تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 106

الموضوع: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)



    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر




    بسم الله الرحمن الرحيم




    الحلقة ( 1 )
    مقدمة في الدفاع عن السنة



    المقدمة:


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المربين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


    وبعد:


    فقد وضع الله - عز وجل - سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالمقام الأسمى، والمحل الأرفع، إذ أوكل إليه - صلى الله عليه وسلم - مع مهمة البلاغ، وظيفة التبيين، فقال تعالى: ((وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم...)) [النحل:44].


    والبيان اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع:


    أحدها: بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا.


    الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك، كما بين أن الظلم المذكور في قوله تعالى: ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) [الأنعام: 82]، هو الشرك (1).


    الثالث: بيانه بالفعل كما بين أوقات الصلاة للسائل بفعله (2).


    الرابع: بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فينزل القرآن ببيانها، كما سئل عن قذف الزوجة فجاء القرآن باللعان ونظائره (3).


    الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالخلوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبة ويزيل أثر الخلوق (4).


    السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال كما حرم عليهم لحوم الحمر (5) والمتعة (6).


    السابع: بيانه للأمة جواز الشيء بفعله هو له، وعدم نهيهم عن التأسي به.


    الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده، أو يعلمهم يفعلونه.


    التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا.


    العاشر: أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الرب - سبحانه وتعالى- على رسوله في بيانها؛ كقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلك))[النساء:24]، فالحل موقوف على شروط النكاح، وانتفاء موانعه، وحضور وقته، وأهلية المحل، فجاءت السنة ببيان ذلك كله.


    فكل ما شرعه - صلى الله عليه وسلم - للأمة فهو بيان منه عن الله أن هذا شرعه ودينه، ولا فرق بين ما يبلغ عنه من كلامه المتلو وبين وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا (7).


    وإذا كانت تلك منزلة السنة وهذه أهميتها، فإن إنكارها، والاعتداء عليها، والعبث بها، والتشكيك في حجيتها، واختلاق الأكاذيب حولها، وهو ما سعت إليه الفرق المنحرفة قديمًا، ويسعى إليه المنحرفون حديثًا، كل ذلك يعد أمرًا بالغ الخطورة، إذ إن ذلك يترتب عليه فتح أبواب شر تقوض بنيان الإسلام، وذلك لما يلي:


    أولاً: أن الأحكام الشرعية العلمية الأصولية "العقائد" يتوقف بيانها وتفاصيلها على السنة النبوية بعد القرآن الكريم ومعه ، فإنكار السنة النبوية يهدد العقائد بالبتر والإبهام، فيمس ما يتعلق بالإلهيات، والنبوات، والسمعيات، وما سوى ذلك من مسائل العقائد، فهل يقام دين على عقائد مبتورة مبهمة؟!

    ثانيًا: القضاء على أصول الأحكام الشرعية العملية "أصول الفقه الإسلامي"؛ لأن هذا العلم يتصدى للأدلة التي تبنى عليها الأحكام، وقد أجمع الأصوليون على أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وعلى هذا فإنكار السنة النبوية يجعل الفقه الإسلامي في مهب الرياح؛ لعدم ارتكازه على أدلة، ولافتقاره إلى أسس.


    ثالثًا: تحطيم فقه الفروع "المذهبي والمقارن" لأن جل المسائل الفقهية والوقائع تستند إلى السنة النبوية إما بالبيان والإيضاح؛ كمواقيت وأعداد وهيئات الصلوات المفروضة، وإما بالاستقلال مثل كفارة من أفسد صوم رمضان، وعقوبتي شارب المسكر والمرتد، والآداب والسلوكيات وفضائل الأعمال وغير ذلك.


    رابعًا: تشويه علوم القرآن الكريم لاستنادها في كثير من قضاياها على السنة النبوية، وتهديد علم التفسير لارتكازه في جل ما يعرض له على السنة النبوية (8).

    وهكذا فإن إنكار السنة يمهد السبل للتشكيك في القرآن نفسه، ويعطل الآيات التي تحث وتحض على اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتخاذه قدوة، وتحكيمه، والرضا بحكمه، وإيثار طاعته على ما سواه، حتى تمسي الأمة بغير تشريع واضح المعالم، قوي الدلالة؛ إذ قد تعرضت أصول التشريع وفروعه للافتراء والاجتراء.


    إن الطعن في السنة النبوية هدم للإسلام في عقائده، وعباداته، ونظمه، وأخلاقه، وهدم لوحدته، وسبب في تخلف المسلمين عن ركب الحضارة.


    يقول الأستاذ محمد أسد: " لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟. إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام.


    لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنك إذا أزلت هيكل بناء ما أفيدهشك أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟ (9).

    وهذا ما يخطط له أعداء الإسلام، سواء الظاهرون العداوة له المتظاهرون عليه، أو اللابسون عباءته بهتانًا وزورًا، ولكن وإن سعوا ما أمكنهم، فلن يصلوا إلى هدفهم المنشود، وغايتهم المطلوبة، بل سيظلون يتخبطون تخبطًا عشوائيًا في متاهات مظلمة، كثيرة الالتواء، صعبة المخرج، إلى أن يموتوا غيظًا، وكمدًا، وحقدًا؛ لأن الله - عز وجل - تكفل بحفظ دينه من كل من يريده بسوء، وحفظ أهله من كل من يريدهم بشر، كما يدل على ذلك قوله تعالى: ((يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) [التوبة:32-33].


    وما شأن شراذم البغي - قديمًا وحديثًا - ومحاولاتهم للنيل من السنة المطهرة إلا كشأن من قال عنه الأعشى:

    كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها، وأوهى قرنَه الوَعِلُ

    وهم ببغيهم وافترائهم واعتدائهم وتزييفهم وقالتهم الكاذبة، إنما يظلمون أنفسهم ودينهم: ((وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)) [الشعراء:227].

    وفي هذه الزاوية سنقف مع اختلاقهم وأكاذيبهم، وسنعرض لشبهاتهم وافتراءاتهم، داحضين لها، مفندين إياها، ليتضح الحق، ويفتضح الباطل، والله نستمد منه العون، ونسأله التوفيق. ((وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)).







    الهوامش:

    (1) صحيح البخاري:(32)، وصحيح مسلم: (327).

    (2) صحيح مسلم: (613).

    (3) صحيح البخاري: (4745).

    (4) صحيح البخاري: (1789)، وصحيح مسلم: (1180).

    (5) أبو داود: (4604)، والترمذي: (2663)، وابن حبان:(12)، وصححه الحاكم: (1/ 109)، وأقره الذهبي.


    (6) صحيح البخاري: (4216)، وصحيح مسلم: (1407).

    (7) إعلام الموقعين: (4/ 97- 104).

    (8) السنة النبوية- دكتور أحمد كريمة، ص: 27، 28.

    (9) الإسلام على مفترق الطرق، ص: 87.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 2 )

    كلمة في الاصطلاح والدلالة (1-2)


    بسم الله الرحمن الرحيم


    كلمة في الاصطلاح والدلالة


    أهمية إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية.


    إن الخلط في الدلالات وعدم معرفة الفوارق بين المعاني في اللغة وبينها في الاصطلاح أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يؤدي بأصحابه إلى أسوأ الأحكام، وأتعس النتائج، وهذا ما سنلاحظ بعضه في الصفحات التالية، ومن ثم يلزم بين يدي تعريفنا بالسنة معرفة الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية، وعليه فأقول:

    قال أبو هلال العسكري:" الفرق بين الاسم العرفي والاسم الشرعي أن الاسم الشرعي ما نقل عن أصله في اللغة فسمي به فعل، أو حكم حدث في الشرع، نحو الصلاة، والزكاة، والصوم، والكفر، والإيمان، والإسلام، وما يقرب من ذلك، وكانت هذه أسماء تجري قبل الشرع على أشياء، ثم جرت في الشرع على أشياء أخر، وكثر استعمالها حتى صارت حقيقة فيها، وصار استعمالها على الأصل مجازاً، ألا ترى أن استعمال " الصلاة " اليوم في الدعاء مجاز، وكان هو الأصل.

    والاسم العرفي ما نقل عن بابه بعرف الاستعمال نحو قولنا: " دابة "، وذلك أنه قد صار في العرف اسما لبعض ما يدب، وكان في الأصل اسما لجميعه.

    وعند الفقهاء أنه إذا ورد عن الله خطاب قد وقع في اللغة لشيء، واستعمل في العرف لغيره، ووضع في الشرع لآخر، فالواجب حمله على ما وضع في الشرع؛ لأن ما وضع له في اللغة قد انتقل عنه، وهو الأصل، فما استعمل فيه بالعرف أولى بذلك، وإذا كان الخطاب في العرف لشيء، وفي اللغة بخلافه، وجب حمله على العرف؛ لأنه أولى، كما أن اللفظ الشرعي يحمله على ما عدل عنه، وإذا حصل الكلام مستعملاً في الشريعة أولى على ما ذكر قبل، وجميع أسماء الشرع تحتاج إلى بيان، نحو قوله تعالى ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)) [البقرة:43]

    إذ قد عرف بدليل أنه أريد بها غير ما وضعت له في اللغة، وذلك على ضربين:

    أحدهما: يراد به ما لم يوضع له ألبته نحو: الصلاة، والزكاة.

    و الثاني: يراد به ما وضع له في اللغة لكنه قد جعل اسما في الشرع لما يقع منه على وجه مخصوص، أو يبلغ حداً مخصوصاً، فصار كأنه مستعمل في غير ما وضع له، وذلك نحو: الصيام، والوضوء، وما شاكله.

    وهذا كلام مهم، ولإيضاحه أكثر أقول:

    الأسماء ثلاثة أنواع:

    الأول: يعرف حده بالشرع مثل: الإيمان، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.

    الثاني: يعرف حده باللغة مثل: الشمس، القمر، الليل، النهار.

    الثالث: يعرف حده بالعرف مثل: القبض.

    والألفاظ الشرعية - وإن كانت عربية في الأصل - إلا أنه لا بد من معرفة المراد بها في الشرع؛ لأن الشرع قد نقل تلك الألفاظ عن مدلولاتها الأصلية إلى معان بينها وبين المعنى الأصلي نوع اشتراك.

    فالصلاة في أصل اللغة الدعاء، فجاء الشرع مخصصا الصلاة بأقوال، وأفعال، وهيئات معينة.

    و الزكاة في أصل اللغة هي النماء والزيادة، فجاء الشرع مخصصاً معناها بما يدفع من حق معلوم لمستحقيه باعتبار ذلك الدفع طريقاً للنماء والزيادة.

    والصوم في أصل اللغة مطلق الإمساك، فجاء الشرع مخصصاً معناه بالامتناع عن أشياء معينة في أوقات معينة.

    و الحج في أصل اللغة القصد، فخص الشرع ذلك القصد بأنه القصد لبيت الله الحرام لأداء أعمال معينة.

    فالشرع إذاً لم ينقل تلك الألفاظ – وغيرها – عن معانيها اللغوية بالكلية، ولم يبق عليها كما هي في أصل اللغة، بل خصت تخصيصاً شرعياً ببعض مواردها، كما أن عرف الناس يخصص بعض الألفاظ ببعض مواردها.

    وإذا أعرض المرء عن هذا المنهج في تعامله مع المصطلحات الشرعية، ولم يع هذه الفروق فإنه يضل ضلالاً كبيراً، لذا لزم علينا أن نبين وجه الخلاف بين معنى " السنة " في اللغة وبين معناها في الاصطلاح، وهذا ما سنعرض له في الآتي.

    السنة في اللغة

    السنة في اللغة: مشتقة من الفعل " سن " بفتح السين المهملة وتشديد النون، أو من " سنن " وهذه المادة تفيد جريان الشيء واطراده في سهولة، فهي تفيد أن الشيء تكرر حتى أصبح قاعدة.

    ولها عدة معان:

    1- السيرة المستمرة، والطريقة المتبعة المعتادة، سواء أكانت حسنة أو سيئة. وهذا المعنى للسنة هو الأصل والغالب، قال ابن الأثير: " قد تكرر في الحديث ذكر: " السنة " وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة والسيرة.. "، وحسن الطريقة والسيرة أو سوؤها إنما يأتي على طريق الوصف والإضافة.

    فمن الوصف قوله- صلى الله عليه وسلم -: " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم من شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".

    ومن الإضافة تأخذ كلمة " سنة " المدح أو الذم حسب المضاف إليه. ففي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ".... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " تكون السنة حسنة ومحمودة.

    وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية..... "

    وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، وذراعا ذراعا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن " تكون السنة هنا سيئة ومذمومة.

    وأصلها اللغوي مأخوذ من قولك: سننت الماء إذا واليت صبه، وفي لسان العرب: سن عليه الماء: صبه، وقيل أرسله إرسالاً ليناً....

    وسن الماء على وجهه: أي: صبه عليه صبا سهلاً، قال الجوهري: سننت الماء على وجهي، أي أرسلته إرسالاً من غير تفريق... وفي حديث بول الأعرابي في المسجد: " فدعا بدلو من ماء فسنه عليه " أي: صبه، والسنن: الصب في سهولة... وفي حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عند موته: " فسنوا علىّ التراب سنا " أي: ضعوه وضعاً سهلاً.

    فشبهت العرب الطريقة المتبعة، والسيرة المستمرة بالشيء المصبوب، لتوالي أجزائه على نهج واحد، ومن هذا المعنى قول خالد بن عتبة الهذلي:

    فلا تجزعن من سيرة أنت سِرتَهَا * * * فأول راضٍ سنه من يسيرها

    وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت كلمة السنة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين " [الكهف /55]

    وقال تعالى: " سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا " [الإسراء:77]

    2- السنة بمعنى المثال المتبع، والإمام المؤتم به , قال في اللسان: سنَّ فلان طريقاً من الخير يسُنّه: إذا ابتدأ أمراً من البر لم يعرفه قومه، فاستنوا به وسلكوه.

    وقال الطبري: والسنة هي المثال المتبع، والإمام المؤتم به، يقال منه: سَنّ فلان فينا سنة حسنة، وسن سنه سيئة: إذا عمل عملاً اتبع عليه من خير وشر، ومنه قول لبيد بن ربيعة:

    من معشر سنَّت لهم آباؤهم * * * ولكل قومٍ سُنَّةٌ وإمَامُها

    وقول سليمان بن قَتَّة :

    وإن الأُلى بالطفِّ من آل هاشم * * * تأسوا فسنوا للكرام تآسوا

    وبهذا الإطلاق اللغوي جاءت في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل "، يعني أن على قابيل قاتل هابيل نصيب من كل دم يراق؛ لأنه أول من ابتدأ القتل، فقوله: " أول من سن القتل " فيه أن من سن شيئاًَ كتب له أو عليه، وهو أصل في أن المعونة على ما لا يحل حرام.

    وهكذا فإن العرب تطلق على كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم من بعده، بأنه هو الذي سنه، ومن هذا المعنى قول نصيب:

    كأني سننت الحب أول عاشق * * * من الناس إذا أحببت من بينهم وحدي

    3- والسنة بمعنى الصقل والتزيين، يقال: سنَّ الشيء يَسُنُّهُ سناً، وسنَّنَه أي: صقله وزينه.

    قال في اللسان: والسنة: الوجه، لصقالته وملاسته، وقيل هو حُرُّ الوجه، وقيل دائرته، وقيل: الصورة، وقيل الجبهة والجبينان، وكله من الصقالة والأسالة.

    وبهذا المعنى وردت في أشعار العرب، قال الأعشى:

    كريماً شمائله من بني *** معاوية الأكرمين السُّنن

    حيث أراد بقوله: " الأكرمين السُّنن " الأكرمين الوجوه، فـ (السنن) الوجوه، و" السنن " جمع سنة.

    وقال ذو الرمة:

    تُريك سنة وجه غير مُقرفةٍ *** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندبُ

    حيث أراد بقوله " تريك سنة وجه " تريك دائرة وجهها.

    وقال ثعلب:

    بيضاء في المرآة سُنَّتها *** في البيت تحت مواضع اللمس

    حيث أراد بقوله: " في المرآة سنتها ": في المرآة صورتها.

    كما وردت في الحديث الشريف بهذا المعنى، ومنه حديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم- حض على الصدقة، فقام رجل قبيح السنة ". أي: الصورة.

    4- والسنة بمعنى العناية بالشيء ورعايته. يقال: سن الإبل إذا أحسن رعايتها والعناية بها، والفعل الذي داوم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- سمي سنة بمعنى: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحسن رعايته وإدامته.

    5- والسنة بمعنى البيان، يقال: سن الأمر، أي: بينه، وسن الله أحكامه للناس: بينها، فسنة الله: أحكامه، وأمره، ونهيه، وسنها الله للناس: بينها، وفي الحديث: " إني لأَنسى أو أُنسَّى لأسُنَّ ". أي: إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى طريق مستقيم، وأبين لهم ما يحتاجون أن يفعلوا إذا عرض لهم النسيان.



    الهوامش:

    (1)الفروق ص 56

    (2)انظر: " فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (7/298-302)، ومختصر الصواعق المرسلة (2/347).

    (3)انظر: مقاييس اللغة (3/60)

    (4)النهاية في غريب الحديث ص 449

    (5) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم (1017)

    (6) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة (4607) و الترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة النبوية و اجتناب البدع رقم (2678) وقال: حديث حسن صحيح.

    (7) أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق، (6882)

    (8) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -" لتتبعن سنن من كان قبلكم " رقم (7320)

    (9) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب ترك النبي - صلى الله عليه و سلم - والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، رقم (58،57)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد رقم (284).

    (10)أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله رقم (121).

    (11)لسان العرب 13/227، و انظر: القاموس المحيط 4/239، و المعجم الوسيط 1/455، 456

    (12)لسان العرب 12/225.

    (13)لسان العرب (13/225).

    (14)يعنى أنك من جماعة " سنت لهم آباؤهم " علمتهم طريق كسب المعالي.

    (15)الطف: موضع قرب الكوفة.

    (16)تآسوا: من المواساة بمعنى المشاركة.

    (17) تفسير الطبري 4/100.

    (18) أخرجه البخاري كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، رقم (3335)، ومسلم كتاب القسامة، باب بيان إثم من سن القتل رقم (1677).

    (19) تكملة فتح الملهم (2/213).

    (20) اللسان 13/224

    (21) يقال سنن الطريق – بفتح السين و ضمها – فالأول مفرد والثاني جمع " سنة " وهي جادة الطريق والواضح فيها.

    (22) انظر: لسان العرب 13/224، القاموس المحيط 4/239، المعجم الوسيط 1/456،455.

    (23) أخرجه أحمد في المسند (4/288-296).

    (24) انظر: لسان العرب (3/2121) تاج العروس (9/244،243).

    (25) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب السهو، باب العمل في السهو، رقم(2). قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول.

    (26) انظر: لسان العرب (13/225)، القاموس المحيط (4/238).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 3 )

    كلمة في الاصطلاح والدلالة (2-2)


    بسم الله الرحمن الرحيم



    1- و السنة بمعنى دين الله تعالى، الذي هو أمره ونهيه وسائر أحكامه (1)، قال الراغب: وسنة الله قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته (2).


    2-و السنة بمعنى الأمة. نقله القرطبي عن المفضل، و أنشد:

    ما عاين الناس من فضل كفضلهم * ولا رأوا مثلهم في سالف السنن (3)

    3- و السنة بمعنى الطبيعة (4). قال في اللسان، و السنة: الطبيعة، وبه فسر بعضهم قول الأعشى:

    كريم شمائله من بني * معاوية الأكرمين السُّنن (5)

    4- و السنة بمعنى الدوام. نقله الشوكاني عن الكسائي (6).

    5- و السنة بمعنى العادة. قال العضد وكثير من علماء الأصول: "السنة لغة: الطريقة والعادة" وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ((فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)) (فاطر:43). ((سنة الأولين)): إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم. جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم، وبين أن عادته - التي هي: الانتقام من مكذبي الرسل - عادة لا يبدلها و لا يحولها " (7) فقد فسر السنة بالعادة كما ترى.

    وقال الفنري: " المفهوم من سياق الأصفهاني في شرح البدائع: أن عطف " العادة " على " الطريقة " ليس تفسيرياً حيث قال: وهي في اللغة: الطريقة. يقال: سنة زيد كذا، أي طريقته وسيرته. و العادة. يقال: من سنته كذا، أي: من عادته، قال الله تعالى: ((ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) (الأحزاب:62) أي لعادته" (8).

    قال الدكتور/ عبد الغني عبد الخالق معقباً على هذا القول: " ولم أجد في قواميس اللغة تصريحاً: بأن السنة هي العادة، و لا بأن العادة هي الطريقة أو السيرة أو الطبيعة. و الذي ذكر في القاموس وشرحه هو: " أن العادة: الديدن يعاد إليه، معروفة. سميت بذلك: لأن صاحبها يعاودها. أي يرجع إليها مرة بعد أخرى.

    وقال جماعة: العادة: تكرير الشيء دائماً أو غالباً على نهج واحد بلا علاقة عقلية. وقيل: ما يستقر في النفوس من الأمور المتكررة المعقولة عند الطباع السليمة، ونقل شيخنا: أن العادة والعرف بمعنى، وقال قوم: قد تختص العادة بالأفعال، والعرف بالأقوال. وقال في المخصص نقلاً عن صاحب العين: " العادة: الديدن، والدربة، والتمادي في شيء حتى يصير سجية له " (9)

    فإذا نظرنا إلى جميع معاني العادة: وجدنا أنها تفيد معنى الاستمرار والدوام، فكأن من فسر السنة بالعادة أخذ هذا التفسير من قول الكسائي - المنقول فيما تقدم - " إن السنة: الدوام ".

    وإذا نظرنا إلى تفسير العادة - في شرح القاموس -: بما يستقر في النفوس الخ.. و إلى قول صاحب العين: والتمادي في شيء... الخ، وإلى ما نقل عن الراغب في تفسير الطبيعة فيما تقدم: علمنا أن العادة قد تستعمل بمعنى الطبيعة.

    وإذا نظرنا إلى تفسيرها: بتكرير الشيء دائماً أو غالباً... الخ، وإلى تفسيرها بالعرف: علمنا أنها بمعنى الطريقة، فإنها تفيد معنى الاستمرار والتكرار.

    هذا: وقد وجدت أبا هلال العسكري في كتابه " الفروق اللغوية " يفرق بين السنة والعادة: بأن العادة: ما يديم الإنسان فعله من قبل نفسه، والسنة تكون على مثال سبق. (10)

    وبالجملة: فمعاني " العادة والطبيعة والطريقة والدوام " متقاربة إن لم تكن متحدة " (11)

    وجماع القول في معنى هذه الكلمة - السنة - اللغوية: أنها تدل على الطريقة المسلوكة راجعة إلى أصلها، إذ هي من قولهم: سننت الشيء بالمسن، إذا واليت تكراره عليه و إمراره به حتى صنع له سناً " أي: طريقاً.

    وقريب منه أن نقول:إن هذا اللفظ إنما يفيد الاستمرار، والدوام، والأمر بهما، وهو ظاهر في قولك: سننت الماء، أي واليت صبه بأسلوب منتظم ودائم.

    وإذا ما جمعنا المعنيين معاً يتضح لنا: أن السنة إنما تفيد الأمر باتباع طريقة معينة، والتزامها، والسير عليها، حتى تكون هي الطريق والمسار الذي لا يجوز خلافه في مراد من أمر بالتزامه (12)

    وهكذا نجد أن الاصطلاح الشرعي للسنة المفهوم من هذه المعاني اللغوية هو: السيرة والطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وتقريراته على وجه العموم.

    وإذ قد اتضح من خلال العرض معنى " السنة " في اللغة فلا بد من التنبه لأمور هي:

    1. أن السنة بمعنى الطريقة والسيرة حسنة كانت أو سيئة قد استعملت في لغة العرب قبل الإسلام، ووردت في أشعار الجاهلية كما سبق إيراده.

    2. أن القرآن الكريم والحديث الشريف قد وردت فيهما كلمة " السنة " بمعناها اللغوي السابق.

    3. أن السنة وإن خصصها الإسلام بالطريقة التي نهجها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أقواله، وأفعاله، وتقريراته، فإن ذلك لا يعني أن معناها اللغوي قد بطل أو انعدم، بل بقي استعمالها ولكن في نطاق ضيق.


    السنة في القرآن الكريم

    السنة في القرآن الكريم يمكن الحديث عنها من خلال محورين:

    الأول: كلمة "سنة" في القرآن الكريم.

    الثاني: السنة النبوية في القرآن الكريم.

    أولاً: كلمة " سنة " في القرآن الكريم

    لقد وردت كلمة " سنة " في القرآن الكريم ست عشرة مرة، مفردة ومجموعة، منكرة ومضافة، تضاف إلى الله أحياناً، وإلى المخلوقين - صالحين أو طالحين - أحياناً أخرى، ولها معانٍ متعددة، لكن الغالب فيها: أنها القوانين الثابتة التي أقام الله عليها نظام الخلق، باعتبار أنها الطريقة المعتادة التي يجري عليها القدر الإلهي في سياسة الخلق عامة، وفي عقاب الطغاة والمكذبين خاصة. وإيضاح ذلك في الآتي:

    ورد لفظ " السنة " في القرآن الكريم، بمعنى: الطريقة، والسيرة، و النهج التي كان عليها الأسلاف، وقد تكون محمودة، وهي سنن الحق والهدى، ومن ذلك قوله تعالى: ((يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)) [النساء:26]. أي يهديكم طرق الذين من قبلكم، وهي طرائقهم الحميدة. (13)

    وقد تكون سنة الله في جزاء أمر مذموم، وهي سنته في إهلاك الأمم التي عصت رسله، وتمادت في الغي والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ((وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين)) [الأنفال:38]. أي إهلاك الله لهم حين تنكبوا الصراط المستقيم.

    وقوله تعالى: ((لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين)) [الحجر:13] أي الطريقة التي سنها الله في إهلاكهم لما كذبوا.

    وورد أيضاً لفظ " السنن " بمعنى: الوقائع والحوادث المتكررة، التي حصلت للأمم السالفة. من ذلك قوله تعالى: ((قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) [آل عمران:137] أي قد خلت من قبلكم وقائع سنها الله تعالى في الأمم المكذبة.

    كما ورد أيضاً لفظ " سنة الله " بمعنى حكمه وقضائه الثابت الذي لا يتخلف، ومن ذلك قوله تعالى: ((سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) [الأحزاب:62].

    و قوله تعالى: ((سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً)) [الفتح:23].

    و قوله تعالى: ((فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلاً)) [فاطر:43].

    و قوله تعالى: ((سنة الله التي قد خلت في عباده)) [غافر:85].

    وقوله تعالى: ((سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلاً)) [الإسراء:77]

    فالسنة هنا تعني: العادة الثابتة، التي حكم الله بها وقضاها (14)، و المعنيان الآخران متقاربان (15).

    وإنما أضيفت السنة إلى الله، وأضيفت إلى الخلق لتعلقها بالله - سبحانه وتعالى - وبخلقه، فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي قررها وينزلها، والخلق هم الذين يستقيمون على أوامر الله سبحانه وهم الصالحون، أو ينزل بهم عقاب الله تعالى وهم الجاحدون.

    قال القرطبي: " وأضافها - أي السنة - إلى الله - عز وجل - وقال في موضع آخر: "سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا " فأضاف إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كالأجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: " فإن أجل الله لآت " وقال: " فإذا جاء أجلهم".

    وعليه فإذا أضيفت السنة إلى الله - سبحانه و تعالى - فإن كانت في الجاحدين فالمراد طريقته - سبحانه وتعالى - في ردعهم وغضبه عليهم وتعذيبهم، وإن كانت في الصالحين فالمراد طريقته - في إكرامهم ورحمته واللطف بهم.

    وإذا أضيفت السنة إلى المعاندين فالمراد ما نزل من العقوبة بهم.

    وإذا أضيفت إلى الصالحين فالمراد طرقهم المستقيمة، ومناهجهم السليمة.





    الهوامش:

    (1) القاموس المحيط (4/239)، المعجم الوسيط (1/256).

    (2) المفردات ص 245.

    (3) انظر: الجامع لأحكام القرآن (4/216).

    (4) الطبيعة: السجية، مأخوذة من " الطبع " وهو: أن يصور الشيء بصورة ما. كطبع السكة والدراهم، فإن ذلك نقش النفس بصورة ما، إما من حيث الخلقة أو من حيث العادة، وهو فيما تنقش به من جهة الخلقة أغلب. المفردات للراغب ص 303 بتصرف.

    (5) اللسان 13/2125

    (6) إرشاد الفحول ص 33

    (7) الكشاف 2/246.

    (8) حاشية الفنري على التلويح (242)

    (9) المخصص 12/75.

    (10) الفروق ص 187.

    (11) سجية السنة ص 51،50.

    (12) السنة في مواجهة أعدائها ص 38.

    (13) انظر: تفسير ابن كثير (1/411)، فتح القدير (1/452).

    (14) انظر: تفسير ابن كثير (3/49).

    (15) انظر: مفهوم السنة و الجماعة ص 17،16.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي


    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 4 )


    بسم الله الرحمن الرحيم

    ثانياً: السنة النبوية في القرآن الكريم

    لقد ذكرت السنة في القرآن الكريم كثيراً.
    1. فذكرت بلفظ الحكمة كما في:
    قوله تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام - في دعائه لهذه الأمة: ((ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم..)) [البقرة:129] وقوله تعالى:((كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة..)) [البقرة:151] وقوله تعالى: ((لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)) [آل عمران:164]
    وقوله تعالى: ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة)) [النساء:113]
    وقوله تعالى: ((واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)) [الأحزاب:34]
    وقوله تعالى: ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)) [الجمعة:2]
    قال الحسن وقتادة: الكتاب: هو القرآن، والحكمة هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
    وقال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: " ذكر الله الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة: سنة رسول الله، وهذا يشبه ما قال، والله أعلم، لأن القرآن ذُكِرَ واتبعته الحكمة، وذكر الله مَنّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز - والله أعلم - أن يقال الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان به، وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد: دليلاً على خاصّه وعامّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله " (2)
    وقال الطبري - رحمه الله -: ((ويعلمهم الكتاب والحكمة)) يعني: ويعلمهم كتاب الله الذي أنزل عليه، ويبين لهم تأويله ومعانيه " الحكمة " ويعني بالحكمة: السنة التي سنها الله - جل ثناؤه- للمؤمنين على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانه لهم. (3)
    وقال الطبري - أيضاً - بعد أن ذكر آراء الأئمة في تفسير الحكمة -:" والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله تعالى لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره". (4)
    وإذا سلمنا بهذه الحقيقة، وهي أن بيان القرآن الكريم هو الحكمة التي أوتيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقرنت بالكتاب، وأن هذه الحكمة ليست شيئاً سوى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا التسليم يطرح تساؤلات:
    من بينها: أن القرآن لم يستخدم لفظ " السنة " تعبيراً عن " بيان القرآن "؛ وإنما استخدم لفظ " الحكمة " فما سبب هذا العدول؟
    ثم: إذا كان لفظ " الحكمة " هو ما آثره القرآن، فلَِمَ عدل عنه النبي، وصحابته، وعلماء الأمة من بعده، واستبدلوا به لفظ " السنة "؟
    يقول الدكتور/ الخولي: " وفي تقديرنا: أن بداية هذا التفسير كامنة في الفرق بين طبيعة كلٍ من " الكتاب " و" السنة " رغم وحدة مصدرهما، وهو " الوحي " كلاهما وحي من الله - تعالى - بشهادة القرآن نفسه.. والسنة من بعده.
    أما شهادة القرآن فتطالعنا بينة قاطعة في قوله تعالى: ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)) [النجم:4، 3]
    فما ينطقه رسول الله شامل لما يتلوه على الناس، من قرآن، وما يقوله لهم من حديث. كلاهما وحي إذا.
    وبناءً على ما قررنا: من أن الحكمة هي " سنة " رسول الله.. وأنها ليست سواها، فقد أصبحت الآية الكريمة: ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً)) [النساء:113]. دليلاً ثانياً قاطعاً، على أن السنة وحي، أنزلها الله على رسوله - كما أنزل الكتاب.
    ودليل ثالث: ((ثم إن علينا بيانه)) [القيامة:19] إنه وعد قاطع بأن بيان القرآن، سوف يتولاه الله، كما تولى ((جمعه وقرآنه)) على حد سواء، ولا معنى لهذا سوى: أن يوحي إليه هذا البيان، بصورة من صور الإيحاء.
    السنة إذًا وحي بشهادة القرآن البينة، وهي وحي بشهادتها كذلك: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (5)
    وهو لم يؤت شيئاً غير القرآن - سوى السنة، - والسنة ليست مثل القرآن في شيء إلا في كونها وحياً مثله.
    ومهما حاولنا أن نجد معنى لكونها مثل القرآن غير كونها وحياً مثله، فقد حاولنا محالاً. فمن البين أنها ليست مثل القرآن كماً، وليست مثل القرآن كيفاً.. ولا يتحدى بها كما يتحدى بالقرآن...
    إن بين القرآن والسنة شبهاً محدداً، ينحصر في أن كليهما وحي من عند الله تعالى، وبينهما فرق: أن القرآن " وحي " بلفظه ومعناه، أما السنة فهي " وحي " بمعناها دون لفظها.
    ونحن نجد هذا الفرق على نحو قاطع، حين نتأمل ما أحيطت به رواية " السنة " بالقياس إلى ما أحيط به تبليغ " القرآن ".
    لقد تكفل ربنا بحفظ القرآن، وحماه أن يناله تغيير أو تحريف..((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)) [الحجر:9]
    ولكنه وكل إلينا حفظ " السنة "..فتطرق إليها شيء من مما لا سبيل للبشر إلى توقيه، وأبسطه هذا الاختلاف في رواية الحديث الواحد، بطرق شتى، كلها موثوق صحيح، إذ هذا قاطع بأن تصرفا حدث في الرواية، وهو سبب هذا الاختلاف، وإذا كان هناك خلاف حول جواز رواية الحديث بالمعنى، فهناك إجماع على عدم جواز قراءة القرآن بالمعنى البتة.
    ذلك أن لفظ القرآن متعبد به، و لفظ الحديث النبوي ليس كذلك، والقرآن هو المعجزة وبه التحدي، و السنة ليست كذلك.
    هذه الفروق وراء المفارقة البادية، في إيثار القرآن لفظ " الحكمة " وعدول النبي - صلى الله عليه وسلم -عنه إلى لفظ " السنة ".
    وإذا سلم لنا هذا الفرق الجوهري: أن " القرآن " وحي: لفظه ومعناه، وأن " السنة " وحي بمعناها دون لفظها، فقد انفتح لنا الباب لإسقاط الإشكال من أساسه.
    وهنا نجتهد آملين في الله أن نكون على صواب: أن " الحكمة " هي: المعاني التي تضمنتها أحاديث رسول الله، أوحاها الله إليه، وكساها - صلوات الله عليه - ألفاظا من عنده.
    أما " السنة ": فهي هذه المعاني الموحى بها، بعد أن اكتست العبارة التي تحملها، وإذا فمفهوم " السنة " غير مفهوم " الحكمة ".
    " الحكمة " هي " المعاني " وحدها.. و" السنة " هي المعاني بألفاظها، وبالتالي لا عدول من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نهج القرآن، أو تسميته، ولا مفارقة هناك؟!
    مفهوم " الحكمة " مختلف عن مفهوم " السنة ".....
    " السنة " معنى: هي الحكمة.. وهي بهذا المفهوم وحي من عند الله. و" السنة " معنى ولفظاً: هي حديث رسول الله، وما في معناه، من فعل أو تقرير.
    والدليل على أن معنى " السنة " وحي من عند الله، أن لفظها المعبر عن المعنى هو لرسول الله *- صلى الله عليه وسلم - الدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أن الروح الأمين قد ألقى في رُوعي: أنه لن تموت نفس، حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب " وفي رواية: " إن روح القدس نفث في روعي... " (6).
    "نفث في روعي" لا معنى لها هنا إلا الإلهام، والإلقاء في النفس، وما يلقى في الروع لا يكون إلا من باب المعاني.
    لأن ما يلقى بلفظه ومعناه يلقى في الروع وفي السمع في آن واحد، كالحديث القدسي، والقرآن العظيم.
    إذًا فما نسمعه ونقرؤه من هذا الحديث، ليس ما ألقي في " روع " رسول الله وقلبه.
    لقد ألقي إليه المعنى، فعبر عنه، وإذا فهذه المعاني الإلهية الموحى بها، قد وصلتنا من خلال عبارة رسول الله.
    وعبارة رسول الله صاغها على طريقته، وبأسلوبه الخاص، وهي طريقة في البيان تختلف لا محالة، عن طريق البيان الإلهي في القرآن.
    والسنة لغة: الطريقة، فهل نبعد إذا قلنا: سنة رسول الله: هي طريقته في تبليغ ما أوحي إليه من بيان القرآن - المعاني التي ألهمها - بلفظه وأسلوبه: " حديثاً " أو بفعله: " عملاً " أو بتقريره: " إجازة " وهما في دلالتهما كاللفظ؟!
    ترى: هل يمكن الآن اقتراح وضع لفظ " الحكمة " بدل لفظ " السنة " أو العكس؟!
    لقد استقر كل لفظ في موضعه، لا ينازعه الآخر فيه.. لأن أياً منهما لا يصلح بديلاً من صاحبه (7)؟!


    2. وذكرت السنة في القرآن الكريم بأساليب أخرى، منها:
    الأمر بطاعته - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)) [النساء:59]
    ومنها: قبول أمره ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((و ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا))[الحشر:7]
    ومنها: القبول والتسليم لقضائه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) [النساء:65]
    ومنها: التحذير من مخالفته - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم))[النور:63]
    ومنها: وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم))[آل عمران:31]. وقوله – سبحانه -: ((و اتبعوه لعلكم تهتدون)). [الأعراف:158]
    فهذه النصوص وما في موضوعها تلزم الأمة بهديه - صلى الله عليه وسلم -، وتبين أن ما جاء به فعلى الأمة أن تقبله وأن تعمل به، وهذا هو الذي نسميه " سنته " - صلى الله عليه وسلم - (8).



    الهوامش:
    (1) انظر: الفقيه والمتفقه 1/88 بتصرف.
    (2) الرسالة ص 79، 78
    (3) تفسير الطبري 4/163
    (4) تفسير الطبري 1/557
    (5) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب لزوم السنة، رقم (4604)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -رقم (2663)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأخرجه غيرهما وصححه ابن حبان وغيره.
    (6) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 53 رقم (306) عن المطلب، والحاكم في المستدرك، كتاب البيوع (2/4) عن ابن مسعود، أخرجه شاهداً (لحديث جابر الذي ساقه أصلاً ثم شاهدا لهذا الأصل، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (10/27، 26) عن أبي أمامة، وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه ص 92، 93، وضعفه السيوطي في الجامع الصغير (2273).
    (7) السنة بياناً للقرآن ص 41-46 بتصرف.
    (8) المدخل إلى السنة النبوية ص 21.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي


    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 5 )




    بسم الله الرحمن الرحيم

    السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -
    ومفهوم السلف الصالح
    إن المستقرئ لكتب السنة النبوية وسائر ما يتعلق بها يجد أن كلمة (السنة) قد وردت كثيراً على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك على ألسنة الصحابة والتابعين، وهي بحقيقتها الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف، وذلك فيما جاء منه في سياق الاستحسان، والثناء، والطلب، والاقتداء، والشواهد على هذا كثيرة جداً، منها:
    1- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) (1).
    فالرسول - صلى الله عليه وسلم - استعمل لفظ السنة للدلالة على جملة أحكام الشريعة، فكان المعرض عنها خارجاً عن الإسلام، إن كان إعراضه نتيجة لجحوده.
    قال القسطلاني - في بيان المراد من السنة هنا: ((والسنة مفرد مضاف يعم على الأرجح فيشمل الشهادتين وسائر أركان الإسلام، فيكون المعرض عن ذلك مرتداً))(2).
    وقال ابن حجر: ((المراد بالسنة: الطريقة، لا التي تقابل الفرض... والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري، فليس مني)) (3).
    2- عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ عبدا حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) (4).
    قال ابن علان: ((فعليكم بسنتي: أي طريقتي وسيرتي القويمة التي أنا عليها، مما فصلته لكم من الأحكام الاعتقادية والعملية، الواجبة والمندوبة وغيرها.
    وتخصيص الأصوليين لها بـ: المطلوب طلبًا غير جازم: اصطلاح طارئ، قصدوا به التمييز بينها وبين الفرض)) (5).
    وقال العلامة عبد الغني النابلسي في " الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية ": ((قوله - صلى الله عليه وسلم - " فعليكم بسنتي.... الحديث ": أي الزموا، يقال: عليك زيداً، أي الزمه، وسنته اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله.
    والخلفاء جمع خليفة، والمراد من الخلفاء: الأربعة أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله تعالى عنهم-، وأفرد الضمير في قوله: ((عضوا عليها)) إشارة إلى أن سنة الخلفاء بعده هي سنته أيضاً، لأنهم سنوها من شريعته، إرشاداً وهداية للقاصدين إلى طريقته - صلى الله عليه وسلم -، لا من قبل نفوسهم لتمشية أغراضها (6).
    وقال السيد الشريف علي الجرجاني: (قوله: وسنة الخلفاء، أي الخلفاء الأربعة، وليس المراد نفي الخلافة عن غيرهم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون في أمتي اثنا عشر خليفة)) (7). وإنما المراد تفخيم أمرهم، وتصويب رأيهم، والسيادة لهم بالتفوق على غيرهم، وإنما ذكر سنتهم في مقابلة سنته لأنه علم أنهم لا يخطئون فيما يستخرجونه من السنة بالاجتهاد، ولأنه علم أن بعض سنته لا يشتهر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعًا لتوهم من ذهب إلى رد تلك السنة) (8).
    وقال المنذري: قوله ((عضوا عليها بالنواجذ)) أي اجتهدوا على السنة والزموها واحرصوا عليها، كما يلزم العاض على الشيء بنواجذه خوفاً من ذهابه وتفلته، والنواجذ- بالنون والجيم والذال المعجمة - هي الأنياب، وقيل: الأضراس (9).
    3- عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بني، إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة) (10).
    فقوله ((وذلك من سنتي)) أي من طريقتي، ومن أحيا سنتي، أي أظهرها وأشاعها بالقول أو العمل (فقد أحبني) أي حبا كاملاً؛ لأن محبة الآثار علامة على محبة مصدرها (ومن أحبني كان معي في الجنة)؛ لأن المرء مع من أحب، وقال الله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين...) [ النساء/69].
    4- عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال بن الحارث: ((اعلم، قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء... الحديث)) (11).
    فقوله (من سنتي) قال الأشرف: ظاهر النظم يقتضي أن يقال (من سنني) لكن الرواية بصيغة الإفراد، فيكون المراد بها الجنس، أي طريقة من الطرق المنسوبة إلي: واجبة أو مندوبة أخذت عني بنص أو استنباط، كما أفاده إضافة سنة إلى الضمير المقتضية للعموم(12).
    5- عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن ملحة عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:......إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي (13).
    6- عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لكل عمل شِرَّة - فترة حرص ونشاط - ولكل ِشرَّة فترة -فتور، أي ضعف- فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) (14).
    7- عن حذيفة قال: "حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...." (15).
    قال ابن حجر: قوله (ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة): فيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واجباً كان أو مندوباً (16).

    الهوامش:
    (1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه... رقم (3403).
    (2) إرشاد الساري (8/4).
    (3) فتح الباري (9/105).
    (4) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4607)، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
    (5) دليل الفالحين (1/415).
    (6) نقلا عن تحفة الأخيار بإحياء سنة سيد الأبرار ص 51.
    (7) أخرجه البخاري بلفظ (أميرًا)، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف رقم (7222).
    (8) نقلاً عن تحفة الأخيار ص 49.
    (9) الترغيب والترهيب ص 79.
    (10) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2678)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
    (11) أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، رقم (2817). وقال: هذا حديث حسن، والحديث ضعيف لضعف كثير بن عبد الله، ولكن له شواهد.
    (12) شرح مشكاة المصابيح للقاري (1/202).
    (13) أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، رقم (2775) وقال: حديث حسن. قلت: بل ضعيف لضعف كثير بن عبد الله، لكن الحديث قد صح غالبه من وجوه أخرى.
    (14) أخرجه ابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (394) وقال المنذري في الترغيب (1/87): رواه ابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه.
    (15) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، رقم (6497).
    (16) فتح الباري (13/39).


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 6 )




    بسم الله الرحمن الرحيم

    السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم (2-4)


    1- عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة .... ) ([1]) .
    قال العلامة شبير العثماني : ( إذا كان في القوم رجال متقاربون في العلم والديانة، ومتساهمون في وجوه الأفضلية, بحيث تصير الإمامة مظنة للتجاذب والتنازع، ويحتاج إلى تجشم المرجحات؛ فيعمل على شاكلة حديث الباب، فيقدم الأقرأ لكتاب الله، والمراد بالقراءة قراءته بفهم معانيه، وأحكامه، كما كان دأب الصحابة وغيرهم من السلف - رضي الله عنهم -، فكان قُرَّاؤُهم علماءهم ، وهم المرادون بلفظ ( القراء) في قصة بئر معونة، وغزوة اليمامة، وقراءة الكتاب بمعانيه وأحكامه لا تكاد تحصل إلا بعلم ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومعرفة سننه، فإنه - صلى الله عليه وسلم- هو المبين لما أنزل عليه من الكتاب، كما أن علم السنة لا يتم إلا بمعرفة مآخذه من القرآن، فكان علم الكتاب وعلم السنة متساوقين، إلا أن السالكين سبل العلم : منهم من يغلب عليه القرآن ، فيشتغل به اشتغالاً متميزاً كعبد الله بن عباس، وأبي بن كعب من الصحابة - رضي الله عنهم -، ومنهم من يغلب عليه لون الحديث، فيكون أكبر همه اشتغاله واعتناءه بمعرفة السنن، وتحقيق الآثار، وفقهها، بحيث يصير الحديث فنه ، كأبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما -، فإذا كان في القوة مثل هذين الرجلين فيقدم من غلب عليه علم الكتاب، فإن تقدم الكتاب على سائر الأدلة يقتضي تقديم المشتغل به على من هو مشتغل بغيره، تنويهًا بشأن كتاب الله، وترغيبًا في تحصيل علومه، فإن الله يرفع به أقواماً ويضع به آخرين، وإن كانوا في علم الكتاب سواء فمن غلب عليه علم السنة، فإن كانوا فيه سواء فأقدمهم هجرة .... )) ([1]2).
    9- عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فقال : (( إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا : كتاب الله وسنة نبيه )) ([1]3).
    10- عن عروة قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : (( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما )) [ البقرة /158 ] . فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليها كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار .... وقد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما )) ([1]4).
    قال ابن حجر تعليقًا على قول عائشة : (( سن رسول الله الطواف بين الصفا والمروة )) : (( تنبيه : قول عائشة : سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الطواف بين الصفا والمروة : أي فرض بالسنة، وليس مرادها نفي فرضيتها- أي نفي فرضية هذه العبادة المشروعة – ويؤيده قولها في صحيح مسلم : ولعمري ما أتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما )) ([1]5) .
    11- عن أبي سعيد الخدري قال : خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد : (( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ))، وقال للذي توضأ وأعاد ( لك الأجر مرتين ) ([1]6).
    قال صاحب المرقاة: (أصبت السنة، أي الطريقة الشرعية الثابتة بالسنة، يعني وافقت الحكم المشروع، وهذا تصويب لاجتهاده، وتخطئة لاجتهاد الآخر) ([1]7).
    12- عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سن الجزور والبقرة عن سبعة ([1]8).
    13-عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا قد علمته، غير ثلاث:
    1- لا أدري كان يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ .
    2- ولا أدري كيف كان يقرأ – قوله تعالى : (( وقد بلغت من الكبر عتيا ) أو( عسيا ) ؟ .

    3- قال حصين بن عبد الرحمن الراوي عن ابن عباس : ونسيت الثالثة([1]9) .
    14- عن أبي هريرة -رضي الله عنه – في قصة قتل المشركين للصحابي الجليل خبيب بن عدي الأنصاري صبرًا – وفيه قول أبي هريرة : ( فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرًا ) ([1]10).
    وفي رواية ثانية ( وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرًا : الصلاة )([1]11).
    وفي رواية ثالثة ( فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ) ([1]12).
    قال العلامة القسطلاني عند الرواية الأولى : ( وإنما صار فعل خبيب سنة لأنه فعل ذلك في حياة الشارع - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه ) ([1]13).
    وقال عند الرواية الثانية: ( وإنما صار ذلك سنة، لأنه فعل في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاستحسنه وأقره ) ([1]14).
    وقال أيضاً عند الرواية الثالثة: ( واستشكل قوله: أول من سن، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأفعاله، وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته - صلى الله عليه وسلم- واستحسنهما ) ([1]15) .
    وواضح من حديث أبي هريرة السابق، وقصة قتل خبيب فيه : أن لفظ (( السنة))، ولفظ ( سنَّ ) معناه : الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقه أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ ( سنَّ ) فتكون صلاتهما سنة مستحبة، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليل آخر خارج لفظ ( سنَّ ) بلا ريب ، وهو إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم- لفعله .
    وكذلك يقال في تفسير حديث جابر - رضي الله عنه - ذي الرقم (12) .
    أما حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ذو الرقم ( 13) فناطق صريح بأن معنى ( سنَّ ) – أو السنة – فيه :المشروعات على اختلاف أحكامها، من فرض، أو واجب، أو سنة، أو مندوب، أو مباح ، بل يدخل في أسلوبه الحصري علم ابن عباس - رضي الله عنه - بالممنوعات أيضاً، والتي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على اختلاف أحكامها ([1]16).
    وقد أصبح هذا المعنى للسنة واضحاً ومعلوماً لكل من دخل في الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه.






