نور على نور
نورا عبدالغني عيتاني





تفقدُ شيئًا من بريقِها، تلك العبارة التي نصوغها أكثر من مرّة.. يولَد الجمالُ كاملًا عندَ لحظةِ الوحي الأولى.. كدبيبِ الروحِ في جوفِ جنينٍ يلتفُّ حول نفسه في ظلماتٍ تهفو لخيطٍ من نورٍ؛ فيشّقّقُ رمسُها ويسطعُ عن معانيها الضياء، وتخرج منسلّةً مرّةً واحدة لتلاقي الحياةَ وتصافحَ النورَ بعد اكتمالِ مدّةِ حضانتِها في رحمِ الخيالِ الدافئِ الخصيب..

هكذا هي، تحتاجُ لوقتها الكامل كي تنضجَ وتنمو بصحّةٍ واتّزان، ولتتفادى معرّةَ المكوثِ في قلبِ الحاضنةِ الصناعيّة.. بعضها يحتاجُ للحظة، وبعضها الآخر يحتاج عمرًا كاملًا لينمو ويربو ويشتدّ عوده، ويشكّلَ بُعدَهُ الأخير، فيخرج بقوّةٍ واندفاعٍ وسحرٍ فريدٍ ليواجه العالمَ بما يحويه من عنادٍ وتحدٍّ وثقةٍ كاملة ويقين، وبراءةٍ لا حدّ لها ولا نهاية... وليتنفّس في صدرِ العالمِ الحرِّ الرحيب برئتينِ كاملتين وقلبٍ حيٍّ سليمٍ غير مثقوب..

ثمّ لا تلبثُ العبارة بعدئذٍ أن تتدرّج في النموّ وتتشكّلَ وحدها في الأسماعِ وفي الأبصارِ والأفئدةِ، وفقَ أقدارها التي رُسمت لها وحُضّرت من قبل أن تكون نطفةً في رحمِ الخيال. كلُّ ما عليك فعلهُ هو أن تعتني بها وتمدّها بأسباب الحياةِ ومتطلّباتها المادّيّة الضروريّة، أمّا عن سرّ تلك الحياةِ وأجلها ومداها، فلست تملك من ذلك شيئًا ولا ترتجيه.. فأنت بالكادِ تملكُ القدرةَ على إحاطتِها بالرعايةِ والعنايةِ المحسوسة..

وأمّا أن تحاولَ التدخّل في إعادةِ تشكيل جوهرها ورسمِ قلبها وتزيينه، أو تغييرِ شيءٍ من خلقتِها التي حباها الوحيُ إيّاها، فأنتَ بهذا تسرقُ شيئًا من بساطتِها وانطلاقِها وجمالِها الفطريّ الطبيعيِّ البازغ، وتتركُ عليها بصمةً من تشوّهٍ لا شيءَ يملكُ أن يخفيه..

دع العبارةَ تسيرُ لأقدارها التي خُلقت لها، وكن أمينًا عليها، بإشرافكَ عليها إبّان التكوّن - لا بعده - وغذِّها بالصدقِ والفضيلةِ والحقيقةِ والوضوحِ، ووجّه رأسها صوبَ النورِ والفطرة كي تشهدَ ولادتَها الطبيعيّة، لكيلا تحتاج عند الولادةِ أن تخرقَ الأعماقَ التي احتضنتها وتمزّقَ سطحَها وتخلّفَ خلفها ندبةً خالدةً لا تزول.. ولئلّا تكونَ سببًا في أذيّةِ الأيادي الممتدّةِ التي تتلقّفُها وتحتضنُها وترعاها..

إنّكَ حين تُطلقُ العبارةَ على سجيّتِها وبساطتِها وانسكابها الحلوِ الطبيعيّ، تاركًا لها حريّة التشكّلِ في الوسطِ الحراريِّ الملائمِ لها، ستخرجُ ذهبيّةً مضيئةً من العصرةِ الأولى- وهي الأفضلَ والأمثل - كما يخرجُ الزيتُ بكرًا من شجرةِ زيتونٍ مباركة، فبذا تغدو إدامًا تهفو لهُ النفوسُ وتتلهّفُ لهُ القرائح.. لكن ليكن بخلَدكَ دومًا أنّ ثمارَ الزيتون لا بدّ أن تنقّى أوّلًا وتُغسَل بمياهٍ عذبةٍ ونقيّة، لتزولَ عنها الشوائب وتصفّى قبل أن تُعصَر، ولتستحيلَ بهيّةً مشرقةً متلألئةً بعد العصر (يكادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) النور: 35، فتكونُ هديًا من نورٍ على نور..

قال تعالى: (ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) النور: 40. فاستعِن بالله دومًا، وتوكّل عليه، وتوجّه إليهِ بعقلكَ وبفكركَ وبقلبك، واسألهُ أن يهديكَ دومًا لخيرِ الأقوالِ والأفعال، وأن ينيرَ منكَ البصيرةَ، لتغذو جنين عقلكَ بالنورِ والهدايةِ، فتنسكب منكَ العبارةَ المسترسلة مخضوبةً بالحقِّ والخيرِ والفضيلة والجمال، محفوفةً بجحافلٍ من صالحِ الأقوالِ والأعمال..