رمضان شهر الصيام والقرآن


مسعود فلوسي




نستقبل هذه الأيام موسما مباركا، شهرا فضيلا كريما، عزيزا على قلوب المؤمنين جميعا، شهر يكرم الله عز وجل فيه عباده بخيراته وبركاته وأفضاله ونعمه، فتزداد في هذا الشهر البركات، وتفيض الخيرات، وتحل الرحمات، وتترطب القلوب، وتتلاقى مشاعر المؤمنين، وتجتمع أرواحهم على طاعة الله عز وجل وعبادته.

هذا الشهر الفضيل هو شهر رمضان، الشهر الذي خصه الله سبحانه وتعالى بفضائل وخصائص لم يعطها غيره من الشهور.

شهر رمضان مدرسة يتعلم فيها المؤمن الكثير من فضائل الإيمان، ويتزود منها بالتقوى وبالإيمان وبالخوف من الله سبحانه وتعالى وبالرجاء فيه عز وجل، زاد وفير يعينه على طاعة الله عز وجل في بقية الشهور.

ما هي خصائص هذا الشهر وفضائله؟

لابد أن نعرف هذه الخصائص والفضائل حتى نقدر هذا الشهر حق قدره ونستقبله بما يليق به من حفاوة، ونجتهد فيه بما يقربنا إلى الله سبحانه وتعالى ويزيد مكانتنا عنده عز وجل.

أول خصائص هذا الشهر؛ أنه شهر الصيام، وما أدارك ما الصيام، إنه فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجُ البيتِ من استطاعَ إليه سبيلاً".

فلو لم تكن لرمضان من مزية سوى أنه شهر الصيام لكفاه ذلك فضلا وفخرا.

والصيام - كما هو معلوم - عبادة فرضها الله عز وجل على عباده في الإسلام وفي الرسالات السابقة، كما قال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 183)، فالصيام هو العبادة التي تدرب الإنسان المؤمن على التقوى، والتقوى هي ما يريد الله سبحانه وتعالى من عباده أن يحققوه.

القرآن الكريم كله يتحدث عن التقوى ويأمر بالتقوى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا] (الأحزاب: 70-71).

والتقوى هي الخوف من الله سبحانه وتعالى، والحرص على مرضاته، وامتثال أوامره، وهي ترك ما نهى الله عز وجل عنه، وبالجملة فهي فعل كل ما يحبب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] (آل عمران: 102)، قال: "أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر".

والصيام وظيفته أن يدرب الإنسان على التقوى، لأن الجو الذي يهيئه اجتماع الناس جميعا على الصيام، وحرص المؤمن على أن يكون صيامه مقبولا، هذا يجعله يكون أحرص على فعل المأمورات وترك المنهيات، وعندما يتعود على هذه التقوى في شهر رمضان، فهي تمثل بالنسبة له زادا يحفظه من المعاصي ويمنعه من الوقوع في المنكرات خلال الأحد عشر شهرا التي تأتي بعد رمضان حتى يعود رمضان من جديد.

وأحسن ما يتزود به المؤمن في هذه الدنيا للآخرة هو التقوى، كما قال سبحانه وتعالى: [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] (البقرة: 197)، وذلك لأن التقوى هي المعيار الوحيد للتفاضل بين الناس عند الله عز وجل، قال تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] (الحُجُرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، ألا إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى".

فإذن؛ أول خاصية لشهر رمضان أنه شهر الصيام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، فإذا صمت رمضان "إيمانا" أي تصديقا بأن هذه فريضة من الله سبحانه وتعالى، وأنك تتعبد لله عز وجل بهذه الفريضة، و"احتسابا" أي احتمالا لما فيه من المشقة والتعب، ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى ورجاء الحصول على ما عنده من الثواب والمغفرة والرضوان، فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، أي أن الإنسان إذا صام رمضان إيمانا واحتسابا يخرج منه صفحة بيضاء، كتابُه تمحى منه السيئات ولا تبقى فيه إلا الحسنات.

الخاصية الثانية لشهر رمضان؛ والتي يتدرب عليها الإنسان المؤمن أكثر في رمضان، ويجتهد فيها أكثر في رمضان، هي أنه شهر القرآن [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] (البقرة: 185)، فالله عز وجل أخبر أن القرآن إنما أنزل في شهر رمضان، ولذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخص رمضان بمزيد الاهتمام بالقرآن، ويكفي لندرك هذا الاهتمام تشريع صلاة التراويح التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الصلاة لا يهتم بها المؤمنون ولا يحرصون عليها في غير رمضان.

والهدف الأساس من صلاة التراويح هو إحياء العلاقة مع القرآن، حيث يختم المؤمنون القرآن جماعة في صلاة التراويح، كما يختمه الكثيرون منهم بصفة فردية، حيث يجتهد كل منهم أن يختم القرآن في رمضان، مرة أو مرتين أو أكثر كل حسب استطاعته، وجو رمضان يعين على هذا، جو الصيام والطاعة وتعاون المؤمنين جميعا على عبادة الله عز وجل يعين كلا منهم على أن يقترب من القرآن أكثر وأن يقرأه أكثر وأن يهتم به أكثر، حتى يتقوى بهذا الاهتمام على الاستمرار في العلاقة مع القرآن في سائر الشهور.

ولذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يحثنا على الاجتهاد في قراءة القرآن وفي الصلاة بالقرآن في رمضان، يقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؛ أي قامه بالصلاة وقراءة القرآن. وفي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ".

ولذلك، المؤمن الحريص على مرضاة الله عز وجل، الحريص على أن يترقى في مدارج القرب من الله سبحانه وتعالى، الحريص على أن يملأ ميزانه بالحسنات وأن يملأ كتابه بالأجر والثواب، هو من يحرص على أن يصلح صيامه وأن يصلح علاقته بالقرآن.

هذان الأمران لابد أن نجتهد فيهما في هذا الشهر الفضيل، وأن نحرص على تحقيقهما كما يريد الله سبحانه وتعالى وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

وذلك أنه لا يكفي أن يقول الإنسان: أنا صائم، بمجرد أن يمتنع عن الطعام والشراب والشهوة، هذا هو المظهر الخارجي للصيام، لكن هناك الجانب الجوهري والحقيقي للصيام وهو أن يمتنع الإنسان عن كل ما يغضب الله سبحانه وتعالى.

حقق صيامك أخي المؤمن، أصلح صيامك، احرص على صيامك، فكثير من الناس لا يحرصون على صيامهم، يصومون ولكنهم يضيعون صيامهم، أحدهم يصوم ولكنه في النهاية لم يصم، أي أنه لم يحقق نوال الأجر والثواب، ولم يحقق مغفرة الذنوب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".

لا ينبغي أن نكتفي بالصوم المظهري فقط، بل لابد أن نحقق الصوم في مظهره وجوهره معا، هذا هو الصوم الذي قال لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

كذلك الحال بالنسبة لقيام رمضان، ينبغي أن نحقق هذا القيام على حقيقته، لا ينبغي أن نضيع أجرنا وثوابنا بما نرتكبه من أخطاء. كثير من الناس يحسبون أن الهدف هو مجرد القيام في المسجد في صلاة التراويح، ولكنه روحيا غير متهيئ لهذا، تجده يصلي ولكنه يشتكي من تطويل الإمام، أو يبحث عن إمام يُسْرع في القراءة ويُنهي الصلاة في وقت أقل من غيره من الأئمة، فهو لم يحقق الإخلاص في قيامه، والمطلوب الاجتهاد لتحقيق الإخلاص في الصيام وفي القيام، وأن نصلح علاقتنا بالقرآن.

لابد أن نجتهد في قراءة القرآن، وهذا مالا يحققه كثيرون مع الأسف، علاقة الواحد منهم بالقرآن مقطوعة على مدار السنة، حتى في رمضان لا يعيد ربط هذه العلاقة، ويبقى دائما غريبا عن القرآن والقرآن غريبا عنه.

لابد أن نعود إلى القرآن، لابد أن نرجع إلى تلاوة كتاب الله عز وجل، وليس فقط أن نتلوه وإنما أن نتدبره أيضا. هناك من يقرؤون القرآن، ولكن هدف الواحد منهم أن ينتهي ويختم في كل مرة، دون أن يأخذ من القرآن شيئا. ربنا سبحانه وتعالى يقول: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (محمد: 24)، فليس ضروريا أن نختم القرآن في رمضان، إذا ختمته أفضل، لكن الأساس أن تتدبر القرآن، أي إذا كنت تقرأ خمس أو عشر آيات، وتتأمل فيها وتنتفع من المعاني التي تتضمنها وتحرص على تطبيقها في حياتك، هذا أفضل من أن تختم القرآن كاملا دون أن تنتفع منه بشيء [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا].

فالهدف من القرآن هو التدبر، ولذلك علينا أن نحرص على أن نتعلم القرآن، وأن نستفيد من القرآن، وأن نأخذ ما ينفعنا في حياتنا من القرآن، لأن القرآن إنما أنزل ليُتدبر ويُعمل به، وليس ليكون وسيلة للتباهي والتظاهر كما هو حال المسلمين اليوم.

تلاوة القرآن وتجويده نشاط يجتهد فيه الكثيرون من المسلمين اليوم بما يخرجه عن مقصوده، أصبح الناس يطلبون القرآن للتباهي، فقد غلبنا الاهتمام بالترتيل وتلحين القرآن ونسينا الجوهر الذي هو التدبر ثم العمل.

فهناك مسابقات كثيرة تعقد لحفظ القرآن وترتيله، لكن لم نسمع عن تنظيم مسابقة للتنافس في فهم وتدبر القرآن، لأن الفهم غير مُراد، المراد فقط هو المظاهر، ولذلك لا فائدة من كثير من هذه المسابقات، لغياب الإخلاص والصدق مع الله عز وجل. وفي العالم الإسلامي اليوم عشرات القنوات القضائية المخصصة للقرآن، وآلاف القراء والمجودين، لكن لا أثر لكل ذلك في حياة المسلمين، لأن الهدف هو اللحن فقط وليس التدبر وفهم القرآن وإدراك ما يريده الله عز وجل منا عندما يخاطبنا بهذا القرآن.

في القرآن نداءات كثيرة: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ]، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، [يا عبادي]، [يَا بَنِي آدَمَ]، في نداءات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، دائما نجد أمرا أو نهيا أو تكليفا، فهل صرفنا اهتمامنا إلى هذه التكاليف؟ هناك أكثر من ثمانين نداء بدئ بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، ومع كل واحد من هذه النداءات تكليف أو أكثر بفعل مأمورات أو ترك منهيات، هل اهتممنا بهذا؟ وهل نظرنا فيما يلزمنا من وراء هذه التكليفات؟


فلابد أن نحرص على تدبر القرآن، وعلى فهم ما يريده الله سبحانه وتعالى منا في هذا القرآن، ثم نقبل بعد ذلك على العمل به والسير على نهجه في سائر شؤوننا وكافة مجالات حياتنا الفردية وعلاقاتنا الاجتماعية، حتى ننجح في دنيانا ونفلح في أخرانا: [إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] (الإسراء: 9).