تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)

    الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، والفوز والسكينة لمن تبع هداه .

    أما بعد ، فلا شك أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله له من الصدارة في العلوم الإسلامية ما لا ينكره كل ذي عينين . وما قدر الله له من الذكاء المفرط والنظر الثاقب مع قوة الفراسة وجمال الشيم ليظهر لهذا الإمام منزلته بين الأنام . وما يرث المسلمون من هذا الشيخ النبيل من الكتب والرسائل والفتاوى النيرة المباركة لأكبر دليل على مكانته وجلالته . وقد انتفع بتراثه القيم كثير ممن جاء بعده من العلماء والعظماء من جميع الطوائف أكبر انتفاع . . فلا يخفى عند كل منصف صادق ، أن الناس بعده في العلم والتحقيق : عيال على هذا البحر العميق . رحمه الله رحمة واسعة ، وجعل الفردوس متقلبه ومثواه ، وجمعنا وإياه مع الصالحين من عباده والشهداء والأنبياء في جنته ودار كرامته ، إنه - جل وعلا - ولي ذلك والقادر عليه .

    ومع ذلك ، فكم يجد الطالب المبتدئ مثلي في كتابات الشيخ من الصعوبة في الفهم والعسر في الدرك . . وليس السبب أن الشيخ متنطع في الألفاظ متشدق في الأسلوب بشاشق الكلام . كلا ، ومعاذ الله أن يصدر ذلك من شيخ ناصح وإمام مخلص مثله ! بل السبب أن عقول أهل زمانا أكثرها لا تطيق الأفكار الدقيقة وإن قدمت إليها بأسلوب بسيطة ، وأن غالبهم لا يتحملون عبء البحث والنظر الطويل الذي يتحمله أصحاب الهمم العالية السابقين . وقد مضت عصورهم .

    فمستعينا بالعلي القدير ، أضع هذا المشروع - لنفسي قبل أن يكون لغيري . . راجيا به إيجاد حل هادف لتلك المشكلة الكبيرة ، التى طالما اشتكى منها الكثير ويعانى منها من الطلبة الجم الغفير (وأولهم : أخوك الفقير) . نعم ، قد يأخذ مثل هذا الأمل الكبير شهورا وأعواما ليس في وسعنا إنفاق نصفها ؛ إلا أن المولى القدير لا يعجزه - عز وجل - شيء في الأرض ولا في السماء . . هو الخالق البارئ الذي يقلب الأمور كيف يشاء ، وهو المعين الهادى الذي أخرج بحكمته الجلاء ممن الجفاء . فحسبنا الله ونعم الوكيل . . نعم المولى ونعم النصير .

    وأبتدئ هذا المشروع المتواضع بكتاب (الموافقة) ، أي (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) الذي اشتهر عند الناس بـ(درء تعارض العقل والنقل) . ذلكم الكتاب الذي ليس له في بابه من الموجود نظير ثان . . مؤلف جليل من إمام نبيل عجزت أرحام الأمهات أن تلد مثله عبر مئات السنين :

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي لباب الموافقة (1)

    لباب الموافقة


    الحمد لله . . نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا مباركا .

    ◙ القانون الكلي عند المتكلمين في المسائل العقدية :

    قول القائل : ” إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية (أو السمع والعقل ، أو النقل والعقل ، أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات) تعارُضَ النقيضين ؛ فإما أن يجمع بينهما وهو محال ، لأنه جمع بين النقيضين ؛ وإما أن يردا جميعا وهو في الاستحالة مثل الأول ؛ وإما أن يقدم السمع وهو محال ، لأن العقل أصل النقل ، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل ، والقدح في أصل الشيء قدح فيه ، فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا ؛ فوجب تقديم العقل ، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض . وأما إذا تعارضا تعارُضَ الضدين ، فامتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما “ .

    هذا الكلام قد جعله الرازي وأتباعه قانونا كليا فيما يستدل به من كتب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به . ولهذا ردوا الاستدلال بما جاءت به الأنبياء والمرسلون في صفات الله تعالى وغير ذلك من الأمور التي أنبأوا بها وظن هؤلاء أن العقل يعارضها ، وقد يضم بعضهم إلى ذلك أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين . وهذا القانون الذي وضعوه قد سبقهم إليه طائفة ، منهم أبو حامد الغزالي وجعله قانونا في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي وإن خالفه القاضي أبو بكر العربي في كثير من تلك الأجوبة . ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانون آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني .

    ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله . فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له ؛ فما وافق قانونهم قبلوه ، وما خالفه لم يتبعوه . وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها . لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات ، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن . وأما هؤلاء ، فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم ، وقد غلطوا في الرأي والعقل . فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء . ولكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول ، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم ؛ بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة ، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء ، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم .

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي لباب الموافقة (2)

    * طريقتا المبتدعة في نصوص الأنبياء

    ولهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان : (أ) طريقة التبديل ، (ب) وطريقة التضليل والتجهيل . أما أهل التبديل ، فهم نوعان : (1) أهل الوهم والتخييل ، و (2) أهل التحريف والتأويل .

    فأهل الوهم والتخييل هم الذين يقولون : " إن الأنبياء أخبروا عن الله وعن اليوم الآخر وعن الجنة والنار بل وعن الملائكة بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه ، ولكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به من أن الله جسم عظيم وأن الأبدان تعاد وأن لهم نعيما محسوسا وعقابا محسوسا ، وإن كان ليس كذلك في نفس الأمر ، لأن من مصلحة الجمهور أن يخاطبوا بما يتوهمون به ويتخيلون أن الأمر هكذا . وإن كان هذا كذبا ، فهو كذب لمصلحة الجمهور ، إذ كانت دعوتهم ومصلحتهم لا تمكن إلا بهذه الطريق " .

    وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم علي هذا الأصل ، كالقانون الذي ذكره في (رسالته الأضحوية) . يقولون : " الأنبياء قصدوا بهذه الألفاظ ظواهرها ، وقصدوا أن يفهم الجمهور منها هذه الظواهر ، وإن كانت الظواهر في نفس الأمر كذبا وباطلا ومخالفة للحق . فقصدوا إفهام الجمهور بالكذب والباطل للمصلحة " . وقد يقولون " إن النبي أفضل من الفيلسوف ، لأنه علم ما علمه الفيلسوف وزيادة ، وأمكنه أن يخاطب الجمهور بطريقة يعجز عن مثلها الفيلسوف " . ثم من هؤلاء من يقول " ما كان النبي يعلم الحق كما يعلمه نظار الفلاسفة وأمثالهم " ، فيفضلون الفيلسوف الكامل أو الولي الكامل علي النبي ، كما يفضل الفارابي و مبشر بن فاتك وغيرهما الفيلسوف علي النبي ، وكما يفضل ابن عربي الطائي خاتم الأولياء ـ في زعمه ـ علي الأنبياء .

    وفي الجملة ، فهذا قول المتفلسفة والباطنية ؛ كالملاحدة الإسماعيلية ، وأصحاب رسائل إخوان الصفاء ، والفارابي ، وابن سينا ، والسهروردي المقتول ، وابن رشد الحفيد ، وملاحدة الصوفية الخارجين عن طريقة المشايخ المتقدمين من أهل الكتاب والسنة : ابن عربي ، وابن سبعين ، وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان ، وخلق كثير غير هؤلاء .

    وأما أهل التحريف والتأويل ، فهم الذين يقولون : " إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا ما هو الحق في نفس الأمر ، وليس الحق في نفس الأمر ما هو الظاعر منها ، بل الحق ما علمناه بعقولنا " . ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلي ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات التي يحتاجون فيها إلي إخراج اللغات عن طريقتها المعروفة ، وإلي الاستعانة بغرائب المجازات والاستعارات . وهم في أكثر ما يتأولونه قد يعلم عقلاؤهم علما يقينا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه ، وهؤلاء كثيرا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض . فيقصدون حمل اللفظ علي ما يمكن أن يريده متكلم بلفظه ، لا يقصدون طلب مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلي الوجه الذي به يعرف مراده . فصاحبه كاذب علي من تأول كلامه . ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل ، بل يقولون : " يجوز أن يراد كذا" ، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ . وأما كون النبي المعين يجوز أن يريد ذلك المعني بذلك اللفظ ، فغالبه يكون الأمر فيه بالعكس - ويعلم من سياق الكلام وحال المتكلم امتناع إرادته لذلك المعني بذلك الخطاب المعين .

    وفي الجملة ، فهذه طريق خلق كثير من المتكلمين وغيرهم ، وعليها بني سائر المتكلمين المخالفين لبعض النصوص مذاهبهم ، من المعتزلة والكلابية والسالمية والكرامية والشيعة وغيرها .

    وأما أهل التضليل والتجهيل ،
    فحقيقة قولهم : " إن الأنبياء جاهلون ضالون ، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات والأقوال " . ثم منهم من يقول : " المراد بها خلاف مدلولها الظاهر والمفهوم ، ولا يعرف أحد من الأنبياء والملائكة والصحابة والعلماء ما أراد الله بها كما لا يعلمون وقت الساعة " . ومنهم من يقول : " بل تجري وتحمل علي ظاهرها ، ومع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله " . فيتناقضون ، حيث أثبتوا لها تأويلا يخالف ظاهرها ، وقالوا مع هذا : إنها تحمل علي ظاهرها . وهذا ما أنكره ابن عقيل على شيخة القاضي أبي يعلى في كتاب (ذم التأويل) .

    وهؤلاء الفرق – من أهل التبديل وأهل التجهيل – مشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة . ولهذا ، يجعل كل فريق (المشكل) من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر (مشكلا) . فمنكر الصفات الخبرية يقول : نصوصها (مشكلة متشابهة) ، لأنها غنده لا يعلم بالعقل ؛ بخلاف الصفات المعلومة بالعقل عنده ، فإنها عنده محكمة بينة . وكذلك يقول من ينكر العلو والرؤية : نصوص هذه (مشكلة) . ومنكر الصفات مطلقا يجعل ما يثبتها من النصوص (مشكلا) ، دون ما يثبت أسماءه الحسنى . ومنكر الأسماء يجعل نصوصها (مشكلة) . ومنكر معاد الأبدان وما وصفت به الجنة والنار يجعل نصوص ذلك (مشكلا) أيضا . ومنكر القدر يجعل ما يثبت أن الله خالق كل شيء (مشكلا) . ومنكر مشيئة العباد وقدرتهم يجعل نصوص الوعيد بل ونصوص الأمر والنهي (مشكلة) .

    وهكذا ، فقد يستشكل كل فريق ما لا يستشكله غيره ، ثم يقول كل منهم فيما يستشكله : " إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول " . ثم منهم من يقول : " لم يعلم النبي معانيها أيضا " ، ومنهم من يقول : " بل علمها ولم يبنيها ، بل أحال في بيانها علي الأدلة العقلية وعلي من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص " .

    فأهل التجهيل والتضليل شاركوا أهل التحريف والتأويل في أن الرسول لم يبين ، أو لم يعلم بل جهل معناها ، أو جهلها الأمة من غير أن يقصد أن يعتقدوا الجهل الركب . وأما أهل الوهم والتخييل ، فيقولون : " بل قصد أن يعلمهم الجهل المركب والاعتقادات الفاسد " . وهؤلاء مشهورون عند الأمة بالإلحاد والزندقة بخلاف الأولين الذين قالوا : " الرسول لم يقصد أن يجعل أحدا جاهلا معتقدا للباطل " . ولكن أقوال الأولين تتضمن أن الرسول لم يبين الحق فيما خاطب به الأمة من الآيات والأحاديث – إما مع كونه لم يعلمه ، أو مع كونه علمه ولم يبينه .

    ولهذا قال الإمام أحمد في (خطبته) فيما صنفه من (الرد علي الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته علي غير تأويله) . قال : " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل : بقابا من أهل العلم ؛ يدعون من ضل إلي الهدى ، ويصبرون منهم علي الأذي ؛ يحيون بكتاب الله الموتي ، ويبصرون بنور الله أهل العمي . فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضال قد هدوه . فما أحسن أثرهم علي الناس ، وأقبح أثر الناس عليهم ؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة . فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، متفقون علي مفارقة الكتاب ؛ يقولون علي الله ، وفي الله ، وفي كتاب الله ، بغير علم ؛ يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم . فنعوذ بالله من فتن المضلين " . ويروي نحو هذه الخطبة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه كما ذكر ذلك محمد بن وضاح في كتاب (الحوادث والبدع) . فقد وصفوا في هذا الكلام ، بأنهم مع اختلافهم في الكتاب : فهم كلهم مخالفون له ؛ وهم مشتركون في مفارقته ؛ يتكلمون بالكلام المتشابه ، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم ، حيث لبسوا الحق بالباطل .

    وجماع الأمر ، أن الأدلة نوعان : شرعية وعقليه . فالمدعون لمعرفة الإلهيات بعقولهم من المنتسبين إلى الحكمة والكلام والعقليات يقول من يخالف نصوص الأنبياء منهم : " إن الأنبياء لم يعرفوا الحق الذي عرفناه " ، أو يقولون : " عرفوه ولم يبينوه للخلق كما بيناه ، بل تكلموا بما يخالفه من غير بيان منهم " . والمدعون للسنة والشريعة واتباع السلف من الجهال بمعاني نصوص الأنبياء يقولون : " إن الأنبياء والسلف الذين اتبعوهم لم يعرفوا معنى هذه النصوص التي قالوها والتي بلغوها عن الله " ، أو " إن الأنبياء عرفوا معانيها ، ولم يبينوا مرادهم للناس " .

    وهؤلاء الطوائف قد يقولون : " نحن عرفنا الحق بعقولنا ، ثم اجتهدنا في حمل كلام الأنبياء علي ما يوافق مدلول العقل ؛ وفائدة إنزال هذه المتشابهات المشكلات : اجتهاد الناس في أن يعرفوا الحق بعقولهم " . وقد يقولون : " إنا عرفنا الحق بعقولنا ، وهذه النصوص لم تعرف الأنبياء معناها كما لم يعرفوا وقت الساعة ؛ ولكن أمرنا بتلاوتها من غير تدبر لها ولا فهم لمعانيها " . أو يقولون : " بل هذه الأمور لا تعرف بعقل ولا نقل ، بل نحن منهيون عن معرفة العقليات وعن فهم السمعيات ؛ وإن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات ولا يفهمون السمعيات " . فكلهم مشتركون في أن الأنبياء لم يبينوا الحق على ما هو في نفس الأمر بيانا شافيا .

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي لباب الموافقة (3)

    ◙ هدف الكتاب والمقدمة في (أصول الدين) :

    ولما كان بيان مراد الرسول صلي الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا يتم إلا بدفع المعارض العقلي وامتناع تقديم ذلك علي نصوص الأنبياء ، بينا في هذا الكتاب فساد القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر – إذ كان أي دليل أقيم علي بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه ، بل يصير ذلك قدحا في الرسول وقدحا فيمن استدل بكلامه . وصار هذا بمنزلة المريض الذي به أخلاط فاسدة تمنع انتفاعه بالغذاء ، فإن الغذاء لا ينفعه مع وجود الأخلاط الفاسدة التي تفسد الغذاء . فكذلك القلب الذي اعتقد قيام الدليل العقلي القاطع علي نفي الصفات أو بعضها ، أو نفي عموم خلقه لكل شيء أو نفي أمره ونهيه ، أو امتناع المعاد أو غير ذلك : لا ينفعه الاستدلال عليه في ذلك بالكتاب والسنة ، إلا مع بيان فساد ذلك المعارض .

    وفساد ذلك المعارض قد يعلم جملة وتفصيلا .أما الجملة ، فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا ، تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية ، كما قال تعالي : { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } . وأما التفصيل ، فبعلم فساد تلك الحجة المعارضة . وهذا الأصل نقيض الأصل الذي ذكره طائفة من الملحدين ، كما ذكره الرازي في أول كتابه (نهاية العقول) حيث ذكر أن الاستدلال بالسمعيات في المسائل الأصولية لا يمكن بحال ، لأن الاستدلال بها موقوف علي مقدمات ظنية وعلي دفع المعارض العقلي ، وإن العلم بانتقاء المعارض عنده لا يمكن – إذ يجوز عنده أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دل عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع .

    وقد بسطنا الكلام علي مازعمه هؤلاء من أن الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف علي مقدمات ظنية ؛ مثل نقل اللغة ، والنحو والتصريف ، ونفي المجاز والإضمار والتخصيص : قديمًا من نحو ثلاثين سنة . وذكرنا طرفا من بيان فساده في (الكلام على المحصل) وغيره . فذاك كلام في تقرير الأدلة السمعية وبيان أنها قد تفيد اليقين والقطع ؛ وفي هذا الكتاب : كلامٌ في بيان انتقاء المعارض العقلي ، وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا .

    وقد بينا في موضع آخر أن الرسول بلغ البلاغ المبين وبين مراده ، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلي التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صوف اللفظ عن ظاهره ، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر ؛ لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل ويسكت عن بيان المراد الحق ، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لإمجرد إمكان معرفة ذلك بعقولهم ؛ وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلي النور ، وفرق الله به بين الحق والباطل ، وبين الهدي والضلال ، وبين الرشاد والغي ، وبين أولياء الله وأعدائه ، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك ، حتى أوضح الله به السبيل وأنار به الدليل ، وهدى به الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه – والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم .

    فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بما لا يدل إلا علي الباطل لا علي الحق ولم يبين مراده ، وأنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل وأحال الناس في معرفة المراد علي ما يعلم من غير جهته بآبائهم وأسلافهم ، فقد قدح في الرسول – كما نبهنا علي ذلك في مواضع . كيف ، والرسول أعلم الخلق بالحق ، وأقدر الناس علي بيان الحق ، وأنصح الخلق للخلق ؟! وهذا يوجب أن يكون بيانه للحق أكمل من بيان كل أحد .

    فإن ما يقوله القائل ويفعله الفاعل لا بد فيه من قدرة وعلم وإرادة . فالعاجز عن القول أو الفعل يمتنع صدور ذلك عنه ؛ والجاهل بما يقوله ويفعله لا يأتي بالقول المحكم والفعل المحكم ؛ وصاحب الإرادة الفاسدة لا يقصد الهدي والنصح والصلاح . فإذا كان المتكلم عالما بالحق ، قاصدا لهدى الخلق قصدا تاما ، قادرا علي ذلك : وجب وجود مقدوره . ومحمد صلي الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحق ، وهو أفصح الخلق لسانا وأصحهم بيانا ، وهو أحرص الخلق علي هدي العباد كما قال تعالي : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } ، وقال : { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } . وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين ، وأنزل عليه الكتاب ليبين للناس ما نزل إليهم . فلا بد أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتم من بيان غيره . فكيف يكون مع هذا لم يبين الحق ؟ بل بينه من قامت الأدلة الكثيرة علي جهله ونقص علمه وعقله ؟! وتفصيل هذا مبسوط في غير هذا الموضع .

    ولما كان ما يقوله كثير من الناس في باب (أصول الدين) و (الكلام) و (العلوم العقلية) و (الحكمة) و (الفلسفة) يعلم كل من تدبره أنه مخالف لما جاء به الرسول ، أو أن الرسول لم يقل مثل هذا ، واعتقد من اعتقد أن ذلك من أصول الدين وأنه يشتمل علي العلوم الكلية والمعارف الإلهية والحكمة الحقيقية أو الفلسفة الأولية : صار كثير منهم يقول " إن الرسول لم يكن يعرف أصول الدين أو لم يبين أصول الدين " . ومنهم من هاب النبي ولكن يقول : " الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك " . ومن عظَّم الصحابة والتابعين – مع تعظيم أقوال هؤلاء – يبقي حائرا : كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم ؟! ومن هو مؤمن منهم بالرسول معظم له يستشكل : كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس إليها أحوج منهم إلي غيرها ؟!

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي لباب الموافقة (4)

    * أسئلة وأجوبة في (أصول الدين)

    ولما كنت بالديار المصرية سألني من سألني من فضلائها عن هذه المسألة فقالوا في سؤالهم : " (1) إن قال قائل : هل يجوز الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل أصول الدين وإن لم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم فيها كلام أم لا ؟ (2) فإن قيل بالجواز فما وجهه ، وقد فهمنا منه عليه الصلاة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل ؟ (3) وإذا قيل بالجواز فهل يجب ذلك ؟ وهل نقل عنه عليه الصلاة والسلام ما يقتضي وجوبه ؟ (4) وهل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلى القطع ؟ وإذا تعذر عليه الوصول إلى القطع فهل يعذر في ذلك أو يكون مكلفا به ؟ (5) وهل ذلك من باب تكليف ما لا يطاق والحالة هذه أم لا ؟ (6) وإذا قيل بالوجوب ، فما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هدي أمته ؟ "

    فأجبت : الحمد لله رب العالمين . أما المسألة الأولى ، فهذا سؤال ورد بحسب ما عهد السائل من الأوضاع المبتدعة الباطلة . فإن المسائل التي هن من أصول الدين التي تستحق أن تسمى أصول الدين ـ أعني : الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه ـ لا يجوز أن يقال : " لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام " . بل هذا كلام متناقض في نفسه ، إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين ، وأنها مما يحتاج إليه الدين . ثم نفي نقل الكلام فيها عن الرسول يوجب أحد أمرين : (أ) إما أن الرسول أهمل الأمور المهمة التي يحتاج إليها الدين فلم يبينها ، أو (ب) أنه بينها فلم تنقلها الأمة ؛ وكلا هذين باطل قطعا ، وهو من أعظم مطاعن المنافقين في الدين . وإنما يظن هذا وأمثاله من هو جاهل بحقائق ما جاء به الرسول ، أو جاهل بما يعقله الناس بقلوبهم ، أو جاهل بهما جميعا . فإن جهله بالأول يوجب عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك من أصول الدين وفروعه ؛ وجهله بالثاني يوجب أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يسميه هو وأشكاله عقليات وإنما هي جهليات ؛ وجهله بالأمرين يوجب أن يظن من أصول الدين ما ليس منها من المسائل والوسائل الباطلة ، وأن يظن عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يُعتقد في ذلك – كما هو الواقع لطوائف من أصناف الناس حذاقهم فضلا عن عامتهم .

    وذلك أن (أصول الدين) إما أن تكون (أ) مسائل يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولا أو تعمل عملا ، كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد ؛ أو (ب) دلائل هذه .

    أما القسم الأول ؛ فكل ما يحتاج الناس إلي معرفته واعتقاده والتصديق به من هذه المسائل ، فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر ، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين وبينه للناس ، وهو من أعظم ما أقام الله الحجة علي عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه .

    وكتاب الله الذي نقل الصحابة ثم التابعون عن الرسول لفظه ومعانيه ، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم التي نقلوها أيضا عن الرسول : مشتملة من ذلك علي غاية المراد وتمام الواجب والمستحب . والحمد لله الذي بعث فينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب تفصيلا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين . { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } . وإنما يظن عدم اشتمال الكتاب والحكمة علي بيانها : من كان ناقصا في عقله وسمعه ، ومن له نصيب من قول أهل النار الذين قالوا : { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } ، وإن كان ذلك كثيرا في كثير من المتفلسفة والمتكلمة ، وجهال أهل الحديث والمتفقهة والصوفية .

    وأم القسم الثاني ، وهو دلائل هذه المسائل الأصولية ؛ فالشرع لا يدل بمجرد الدلالة بطريق الخبر الصادق . بل الأمر ما عليه سلف الأمة – أهل العلم والإيمان – من أن الله سبحانه وتعالي بين من الأدلة العقلية التي يحُتاج إليها في العلم بذلك ما لا يقدر كثير من الفلاسفة والمتكلمين قدره ؛ وأن نهاية ما يذكرونه : قد جاء القرآن بخلاصته علي أحسن وجه .

    وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله في كتابه التي قال فيها : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } . فإن (الأمثال المضروبة) هي (الأقيسة العقلية) ، سواء كانت (قياس شمول) أو (قياس تمثيل) . ويدخل في ذلك ما يسمونه (براهين) ، وهو القياس الشمولي المؤلف من المقدمات اليقينية – وإن كان لفظ البرهان في اللغة أعم من ذلك ، كما سمي الله آيتي موسى برهانين بقوله : { فذانك برهانان من ربك } .

    ومما يوضح هذا ، أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بـ(قياس تمثيلي) يستوي فيه (الأصل) و (الفرع) ، ولا بـ(قياس شمولي) تستوي فيه (أفراده) . فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء ؛ فلا يجوز أن يمثل بغيره ، ولا يجوز أن يدخل تحت قضية كلية تستوي أفرادها . ولهذا ، لما سلك طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية : لم يصلوا بها إلي اليقين . بل تناقضت أدلتهم ، وغلب عليهم ـ بعد التناهي ـ الحيرة والاضطراب ، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها . ولكن يستعمل في ذلك (قياس الأولي) سواء كان (تمثيلا) أو (شمولا) ، كما قال تعالي : { ولله المثل الأعلى } ؛ مثل أن يعلم أن كل (كمال) ثبت لـ(لممكن) أو (المحدث) لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، فـ(الواجب القديم) أولى به ؛ وأن كل (كمال) لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه لـ(لمخلوق المربوب المعلول المدبر) ، فإنما استفادة من (خالقه وربه ومدبره) ، فهو أحق به منه ؛ وأن كل (نقص) و (عيب) في نفسه ـ وهو ما تضمن سلب هذا الكمال – وجب نفيه عن الرب تبارك وتعالى بطريق الأولى ؛ وأنه سبحانه أحق بـ(الأمور الوجودية الكاملة) من كل (موجود) ، وأما (العدمية الناقصة) ، فالممكن المحدث بها أحق ؛ ونحو ذلك من الدلائل والوسائل . ومثل هذه الطرق هي التي كان يستعملها السلف والأئمة في مثل هذه المطالب ، كما استعمل نحوها الإمام أحمد ومن قبله وبعده من أئمة أهل الإسلام . وبمثل ذلك جاء القرآن في تقرير (أصول الدين) في مسائل (التوحيد) و (الصفات) و (المعاد) ونحو ذلك مما يطول تفصيل القول فيه .

    وأما ما يدخله بعض الناس في هذا المسمي من الباطل في المسائل والدلائل ، فليس ذلك من (أصول الدين) وإن أدخله فيه ، مثل نفي الصفات والقدر ونحو ذلك من المسائل ، ومثل الاستدلال علي حدوث العالم بحدوث الأعراض مع المقدمات الطويلة التي وضعوها لهذا الدليل – ما يعلم بالاضطرار أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلي الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه . وقد اعترف حذاق أهل الكلام ـ كالأشعري وغيره ـ بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها ، وذكروا أنها محرمة عندهم . بل المحققون علي أنها طريقة باطلة ، وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقا .

    ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له : (أ) إما أن يطلع علي ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم ، فتتكافأ عنده الأدلة أو رجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم ؛ وإما (ب) أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل ، كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار ، والتزم لأجلها أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة ، والتزم قوم لأجلها كالأشعري وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك . والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض لا يجوز بقاؤها بحال ، لقولهم بأن صفات الأجسام تعرض فتزول فلا تبقي زمانين – وهو في غاية الفساد ؛ والتزم طوائف من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم لأجلها نفي صفات الرب مطلقا ، لأن الدال عندهم علي حدوث هذه الأشياء المخلوقة هو قيام الصفات بها ، والدليل عندهم يجب طرده ، فالتزموا حدوث كل موصوف بصفة قائمة به – وهو أيضا في غاية الفساد والضلال . ولهذه التزموا القول بـ(خلق القرآن) و (إنكار رؤية الله) و (علوه علي عرشه) إلي أمثال ذلك من اللوازم التي التزمها من طرد مقدمات هذه الحجة التي جعلها المعتزلة ومن اتبعهم أصل دينهم .

    فهذه داخلة فيما سماه هؤلاء (أصول الدين) ولكن ليست في الحقيقة من (أصول الدين الذي شرعه الله لعباده) . وأما (الدين) الذي قال الله فيه : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } ، فذاك له (أصول) و (فروع) بحسبه . وإذا عرف أن مسمي (أصول الدين) في عرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمال وإبهام لما فيه من الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات ، تبين أن الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين (أصول الدين) ، فهو موروث عن الرسول . وأما من شرع دينا لم يأذن به الله ، فمعلوم أن الأصول المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم ، إذ هو باطل ، وملزوم الباطل باطل – كما أن لازم الحق حق .

    وهذا التقسيم – تقسيم أصول الدين إلى المسائل والدلائل – ينبه أيضا علي مراد السلف والأئمة بذم (الكلام) وأهله . وأن ذلك متناول لمن استدل بالأدلة الفاسدة ، أو استدل علي المقالات الباطلة . فأما من قال الحق الذي أذن الله فيه حكما ودليلا ، فهو من أهل العلم والإيمان . { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } .

    وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ، فليس بمكروه – إذا احتيج إلي ذلك وكانت المعاني صحيحة ، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم . فإن هذا جائز حسن للحاجة ، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه . ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلي تفهمه إياه بالترجمة ؛ وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم ويترجمها بالعربية ، كما [ أمر النبي صلي الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك ] حيث لم يأتمن اليهود عليه .

    فالسلف والأئمة لم يذموا (الكلام) لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ (الجوهر) و (العرض) و (الجسم) وغير ذلك ، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من باطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه ، ولاشتمال هذه الألفاظ علي معان مجملة في النفي والإثبات – كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع بقوله : " مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، متفقون علي مفارقة الكتاب ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم " .

    فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووزنت بالكتاب والسنة – بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة ، وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة : كان ذلك هو الحق ؛ بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من المتكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم . وهذا من مثارات الشبه .

    والسلف والأئمة الذي ذموا وبدعوا الكلام في الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعاني التي يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ في (أصول الدين) في دلائله وفي مسائله نفيا وإثباتا . فأما إذا عُرفت المعاني الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة وتُعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق ما وافق الحق من معانى هؤلاء وما خالفه ، فهذا عظي المنفعة ، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه . وذلك يحتاج إلي معرفة معاني الكتاب والسنة ، ومعرفة معاني هؤلاء بألفاظهم ، ثم اعتبار هذه المعاني بهذه المعاني ليظهر الموافق والمخالف .

    وأما المسألة الثانية ، وهو قول السائل : " فإن قيل بالجواز ، فما وجهه ؟ وقد فهمنا منه عليه الصلة والسلام النهي عن الكلام في بعض المسائل ؟ " ، فيقال : قد تقدم الاستفسار والتفصيل في جواب السؤال ، وأن ما هو في الحقيقة أصول الدين الذي بعث الله به رسوله فلا يجوز أن ينهي عنه بحال ؛ بخلاف ما سمي (أصول الدين) وليس هو أصولا في الحقيقة لا دلائل ولا مسائل ، أو هو أصول لدين لم يشرعه الله بل شرعه من شرع من الدين ما لم يأذن به الله .

    وأما ما ذكره السائل من نهيه صلى الله عليه وسلم ، فالذي جاء به الكتاب والسنة النهي عن أمور ؛ منها : (أ) القول علي الله بلا علم ، كقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } . ومنها : (ب) أن يقال علي الله غير الحق ، كقوله { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } . ومنها : (ج) الجدل بغير علم ، كقوله { ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } . ومنها : (د) الجدل في الحق بعد ظهوره ، كقوله { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } . ومنها : (هـ) الجدل بالباطل ، كقوله : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } . ومنها : (و) الجدل في آياته ، كقوله : { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } ، وقوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } . ومنها : (ز) التفرق والاختلاف ، كقوله { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ـ إلي قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ؛ قال ابن عباس : " تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة " .

    وكذلك سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم توافق كتاب الله ، كالحديث المشهور عنه الذي وري مسلم بعضه عن عبد الله بن عمرو وسائره معروف في مسند أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يتناظرون في القدر ، ورجل يقول : ألم يقل الله كذا ؟ ورجل يقول : ألم يقل الله كذا ؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان . فقال : أبهذا أمرتم ؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا لا ليكذب بعضه بعضا . انظروا ما أمرتم به فافعلوه ، وما نهيتم عنه فاجتنبوه ] . وكذلك قوله : [ المراء في القرآن كفر ] وكذلك ما أخرجاه في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قرأ قوله { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فقال النبي صلي الله عليه وسلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ] .

    وأما أن يكون الكتاب والسنة نهيا عن معرفة المسائل التي تدخل فيما يستحق أن يكون من (أصول الدين) ، فهذا لا يمكن . اللهم إلا أن ينهيا عن بعض ذلك في بعض الأحوال ، مثل مخاطبة شخص بما يعجز عن فهمه فيضل ، كقول عبد الله بن مسعود : " ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم " وكقول علي : " حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون ؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟!" ، أو مثل قوله : "حق يستلزم فسادا أعظم من تركه " فيدخل في قوله صلي الله عليه وسلم : [ من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ] .

    وأما المسألة الثالثة ، وهو قول السائل : " إذا قيل بالجواز فهل يجب ؟ وهل نقل عنه عليه السلام ما يقتضي وجوبه ؟ " ؛ فيقال : لا ريب أنه يجب علي كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا عاما مجملا ، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول علي التفصيل فرض علي الكفاية – فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله ، وداخل في تدبير القرآن وعقله وفهمه . وعلم الكتاب والحكمة ، وحفظ الذكر والدعاء إلي الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعاء إلي سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ونحو ذلك : مما أوجبه الله عليه المؤمنين . فهذا واجب علي الكفاية منهم .

    وأما ما وجب علي أعيانهم ، فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجتهم ومعرفتهم وما أمر به أعيانهم . فلا يجب علي العاجز عن سماع بعض النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب علي من لم يسمعها ، ويجب علي المفتي والمحدث والمجادل ما لا يجب علي من ليس كذلك .

    وأما المسألة الرابعة ، وهو قوله : " هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلي القطع ؟ " ؛ فيقال : الصواب في ذلك التفصيل . فإنه وإن كان طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية - التي قد يسمونها (مسائل الأصول) - يجب القطع فيها جميعها ولا يجوز الاستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين ، فهذا الذي قالوه علي إطلاقه وعمومه خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها . ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه ؛ فإنهم كثيرا ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات وتكون في الحقيقة من الظنيات بل من الأغلوطات . حتى إن الشخص الواحد منهم كثيرا ما يقطع بصحة حجة في موضع ، ويقطع ببطلانها في موضع آخر . بل منهم من عامة كلامه كذلك . وحتى قد يدعي كل من المتناظرين (العلم الضروري) بنقيض ما ادعاه الآخر .

    وأما التفصيل ؛ فما أوجب الله فيه العلم واليقين : وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك ؛ كقوله { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } ، وقوله { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } . وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به . وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد ، كقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ، وقوله عليه السلام : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] .

    فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة من هذه المسائل الدقيقة قد يكون عند كثير من الناس (مشتبها) لا يقدر فيه علي دليل يفيد اليقين - لا شرعي ولا غيره : لم يجب علي مثل هذا في ذلك من لا يقدر عليه ، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب علي ظنه لعجزه عن تمام اليقين . بل ذلك هو الذي يقدر عليه – لا سيما إذا كان مطابقا للحق . فالاعتقاد المطابق للحق : ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر علي أكثر منه . لكن ينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق ، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول ، وترك النظر والاستدلال الموصول إلي معرفته . فلما أعرضوا عن كتاب الله ، ضلوا – كما قال تعالى : { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ؛ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، وقوله : { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } . قال ابن عباس : " تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقي في الآخرة " ، ثم قرأ هذه الآية .

    وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إنها ستكون فتن قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء ] وفي رواية [ ولا تختلف به الآراء هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد } من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ] .

    وقال تعالي : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } ، وقال : { المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين * اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء } ، وقال : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون * أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون } . فذكر سبحانه أنه يجزي الصادف عن آياته مطلقا – سواء كان مكذبا أو لم يكن – سوء العذاب بما كانوا يصدفون . يبين ذلك أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول ، فهو كافر – سواء اعتقد كذبه ، أو استكبر عن الإيمان به ، أو أعرض عن اتباعه لما يهواه ، أو ارتاب فيما جاء به . فكل مكذب بما جاء به فهو كافر ، وقد يكون كافرا من لا يكذبه إذا لم يؤمن به .

    ولهذا ، أخبر الله في غير موضع من كتابه بالضلال والعذاب لمن ترك اتباع ما أنزله – وإن كان له نظر وجدل واجتهاد في عقليات وأمور غير ذلك – وجعل ذلك من نعوت الكفار والمنافقين . وقال تعالي : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } ؛ وقال تعالي : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } ؛ وقال : { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا } ، وفي الآية الأخرى : { إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } . والسلطان : هو الحجة المنزلة من عند الله كما قال تعالى : { أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } ؛ وقال تعالى : { أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } ؛ وقال : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } .

    وقد طالب الله تعالي من اتخذ دينا بقوله : { ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين } . فـ(الكتاب) هو الكتاب ، و (الإثارة) كما قال من قال من السلف : هي (الرواية والإسناد) ؛ وقالوا : هي (الخط) أيضا ، إذ الرواية والإسناد يكتب بالخط . وذلك لأن (الإثارة) من (الأثر) ، فالعلم الذي يقوله من يقبل قوله يؤثر بالإسناد ويقيد ذلك بالخط فيكون ذلك كله من آثاره .

    وقد قال تعالى في نعت المنافقين { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا * فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا * أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } . وفي هذه الآيات أنواع من العبر الدالة علي ضلال من تحاكم إلي غير الكتاب والسنة وعلي نفاقه – وإن زعم أنه يريد (التوفيق) بين (الأدلة الشرعية) وبين ما يسميه هو (عقليات) من الأمور المأخوذة عن بعض (الطواغيت) من المشركين وأهل الكتاب ، وغير ذلك من أنواع الاعتبار . فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلا ، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبيل التي نهي عنها ، أو لاتباع هواه بغير هدي من الله : فهو الظالم لنفسه ، وهو من أهل الوعيد – بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله ؛ فهذا مغفور له خطؤه ، كما قال تعالي : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا } إلي قوله { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } . وقد ثبت في صحيح مسلم [ عن النبي صلي الله عليه وسلم أن الله قال : قد فعلت ] . وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس [ أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أعطي ذلك ] . فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي والمؤمنين ، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا .

    وأما المسألة الخامسة ، وهو قول السائل : " هل ذلك من باب (تكليف ما لا يطاق) والحال هذه ؟ " ، فيقال : هذه العبارة ، وإن كثر تنازع الناس فيها نفيا وإثباتا ، فينبغي أن يعرف أن الخلاف المحقق فيها نوعان : (أحدهما) ؛ ما اتفق الناس علي جوازه ووقوعه ، وإنما تنازعوا في إطلاق القول عليه بأنه "لا يطاق" . (والثاني) ؛ ما اتفقوا علي أنه "لا يطاق" لكن تنازعوا في جواز الأمر به ، ولم يتنازعوا في عدم وقوعه . فأما أن يكون أمرٌ اتفق أهل العلم والأيمان علي أنه "لا يطاق" وتنازعوا في وقوع الأمر به : فليس كذلك .

    فالنوع الأول ؛ كتنازع المتكلمين من مثبتة القدر ونفاته في استطاعة العبد – وهي قدرته وطاقته : هل يجب أن تكون مع الفعل لا قبله ؟ أو يجب أن تكون متقدمة علي الفعل ؟ أو يجب أن تكون معه وإن كانت متقدمة عليه ؟

    فمن قال بالأول لزمه أن يكون كل عبد لم يفعل ما أمر به قد كلف مالا يطيقه إذا لم تكن عنه قدرة إلا مع الفعل ولهذا كان الصواب الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم مادل عليه القرآن ؛ وهو أن (الاستطاعة التي هي مناط الأمر والنهي) – وهي المصححة للفعل - لا يجب أن تقارن الفعل ، وأما (الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل) فهي مقارنة له . فالأولي : كقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ، وقول النبي صلي الله عليه وسلم لعمران بن حصين [ صل قائما . فإن لم تستطع فقاعدا . فإن لم تستطع فعلى جنب ] . والثانية : كقوله تعالى { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } . وهذه (الاستطاعة) هي المقارنة للفعل الموجبة له ، وأما الأولي : فلولا وجودها لم يثبت التكليف كقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } ، وقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها } ، وأمثال ذلك . فهؤلاء المفرطون والمعتدون في (أصول الدين) إذا لم يستطيعوا سمع ما أنزل إلي الرسول فهم من هذا القسم .

    وأما النوع الثاني ؛ فكاتفاقهم علي أن العاجز عن الفعل لا يطيقه ، كما لا يطيق الأعمي والأقطع والزمن نقط المصحف وكتابته والطيران . فمثل هذا النوع قد اتفقوا علي أنه غير واقع في الشريعة ، وإنما نازع في ذلك طائفة من الغلاة المائلين إلي الجبر من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم . وإنما تنازعوا في جواز الأمر به عقلا ، حتى نازع بعضهم في الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين والنقيضين : هل يجوز الأمر به من جهة العقل مع أن ذلك لم يرد في الشريعة ؟ ومن غلا فزعم وقوع هذا الضرب في الشريعة ـ كمن يزعم أن أبا لهب كلف بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ـ فهو مبطل في ذلك عند عامة أهل القبلة من جميع الطوائف ؛ فإنه لم يقل أحد : إن أبا لهب أسمع هذا الخطاب المتضمن أنه لا يؤمن وإنه أمر مع ذلك بالإيمان ، كما أن قوم نوح لما أخبر نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن : لم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب . بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته علي الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ، ففي هذا الحال انقطع تكليفه ولم ينفعه إيمانه حينئذ ، كإيمان من يؤمن بعد معينة العذاب . قال تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } ، وقال تعالى : { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } .

    والمقصود هنا : التنبيه علي أن النزاع في هذا الأصل يتنوع ؛ تارة إلي (الفعل المأمور به) وتارة إلي (جواز الأمر) . ومن هنا شبهة من شبه من المتكلمين علي الناس حيث جعل القسمين قسما واحدا ، وادعي (تكليف ما لا يطاق) مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي لا يجعلها عامة الناس من باب (ما لا يطاق) . والنزاع فيها لا يتعلق بمسائل الأمر والنهي ، وإنما يتعلق بمسائل القضاء والقدر . ثم إنه جعل جواز هذا القسم مستلزما لجواز القسم الذي اتفق المسلمون علي أنه غير مقدور عليه ، وقال أحد النوعين بالآخر . وذلك من الأقيسة التي اتفق المسلمون – بل وسائر أهل الملل بل وسائر العقلاء – على بطلانها . فإن من قاس الصحيح المأمور بالأفعال كقوله " إن القدرة مع الفعل " أو " أن الله علم أنه لا يفعل علي العاجز الذي لو أراد الفعل لم بقدر عليه " : فقد جمع بين ما يعلم الفرق بينهما بالاضطرار عقلا ودينا ؛ وذلك من مثارات الأهواء بين (القدرية) وإخوانهم (الجبرية) .

    وإذا عرف هذا ، فإطلاق القول بـ(تكليف ما لا يطاق) من البدع الحادثة في الإسلام ؛ كإطلاق القول بأن العباد مجبورون علي أفعالهم ، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها علي إنكار ذلك وبأنه شاء الكائنات ؛ وقالوا : " رد بدعة ببدعة ، وقابل الفاسد بالفاسد ، والباطل بالبطال " . وأما إذا فصل مقصود القائل وبين بالعبارة التي لا يشبه الحق فيها بالباطل ما هو الحق وميز بين الحق والباطل : كان هذا من الفرقان . وقال الأوزعي : " ما أعرف للجبر أصلا في القرآن ولا السنة ، فأهاب أن أقول ذلك ؛ ولكن (القضاء) و (القدر) و (الخلق) و (الجبل) . فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وإنما وضعت هذا مخالفة أن يرتاب رجل تابعي من أهل الجماعة والتصديق " . فقد منع الأوزاعي من إطلاق هذا اللفظ وإن عني به هذا المعني ، حيث لم يكن له أصل في الكتاب والسنة ، فإثباته قد فيفضي إلي إطلاق لفظ مبتدع ظاهر في إرادة الباطل ، ونفيه قد يقتضي نفي الحق والباطل . فإذا امتنع من إطلاق اللفظ المجمل المحتمل المشتبه ، زال المحذور . وكان أحسن من نفيه وإن كان ظاهرا في المحتمل المعني الفاسد خشيه أن يظن أنه ينفي المعنيين جميعا .

    وهكذا يقال في نفي (الطاقة) عن المأمور . فإن إثبات (الجبر) في المحظور نظير سلب الطاقة في المأمور . وهكذا كان يقول الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة . قيل له : " رجل يقول : إن الله يجبر العباد " ، فقال : " هكذا لا نقول " وأنكر هذا وقال : " يضل من يشاء ويهدي من يشاء " .

    وأما المسألة السادسة ، وهو قول السائل : " ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك وقد كان حريصا علي هدي أمته ؟ " ؛ فنقول : هذا السؤال مبني علي الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة ، وطلب الهدي في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات الذين قال الله فيهم { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } ، وقال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } ، وقال تعالى { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } .

    وقد تقدم التنبيه علي منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات سواء كان المحدث هو (اللفظ) و (دلالته) أو كان المحدث هو (استعمال) ذلك اللفظ في ذلك (المعني) كلفظ (أصول الدين) حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم وإن لم يكن من (أصول الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه) كما ذكرنا ، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل : تبين سواء السبيل .

    وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام نص علي كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر . وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ، وقال { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ، وقال { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، وقال { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } ، وقال { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ، وقال { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا مستقيما } ، وقال { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } . وقال أبو ذر : " لقد توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما " . وفي صحيح مسلم : [ أن بعض المشركين قالوا لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة . قال : أجل ] وقال صلى الله عليه وسلم : [ تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ] ، وقال : [ ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه ] ، وقال : [ ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم ] .

    وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء ، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة . فمن طلب ذلك : وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء .

    وذلك يكون بشيئين : (أحدهما) ؛ معرفة معاني الكتاب والسنة . و (الثاني) ؛ معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون ، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين . فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ، وقال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } ، وقال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا * ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا } .

    ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات . وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ، ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ؛ ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة علي حق وباطل ؛ ففي إثباتها إثبات حق وباطل ، وفي نفيها نفي حق وباطل ، فيمنع من كلا الإطلاقين . بخلاف النصوص الإلهية ؛ فإنها (فرقان) فرَّق الله بها بين الحق والباطل . ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو (الإمام) و (الفرقان) الذي يجب اتباعه ؛ فيثبتون ما أثبته الله ورسوله ، وينفون ما نفاه الله ورسوله ، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيا إثباتا ؛ لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل – فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله ؛ بخلاف كلام الله ورسوله ، فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه – وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه .

    وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون علي مفارقته ، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو (الإمام المحكم) الذي يجب اتباعه ، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من (المجملات المتشابهات) التي لا يجوز اتباعها ، بل يتعين حملها عندهم علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه ، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها بالكلية .

    وهذان الصفتان يشبهان ما ذكره الله في قوله : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون * أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون * ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون * فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } . فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة علي ما أصله هو من البدع الباطلة ؛ وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه ؛ وذم من كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دينا وقال " إنه من عند الله " مثل أن يقول : " هذا هو الشرع والدين ، وهذا معني الكتاب والسنة ، وهذا قول السلف والأئمة ، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده علي الأعيان أو الكفاية " وذمه تعالى في الآية متناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله . وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام ، وفي أهل الأهواء تفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلي الفقهاء مع شعبة من حال أهل الأهواء . وهذه الأمور المذكورة في الجواب مبسوطة في موضع آخر . والله أعلم .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي رد: لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)

    يتبع ، بإذن الله وعونه . .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    الدولة
    سياتل..ولاية واشنطن ..
    المشاركات
    977

    افتراضي رد: لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)

    ماشاء الله لاقوة إلا بالله واصل شيخنا الكريم
    أنا الشمس في جو العلوم منيرة**ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
    إمام الأندلس المصمودي الظاهري

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي رد: لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة إمام الأندلس مشاهدة المشاركة
    ماشاء الله لاقوة إلا بالله واصل شيخنا الكريم
    بارك الله فيكم . . . حسبنا الله ونعم الوكيل .

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    Lightbulb لباب الموافقة (تلخيص 1)

    ثم بعض الأخطاء الكتابية اليسيرة في المشاركات السابقة ، يسهل إدراكها بالتأمل إن شاء الله .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    Lightbulb لباب الموافقة (تلخيص 1)

    تلخيص ما سبق :

    (1) أصول هذا الدين الذي أرسل به الله رسوله وأنزل به كتابه : إما أن تكون (مسائل) يجب اعتقادها ويجب أن تذكر قولا أو تعمل عملا كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد ، أو (دلائل) هذه المسائل .

    (2) وكل من مسائل أصول الدين ودلائلها قد بينه الله ورسوله بيانا شافيا قاطعا للعذر . إذ كونها من أصول الدين يوجب أن تكون من أهم أمور الدين ، فيمتنع أن يهملها الله والرسول . بل الكتاب والسنة يشتملان على مسائل أصول الدين ودلائلها على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب .

    (3) وأما ما يدخله بعض المتكلمين والفلاسفة في مسمى (أصول الدين) من الباطل في المسائل والدلائل ، فليس ذلك من (أصول دين الإسلام) الذي شرعه الله لعباده وإن أدخلوه فيه ، مثل نفي الصفات وإنكار القدر ونحو ذلك ، ومثل الاستدلال على وجود الصانع بـ(ـستلزام الأجسام للأعراض) أو (إمكانها و تماثلها) ما يعلم بالاضطرار أنها من المحدثات في الدين . وفيها من الأباطيل في الدليل والمدلول عقلا ونقلا . وقد اعترف بعض الحذاق منهم أنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها .

    (4) ثم لهؤلاء في نصوص الأنبياء طريقتان : طريقة (التبديل) ، وطريقة (التجهيل) . وأهل التبديل نوعان : أهل (الوهم والتخييل) من المتفلسفة والباطنية وملاحدة الصوفية الذين زعموا أن أخبار الأنبياء تخييل لمصلحة الجمهور وإن لم يطابق الواقع ، وأهل (التحريف والتأويل) من طوائف المتكلمين وغيرهم الذين قالوا إن الأنبياء لم يقصدوا بتلك الأخبار ظواهرها بل قصدوا ما علموه بعقولهم من الحق المخالف للظاهر . وأما أهل طريقة (التجهيل والتضليل) ، فنفوا علم العلماء أو حتى الصحابة والأنبياء بالحقائق التي أرادها الله تعالى بما وصف به نفسه من الآيات كما لم يعلموا وقت الساعة .

    (5) وهؤلاء الفرق مشتركون في القول إن الرسول لم يبين لأمته المراد بالنصوص التي يجعلونها (مشكلة) أو (متشابهة) بحسب ما قرروه من الأصول والعقائد التي يزعمون أنها حق . ولهذا ، يجعل كل فريق المشكلَ من نصوصه غير ما يجعل الفريق الآخر مشكلاً . فمنكر (الصفات) يجعل نصوصها مشكلة ، ومنكر (القدر) يجعل نصوصه مشكلة ، ومنكر (مشيئة العباد) يجعل نصوص الأمر والنهي والوعيد مشكلة ، ومنكر (معاد الأبدان) يجعل نصوصها وما وصف به الجنة والنار مشكلة . ويقول كل منهم فيما يستشكله : إن معاني نصوصه لم يبينها الرسول .

    (6) وقد يقولون : نحن عرفنا الحق بعقولنا ، فاجتهدنا في حمل كلام الأنبياء على ما يوافق مدلوله . وعلى هذا ، وضعوا لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى . فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الرسول تبعا له ، فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه . فقد زعموا أن الحق المعلوم بالعقول قد يخالف ما جاء في نصوص الرسول .

    (7) وقد وضع الرازي وأمثاله قانونا فيما يزعمون من التعارض بين العقل والنقل ، فقالوا : ” إذا تعارض العقل والنقل تعارض النقيضين : فإما أن يجمع بينهما أو يردا جميعا ، وكلاهما محال ؛ وإما أن يقدم النقل ، وهو محال لأن العقل أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه ؛ وإما أن يقدم العقل وهو حق ، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض “ . وقد يضم بعضهم إلى هذا القانون الزعم بأن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين وأن لا تفيد بغير طريق الاستدلال بصدق المخبر . فقد غلطوا في العقل والنقل جميعا ، والعياذ بالله .

    (8) ولما كان بيان مراد الرسول في هذه الأبواب لا يتم إلا بتقرير أن الأدلة السمعية قد تفيد اليقين والقطع ، وبدفع المعارض العقلي لمدلولها : بينا في هذا الكتاب فساد ذلك القانون الفاسد الذي صدوا به الناس عن سبيل الله وعن فهم مراد الرسول وتصديقه فيما أخبر . إذ كان أي دليل أقيم علي بيان مراد الرسول لا ينفع إذا قدر أن المعارض العقلي القاطع ناقضه . وقد بسطنا الكلام على تقرير الأدلة السمعية وإفادتها بعضها القطع في موضعه قديما ، فنتكلم في هذا الكتاب عن بيان انتفاء المعارض العقلي وإبطال قول من زعم تقديم الأدلة العقلية مطلقا . ونبين أن صريح العقل موافق لصحيح النقل ، وأن الشرع قد أتى في نصوصه بالأقسية العقلية الصحيحة السليمة ما لا يقدر كثير من الفلاسفة والمتكلمين قدره ، وأن نهاية ما يذكرونه من الأدلة العقلية قد جاء الشرع بخلاصته علي أحسن وجه . فإن الرسول قد بلغ البلاغ المبين ، وبيانه للحق أكمل من بيان كل أحد .

    (9) وفساد ذلك المعارض يعلم جملة وتفصيلا . أما الجملة ، فإن من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا ، تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج : فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية في معارضتهم الحقائق . وأما التفصيل ، فعلم فساد تلك الحجج المعارضة من نفس صريح المعقول ، وتمييز ما فيها من الحق والباطل في الألفاظ والمعاني ، مع اعتبارها بما جاء به الشرع في ذلك الباب من المسائل والدلائل .

    (10) ولما كان في كلام هؤلاء المتكلمين والفلاسفة من المصطلحات المحدثة ، وقد استعملوا تلك الألفاظ – مع ما فيها من الإجمال والاشتباه – نفيا وإثباتا ، احتجنا إلى معرفة مرادهم بتلك العبارات ، واحتجنا إلى معرفة المعاني الثابية بالكتاب والسنة لنعبر عنها بتلك المصطلحات لمن يفهمها كي يتبين ما وافق الحق من معانى هؤلاء وما خالفه . ومخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة . والسلف والأئمة لم يذموا (الكلام) لمجرد ما فيه من الصطلحات المولدة المحدثة ، بل لأن المعانى التي يقصد أهله بها فيها من الأباطيل ما يجب النهي عنه ، ولاشتمال تلك الالفاظ أيضا على معان مجملة بعضها حق وبعضها باطل ما هو خلاف البيان والصراط المستقيم .

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    May 2007
    المشاركات
    1,154

    افتراضي رد: لباب الموافقة ..... (مشروع تهذيب كتب شيخ الإسلام الكبار - 1)


الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •