كنت في الثانية والعشرين من العمر . غراً لا أحمل حفنة من علم .
وامتطيت صهوة جوادي لأرحل بعيداً الى الله . أشتري كتاباً من هنا ومن هناك كتاباً لأرفع جهلاً عني واسع الأطراف .
وتراني احضر محاضرة هنا ومحاضرة هناك .
وخطبة جمعة هنا وفي البعيد خطبة هناك . وأخذت أصلح نفسي ومن حولي .
وأردت اخراج ما يسمى التلفاز من بيتنا فلم استطع .
ولكن بعد هذا أنار الله قلوب منزلنا وألقوا التلفاز في غياهب الموت .
وبعد سنتين دخلت منزلنا يوماً وصوت أنثى يتعالى من التلفاز تغنى بمعازف سكرى تصاحبها . دخلت الغرفة وقد هاج فؤادي ونظرت فإذا هي فتاة في الثانية عشر من عمرها تقريباً .
فازداد ألمي وأنساني الشيطان ذكر ربي وصحت بوجه ابن باز وكانه يقعد أمامي وقلت له
أهذا عملك يا حاذق . ردود على الأشاعرة فأين أنت من هذا .
هذا معنى ما قلته بالعامية ساعتئذ . وقد ترجمته للفصحى ..
كبرت وكبر حزني واستيائي من ابن باز لأنه سكت على هذا .
سألت نفسي بعد سنين طوال عجاف وما أدراك أنه سكت .
هل تتابع مجلة سيارة . لا .
هل تتابع أي وسيلة إعلامية . لا .
هل سألت أحداً عن هذا الأمر . لا .
حملت الذي حملته عليه و ما خرج مني كلمة لأحد ضده أو عليه
سوى رجل واحد كانت له مكانة في نفسي . كان عمري ثمان وعشرين عاماً .
قلت له وأنا في غضب في مناقشة بيني وبينه إني أكرهه في الله .
وأقام الدنيا وأقعدها عليّ من خلف ستار . لا أحس بشئ ولا أسمع صوت أحد .
غاية في المكر .
ماذا جنى . جَهلة مثلي . جمعنا الجهل وفرقنا الجهل .
وما علمت بما صنع حتى رحلت بعيداً عن المدينة بسنين .
ورسول الله يقول
المكر والخديعة والخيانة في النار .
حسنه الألباني بشواهده .
ما أعظم الخيانة والمكر والخديعة . كبائر من الكبائر .
طيب فقهوه . انصحوه . ارحموه . أما علم أني أقرأ من كتبه ثقة بعلمه وأقول إني أكرهه في الله .
تناقضٌ غر جهول . ولو حاورني حاذق وقتها لرأي أني لا أعلم معنى الكلمة ومقتضياتها .
فكيف تلومونه على كلمة مؤمن يقرأ من العقيدة الطحاوية ومن عقيدة ابن باز .
ألا يغضب الابن من أبيه . أإذا كان اسمه قطرة بن سلامة أيصبح بعد غضبه علاّمة بن سلامة .
حبيس داره . حياته البيت والمسجد والجامعة . هذا مثلث حياته .
ما كانوا يعرفونه . وكأنهم كانوا يعرفون ابن باز أكثر منه .
لكن هذا حالنا نغرق في شبر ماء . ونطير بجناح بعوضة .
لا أدري بعد هذا العمر الطويل ماذا سأفعل به لو رأيته .
لكني قبل خمسة عشر عاماً أشهدت الله أني قد عفوت عن كل من ظلمني مسلمهم وكافرهم .
أجد نفسي صغيراً وأنا أقول لربي يا رب سل هذا سل هذا .
استحيي من ربي أن أقف أمامه أريد حقي الذي سلبه فلان واغمض فيه فلان .
أريد أن أكون أكبر من هذا وأعلم وأرحم .
فأين تريد أن ترحل إذن بعد هذا ورسول الله يقول
من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال
نامَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حَصيرٍ فقامَ وقد أثَّرَ في جَنْبِه .
قُلْنا يا رسولَ الله لوِ اتَّخَذْنا لكَ وِطاءً فقال
ما لي وللدُنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكِبٍ اسْتَظلَّ تحْتَ شَجَرةٍ ثُمَّ راح وتركَها .
رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح .
وأورده الألباني في صَحِيحُ التَّرْغِيب وَالتَّرْهِيب .
أقرأ من كتبه ثقة به ولكني كنت لا أحبه. لماذا .
ألأنك رأيت فاجرة فتصرخ فتبلغ الصرخة عنان السماء
وتقول أين أنت أي ابن باز . نعم .
أهذه كل القصة . إي والله هذه كل القصة .
تا الله إنك كنت رجلاً بلا عقل ولا نقل ولا هدى ولا كتاب منير .
أغيرة على الدين كانت . نعم
أغباء وجهل عظيم بواقع العلماء والمسلمين والناس أجمعين . نعم .
هل استغفرت الله . نعم . كثيراً .
عرفت فالزم .
قبل أن يموت رأيته في رؤيا عجيبة غريبة وأدركت بعد موته رحمه الله أنها نعي لي انه سيموت .
دخلت على الشبكة الدولية في ليلة حزينة فاذا عبد العزيز ابن باز قد مات .
اغرورقت عيناي بالدموع . خيم الحزن على فؤداي . رفعت رأسي الى السماء
وناجيت ربي يا رب أرني هذا الرجل على حقيقته .
أبعد موته تدعو الله وقد واروه الثرى . وفجأة ألقي في رُوعي دمعة وكأنني أحس أنه أبي .
على الحقيقة إنه أبي . مات أبي .
وأخذت أجول في الطرقات بحثاً عنه . أقرأ نعي بعد نعي .
نعي العلماء والمشايخ وطلبة العلم وغيرهم .
نعي إحدى بناته وليس أحد أولاده . نعي غازي القصيبي يسخر منه ويتقلله
كأنه هو رب الذكاء والسخاء يخفي علينا لعمق ذكائه خفايا ومتاهات جوفه ومحرابه .
دعوت عليه ساعتئذ . واتشح وجهى بمسحة غضب عليه وسخرية منه .
فيا له من سراب في سرداب يظن أنه ليس له باب ..
بقيت اقلب الصفحات في حزن وعجب .
كنت أقول ألا يوجد من يحبه .
ما هذه الأساليب التى أراها من مختلف طبقاتها ولا أرى فيها حزناً باكياً في حروفها .
حتى ابنته . أليس لها قلب .
هكذا كنت أبكي في فؤادي حزناً عليه . دموعُ تساؤلات ليس لها جواب .
ازادد حزني .
وفي مكان يلفه الحزن أقرأ لرجل له مكانة عند بعض مسلمي العرب وبعض العجم
ما أحسب أحداً يتصور أنه يمكن أن يحمل هذا الحب والحزن عليه .
تعاجيب أقرأها . وآلاماً ما فارقت فؤادي حتى الآن .
كيف يحبه وجماعته فيها هذا التناقض . صوفية وأشعرية وماتريدية وكلابية وشيعية
وأخر متشابهات .
رجعت الى الرؤيا التي رأيتها فيه قبل وفاته وقد علمت أنها رؤيا حق أتأملها
لأرى أجوبة على تساؤلاتي . فهل وصلت . لا أدري .
فما عدت أدري كيف الوصول الى قلبه وقد وصلت .
أعود الى عمري وقت كنت في الثامنة والعشرين .
قامت حرب الخليج قومة فاجرة عاتية رعناء عمياء صماء وعنونت لها بأنها فانية .
واشتد الخطب . أطفال يتم وأمرأة ثكلى وأمرأة حبلى . دم وردم وهدم .
احترقت مصاحف . سلبت مساجد . ضاعت دواوين . اختلت موازين . اختلط الحابل بالنابل .
ووقفت كما وقف غيري لا أراوح مكاني .
يارب ماذا يجري .
تذكرت ابن الأثير المتوفى سنة 630هـ في كاملة وهو يئن من فرط وجعه .
وحروفه تبكي الدمع حيرى وحرى .
كان يحكي قصة المغول وأنه يتمنى الموت ولا يتكلم عن بغداد وقد أصبحت بلا عماد .
وصوت وسوط عذاب قد حل .
يقول ابن الأثير رحمه الله في كامله أنه بقى سنين معرضاً عن ذكرها استعظاماً لها .
وقال فيا ليت أمي لم تلدني وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً . انتهى .
واراد صاحب لي أن يرحل الى بلد ما . وطلب مني أن أنهي حياته في تلك المدينة ببيع سيارته وأشياء في مخزن كان قد استأجره وأخرى .
وفعلت كل هذا . وجمعت أثمانها وأرسلتها له حيث كان .
أعطانى مفتاح صندوق بريده لأفتحه وأرى إن كان هناك من شئ مهم لأبعثه له .
وفي يوم من الأيام وصل له رسائل من سفارته بمعلومات عن حرب الخليج
وأوراق كتبت باسم عبد العزيز بن باز .
فلما قرأتها بدأت أتسائل أحق ما أرى . أهذا أسلوب بن باز .
يا ليتني احتفظت بها لأتحقق من نسبتها إليه .
لكن نفسي كنت أراها وأرى فجوة بيني وبينه قد اتسعت .
وبقيت على هذا الحال حتى رحل . لم أره ولم يراني رحمة الله عليه .
لو أخبركم بحقيقة يعقلها أولو النهى .
مر علي سنوات كنت فيه أسعد بموت شيخ أيّن كان مذهبه وطريقته .
لأني كنت أرى قصورهم وضعفهم كما يبدو لي .
ثم عدت الى ربي بعد موته . أريد أن أعلم حقيقة هذا القلب الذي أحمله في حناياي .
وعلمت انني كنت رجلاً جاهلاً غراً يسكن وحيداً في صحراء حب لله ورسوله ولصحبه .
ما كنت أرى غير صحابة رسول الله . ولا يجد قلبى محلاً لأحد سواهم .
كتبت يوماً
أشيع نفسي في كل يوم مرة
والزغاريد ما بالها لا تنطفئ .
تا الله إن الجهل عمى ولله الآخرة والأولى . فالحمد لله على كل حال .
كنت أنظر الى الشيخ في خيالي . أحس به بعد وفاته . وقبل وفاته كنت أتمنى أن أكون بقربه أنصحه وأذكره .
ما أعجب الدنيا . كيف أكون بقربه وأنا لا أزن شسع نعله .
توالت رؤاي فيه . أراه . أكلمه . يكلمني . أشكو له حالي .
وفي أوخرها أخبرني بحقيقة في فؤاده نحوي وكأن بلاء سيحل . وحل .
.
لو أخبركم بحقيقة يعقلها أولو النهى .
مر علي سنوات كنت فيه أسعد بموت شيخ أين كان مذهبه وطريقته .
ثم عدت الى ربي بعد موته . أريد أن أعلم حقيقة هذا القلب الذي أحمله في حناياي .
وعلمت انني كنت رجلاً جاهلاً غراً وحيداً في صحراء حب لله ورسوله ولصحبه .
ما كنت أرى غير صحابة رسول الله . وغيرهم لا يجد قلبى محلاً لأحد سواهم .
كتبت يوماً
أشيع نفسي في كل يوم مرة
والزغاريد ما بالها لا تنطفئ .
تا الله إن الجهل عمى ولله الآخرة والأولى .
فالحمد لله على كل حال .
أحقاً تريد أن ترحل .