    [1] - أخرجه مسلم، كتاب الصلاة ، باب من أحق بالإمامة، رقم ( 1532) .
    [2] - فتح الملهم ( 4/20 ) ط : دار القلم.
    [3] - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 1/93) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
    [4] - أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الصفا والمروة وجعل من شعائر الله ، رقم ( 1643 ) ،ومسلم ، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به ، رقم ( 3079) .
    [5] - فتح الباري 3/501.
    [6] -أخرجه أبو داود ، كتاب الطهارة، باب المتيمم يجد الماء بعد ما يصلي في الوقت، رقم ( 338) .
    [7] -مراعاة المفاتيح ( 1/350) .
    [8] - أخرجه أحمد في المسند ( 3/335) بسند حسن .
    [9] - أخرجه أحمد في المسند ( 1/257) بسند صحيح .
    [10] - أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب هل يستأسر الرجل " ومن لم يستأسر ،ومن صلى ركعتين عند القتل ، رقم ( 3045)
    [11] -صحيح البخاري ، كتاب المغازي، باب (تابع لباب فضل من شهد بدراً) رقم ( 3989) .
    [12] -صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان ...رقم ( 4086) .
    [13] -إرشاد الساري ( 5/165) .
    [14] - إرشاد الساري ( 5/261) .
    [15] -إرشاد الساري ( 6/314) .
    [16] - السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 17.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 7 )




    بسم الله الرحمن الرحيم

    السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم (3-4)



    ومما يدل على أن السنة قد عرفت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتبارها قرينة للقرآن وتالية له ما يلي:

    1- ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: (جاء ناس إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمون القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار، يقال لهم القراء ........)(1) .

    2- عن أنس ، أن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا : ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام، قال : فأخذ بيد أبي عبيدة فقال : ( هذا أمين هذه الأمة)(2).

    3- عن أبي موسى الأشعري قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال: (إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا ...)(3).

    4- عن معاذ بن جبل لما بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في كتاب الله ؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو .فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) (4).

    5- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : (إنما سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الخمسة : في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب والذرة) (5).

    6- عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تغلبونا على ثلاث: أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن)(6).

    وقد ظل هذا المعنى للسنة النبوية – أنها الطريقة المتبعة في الدين التالية للقرآن العظيم، الشاملة للأحكام الاعتقادية والعملية، واجبة كانت، أو مندوبة، أو مباحة– واضحا في أذهان الصحابة ومن بعدهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والشواهد على ذلك كثيرة ، منها :

    1-عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال : (جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تسأله ميراثها، فقال : لم أجد لك في كتاب الله تعالى من شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس....) (7).

    2- قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها -: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت ....)(8) .

    3-عن شقيق بن سلمة قال : سمعت الصبي بن معبد يقول : كنت رجلاً نصرانياً فأسلمت، فأهللت بالحج والعمرة ، فسمعني سلمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما جميعا بالقادسية، فقالا : لهذا أضل من بعيره، فكأنما حملا عليَّ جبلاً بكلمتهما، فقدمت على عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له ، فأقبل عليهما، فلامهما، ثم أقبل عليّ فقال : هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هديت لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - (9).

    4-وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا: (سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله) (10).

    5-وقال عمر بن الخطاب أيضا في كتابه لشريح القاضي : (إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.....) (11).

    6-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناكم به، ولا طاقة لنا بما أحدثتم)(12).

    7-وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - أيضاً: (فإذا سئلتم عن شيء فانظروا في كتاب الله، فإن لم تجدوه في كتاب الله ففي سنة رسول الله، فإن لم تجدوه في سنة رسول الله فما أجمع عليه المسلمون...)(13) .

    8-وقال سالم: (كان عبد الله بن عمر يفتي بالذي أنزل الله - عز وجل - من الرخصة بالتمتع وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: فيقول ناس لابن عمر: كيف تخالف أباك؟ وقد نهى عن ذلك، فيقول لهم عبد الله: ويلكم ألا تتقون الله ! إن كان عمر نهى عن ذلك فيبتغي فيه الخير، يلتمس به تمام العمرة، فلم تحرمون ذلك ؟وقد أحله الله وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟ )(14).

    9-وعن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: (يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة ، فلا تفت إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت)(15).

    10- وعن سالم بن عبد الله بن عمر، أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير - رضي الله عنهما - سأل عبد الله : كيف تصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة فَهجِّر بالصلاة يوم عرفة، فقال عبد الله بن عمر : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة، فقلت – القائل ابن شهاب الراوي عن سالم – لسالم : أفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال سالم: وهل تتبعون في ذلك إلا سنته(16).

    يقول السيوطي : (فنقل سالم وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا (السنة) لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(17) .

    11- وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - حين قال له رجل: أرأيت أرأيت، فقال: (اجعل أرأيت باليمن، إنما هي السنن)(18). أي الدين المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

    12- وعن عكرمة قال : كان ابن عباس يضع في رجلي الكبل – القيد – ويعلمني القرآن والسنن(19).

    13- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن)(20).

    14- وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (الهوى عند من خالف السنة حق وإن ضربت فيه عنقه)(21).

    15- وقال أبي بن كعب - رضي الله عنه-: (عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة وذكر الرحمن، ففاضت عيناه من خشية الله - عز وجل - فيعذبه)(22).











    (1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، رقم ( 4917).

    (2) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، رقم ( 6253) .

    (3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، رقم ( 904).

    (4) أخرجه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، رقم ( 3592) ، والترمذي ، كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ، رقم ( 1327) ، وأحمد في المسند ( 5/230) ، والدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيها من الشدة ، رقم (170) والبيهقي في الكبرى، كتاب أدب القضاء، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي 10/114، وصححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( 1/243-244) ، وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/3) ، وهذا الحديث في المسند والسنن بسند جيد، وضعفه البخاري وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم .

    (5) أخرجه ابن ماجه ، كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، رقم ( 1815) .

    (6) أخرجه أحمد في المسند ( 5/165) ، والدارمي ، المقدمة ، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم السنن ، رقم ( 549) .

    (7) أخرجه أبو داود ، كتاب الفرائض ، باب في الجدة، رقم ( 2894) ، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، رقم ( 2100) وقال : هذا حديث حسن صحيح .

    (8) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة البائن لا نفقة لها، رقم ( 3710) .

    (9) أخرجه ابن ماجه ، كتاب المناسك ، باب من قرن الحج والعمرة ، رقم ( 2970) .

    (10) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 119) .

    (11) أخرجه الدرامي، المقدمة، باب الفتيا وما فيه من الشدة، رقم ( 167).

    (12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 101) .

    (13) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 169) .

    (14) أخرجه أحمد في مسنده ( 2/95) .

    (15) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 164) .

    (16) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، رقم ( 1662).

    (17) تدريب الراوي 1/189.

    (18) الشرح والإبانة ص 126.

    (19) أخرجه الدارمي، المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم الناس السنن ، رقم ( 559) .

    (20) البدع لابن وضاح ص 38.

    (21) الشرح والإبانة ص 122.

    (22) أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 1/352-353 ) اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 1/54رقم 10 ) .





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 8 )



    السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - (4-4)





    1- وقال عبد الله بن عون البصري - رحمه الله - (ت 151هـ): (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآن فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه، ويتبعه جهده، والثالثة: أن يدع هؤلاء الناس إلا من خير)(1).

    2- وقال الأوزاعي - رحمه الله - (ت 157هـ): (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة، واتِّباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل الله...)(2).

    3- وقال سفيان الثوري - رحمه الله - (ت 161هـ): (اتبع السنة ودع البدعة)(3).

    4- وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله - (ت 187هـ): (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة ينهون عن أصحاب البدع)(4).

    5- وقال أبو الخلال - رحمه الله -: (إنه سيأتي على الناس زمان يقوم الرجل يسأل عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد أحداً يخبره بها)(5).

    والنصوص في هذا المعنى كثيرة، وظاهر منها جميعا أن السنة في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناها: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وفي ذلك يقول ابن حجر: (تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب)(6).

    ويقول ابن رجب: (والسنة: هي الطريق والسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو – يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدين – من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، روي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض)(7).

    وقال السيوطي عن الصحابة والتابعين: (إنهم إذا أطلقوا " السنة " لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -)(8).

    فهذه نصوص صريحة واضحة على المراد بالسنة إذا وردت في الحديث، أو في كلام الصحابة والتابعين.












    (1) السنة للمروزي، رقم (106)، شرح أصول الاعتقاد (1/ 68 رقم 36).

    (2) شرح أصول الاعتقاد (1/71 رقم 48)، شرح السنة للبغوي (1/209).

    (3) شرح السنة للبغوي (1/217).

    (4) الشرح والإبانة لابن بطه ص 153.

    (5) السنة للمروزي، رقم (111).

    (6) فتح الباري (10/340).

    (7) جامع العلوم والحكم ص 230.

    (8) تدريب الراوي (1/189).




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي


    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 9 )



    تساؤل والجواب عليه







    قد يتساءل البعض عن هذه الإطالة في إيراد كل تلك النصوص، وعذرنا في ذلك: أن عدم الوقوف عليها ومعرفة مدلولها الصحيح أوقع كثيراً من المثقفين وطلاب العلم في أخطاء منهجية خطيرة، إذا قصروا السنة على مفهوم الفقهاء لها، وهي ما يقابل الفرض أو الواجب، أي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا اصطلاح متأخر لا ينبغي حمل كلمة (السنة) عليه؛ لأنه يخص طائفة جُلُّ عملها معرفة أحكام الشرع على أفعال المكلفين، ومن ثم تساوق التعريف مع بحثهم.

    قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: (مما هو معلوم أن لفظ السنة من الألفاظ الاصطلاحية الفقهية الدائرة في كلام الفقهاء وكتب الفقه باستمرار، وهي عندهم بمعنى ما يقابل الواجب أو الفرض، وقد ظهر هذا الاصطلاح الفقهي وانتشر في القرن الثاني وما بعده، بعد عهد التابعين).

    ووقع من بعض فقهاء المذاهب خلط بين المعنيين، فأقاموا لفظ (السنة) الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام الصحابة والتابعين، دليلاً على (سُنِّية) العمل المرغب فيه بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وذلك خطأ يجب التنبه له، فإن لفظ (السنة) الوارد في الأحاديث النبوية، أو كلام الصحابة والتابعين، يعتمد المعنى الشرعي العام، فيشمل الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغيره.

    وهذه فيها الفرض والواجب، وكل مرغب فيه، ومستحب مشروع من الأقوال، والأفعال، قال العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي – رحمه الله تعالى – في: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية: (وسنته - صلى الله عليه وسلم - اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله) انتهى.

    ولفظ (السنة) الدائر في كلام الفقهاء وكتب الفقه يعتمد المعنى الاصطلاحي الخاص، الذي حددوه بما يقابل الواجب أو الفرض، فالفرق بين المعنيين والاستعمالين ظاهر، والاستدلال على (سُنِّية) العمل بكونه ورد في لسان النبوة أو كلام الصحابة والتابعين بلفظ (السنة) خطأ واضح.

    ....ثم قال: " ولما روى البخاري في صحيحه في كتاب اللباس في (باب قص الشارب) حديث أبي هريرة المرفوع (الفطرة خمس – أو: خمس من الفطرة – الختان والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) شارحًا أحكام الختان: (ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى وجوب الختان – أي للذكور والإناث على السواء – دون باقي الخصال الخمسة المذكورة، وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء.

    وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب – أي هو سنة – ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)(2).

    وهذا لا حجة فيه، لما تقرر أن لفظ (السنة) إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب(3)، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك، دلَّ على أن المراد افتراق الحكم.وحديث شداد ضعيف...

    والتعبير في بعض روايات حديث أبي هريرة: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) بلفظ: (خمس من السنة) بدل لفظ (الفطرة) يراد بالسنة هنا: الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بهذا الشيخ أبو حامد – الغزالي – والماوردي وغيرهما، وقالوا: هو كالحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

    فقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (تقرر أن لفظ "السنة" إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب) نص صريح بل قاعدة ناطقة في الموضوع، فينبغي أن يكون طالب العلم على ذكر دائم لهذا، حتى لا يتورط بالاستدلال على سنية الشيء عند الفقهاء بورود لفظ السنة في الحديث، مثلما تقدم ذكره في شرح حديث (الختان سنة للرجال)...

    فلفظ (السنة) في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناه: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وهو (السنة) بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء (4).

    هذا هو السبب الأول لإيراد كل تلك النصوص، والتي سبق عرضها، وبيان فهم العلماء لها.

    والسبب الثاني الذي دفعنا لتلك الإطالة هو كشف زيف المستشرقين وأذنابهم، الذين تغاضوا عن هذه النصوص، بل وبتروها من سياقها لتحقيق أغراض دنيئة من وراء ذلك، وهو الطعن في السنة وعدم اعتمادها كمصدر إسلامي يعول عليه في أحكام هذا الدين، وسوف نعرض لشبهاتهم حول هذا المصطلح (السنة) لكن بعد تعريف السنة اصطلاحًا، وشرح التعريف، وتبيان علاقة السنة بالحديث، والخبر، والأثر، فإلى ذلك بتوفيق الله تعالى.











    (1) فتح الباري (10/340).

    (2) أخرجه أحمد (5/75) والبيهقي في السنن الكبرى (8/325)، وهو ضعيف. انظر: نيل الأوطار (1/183-184).

    (3) وقال الشوكاني في النيل (1/184): (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب؛ لأن لفظ (السنة) في لسان الشارع أعم من (السنة) في اصطلاح الأصوليين).أقول: لعله يعني الفقهاء لأنهم هم الذين يبحثون عن أحكام الشرع على أفعال المكلفين.

    (4) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 9، 10، 18، 19.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 9 )



    تساؤل والجواب عليه







    قد يتساءل البعض عن هذه الإطالة في إيراد كل تلك النصوص، وعذرنا في ذلك: أن عدم الوقوف عليها ومعرفة مدلولها الصحيح أوقع كثيراً من المثقفين وطلاب العلم في أخطاء منهجية خطيرة، إذا قصروا السنة على مفهوم الفقهاء لها، وهي ما يقابل الفرض أو الواجب، أي ما يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهذا اصطلاح متأخر لا ينبغي حمل كلمة (السنة) عليه؛ لأنه يخص طائفة جُلُّ عملها معرفة أحكام الشرع على أفعال المكلفين، ومن ثم تساوق التعريف مع بحثهم.

    قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: (مما هو معلوم أن لفظ السنة من الألفاظ الاصطلاحية الفقهية الدائرة في كلام الفقهاء وكتب الفقه باستمرار، وهي عندهم بمعنى ما يقابل الواجب أو الفرض، وقد ظهر هذا الاصطلاح الفقهي وانتشر في القرن الثاني وما بعده، بعد عهد التابعين).

    ووقع من بعض فقهاء المذاهب خلط بين المعنيين، فأقاموا لفظ (السنة) الوارد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلام الصحابة والتابعين، دليلاً على (سُنِّية) العمل المرغب فيه بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، وذلك خطأ يجب التنبه له، فإن لفظ (السنة) الوارد في الأحاديث النبوية، أو كلام الصحابة والتابعين، يعتمد المعنى الشرعي العام، فيشمل الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والآداب، وغيره.

    وهذه فيها الفرض والواجب، وكل مرغب فيه، ومستحب مشروع من الأقوال، والأفعال، قال العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي – رحمه الله تعالى – في: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية: (وسنته - صلى الله عليه وسلم - اسم لأقواله، وأفعاله، واعتقاداته، وأخلاقه، وسكوته عند قول الغير أو فعله) انتهى.

    ولفظ (السنة) الدائر في كلام الفقهاء وكتب الفقه يعتمد المعنى الاصطلاحي الخاص، الذي حددوه بما يقابل الواجب أو الفرض، فالفرق بين المعنيين والاستعمالين ظاهر، والاستدلال على (سُنِّية) العمل بكونه ورد في لسان النبوة أو كلام الصحابة والتابعين بلفظ (السنة) خطأ واضح.

    ....ثم قال: " ولما روى البخاري في صحيحه في كتاب اللباس في (باب قص الشارب) حديث أبي هريرة المرفوع (الفطرة خمس – أو: خمس من الفطرة – الختان والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري)(1) شارحًا أحكام الختان: (ذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى وجوب الختان – أي للذكور والإناث على السواء – دون باقي الخصال الخمسة المذكورة، وفي وجه للشافعية: لا يجب في حق النساء.

    وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب – أي هو سنة – ومن حجتهم حديث شداد بن أوس رفعه: (الختان سنة للرجال مكرمة للنساء)(2).

    وهذا لا حجة فيه، لما تقرر أن لفظ (السنة) إذا ورد في الحديث لا يراد به التي تقابل الواجب(3)، لكن لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء في ذلك، دلَّ على أن المراد افتراق الحكم.وحديث شداد ضعيف...

    والتعبير في بعض روايات حديث أبي هريرة: (خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب) بلفظ: (خمس من السنة) بدل لفظ (الفطرة) يراد بالسنة هنا: الطريقة، لا التي تقابل الواجب، وقد جزم بهذا الشيخ أبو حامد – الغزالي – والماوردي وغيرهما، وقالوا: هو كالحديث الآخر: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

    فقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: (تقرر أن لفظ "السنة" إذا ورد في الحديث، لا يراد به التي تقابل الواجب) نص صريح بل قاعدة ناطقة في الموضوع، فينبغي أن يكون طالب العلم على ذكر دائم لهذا، حتى لا يتورط بالاستدلال على سنية الشيء عند الفقهاء بورود لفظ السنة في الحديث، مثلما تقدم ذكره في شرح حديث (الختان سنة للرجال)...

    فلفظ (السنة) في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناه: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وهو (السنة) بالمعنى الاصطلاحي عند الفقهاء (4).

    هذا هو السبب الأول لإيراد كل تلك النصوص، والتي سبق عرضها، وبيان فهم العلماء لها.

    والسبب الثاني الذي دفعنا لتلك الإطالة هو كشف زيف المستشرقين وأذنابهم، الذين تغاضوا عن هذه النصوص، بل وبتروها من سياقها لتحقيق أغراض دنيئة من وراء ذلك، وهو الطعن في السنة وعدم اعتمادها كمصدر إسلامي يعول عليه في أحكام هذا الدين، وسوف نعرض لشبهاتهم حول هذا المصطلح (السنة) لكن بعد تعريف السنة اصطلاحًا، وشرح التعريف، وتبيان علاقة السنة بالحديث، والخبر، والأثر، فإلى ذلك بتوفيق الله تعالى.











    (1) فتح الباري (10/340).

    (2) أخرجه أحمد (5/75) والبيهقي في السنن الكبرى (8/325)، وهو ضعيف. انظر: نيل الأوطار (1/183-184).

    (3) وقال الشوكاني في النيل (1/184): (ومع كون الحديث لا يصلح للاحتجاج، لا حجة فيه على المطلوب؛ لأن لفظ (السنة) في لسان الشارع أعم من (السنة) في اصطلاح الأصوليين).أقول: لعله يعني الفقهاء لأنهم هم الذين يبحثون عن أحكام الشرع على أفعال المكلفين.

    (4) السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي ص 9، 10، 18، 19.
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 10 )



    السنة في اصطلاح الأصوليين( 1- 5 )




    عرف الأصوليون السنة بأنها: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، وأفعاله، وتقريراته التي يمكن أن تكون دليلاً لحكم شرعي(1).


    كأن ما صدر عنه من الأقوال، والأفعال، والتقريرات ،التي تعد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - ليست داخلة في تعريف السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها لا تفيد حكماً شرعياً يتعبد الناس به.

    لذلك نرى الأصوليين غالباً ما يغفلون الكلام عن الأمور التي هي من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ومن تكلم منهم عنها فمن باب بيان أنها ليست ملزمة للناس.

    السنة في اصطلاح الفقهاء:

    1- هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن مفروضاً ولا واجباً، مثل تثليث الوضوء، ومثل المضمضة، والاستنشاق عند بعضهم، ومثل تقديم اليمنى على اليسرى، ومثل الركعتين قبل فرض الصبح، ونحو ذلك.

    2- وقد يطلقها الفقهاء ويعنون بها، ما يقابل البدعة، كقولهم فيمن طلق زوجته في غير حيض وفي غير طهر التقيا فيه – هذا طلاق سني- في مقابلة الطلاق البدعي، وهو الذي يحدث في طهر التقيا فيه، أو يحدث في حيض، حيث يأبى الإسلام بنظامه العام أن يشق على المطلقات بإطالة العدة(2).

    ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح إلى اختلاف الأغراض التي تعنى بها كل فئة من أهل العلم.

    فعلماء الحديث:إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الهادي الذي أخبر الله عنه أنه أسوة لنا وقدوة، فنقلوا كل ما يتصل به من سيرة، وخلق، وشمائل، وأخبار، وأقوال، وأفعال، سواء أثبت ذلك حكماً شرعياً أم لا.

    وعلماء الأصول: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشرع الذي يضع القواعد للمجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فعنوا بأقواله، وأفعاله، وتقريراته، التي تثبت الأحكام وتقررها.

    وعلماء الفقه: إنما بحثوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أفعاله عن الدلالة على حكم شرعي، وهم يبحثون عن حكم الشرع على أفعال العباد وجوباً، أو حرمة، أو إباحة، أو غير ذلك(3).

    والذي نعنيه بالسنة هنا: هو اصطلاح المحدثين؛ لأنه يشمل تعريف الأصوليين، ويبحث في السنة النبوية من كل جوانبها.

    شرح التعريف:

    انتهينا فيما سبق إلى أن السنة عند المحدثين: (هي أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها). وإليك شرح هذا التعريف.

    يقصد بأقواله – صلى الله عليه وسلم -: كل ما تلفظ به في مختلف الظروف والمناسبات، ويسميه العلماء أيضاً بالسنة القولية، ويجمع فيقال: سنن الأقوال، ومثاله:

    1- قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(4).

    2- وقوله – صلى الله عليه وسلم –: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة ؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحاكم)(5).

    3- وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)(6)وغير ذلك.

    ويقصد بأفعاله - صلى الله عليه وسلم -: سلوكه وتطبيقه العملي لوحي الله تعالى المنزل عليه، ومثاله:

    1- ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: (سمع الله لمن حمده) حين يرفع صلبه من الركوع، ثم يقول وهو قائم: (ربنا ولك الحمد) ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد،ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)(7).

    2- ما رواه أبو جحيفة قال: (خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فأتى بوضوء، فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عنزة)(8).

    3- ما رواه ابن عمر - رضي عنهما -: (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة)(9)وغير ذلك.

    ويقصد بتقريراته – صلى الله عليه وسلم -: كل ما صدر عن بعض أصحابه من قول، أو فعل، وأقره - صلى الله عليه وسلم - إما بسكوت منه وعدم إنكار، وإما بموافقة وإظهار استحسان.

    وقد يسأل سائل: كيف يكون الإقرار من السنة وهي واجبة الاتباع مع أنه ليس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله ؟.

    والجواب: أن الإقرار صار من السنة الشريفة بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو - عليه السلام - لا يقر باطلاً، ولا يسكت على منكر، فما أقره دل على أنه لا حرج فيه، - وذلك كما قال ابن حزم -: لأن الله – عز وجل – افترض عليه التبليغ،، وأخبره أنه يعصمه من الناس، وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم؛ فمن ادعى أنه - عليه السلام - علم منكراً فلم ينكره فقد كفر؛ لأنه جحد أن يكون - عليه السلام - بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه ربه تعالى، وكذبه في قوله - عليه السلام -: (اللهم هل بلغت؟) فقال الناس: نعم. فقال: (اللهم اشهد) قال ذلك في حجة الوداع(10).



    ومن أمثلة الإقرار:

    1- إقراره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على اجتهادهم في شأن صلاة العصر في غزوة بني قريظة:

    حين قال لهم: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(11).

    فقد فهم بعضهم من هذا النهي أنه على حقيقته، وأنه تحرم صلاة العصر إلا في بني قريظة، فأخرها إلى هناك حتى خرج وقتها، وفهم البعض الآخر من هذا النهي: أنه ليس على حقيقته، وأن المقصود منه الحث على الإسراع، فصلاها في وقتها، ولما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما صنع الفريقان لم يعنف واحداً منهما، ولم ينكره عليه، فكان ذلك منه - صلى الله عليه وسلم- إقراراً بصواب صنيعهما، وصار ذلك سنة تقريرية عنه - صلى الله عليه وسلم-.

    2- ما روه عمرو بن العاص – رضي الله عنه – قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:(يا عمرو! صليت بأصحابك وأنت جنب؟) فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً)(12).

    3- ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة قالت: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم)(13).

    وقد علق الأستاذ الدكتور/ أديب صالح على ذلك قائلاً: (فهذا إقرار منه لا يجوز لأحد بعده أن يعتبر اللعب في المسجد بالسلاح – تمريناً على الحرب واستعداداً للقتال إن احتيج إلى ذلك – أمراً مخالفاً للسنة)(14).











    (1) ينظر: فواتح الرحمات بشرح مسلم الثبوت ( 2/96 )، بهامش المستصفى للغزالي، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي

    ( 1/127 )، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام ( 3/19/20 )، إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.

    (2) إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.

    (3) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص: 47-49.

    (4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1)، ومسلم في الصحيح، كتاب الإمارة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنية " ( 4890) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

    (5) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، رقم: ( 5987 )، ومسلم في الصحيح، كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها ( 6518) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

    (6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوصايا، باب الوصايا، ( 2738) ومسلم في الصحيح كتاب الوصية

    ( 4207).

    (7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأذان، باب التكبير إذا قام من السجود( 789) ومسلم في الصحيح، كتاب الصلاة، باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة، ( 868)

    (8) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الوضوء، باب استعمال فضل وضوء الناس، رقم ( 187).

    (9) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الحج، باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة قبل أن يرجع إلى بيته ( 1617) ومسلم في الصحيح، كتاب الحج، باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة وفي الطواف الأول في الحج ( 3048) ومعنى: خب: أي يرمل، والرمل: الهرولة، يسعى: يسرع، بطن المسيل: أي الوادي الذي بين الصفا والمروة، وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد، والآخر بدار العباس.

    (10) الإحكام في أصول الأحكام 1/146.

    (11) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ( 4119).

    (12) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقاً، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت 1/95، وأبو داود في السنن، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم ؟ ( 334).

    (13) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد ( 454) ومسلم في الصحيح، كتاب العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد ( 2064).
    (14) لمحات في أصول الحديث، ص: 29، 30.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 11 )



    السنة في اصطلاح الأصوليين( 2- 5 )




    .ويقصد بصفاته – صلى الله عليه وسلم – الخَلقية: ما يتعلق بذاته وتكوينه، ومن أمثلة ذلك:

    1- حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)(1).

    2- حديث البراء أيضاً، قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئاً قط أحسن منه)(2).

    3- حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط أطيب من ريح أو عرف النبي - صلى الله عليه وسلم-)(3).

    ويطرح أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين سؤالاً له وجاهته، ويجيب عنه فيقول –حفظه الله-: " يسأل سائل: كيف نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله تعالى، ونحن لا نتعلم السنة إلا لكي نقتدي برسولنا - صلى الله عليه وسلم - ونتبعه في هديه كله ؟.

    والجواب من عدة وجوه:

    أولاً: لكي نعلم الصفات الخلقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعقل أن يكون هو رسولنا الذي هدانا الله تعالى به، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور ثم لا نعلم ما هي الهيئة الخلقية التي أوجده الله تعالى عليها.

    ثانيا: حتى يتأكد لنا أن الله تعالى قد خلقه على أحسن هيئة، وأكمل صورة بشرية – كما خلقه أيضاً بريئاً من العيوب الخلقية – حتى تجتمع القلوب حوله، وهذا يعتبر من الأدلة على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله تعالى قد برأ الأنبياء جميعاً من أي عيب خلقي.

    ثالثا: لكي يتأكد لنا أن الله تعالى قد أوجده على نفس الهيئة، وبنفس الصفات التي ذكرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليل واضح على صدق رسالته - صلى الله عليه وسلم -، ولعل ما ورد في كتب السيرة من قصة بحيرا الراهب الذي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صباه في الثانية عشرة من عمره أثناء رحلته إلى الشام مع عمه أبي طالب، وعرف بحيرا الراهب أنه النبي المنتظر بجملة من العلامات ذكرت له في الكتب السابقة، من بينها خاتم النبوة بين كتفيه - صلى الله عليه وسلم -، والخاتم هذا أمر خلقي عرف به بحيرا أنه - صلى الله عليه وسلم - هو النبي المنتظر.

    وقد ذكر القرآن الكريم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مكتوباً في التوراة والإنجيل، فقال عز من قائل: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الأعراف: 157.

    وقد نعى الله تعالى على أهل الكتاب عدم اتباعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع تأكدهم من صدق رسالته، بل ومعرفتهم به كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك كتموا الحق الواضح الصريح وهم يعلمون، قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة البقرة: 46.

    يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى أن أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم أولاده، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقيق والإتقان العلمي (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَهُمْ يَعْلَمُونَ))(4).

    رابعاً: ومن الأسباب التي تجعلنا نعتبر الصفات الخلقية له - صلى الله عليه وسلم - من السنة أيضاً، ما حاوله بعض أعداء الإسلام من إلصاق بعض الصفات غير الحقيقية به - صلى الله عليه وسلم -. ومعرفتنا بصفاته الخلقية تجعلنا ندافع عنه ونحن في موقف القوة والثبات؛ لأنه ثبت بكل الأدلة كمال خلقته - صلى الله عليه وسلم -.

    خامساً: نتعلم صفاته الخلقية ونعتبرها من السنة حتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداء به منها، مثل صفة لحيته - صلى الله عليه وسلم - " (5).

    ويقصد بصفاته الخُلقية: ما يتعلق بأخلاقه الشريفة - صلى الله عليه وسلم -، ومن أمثلة ذلك:

    1- قول السيدة عائشة - رضي الله عنها - حين سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ فقال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن)(6).

    2- ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها)(7).

    3- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: قال: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)(8).

    هذه بعض أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، ولقد وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى درجة الكمال البشري فاتصف بكل صفات هذا الكمال البشري، ووجدت فيه كل صفة على أعلى درجاتها، وكمال هيئتها.

    وامتدحه رب العزة قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم: 4.

    ولله در القائل:

    يا مصطفى من قبل نشـأة آدم والكون لم تفتح له أغـلاق

    أيروم مخلوق ثناءك بعـدمــا أثنى على أخلاقك الخـلاق

    ويقصد بسائر أخباره: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - في كل أحواله، حركة وسكوناً، ويقظة ومناماً، سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها.

    أما حركاته: فهي وسائل تربوية: يقصد من ورائها شد انتباه المتلقي، ولفت نظره إلى أهمية ما يلقى عليه، ومن الأمثلة على ذلك:

    1- قوله – صلى الله عليه وسلم – (التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره ثلاثاً)(9). فهذه الحركة المتمثلة في الإشارة أفادتنا أن محل التقوى هو القلب.

    2- قوله – صلى الله عليه وسلم – (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، قال الراوي: وكان متكئاً فجلس، ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور ثلاثاً، حتى قلنا: ليته سكت)(10).

    فتغيير النبي - صلى الله عليه وسلم - من وضعه وحركته أفاد خطورة ما جاء بعدها حتى يحذره القوم، ويقدرونه قدره.

    3- قول عبد الله بن مسعود: خط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطا مستقيمًا، ثم قال: (هذا سبيل الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: هذه السبل ليس منها إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(11)سورة الأنعام: 153.

    4- وعن ابن مسعود أيضاً قال: خط النبي – صلى الله عليه وسلم – خطاً مربعاً، وخطَّ خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به – أو قد أحاط به -، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)(12).

    ففي هذين الحديثين استخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الرسم كوسيلة إيضاح لإيصال ما يريده إلى ذهن أصحابه، وهذا ما يأخذ به علماء التربية اليوم في التعليم والتلقي، وقد سبقهم إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منذ خمسة عشر قرناً من الزمان.









    (1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3549) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان أحسن الناس وجهاً ( 6066).

    (2) المرجع السابق.

    (3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 3561) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب طيب رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولين مسه والتبرك بمسحه ( 6053).

    (4) تفسير ابن كثير 1/194.

    (5) تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير 1/21، 22.

    (6) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل، وهو جزء من حديث طويل،

    ( 1739).

    (7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ( 6102) ومسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم - ( 6032).

    (8) المرجع السابق.

    (9) الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الآداب والصلة، باب تحريم ظلم المسلم من حديث طويل 2/424.

    (10) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، ( 2654) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها ( 259).

    (11) الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 1/465، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير ( 2/318) وقال: صحيح ولم يخرجاه.

    (12) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله ( 6417).





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Oct 2016
    المشاركات
    45

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    جزاكم الله خيرا

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    وإياكم اخى الفاضل
    بارك الله فيكم

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 12 )



    السنة في اصطلاح الأصوليين( 3- 5 )



    وأما سكوته: فإننا نستفيد منه أحكاماً شرعية، ومثال ذلك:

    ما رواه البراء بن عازب – رضي الله عنه – قال: (خرجنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في جنازة فانتهينا إلى القبر، فجلس وجلسنا كأن على رؤوسنا الطير)(1).

    ففي هذا الحديث مشروعية السكون والسكوت عند دفن الموتى من أجل العظة والاعتبار.

    وأما ما كان في يقظته فلا إشكال فيه – كما يقول أستاذنا الدكتور/ مروان شاهين – لأن أمر النبوة واضح أثناء اليقظة.

    لكن الذي يستشكل على البعض فهو ما يراه – صلى الله عليه وسلم – في نومه، وكيف هو من الوحي؟ بل كيف هو من السنة الواجبة الاتباع؟ خصوصاً وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد علمنا أن النائم غير مكلف في ما ورد من قوله – صلى الله عليه وسلم -: (رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يصح، وعن الصبي حتى يحتلم)(2).

    وإليك الجواب:

    قامت الأدلة من القرآن والسنة – على أن ما يراه الأنبياء في نومهم هو من وحي الله تعالى إليهم، ففي القرآن الكريم نجد غلاماً حليماً في أوائل العقد الثاني من عمره، قد فقه بالبداهة والفطرة: أن الرسول رسول حتى في نومه، فالنوم لا يمكن أن يخرج الرسول عن رسالته، ولو قال الرسول: إني أرى مناماً، فقل له: هذا أمر من الله واجب التنفيذ والطاعة والتسليم، كما قال الغلام الحليم إسماعيل لأبيه الخليل إبراهيم - عليهما السلام - وعلى جميع المرسلين الصلوات والتسليم حين قال له كما حكى القرآن: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) سورة الصافات: 102.

    ومما يختص برسولنا – صلى الله عليه وسلم – مما جاء في القرآن الكريم، قول الله تعالى في سورة الأنفال: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً....) الآية. سورة الأنفال، 43.

    فالآية واضحة الدلالة في أن ما يراه النبي – صلى الله عليه وسلم – في نومه من رؤيا إنما هو من عند الله تعالى وليس من أي جهة أخرى، (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ).

    ومن الأدلة على ذلك أيضاً قول الله تعالى في سورة الفتح:

    (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً)، سورة الفتح، 27.

    فإذا انتقلنا إلى السنة المطهرة فسنجد أدلة كثيرة على ذلك.

    من بينها ما جاء في صحيح البخاري - رحمه الله تعالى - بسنده إلى أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: (أول ما بُدِئ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)(3).

    فالحديث ينص صراحة على أن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوحي، وأنه كان لا يرى شيئاً إلا جاء واضحاً جلياً مثل ضوء النهار.

    ولقد لفت نظري وأنا أتتبع ما أراه الله تعالى للنبي – صلى الله عليه وسلم – في نومه، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يبدأ حديثه غالباً عن الرؤيا في نومه بقوله: (أُرِيتُ كذا) أو (أريتكم...) فالفعل في أول الحديث يأتي بالبناء للمجهول ليدلنا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى من قبل نفسه، وإنما هناك من يريه وهو الله تعالى.

    فمن أمثلة ذلك ما روته السيدة عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – مخاطباً السيدة عائشة: (أريتك في المنام مرتين: إذ رجل يحملك في سرقة من حرير. فيقول: هذه امرأتك فاكشفها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه)(4).

    ولقد كانت هذه الرؤيا – وغيرها – من عند الله تعالى فأمضاها – سبحانه -، وكانت السيدة عائشة من أزواجه أمهات المؤمنين.

    ومن أمثلة ذلك أيضاً ما خاطب به النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه قائلاً فيما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر: (أريتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد " وزاد مسلم من حديث جابر " أن ذلك كان قبل موته – صلى الله عليه وسلم – بشهر)(5).

    فالحديث كما نلاحظ قد بدأ بقوله: (أريتكم) بالبناء للمجهول، ولأن علماء الحديث – وكل علماء الإسلام – يعلمون أن ما يراه الرسول – صلى الله عليه وسلم – في نومه هو من وحي الله تعالى، فقد أخذوا من الحديث المذكور درساً عظيماً، وهو أن من بين الأدلة على إثبات الصحبة أن يكون الصحابي قد عاش قبل عشرة ومائة للهجرة، فمن جاء بعدها وزعم أنه صحابي فإننا نرد قوله أخذًا من هذا الحديث الشريف.

    على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد يبدأ حديثه عما يراه في نومه بقوله: (رأيت) وذلك في القليل النادر.

    ومن ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – في رؤيته عن هجرته إلى المدينة (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب)(6). ووهلي أي: ظني.

    ورغم التعبير بقوله: (رأيت) إلا أن ذلك أيضاً من الله تعالى ؛ بدليل أنه – صلى الله عليه وسلم – ما كان له أن يحيد عن المدينة (كدار) للهجرة ويهاجر إلى غيرها؛ لأن المدينة هي المكان الذي اختاره الله تعالى له، فلا يتركه أبداً إلى غيره.

    وقد وردت هذه الرواية عند البيهقي مبتدئة بقوله – صلى الله عليه وسلم -: (أريت دار هجرتكم) وهي بذلك تلتقي مع الأمثلة التي ذكرناها سابقاً.

    إن كل ما سبق يعطينا الدليل الأكيد على أن ما يراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء جميعاً أثناء النوم هو من الوحي الذي نلتزم به.

    ومن الأدلة العقلية على ذلك: أن ما يراه الناس في نومهم إما أن يكون من الله تعالى أو من الشيطان؛ كما ورد بذلك الحديث الصحيح الذي رواه أبو قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: (الرؤيا الحسنة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه، فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان، فإنها لا تضره)(7).

    والشيطان – كما نعلم – ليس له سلطان على الأنبياء؛ لأن الله تعالى قد عصمهم من كيده فلن يأتيهم في نومهم، ولقد نزع الله تعالى حظ الشيطان من نبينا – صلى الله عليه وسلم – في مرحلة مبكرة من عمره – وهو طفل رضيع في بادية بني سعد، فحفظه بذلك من وسوسة الشيطان.

    فقد روى مسلم بسنده إلى أنس بن مالك: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أتاه جبريل - عليه السلام - وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره(8).

    فنحن نرى أن الله تعالى قد طهر قلب نبيه – صلى الله عليه وسلم – منذ صغره، فلم يكن للشيطان عليه سبيل، وما دام الأمر كذلك فإن ما يراه في نومه ليس من قبيل الشيطان أبداً، وإنما هو وحي من الله تعالى(9).






















    (1) الحديث أخرجه النسائي في سننه، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز ( 2003) وابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الجلوس في المقابر ( 1548).

    (2) الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الحدود 4/389، وقال: صحيح الإسناد.

    (3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي ( 3) ومسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (403).

    (4) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة ( 3895).

    (5) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب فضائل الصحابة، باب بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " على رأس مائة سنة لا يبقى نفس منفوسة... " ( 6479، 6481).

    (6) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح تعليقا، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/331، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم –

    ( 5934).

    (7) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده ( 3292)، ومسلم في الصحيح، كتاب الرؤيا باب في كون الرؤيا من الله وأنها جزء من النبوة، (5897).

    (8) الحديث أخرجه مسلم في الصحيح، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفرض الصلوات ( 413).

    (9) تيسير اللطيف الخبير، ص: 25-27.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 13 )



    السنة في اصطلاح الأصوليين( 4- 5 )



    * بقي من جزئيات التعريف قولنا: (سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها).
    أي: أن ما صدر عنه – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة أو بعدها داخل في إطار السنة، وقد لا يستشكل الأمر بالنسبة لما كان بعد البعثة؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – صار بعدها رسولاً، وصرنا مأمورين بالاقتداء به امتثالاً لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) سورة الأحزاب: 21. أما قبل البعثة، فلم يكن الوحي ينزل عليه، ولم نكن مأمورين بالاقتداء به، فكيف تعد أحواله قبل البعثة من السنة؟.
    والجواب:
    إن أحواله، وصفاته، وأخلاقه قبل البعثة دليل أكيد على نبوته، وأمارة صدقٍ على رسالته، فهي داخلة في مفهوم السنة، فقد كان يتحنث (يتعبد) في الجاهلية في غار حراء، وكانت الأحجار والأشجار تسلم عليه، واشتهر بالصدق والأمانة.
    وهذه الصفات، وتلك الأخلاق، كانت الركائز الأساسية التي اعتمد عليها وهو يدعو قومه.
    فمثلاً شهرته بالصدق والأمانة قبل بعثته كان دليلاً قوياً على صدق رسالته، وجعل الكفار يعجزون عن اتهامه بضد هذه الصفات، ولقد قالوا عنه: إنه ساحر، أو كاهن، ولكنهم لم يجرؤوا أبداً على اتهامه بعكس الصدق والأمانة، وهذا ما اعتمد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه في إثبات صدق نبوته حينما نزل عليه الأمر الإلهي: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأََقْرَبِينَ) سورة الشعراء: 214.
    فقد صعد على الصفا ونادى قبائل قريش جميعاً – حتى إذا اجتمعوا – بدأ حديثه معهم قائلاً: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد... )(1).
    فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ حديثه معهم بالإنذار مباشرة، وإنما أخذ منهم إقراراً بصدقه – صلى الله عليه وسلم – قبل بعثته، إذن فهو صادق اليوم في رسالته.
    وهذا – أيضاً – هو الذي اعتمد عليه هرقل ملك الروم في إثباته لصدق نبوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قصة طويلة ذكرها البخاري وغيره – أثناء حديث هرقل مع أبي سفيان – حينما سأل أبا سفيان الذي كان لا يزال حتى وقت سؤال هرقل له مشركاً(2).
    لقد جاء كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام – فأراد أن يعرف بعض أحوال هذا النبي الجديد – فجاءوا له بأبي سفيان فسأله هرقل عن كثير من أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة،وأيضاً سأل عما يدعو إليه بعد البعثة، وفي نهاية اللقاء قال هرقل لأبي سفيان: (فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)(3).
    ولقد صدقت توقعات هرقل، فبعد مضي ما لا يزيد على سبع سنوات فتح الله بلاد الشام للمسلمين بعد أن كان يحكمها الروم، وخرج هرقل من حمص التي كان يقيم بها.
    المهم في ذلك كله أن كثيراً من أحواله – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة تعطي الأدلة الواضحة على صدق رسالته بعد البعثة، وهذا ما جعل العلماء يعتبرونها جزءاً من السنة.
    وإذ قد انتهينا من تعريف السنة وشرح متعلقاتها، فإننا – بعون الله وتوفيقه – ننتقل إلى التعريف ببقية المصطلحات الأخرى التي تشترك معها لنكشف عن معناها، ونوضح علاقتها بالسنة، اتفاقاً واختلافاً، وتلك المصطلحات هي: الحديث – الخبر – الأثر.
    أ – معنى الحديث(4):
    الحديث في اللغة له معان ثلاثة:
    الأول: الحديث بمعنى الجديد الذي هو ضد القديم، يقال لبست ثوباً حديثاً، أي: جديداً، وركبت سيارة حديثة، تعني: سيارة جديدة.
    الثاني: الحديث بمعنى الكلام، ومنه قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباًً) سورة الزمر: 23، أي: نزل أحسن الكلام، وقوله تعالى: [فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] سورة المرسلات: 50، أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن الكريم، فبأي كلام بعده يؤمنون.
    الثالث: الحديث بمعنى الخبر والنبأ، ومنه قوله تعالى: [ هل أتاك حديث موسى] سورة النازعات: 15، وقوله تعالى: [ هل أتاك حديث الغاشية] سورة الغاشية: 1.
    الحديث اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
    1- قال جمهور المحدثين: هو: أقوال – النبي – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية، وسائر أخباره سواءً كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
    وعليه يكون الحديث شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، لكن جرى اصطلاح المحدثين على أن الحديث إذا أطلق ينصرف إلى ما جاء عنه – صلى الله عليه وسلم – ولا يستعمل في غيره إلا مقيداً.
    2- وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(6).
    وعليه يكون مقصوراً على المرفوع فقط، ويكون مرادفاً للسنة على القول الأول.
    3- وقيل هو: أقواله - صلى الله عليه وسلم - خاصة(7).
    فيكون مقابلاً لتعريف السنة على رأي من يعرفها بأنها: الطريقة العملية المتواترة التي بين بها النبي – صلى الله عليه وسلم – القرآن. وكأن صاحب هذا التعريف استند في تقريره إلى المعنى اللغوي الثاني. وهو أن الحديث يطلق على الكلام قل أم كثر.
    وفي ضوء هذا التعريف نستطيع فهم كلمة الإمام عبد الرحمن بن مهدي حينما سئل عن الأئمة: مالك بن أنس والأوزاعي وسفيان بن عيينة فقال: "الأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث، وسفيان إمام في الحديث وليس بإمام في السنة، ومالك إمام فيهما ".
    وإجابة عبد الرحمن بن مهدي واضحة الدلالة على أن السنة – في مثل هذا الاستعمال – إنما يراد بها الجانب العملي في الإسلام، أما الحديث فهو الاشتغال بما نقل لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله، وأفعاله، وتقريراته(8).
    على أن هذا التفريق لم يعش طويلاً فيما بعد، وأضحت الكلمتان مترادفتين، ولا يذكر هذا التفريق إلا من أجل فهم مثل العبارة الواردة عن ابن مهدي والتي ذكرناها آنفاً(9).
    وفي هذا يقول الدكتور/ صبحي الصالح: (ولئن أطلقت السنة في كثير من المواطن على غير ما أطلق الحديث، فإن الشعور بتساويهما في الدلالة أو تقاربهما على – الأقل – كان دائماً يساور نقاد الحديث، فهل السنة العملية إلا الطريقة النبوية التي كان الرسول – صلوات الله عليه – يؤيدها بأقواله الحكيمة، وأحاديثه الرشيدة الموجهة؟ وهل موضوع الحديث يغاير موضوع السنة؟ ألا يدوران كلاهما حول محور واحد؟ ألا ينتهيان أخيراً إلى النبي الكريم في أقواله المؤيدة لأعماله، وفي أعماله المؤيدة لأقواله؟.
    حين جالت هذه الأسئلة في أذهان النقاد لم يجدوا بأسا في أن يصرحوا بحقيقة لا ترد: إذا تناسينا موردي التسميتين كان الحديث والسنة شيئا واحداً، فليقل أكثر المحدثين: إنهما مترادفان "(10).







    (1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، تفسير سورة الشعراء (4770) ومسلم، في الصحيح، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: [ وأنذر عشيرتك الأقربين ] (508).
    (2) كان سؤال هرقل في السنة السابعة للهجرة، وأسلم أبو سفيان بعد ذلك في السنة الثامنة عند فتح مكة.
    (3) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي، رقم (7).
    (4) ينظر: الصحاح للجوهري، مادة (حدث) 1/278، ولسان العرب، نفس المادة 2/796، والقاموس المحيط، نفس المادة 1/170.
    (5) ينظر: الخلاصة للطيي، ص: 30، وشرح شرح النخبة لملا على القاري، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وقواعد في علوم الحديث للتهانوي، ص: 24، وظفر الأماني، ص: 32.
    (6) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي، 1/42، ظفر الأماني، ص: 32.
    (7) ينظر: تحقيق معنى السنة وبيان وجه الحاجة إليها، ص: 12-23بتصرف كثير.
    (8) ينظر: تنوير الحوالك شرح موطأ مالك (1/3).
    (9) الحديث النبوي للدكتور الصباغ صـ 146.
    (10) علوم الحديث ومصطلحه صـ 9، 10.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 14 )



    السنة في اصطلاح الأصوليين( 5- 5 )



    إذن فمعنى السنة والحديث عند علماء الشرع واحد من حيث إطلاق أحدهما مكان الآخر، ففي كل منهما إضافة قول،، أو فعل، أو تقرير، أو صفة، إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
    ومن هنا يظهر فساد قول جولد تسيهر: في كتابه (دراسات محمدية) يجب أن يكون مصطلح (الحديث) ومصطلح (السنة) متميزين عن بعضهما(1)، فهما ليسا بمعنى واحد، وإنما السنة دليل الحديث(2).
    وجولد تسيهر بزعمه هذا لم يفرق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية للفظتين: " الحديث " و " السنة "، لذلك تراه يخلط في الموضوع بعدم التزامه باصطلاحات علماء الشرع، مما جعله يظن أن الخلاف في معاني لفظ " حديث " و " سنة " هو نوع من الاضطراب في التفكير عند المسلمين ، وهذه الاصطلاحات قد استوفيناها قبل قليل، فظهر أنه لم يعتبر اصطلاحات القوم ، بل لم يقترب منها أدنى الاقتراب.
    وقوله: (إنما السنة دليل الحديث) هذه الدعوى جره إليها تفريقه بين الحديث والسنة، وكان الأشبه العكس، فالحديث دليل السنة، فهما بمعنى واحد في اصطلاح الأصوليين.
    ومن هنا جاء قولهم: سنة ثابتة عن الرسول ، وسنة غير ثابتة عنه.
    فالأولى: لأنه ثبت عن الرسول الكريم أنه قال ذلك الشيء، أو فعله، أو أقره، وطريقة ثبوت ذلك عن الرسول هو وجود الحديث الشريف الذي يتضمن ذلك ويشهد عليه.
    الثانية: لأنه لم نجد حديثا عن النبي قولاً، أو فعلاً، أو تقريراً، يؤكدها، فهي بذلك سنة غير ملزمة، وكذلك إذا قيل: السنة كذا، ومن السنة كذا، وهكذا السنة كلها دليل شرعي ملزم، لأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه(3).
    ب- معنى الخبر:
    الخبر لغة: مأخوذ من الفعل " خبر " بفتح الخاء المعجمة والباء المنقوطة بواحدة من تحت، ومعناه: علم الشيء على حقيقته.
    وقيل: هو مشتق من " الخبار " ، وهي الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير الفائدة كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الحافر ونحوه ، وهو عند أهل اللغة: اسم لما ينقل ويتحدث به ، والجمع أخبار، مثل: سبب وأسباب(4).
    الخبر اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
    1- قال جمهور المحدثين: هو: أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن – وأفعاله، وتقريراته، وصفاته ، وأقوال الصحابة والتابعين، وأفعالهم(5).
    وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، وللحديث على القول الأول.
    2- وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(6).
    وعليه يكون مقصوراً على المرفوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الأول، وللحديث على القول الثالث.
    3- وقيل هو: ما جاء عن غير النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة والتابعين من هذه الأمة أو غيرها من الأمم السابقة، كأن الخبر في هذا الحال خاص بالتاريخ، وليس من الألفاظ المستعملة في اصطلاح المحدثين.
    ومن هنا شاع إطلاق " الإخباري " على المشتغل بالتواريخ، بينما شاع إطلاق اسم " المحدث " على المشتغل بالسنة النبوية(7).
    وعلى هذا المعنى الأخير تكون العلاقة بين الخبر، والسنة، والحديث هي التباين والتضاد.
    4- وقيل هو: ما جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وعن غيره من الصحابة والتابعين فمن بعدهم(8).
    وعليه يكون شاملاً للمرفوع ، والموقوف، والمقطوع، وسائر أنواع الحديث الأخرى، ويكون أعم من السنة والحديث.

    ج – معنى الأثر:
    الأثر لغة: مأخوذ من أثرت الشيء – بفتح الهمزة والثاء المثلثة – أي: نقلته أو تتبعته، ومعناه عند أهل اللغة: ما بقي من رسم الشيء وضربة السيف، ويجمع على آثار، مثل: سبب وأسباب(9).
    الأثر: اصطلاحاً: للعلماء في تعريفه أقوال:
    1-قال جمهور المحدثين: هو أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن ، وأفعاله ، وتقريراته، وصفاته، وأقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم(10).
    وعليه يكون شاملاً للمرفوع، والموقوف، والمقطوع، ويكون مرادفاً للسنة على القول الثالث، وللحديث وللخبر على القول الأول.
    وبهذا المعنى سمى الحافظ الطحاوي كتابه: " شرح معاني الآثار المختلفة المأثورة".
    2-وقال فقهاء خراسان: يطلق الأثر على أقوال الصحابة، والتابعين، وأفعالهم فقط(11).
    وعليه يكون مقصوراً على الموقوف والمقطوع فقط، ويكون أخص من السنة على القول الثالث، ومن الحديث، والخبر، على القول الأول.
    وبهذا المعنى سمى الإمام محمد بن حسن الشيباني كتابه الذي ذكر فيه الآثار الموقوفة بكتاب: " الآثار ".
    3-وقيل هو: أقواله – صلى الله عليه وسلم – سوى القرآن ، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته خاصة(12).
    وعليه يكون مقصوراً على المرفوع، ويكون مساوياً للسنة والحديث والخبر على بعض الأقوال.
    والخلاصة:
    أن المحدثين تارةً يستعملون الألفاظ الأربعة ويريدون منها: المرفوع فقط.
    وتارةً يستعملونها ويريدون منها: المرفوع، والموقوف، والمقطوع.
    وتارة يخصصون السنة: بطريقته – صلى الله عليه وسلم – العملية المتواترة التي بين بها القرآن الكريم.
    والحديث: بأقواله - صلى الله عليه وسلم - فقط.
    والخبر: بالحوادث أو بالوقائع التاريخية.
    والأثر: بأقوال الصحابة والتابعين، وفتاواهم، وأفعالهم.
    والقرينة: هي التي تحدد المراد في كل هذه الاستعمالات.






    (1) نقلاً عن " ضوابط الرواية عند المحدثين " صـ 314.
    (2) العقيدة والشريعة في الإسلام ص: 49، وممن فرق بينهما أيضاً الأستاذ محمد رشيد رضا. انظر: مجلة المنار (10/852، 853).
    (3) ضوابط الرواية عند المحدثين ص 314، 322 بتصرف، السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام1/48، 49.
    (4) ينظر: لسان العرب ، مادة: خبر ، المصباح المنير 1/251، وعنها نقل الشوكاني في إرشاد الفحول ، ص: 42.
    (5) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42.
    (6) ينظر: شرح شرخ نخبة الفكر، ص: 16، وشرح النخبة، ص: 16، وتدريب الراوي 1/42، وظفر الأماني ، ص: 32.
    (7) ينظر: المصادر السابقة.
    (8) ينظر: المصادر السابقة.
    (9) ينظر: لسان العرب، مادة " أثر " 1/25، الصحاح للجوهري 2/574، المعجم الوسيط 1/5.
    (10) ينظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص: 16، تدريب الراوي 1/42، ظفر الأماني، ص: 33، قواعد في علوم الحديث، ص: 25.
    (11) ينظر: نفس المصادر السابقة.
    (12) ينظر: نفس المصادر السابقة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 15 )



    وقفة مع تخرصات المستشرقين وأوهام المستغربين ( 1- 2)




    عرضنا فيما سبق لتعريف السنة في اللغة والاصطلاح، وذكرنا استعمالها في القرآن الكريم، ومفهومها في السنة ولدى سلف الأمة، ونبهنا قبل ذلك على ضرورة إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية؛ لأن عدم إدراك ذلك والجهل به يوقع صاحبه في خلط كثير، ولغط كبير، وهذا ما حدث لمصطلح السنة، فنرى أعداء الإسلام والسنة المطهرة قد استغلوا هذه الفوارق استغلالاً بشعا ينبئ عن حقدهم الدفين على الإسلام وأهله، فهم في هجومهم على السنة المطهرة يركزون على بعض معانيها اللغوية أو الاصطلاحية مهملين _عن جهل تارة، وعن علم تارة أخرى_ باقي معانيها الاصطلاحية؛ بغية الوصول إلى هدفهم وغايتهم من التشكيك في حجيتها، وعدم العمل بها، ومن ذلك تركيزهم على معنى السنة في اصطلاح الفقهاء، وهي ما ليس بواجب مما يمدح فاعلها ولا يذم تاركها(1).

    وهذا التعميم في تعريف السنة محض الضلال(2)؛ إذ فيه صرف لهذه الكلمة عن معناها الاصطلاحي عند المحدثين وعلماء الأصول، وعلى أنها مصدر تشريعي مستقل ملازم للقرآن الكريم في الاحتجاج، وأن الأحكام التكليفية الخمسة تدور فيها، كما تدور في القرآن الكريم بالتمام(3).

    ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة؛ معناها الوارد بمعنى الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة، ويعبرون عن ذلك المعنى بالعادة والعرف كما قال المستشرق (جولد تسيهر)(4): (السنة هي جماع العادات والتقاليد الوراثية في المجتمع العربي الجاهلي ؛ فنقلت إلى الإسلام، فأصابها تعديل جوهري عند انتقالها، ثم أنشأ المسلمون من المأثور من المذاهب، والأقوال، والأفعال، والعادات، لأقدم جيل من أجيال المسلمين سنة جديدة)(5). وتابعه على ذلك سائر من جاء بعده من المستشرقين(6).

    وردد هذا الكلام الدكتور/ علي حسن عبد القادر في كتابه(7) (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) فقال: (وكان معنى السنة موجوداً في الأوساط العربية قديماً، ويراد به الطريق الصحيح في الحياة للفرد وللجماعة، ولم يخترع المسلمون هذا المعنى، بل كان معروفاً في الجاهلية، وكان يسمى عندهم سنة هذه التقاليد العربية وما وافق عادة الأسلاف. وقد بقي هذا المعنى في الإسلام في المدارس القديمة في الحجاز، وفي العراق أيضاً، بهذا المعنى العام يعني العمل القائم، والأمر المجتمع عليه في الأوساط الإسلامية، والمثل الأعلى للسلوك الصحيح من غير أن يختص ذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخيراً حدد هذا المعنى، وجعلت السنة مقصورة على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرجع هذا التحديد إلى أواخر القرن الثاني الهجري، بسبب طريقة الإمام الشافعي التي خالف بها الاصطلاح القديم)(8).

    وأقول: نعم، لفظ السنة ومعناها كانا معروفين في لغة العرب قبل الإسلام، ولم يخترع المسلمون هذه الكلمة، ولا معناها، ولكن ليس الأمر كما زعم المستشرقون والدكتور/ علي حسن عبد القادر من أن معنى السنة في صدر الإسلام العادة والعرف(9) الجاهلي، أو أنها الطريق الصحيح فقط، وإنما تشمل الطريق الصحيح وغير الصحيح على رأي جمهور علماء اللغة، ويؤيدهم في الإطلاق القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والأشعار الجاهلية، وقد سبق بيان ذلك.

    كما أن استعمال القرآن الكريم والسنة المطهرة لكلمة السنة بالمعنى اللغوي لا يعني ذلك أن هذا المعنى اللغوي (الطريقة)، أو (السيرة)، أو (العادة) هو المراد شرعاً بالسنة، فهذه الكلمة انتقلت من معناها اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي (سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشاملة لأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية....)، وهي بهذا المعنى مصدر تشريعي ملازم للقرآن الكريم، لا ينفك أحدهما عن الآخر.

    وهذا المعنى الاصطلاحي لكلمة السنة كان محدداً ومعلوماً في صدر الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهراني أصحابه - رضي الله عنهم -،وليس الأمر كما زعم الدكتور/ علي حسن عبد القادر تبعاً للمستشرقين أن هذا المعنى الاصطلاحي للسنة تحدد في أواخر القرن الثاني الهجري.

    ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة، ثم يعرفون السنة النبوية بأنها: الطريقة العملية، أو السنة العملية، أما أقواله وتقريراته وصفاته - صلى الله عليه وسلم - فليست من السنة، وإطلاق لفظ حديث أو سنة على ذلك إنما هو في نظرهم اصطلاح مستحدث من المحدثين، ولا تعرفه اللغة، ولا يستعمل في أدبها، هكذا زعم محمود أبوريه(10) في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)(11) تبعاً للدكتور/ توفيق صدقي(12).

    وفي ذلك أيضا ًيقول الدكتور/ المهندس محمد شحرور(13) في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة): (إن ما اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كنبي وكائن إنساني عاش حياته في الواقع، بل في الصميم منه، وليس في عالم الوهم).

    وفي موضع آخر يقول: (من هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو أمر، أو نهي، أو إقرار. علماً بأن هذا التعريف للسنة ليس تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، وبالتالي فهو قابل للنقاش والأخذ والرد، وهذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام، علماً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل، وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك)(14).








    (1) البحر المحيط للزركشي 1/284، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/155، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 54، وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 111.

    (2) انظر: تعميم محمود أبو ريه لذلك في أضواء على السنة ص 38.

    (3) انظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 25، 26بتصرف.

    (4) جولد تسيهر: مستشرق مجري يهودي، رحل إلى سورية، وفلسطين، ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر. له تصانيف باللغات الألمانية، والإنكليزية، والفرنسية. ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور/ السباعي: " عرف بعدائه للإسلام وبخطورة كتاباته عنه، ومن محرري دائرة المعارف الإسلامية " كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي"، و" العقيدة والشريعة في الإسلام "، و " فضائح الباطنية "، وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة في: الأعلام للزركلي 1/284، والاستشراق للدكتور / السباعي ص 31-32، وآراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره للدكتور/ عمر إبراهيم 1/161-162.

    (5) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 49، 251.

    (6) دائرة المعارف الإسلامية 7/330، وانظر: دراسات في الحديث للدكتور/ الأعظمي 1/5-11، ومنهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة/ عزية علي طه ص 62، 122، 123.

    (7) علي حسن عبد القادر: أستاذ تاريخ التشريع الإسلامي، حاصل على العالمية في الفلسفة من ألمانيا، ومجاز من كلية أصول الدين في قسم التاريخ، وعميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف سابقاً، من مؤلفاته: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي.

    (8) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 122، 123.


    (9) يصح تعريف السنة بالعادة والعرف، ولكن المراد بالعادة في هذه الحالة عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي ما عمله، أو أقره، أو رأه فلم ينكره، وهي في هذه الحالة من الدين. كما تطلق على السيرة العملية لحياة الصحابة - رضي الله عنهم - ولا تعني العادة والعرف السائد في الجاهلية، كما يوهمه كلام جولد تسيهر ومن قال بقوله. انظر: حجية السنة للدكتور/ عبد الغني عبد الخالق ص 49-51، والمدخل إلى السنة النبوية لأستاذنا الفاضل الدكتور/ عبد المهدي عبد القادر ص 25-26.

    (10) محمود أبو ريه: كاتب مصري كان منتسباً إلى الأزهر في صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح أكثر من مرة، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة في بلده، ثم موظفاً في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد، من مصنفاته التي طعن فيها في السنة والصحابة، أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدي، شيخ المضيرة (أبو هريرة) انظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور/ السباعي ص 466.

    (11) أضواء على السنة ص 39.

    (12) الدكتور/ توفيق صدقي: هو الدكتور/ محمد توفيق صدقي طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار بعنوان " الإسلام هو القرآن وحده " مات سنة 1920م، ترجم له الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار المجلد 483/21 وما بعدها، وانظر: مجلة المنار المجلد 11/774.

    (13) محمد شحرور: كاتب سوري معاصر، حاصل على الدكتوراه في الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن. من مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع.
    (14) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546-548.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 16 )



    وقفة مع تخرصات المستشرقين وأوهام المستغربين ( 2- 2)
    ويقول نيازي عز الدين(1): (رجال الدين في القرن الثالث الهجري عرفوا السنة وأضافوا إليها أموراً هي من اجتهادهم، فقد قالوا في تعريفها: ( هي كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية أو خلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة - كتحنثه في غار حراء - أم بعدها). وهذا التعريف الموسع الذي أتى في عصر متأخر عن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته قد جر البلاء على الإسلام، وفي موضع آخر يقول: (وإن أغلب الذين أدخلوا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم – وأفعاله، وتصرفاته الخاصة في الدين، فعلوها وهم يعلمون أنهم يفعلون الممنوع، ويقعون في المعصية، لكن الهوى والشيطان كانا أقوى من الإيمان في تلك الفترة، ففعل الشيطان ما يريد))(2).

    ومن المعاني اللغوية التي يركزون عليها في تشكيكهم في السنة المطهرة معناها الوارد في القرآن الكريم بمعنى أمر الله - عز وجل -، ونهيه، وسائر أحكامه، وطريقته، ويقولون: لا سنة سوى سنة الله - عز وجل - الواردة في كتابه العزيز، وأنه مستحيل أن يكون لرسول الله سنة، ويكون لله - عز وجل - سنة فيشرك الرسول نفسه مع الله - عز وجل-.
    وفي ذلك يقول محمد نجيب (3) في كتابه (الصلاة): القرآن وما فيه من آيات هو سنة الله التي سنها وفرضها نظاماً للوجود، وأتبعها الله نفسه؛ فهي سنة الله...
    وليس من المعقول أن يكون للرسول سنة، ويكون لله سنة، فيشرك الرسول نفسه مع الله، ويكون لكلاهما سنة خاصة، وهو أمر مستحيل أن يحصل من مؤمن ومن رسول على الأخص، فما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يترك حكم الله وسنته، ويطلب من الناس أن تتبع ما يسنه هو من أحكام، وليس ذلك إن حصل إلا استكباراً في الأرض، وتعالياً على الله. يقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران /79)، (فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر / 42، 43). وهذا يؤكد وجوب الرجوع لكتاب الله وحده جماع سنة الله(4).
    وفي ذلك أيضاً يقول أحمد صبحي منصور(5) في كتابه (حد الردة) معرفاً بالسنة الحقيقية قائلاً: (سنة الله تعالى هي سنة رسوله - عليه السلام -...)، الله تعالى ينزل الشرع وحياً، والرسول يبلغه وينفذه، ويكون النبي أول الناس طاعة واتباعا لأوامر الله تعالى. والله تعالى أمر النبي بأن يقول (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (الأحقاف /9). والإيمان بالرسول معناه الإيمان بكل ما نزل عليه من القرآن، والإيمان بأنه اتبع ذلك الوحي وطبقه، وكان أول الناس إيماناً به وتنفيذا له(6).
    ويقول قاسم أحمد(7) في كتابه (إعادة تقييم الحديث): إنه بالنظر إلى استخدام كلمتي السنة والحديث في القرآن والذي يعطينا معلومات شيقة، نجد أن كلمة (سنة) تشير في القرآن إلى النظام، أو الناموس الإلهي، وإلى مثال الأمم السابقة التي لقيت مصيرها.فلم يشر القرآن إلى أن السنة هي سلوك النبي، وهذان الاستخدامان تشير إليهما الآيتان التاليتان:
    قوله تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الفتح /23). وقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال /38).
    فكلمة " حديث " استخدمت في القرآن بمعنى " الأخبار "، و" القصص "،
    و" الرسالة"، و" الشيء " وقد ذكرت ستاً وثلاثين مرة في مواضع لغوية مختلفة، ولا يشير أي منها إلى ما يعرف بالحديث النبوي. فعلى العكس وردت في عشرة مواضع من الآيات البينات تشير إلى القرآن وتستبعد بشدة أي حديث إلى جانب القرآن، منها هذه الآيات (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) (الزمر / 23) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان /6)(8).
    هذا والذي زعمه أعداء السنة المطهرة في تعريفهم بالسنة النبوية من أنها الطريقة العملية، أو السنة العملية، أو هي سنة الله - عز وجل -. وأن تعريف السنة النبوية بأنها: (كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة....) اصطلاح مستحدث من المحدثين ولم يعرفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنهم - بل كان هذا التعريف سبباً في تحنيط الإسلام. هذا الزعم الكاذب إنما يدل على ما سبق وأن ذكرته من أن هؤلاء الأعداء يخلطون بين المعاني في اللغة، وبينها في الاصطلاح، ولا يهتمون بمعرفتها، ولا ببيانها، إما عن جهل، وإما عن علم بقصد خداع القارئ، وتضليله، وتشكيكه في حجية السنة، وفي علمائها الذين قيدهم رب العزة لحفظها من التغيير والتبديل، تماماً بتمام، كما قيض لكتابه العزيز من يحفظه من العلماء الأفذاذ.
    ولعل القارئ الكريم قد اتضح لديه – فيما سبق – أن السنة النبوية بتعريفها المعلوم عند المحدثين والأصوليين والفقهاء، كان مقصوداً من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوماً للصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – وأن هذا التعريف للسنة المطهرة كان سبباً في عزة الإسلام وأهله، وليس في تحنيطه كما يزعم أعداء الإسلام. كما اتضح أيضاً أن مصطلح السنة ومصطلح الحديث كانا مترادفين زمن النبوة المباركة وزمن الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم - رضي الله عنهم - وعلى ذلك علماء الشرع الحنيف، خلافاً لأعداء الإسلام الزاعمين: أن مصطلح السنة غير مصطلح الحديث، وأنهما يجب أن يكونا متميزين عن بعضهما(9).

    (1) نيازي عز الدين: كاتب سوري معاصر، هاجر إلى أمريكا، من مؤلفاته: إنذار من السماء، ودين السلطان، الذي زعم فيه أن السنة المطهرة وضعها أئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين لتثبيت ملك السلطان معاوية - رضي الله عنه - وصار على دربهم علماء المسلمين إلى يومنا هذا.
    (2) إنذار من السماء ص 40، 111.
    (3) محمد نجيب كاتب معاصر. من مؤلفاته (الصلاة) أنكر فيه السنة المطهرة، وزعم أن تفاصيل الصلاة واردة في القرآن الكريم، والكتاب صادر عن ندوة أنصار القرآن، نشر دائرة المعارف العلمية الإسلامية.
    (4) الصلاة ص 276، 277.
    (5) أحمد صبحي منصور تخرج في الأزهر وحصل على العالمية في التاريخ من الجامعة، وتبرأ من السنة فتبرأت منه الجامعة، سافر إلى أمريكا وعمل مع المتنبئ رشاد خليفة، يحاضر بالجامعة الأمريكية بمصر، ومدير رواق ابن خلدون بالمقطم، من مصنفاته: الأنبياء في القرآن، والمسلم العاصي، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، ولماذا القرآن، باسم مستعار وهو عبد الله الخليفة. انظر قصته هو ورشاد خليفة في كتابي مسيلمة في مسجد توسان، والدفاع عن السنة الجزء الأول من سلسلة " الإسلام واستمرار المؤامرة كلاهما لفضيلة الأستاذ الدكتور طه حبيشي.
    (6) حد الردة ص 40.
    (7) قاسم أحمد كاتب ماليزي معاصر، ورئيس الحزب الاشتراكي الماليزي – سابقا – من مؤلفاته: إعادة تقييم الحديث، أنكر فيه حجية السنة المطهرة.
    (8) انظر: إعادة تقييم الحديث ص 77، 78، واستشهاده بهذه الآية على أن لفظ الحديث هو القرآن استشهاد باطل فـ (لهو الحديث) هنا الأقاصيص والأساطير، انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 441.
    (9) انظر: السنة في كتابات أعداء الإسلام (1/24-30) بتصرف.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,333

    افتراضي رد: الدفاع عن السنة المطهرة ضد المنكرين لحجيتها (متجدد)

    الدفاع عن السنة
    أ. د. فالح بن محمد بن فالح الصغيِّر

    الحلقة ( 17 )

    شبهة حول التسمية والرد عليها( 1- 2 )

    من نافلة القول أن نقرر: أن كلمتي (السنة) و (الحديث) عربيتين ، حيث أنكر هذه البديهية من أعداء الإسلام جولد تسيهر حين زعم تارة بأن كلمة (السنة) مأخوذة من العبرية (مشناة) فقال: (حتى في الإسلام ، أخذت هذه الفكرة مكاناً أيضاً، أعنى اتخاذ قانون مقدس وراء القرآن أو مسموعاً كما هو الحال عند اليهود)(1).
    وقال تارة ثانية: إنها مصطلح وثنى في أصله وإنما تبناه واقتبسه الإسلام، وتابعه على ذلك من جلدته شاخت ومارغوليوث ، كما نقله عنهم الدكتور/ محمد الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي)(2).
    وتابع المستشرقين على ذلك قاسم أحمد حيث قال: (وما ينبغي أن يفطن إليه المسلمون هو التشابه الكبير جداً بين هذا الرأي ورأي اليهود القديم عن الوحي المكتوب والشفوي، فالتلمود اليهودي الذي يشمل المشناة والجمارة، وهما يشبهان الحديث والسنة الإسلامية. وهما عبارة عن مجموعة تعاليم شفوية لحاخامات وكبار علماء اليهود، أساسها تفسيرهم لكتابهم المقدس وشرحهم له على مدى طويل على لسان العالم اليهودي يهوذا جولدن(3).
    كما زعم المستشرق الفريد غيوم في كتابه (الحديث في الإسلام): أن كلمة (حديث) مشتقة من الكلمة العبرية عند اليهود (هداش) والتي تعني الجديد، أو تعني الأخبار، أو القصص(4).
    ومرد هذه الشبهة يهدف إلى نفي أن تكون الكلمتان عربيتين.
    وقد رد هذه الشبهة الباطلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت في كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) ونفي أن تكون كلمة السنة مأخوذة من العبرية(5).
    كما رد الدكتور/ محمد الأعظمي في كتابه (دراسات في الحديث النبوي) الزعم الباطل لجولد تسهير ؛ أنها مصطلح وثني في أصله، وإنما تبناه واقتبسه الإسلام(6).
    وذكر هذه الشبهة وردها الدكتور/ رءوف شلبي في كتابه (السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين) فقال: بحكم طبيعة الحياة فإن الخير لا يسلم من الشر، وإن العدل لا يسلم من الجور، ولقد قيض الشيطان عناصر تفتري على الإسلام وعلى مصادره، فقد زعم بعض الباحثين أن التعبير بكلمة سنة أخذه المسلمون من الكلمة العبرية (مشناة)، والتي تطلق في الاصطلاح اليهودي على مجموعة الروايات الإسرائيلية التي تعتبر في نظرهم مرجعاً أساسياً في التعرف على أحكام التوراة، كما تعتبر شرحاً وتفسيراً لها، ثم عربها المسلمون إلى كلمة (سنة)، ويدعى اليهود أن المسلمين أطلقوها – بعد التعريب – علماً على مجموعة الروايات النبوية في مقابل استعمالهم لكلمة (مشناة) علماً على مجموعة الروايات الإسرائيلية.
    والجواب:

    يقول فضيلة الأستاذ الدكتور/ رءوف شلبي: اعتراض اليهود ومن تابعهم على كلمة (سنة) و(حديث) ملخص في نقطتين:

    1- أن المسلمين عربوهما من كلمة (منشاة) و (هداش).
    2- أن المسلمين أطلقوهما علماً على مجموعة الروايات النبوية في مقابل ما صنعه اليهود من إطلاقهم كلمة (مشناة) على مجموعة الروايات الإسرائيلية التي تشرح لهم التوراة ، وتعتبر المصدر الأساسي في التعرف على الأحكام.
    ورداً على النقطة الأولى: فإن العقل الباحث الأمين لا يتقبل ادعاء اليهود ومن صار على دربهم، أن العرب الأوائل المسلمين قد عربوا (مشنأة) إلى (سنة)، أو عربوا (هداش) إلى (حديث).

    أولاً: لعدم المشابهة في الحروف والبنية.

    ثانيا: لأن الكلمتين ورد استعمالهما في الشعر الجاهلي قبل الإسلام، كما استعملهما ربنا - عز وجل - في كتابه العزيز ، واستعملهما نبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديثه الشريف، على نحو ما ذكرناه سالفاً في تعريف السنة والحديث لغة. وذلك مما لا يترك مجالاً لفرضية بحث تعريب كلمة (سنة)من (مشناة)ن أو (حديث) من (هداش).
    إذًا فالكلمتان لم يعربهما المسلمون من كلمتي (مشناة وهداش) ، وإنما أخذوهما من صميم لغتهم ، وصريح كتابهم الكريم ، وصريح حديث نبيهم- صلى الله عليه وسلم-(7).
    ويقول الدكتور/ الأعظمى رداً على ادعاء وثنية المصطلح: " ولذا فإن ما قاله جولد تسيهر بأن السنة مصطلح وثني استخدمه الإسلام، ادعاء لا يستند إلى دليل ، ومعارض للأدلة الملموسة ، ثم إن استعمال الجاهليين أو الوثنيين من العرب (لكلمة ما) في مفهومها اللغوي لا يلبسها ثوباً معيناً، ولا يحيلها إلى مصطلح وثني وخصوصًا ًإذا لاحظنا استعمالاتهم المختلفة لهذه الكلمة، وإلا أصبحت اللغة العربية بكاملها مصطلحاً وثنياً، وهذا لا يقول به عاقل" (8).

    ونفس هذا الكلام يقال رداً على ما زعمه الفريد غيوم من أن كلمة (حديث) مشتقة من الكلمة العبرية (هداش).
    ورداً على النقطة الثانية: يقول ابن قيم الجوزية(9) في إغاثة اللهفان: " إن كلمة مشناة إنما تعني الكتاب الذي ألفه علماء اليهود في زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم ، وهو الكتاب الأصغر ، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة ".

    أما التلمود: فهو الكتاب الأكبر الذي ألفه علماء اليهود مع مشناة ، ومبلغ حجمه نحو نصف حمل بغل لكبره، ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه في عصر واحد، وإنما ألفوه جيلاً بعد جيل، فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن في الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه ، أدى إلى الخلل الذي لا يمكن سده ، قطعوا الزيادة فيه ، ومنعوا منها ، وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه ، وإضافة شيء آخر إليه ، وحرموا من أن يضاف إليه شيء آخر فوقف على ذلك المقدار(10).

    إذًا فالمشناة والتلمود من تأليف فقهاء اليهود إرضاء لأهوائهم ، وقد نسبوها إلى التوراة، وإلى سيدنا موسى – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام – وليس الأمر كذلك في الحديث النبوي والسنة المطهرة؛ فهي مرويات نبوية موحى بها من قبل رب العزة ، ولا مدخل لأحد من علماء الإسلام في شيء منها إلا بحفظها، ورعايتها، وتنفيذها، وصاحب السنة المطهرة - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أطلق وسمى كل ما ورد عنه من قول، أو فعل، أو تقرير، أو... الخ. بأنه من حديثه الشريف وسنته المطهرة.

    فهو القائل - صلى الله عليه وسلم -: (قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم ، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)(11).

    وبهذا كله يتضح لنا أن الكلمتين (سنة) و(حديث):
    1- عربيتان أصيلتان.
    2- وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قد استعملاهما.
    3- وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي سمى الحديث والسنة، ووضعهما علماً على كل ما ورد عنه من قول، أو فعل، أو تقرير... إلخ ، كما سبق وأن ذكرت.
    وبذلك ينمحي من الإمكان فرض أن المسلمين عربوا كلمة (سنة) من كلمة (مشناة)، أو (من هداش)، أو فرض أنها مصطلح وثني ، وأنه فرق كبير بين ثريا المحجة البيضاء في الإسلام ، وبين ثرى المحرفين الذين لعنوا على لسان أنبيائهم داود، وعيسى بن مريم؛ جزاءاً بما كانوا يصنعون(12).أ. هـ.

    ______________________________ __

    (1) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 49.
    (2) دراسات في الحديث النبوي 1/ 5،6.
    (3) إعادة تقييم الحديث ص 78، 79.
    (4) نقلا عن منهجية جمع السنة للدكتورة عزية على طه ص 62.
    (5) الإسلام عقيدة وشريعة ص 492، 493.
    (6) دراسات في الحديث النبوي 1/5 -11.
    (7) السنة النبوية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين ص 32 وما بعدها بتصرف.
    (8) دراسات في الحديث النبوي 1/7.
    (9) ابن قيم الجوزية: هو محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي ، أبو عبد الله ، الفقيه الحنبلي الأصولي المحدث النحوي الأديب الواعظ الخطيب ، له مصنفات عديدة أشهرها: أعلام الموقعين عن رب العالمين ، وزاد المعاد في هدي خير العباد ،وغير ذلك ، مات سنة 751هـ. له ترجمة في: البداية والنهاية لابن كثير 14/ 234، والدرر الكامنة لابن حجر 3/400-403 رقم 1067، وشذرات الذهب 6/168، وطبقات المفسرين للداودي 2/93 -97 ، رقم 456، والوافي بالوفيات 2/270.
    (10) إغاثة اللهفان 2/323، 324.
    (11) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب العلم ، باب خطبته - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع 1/ 171، 172رقم 318من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – وقال في إسناده عكرمة واحتج به البخاري ، وابن أبي أويس واحتج به مسلم ، وسائر رواته متفق عليهم، ثم قال وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه – وأخرجه في الموضع السابق، ووافقه الذهبي وقال وله أصل في الصحيح أهـ.
    (12) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين للدكتور/ رءوف شلبي ص 32: 36 بتصرف ، والسنة في كتابات أعداء الإسلام (1/ 50-53).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •