مشاهد العبودية في الصيام
إخوتاه ..
قيام رمضان
أخي .. وحبيبي:
الصلاة مكيال .. فمن وَفَّى وُفِّيَ له، ومن طَفف؛ فقد علمتم ما قيل في المطففين، أما يستحي من يستوفي مكيال شهوته، ويطفف في مكيال قيامه وصلاته؟!، ألا بعدًا لمدين.
إذا كان الويل لمن طفف في مكيال الدنيا، فكيف حال من طفف في مكيال الدين؟، كيف حال المسيئين في عباداتهم؟، أرحموا من حسناته كلها سيئات، وطاعاته كلها غفلات.
كيف لا تجري للمؤمن على هذه الأيام دموع, وهو لا يدري هل بقي له من عمره رجوع، متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟
من رد في ليلة القدر متى يصلح؟، كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يُقطع.
شهر رمضان شهر المصابيح، شهر التهجد والتراويح، واهًا لأوقاته من زواهر ما أشرفَها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفَها، أشرقت لياليها بصلاة التراويح، وأنارت أيامها بالصيام والتسبيح، حِليتُها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعتق.
فطوبى لعبدٍ صام نهاره، وقام أسحاره .. يا حُسنه ومصابيح النجوم تزهر، والناس قد ناموا وهو في الخير يسهر، غسلَ وجهَهُ من ماء عينهِ، وعينُ العينِ أطهر وأطهر.
إذا ما الليلُ أظلم .. كابدوه:
حبيبي في الله ..
لعل أطيب أوقات المناجاة أن تخلو بربك والناس نيام، والخَلِيُّون هُجَّع، وقد سكن الكون كله، وأرخى الليلُ سدولهَ، وغابت نجومه، فتستحضر قلبك، وتتذكر ربك، وتتمثل ضعفك وعظمة مولاك، فتأنس بحضرته، ويطمئن قلبك بذكره، وتفرح بفضله ورحمته، وتبكي من خشيته، وتشعر بمراقبته، وتلح في الدعاء، وتجتهد في الاستغفار، وتفضي بحوائجك لمن لا يعجزه شيء، ولا يشغله عن شيء شيء، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون، وتسأله لدنياك وآخرتك، وجهادك ودعوتك، وأمانيك ووطنك وعشيرتك، ونفسك وإخوانك.
الليل سكون وهدوء، وفي الهدوء تركيز وصفاء والناس نيام، وفي ذلك بعد عن الرياء، الليل خَلوة مع الله، وفي الخلوة قرب وأنس ومناجاة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" (1)، وإنما كانت صلاة الليل أفضل؛ لأنالقلب فيها يكون أكثر إقبالًا على الله، وابعد عن الشواغل، ولما كان وقت الليل والتهجد فيه أفضل أوقات التطوع بالصلاة، فيها يكون العبد قريبًا من ربه، فيها تفتح أبواب السماء ويستجاب فيها الدعاء، فينبغي عليك أن تواظب عليها خلال شهر رمضان.
قال الأزدي: سمعت الخَوَّاص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
ولكن لا ينهض إلى قيام الليل إلا أهل المجاهدة والمغالبة وأولو العزم، فالنهوض إلى الله في هذه الساعات أشد وطئًا على النفس وأثقل من النهوض إليه بغيرها؛ ولذا كان قيام الليل من مقاييس العزيمة الصادقة وسمات النفوس الكبيرة، فعلينا أن نُدْخِل هذا في حسابنا ولا نغفل عنه؛ حتى لا تخدعك نفسك وتضيِّع عليك عملًا من أفضل الأعمال التي يتقرب بها إلى الله - عز وجل- في هذا الشهر وغيره، وإنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور، ومن تلمح حلاوة العاقبة هان عليه مرارة الصبر.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقربُ ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (1).
وصف المتهجدين وليلهم:
في وصف ليلة واحدة من ليالي أهل القرب والصفاء أهل السبق والنقاء أهل الله المخلصين:
يقول ابن القيم -عليه رحمة الله: "أما السابقون المقربون فنستغفر الله
الذي لا إله إلا هو, أولًا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به, بل ما شممنا له رائحة, ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها, وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم, فاسمع الآن وصف القوم واحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل, فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح.
فنبأ القوم عجيب, وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم, فإنه يطلع على ما يريه إياه القدر المشترك, وجملة أمرهم أنهم قوم
قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله, وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته, فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه, واجتمع همه عليه, متذكرًا صفاته العلى وأسمائه الحسنى, مشاهدًا له في أسمائه, وقد تجلت على قلبه أنوارها, فانصبغ قلبهُ بمعرفته ومحبته, فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه, وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه, وأسجده بين يديه خاضعًا خاشعًا ذليلًا منكسرًا من كل جهه من جهاته, فيا لها سجدةً ما أشرفَها من سجدة, لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
وقيل لبعض السلف: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ , قال: إي واللهِ, بسجدةٍ لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة, فشتان بين قلب يبيت ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان, وخرق حُجُبَ الطبيعة, ولم يقف عند رسم, ولا سكن إلى علم, حتى دخل على ربه في داره, فشاهد عِزَّ سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله. فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدًا لقلبه أَنْسَتْهُ ذِكرَ غيره, وشغلته عن حب من سواه.
وبالجملة: فيبقى قلب العبد -الذي هذا شأنه- عرشًا للمثل الأعلى -أي عرشًا لمعرفة محبوبه ومحبته. وناهيك بقلبٍ هذا شأنه، فياله من قلب مِنْ ربه ما أدناه!!
فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم كما قال أبو الدرداء: "إذا نام العبد المؤمن عُرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهرًا أُذن لها في السجود، وإنْ كان جُنُبًا لم يؤذن لها بالسجود" وهذا -والله أعلم- هو السر الذي لأجله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ.
(1) أخرجه مسلم (1163).
(1) أخرجه الترمذي (3579)، وصححه الألباني (2053) في "صحيح الجامع".