛ فإن المرء لا يدري متى ينادى عليه بالرحيل.

    التخلص من التعلق بالدنيا

    فإذا تخلص الداعي المسلم من التعلق بالدنيا، وأفرغ ما في قلبه من سمومها وأقبل على الآخرة أحس بخفة في روحه وإقبال شديد على مراضي ربه، وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباده، لا يعيقه عن ذلك تعب ولا نصب ولا ألم ولا سفر ولا سهر ولا بذل ولا تضحية؛ لأن ذلك كله من الزاد المؤكد نفعه وفائدته في سفره الطويل البعيد إلى الآخرة، بل إنه سيجد في تعبه راحة، وفي ألمه لذة وفي بذله ربحاً وفي تضحيته عوضاً مضموناً، وليس فيما أقوله خيالاً أو مبالغة، فإن الغريب عن أهله الذي طالت غربته، وازداد شوقه إليهم، سيجد لذة وهو يعد أسباب سفره إليهم، وإن كان في إعداد ذلك تعب لجسمه وسهر في ليله، ومن جرب عرف.

    طلب معالي الأمور

    ولن يطلب معالي الأمور ويدع سفاسفها إلا طلاب الآخرة، فها هم أولاء الصحب الكرام دكوا الممالك، وفتحوا البلاد على الرغم من فقرهم وشدة حاجتهم، ولما دخل الوهن قلوب الأمة اليوم تكالب عليها أعداؤها تكالب الأكلة على قصعتها، أتدري ما الوهن الذي جلب على الأمة كل هذا؟ ها هو ذا النبي - صلى الله عليه وسلم- يخبرك به، فعن ثوبان - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».

    أعلمت أخا الإسلام ما الوهن؟ إنه حب الدنيا وكراهية الموت.

    أوجه ذم الدنيا

    وأختم هذا الكلام بما قاله الإمام ابن القيم -رحمه الله- مبينا أوجه ذم الدنيا: «قالوا وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسدا للدين من وجوه:

    - أحدها: أن حبها يقتضى تعظيمها، وهى حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقر الله.

    - وثانيها: أن الله لعنها ومقتها وأبغضها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للفتنة ومقته وغضبه.

    - وثالثها: أنه إذا أحبها صيرها غايته وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه وإلى الدار الآخرة فعكس الأمر وقلب الحكمة فانعكس قلبه وانعكس سيره إلى وراء.

    - ورابعها: أن محبتها تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة لاشتغاله عنه بمحبوبه، والناس ها هنا مراتب:

    - فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان وشرائعه.

    - ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرا ولا باطنا.

    - ومنهم من يشغله حبها عن كثير من الواجبات.

    - ومنهم من يشغله عن واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره.

    - ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فيفرط في وقته وفى حقوقه.

    - ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب وتفريغه لله عند أدائه فيؤديه ظاهرا لا باطنا.

    تصبح همَّ العبد

    - وخامسها: أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد، وقد روى الترمذي من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يُؤْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَه».


    عذاب من يحب الدنيا

    - وسادسها: أن محبها أشد الناس عذابًا بها، يعذب في الدنيا بتحصيلها والسعي فيها ومنازعة أهلها، وفى دار البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدا، ولم يحصل له هناك محبوب يعوضه عنه فهذا أشد الناس عذابا في قبره، يعمل الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه، قال -تعالى-: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }التوبة85، قال بعض السلف: يعذبهم بجمعها، وتزهق أنفسهم بحبها، وهم كافرون بمنع حق الله فيها».
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •