هم أحوج مني (قصة)
عادل عبدالله أحمد محمد الفقيه


طار قلبُه اشتياقًا إلى الحج للمرة الثانية، ورفرف فؤادُه حبًّا للطوافِ وللسعي بين الصفاء والمروة، لمَ لا وقد غاب سنوات عن بيت الله؟ منعته ظروفُه الاقتصادية، فما إن تحسَّنَتْ حتى بدأ يحلم بما حُرم منه.

قرَّر الحاج حميد الحجز للرحيل إلى بيت الله الحرام، ذهب إلى مكتب السفريَّات للحجِّ والعُمْرة، وقيَّد اسمَه ضمن مَنْ سجَّل، وقبل الرحيل بأسبوع نوى زيارة الأقرباء من أخوات وبنات وجيران ومرضى أهل القرية، بدأ بأخواته القريبات، ثم مَنْ تبعُد وهكذا، وما إن يُودِّع إحداهُنَّ حتى تُوصيه بالدعاء قُرْبَ بيت الله.

كان له بنت، أسعفت إلى المستشفى قبل أسبوع من زيارته للأقارب، قرَّر زيارتها في المستشفى، وصل إلى هناك، فرأى وسمِعَ ما تسمرَّت لفعله قدماه، وفاضت منه عيناه، وحزن منه فؤاده.

دخل المستشفى ومعه ما يطلب المريض عند مرضه، وما تشتهيه نفسُه عند نقص الألم، وبينما هو جالس على سرير ابنته متحدِّثًا معها عن مرضها وأسبابه، وبينما هما منهمكان في الحديث، إذا بامرأة ترقد على سرير مقابل لسرير ابنته، وبينما كانت الممرضة تمرُّ بين المرضى لتعطيهم ما يحتاجون إليه من العلاج، ومستلزمات طبية، جاء دور تلك المرأة، فما إن جاء دورُها حتى نهضت مُقبِّلةً كفَّ الممرضة قائلة:
نظرة، أنظر إليه ولو مرة واحدة، أرجوك، أرجوك. أجابت الممرضة:
ماذا أصنع؟ ما بيدي حول ولا قوة، ما أنا إلا موظفة براتب زهيد.

كل هذا والحاج حميد ينظر، نظر إلى ابنته: ما الأمر؟ ممَّ تشكو هذه المرأة؟ البنت:
هذه امرأة فقيرة، تعسَّرت في الولادة، فأتى بها أهلُها إلى هنا، فبعد العلاج ذهب زوجُها؛ ليبحث عن مال للمستشفى، فلم يجد حق الدواء، فقرَّرَتْ إدارة المستشفى حجْزَها وحرمانها من النظر إلى جنينها، فهي كل يوم تتوسَّل إليهم لتنظر إليه نظرةً واحدةً ولو مرة. الحاج حميد:
وكم يطلب المستشفى منها. البنت:
ثلاثين ألف ريال، أكمل الحاج مع ابنته الحديث، وبعد انتهاء الزيارة، ذهب إلى إدارة المستشفى ليسأل: كم تبقَّى من مالٍ على تلك المرأة، فأجابه الإداري:

عليها ثلاثون ألف ريال.
أخرج الحاجُّ المال مُقدِّمًا إيَّاه للإدارة، فسلمت له الإدارة سندًا بتسليم المال، فقال الحاجُّ، للموظف:
خذ أنت السند وسلِّمْه للمريضة.

وفي اليوم الثاني جاء لزيارة ابنته، فلم يجد تلك المرأة على كرسيها. سأل ابنته عنها، فأجابت:
بعد خروجك بنصف ساعة حتى جاء الموظف يسلم لها ولدها، وأمرها بالخروج، سألت عمَّن قام بدفع المبلغ، فلم يُجبْها الموظف إلا بقوله: لا أعلم، خرجت وهي تقول: مَنْ أنقذني من هنا، أنقذه الله من نار جهنم، وجعله رفيق محمد بن عبدالله في الجنة.

وما إن جاء الليل إلا وجاره يقرع باب منزله سائلًا إيَّاه أن يُفرِّج همَّه ويُزيل غمَّه، فزوجته مريضة، وهي بحاجة إلى عملية جراحية، فهي بين الحياة والموت، فأخرج له خمسين ألف ريال، حينها قرَّر الحاج حميد أن يلتفَّ نحو الفقراء والمساكين؛ فهم في أشدِّ الحاجة للمال.

أعطى كل فقير ومسكين ما يحتاج إليه من مواد غذائية، ومن غير أن يحس َّالفقير بمَنْ أعطاه، ومَنْ سعى في بذلها، وعند خروج الحجاج، سأله الناس: لمَ تراجعْتَ عن الرحيل إلى الحج؟! أجاب: هُم أحوج منِّي.


__________________