لقي البيان المشكور الذي بينه العلامة البراك في موضوع الاختلاط معارضة صنفين من الناس : منهم من لا يوافق الشيخ في الأصل وهذا الصنف ينتظم كثيراً ممن تأثروا بمذاهب الإرجاء و الرؤية المادية العصرية ، ومنهم من يوافقه في الأصل لكن اعتراضه متوجه إلى أسلوب البيان وظروفه ، فهو يرى أن الساحة مهيأة لتلقيه بطريقة خاطئة ليست مراد الشيخ قطعاً ، وربما وجد بعض المخربين في هذا البيان بغيته للاستمرار في التكفير والتفجير !
لست معنياً في هذه العجالة بالوقوف مع الصنف الأول ، فخلافنا معهم حول بيان الشيخ خلاف فرعي ، ناتج عن خلاف أصلي في فهم الدين ، و مصادر التلقي والاستدلال .
في مقابل حجة الصنف الثاني من المعترضين : ينطلق الشيخ البراك من وجوب البيان على أهل العلم ، وفضيلة الصدع بالحق ، وضرورة حماية حمى الشرع .
ولنتأمل – في موازنة بين الحجتين – أيهما ألصق بالواقع معبرة عن حقيقته ، واسمحوا لي أن أستجلب في هذا التأمل فتوى الشيخ اللحيدان في أصحاب القنوات الفضائية المفسدة ، فمثالين خير من مثال ، وكلا البيانين واجها نفس المعارضة :
الواقع الذي لا يسر : أن الناس في هذا العصر ونتيجة لضعفهم ، قد طغت عليهم الرؤية المادية الغربية ، وسوقت عليهم مبادئ الغرب الملحد من مركز القوة السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية ، وكثف الهجوم على أخلاق المسلمين وقيمهم ، حتى قاربوا الرؤية الغربية في كثير من رؤاهم ، وصاروا يتلقون الرؤية الإسلامية إذا سمعوها من شيخ أو عالم صادق : باستهجان واستغراب ، خذوا مثلاً على ذلك : قضية ترويج الفساد في الأرض ، فلقد كان المسلمون ينظرون لهذا العمل نظرة قرآنية ، لا تفرق بين شقي الفساد ( المادي والمعنوي ) ولا ينطلقون من رؤية مادية ترى أن هدم البنايات أفظع من هدم الديانات والأخلاق ، حتى ظهرت المادية الغربية ، التي لا تقنع بالدين معياراً يعبر عن حقيقة الفساد ، بل ترى أن حرب الدين ، وتجاوز الأخلاق ، إذا عاد بمنفعة مادية فليس بفسادٍ ، وليس بمذموم !
وهكذا تاجروا بالإلحاد ، وتاجروا بالمومسات ، ثم جرى على منوالهم كثير من رجال الأعمال في بلاد المسلمين ، فأقاموا الشركات والمؤسسات المتخصصة في ترويج ما يفسد الخلق ويخرم الدين ، غير ملتفتين إلا إلى مكسب دنيوي ، وتجارة شاطرة ، تماماً كالغربيين حذو القذة بالقذة !
وهكذا .. تسرب إلى قلوب الجماهير ، تحت ضغط الواقع ، أن من يخرم الدين ويحارب الأخلاق ( وإن أبقوا على مسكة من تجريمه ) يبقى في دائرة سائغة ، لا تحتمل من يهدم بناية أو يشعل حريقاً !
إذاً كانت القيمة الإسلامية التي تصهر المفسد في بوتقة واحدة : أنه محارب ، يجوز قتله اتقاء لفساده ، وأن فساده على صعيد الدين والخلق قد يكون أقوى من فساده على صعيد المادة ، كانت هذه القيمة غائبة عن نفوس كثيرين ، في ظل واقع استمرأ المفسدين على الصعيد المعنوي ، ومجتمع ٍ لا زال ينتج منهم بين الفينة والأخرى !
فهل يتردد - بعد ذلك - الشيخ صالح أن يتحدث ( تفقهاً ) مذكراً الناس بخطورة الإفساد العقدي والأخلاقي ، وأنه مع الإفساد المادي في حكم واحد : يجوز قتل رائده لمنع فساده ؟!
إني لا أقرأ هذا التعبير ( التذكير بجواز قتل المفسد ) إلا في سياق المواكبة الرائعة للواقع ، في مخاطبة جمهور طغت عليه المادة ، فصار أحوج إلى تقبيح المنكر في وعيه بتذكيره بالجزاء المادي عليه ، ذلك الجزاء الذي يظهر حقيقة الجريمة وموقعها .
ثم بيان الشيخ البراك : الذي ظهر في ظرف انتقالي ، بين المفاهيم الشرعية في ضبط العلاقة بين الجنسين ، وبين المفاهيم الغربية التي لا تحد العلاقة بينهما ولا تضبطها ، فصرنا أمام قيمة شرعية مهددة بالتغييب ، قد كثف الهجوم عليها ، واستخدم في هذا الهجوم بعض من ينتسب للشريعة في ظاهره ، ممن حاله أنه يغيب الشريعة عن قلوب الناس لمطمع دنيوي أو جهل !
وأقول مرة أخرى : كان خطاب البراك في درجة عالية من مواكبة الواقع ، إذ يذكر بالقيمة الشرعية ، عبر التحذير من القيمة الغربية التي يراد لها أن تحل في واقع الناس ، وأن من يجيز الحرام معلوم التحريم في دين الإسلام أنه كافر !
لا كما يقول موظفوا تخريب القيم الشرعية : أنه مجتهد ، كي يمرروا عملية نزع الإسلام وإحلال التغريب بجو من الراحة والهدوء .
ثم يذكر الشيخ الناس الذين غربلتهم المادة : بالجزاء المادي الذي ينفذ إلى وعيهم فيحركه ، بأنّ معنى كفره أنه مرتد يستتاب قبل قتله .
ولا أدل على أثر هذا الخطاب الموفق : مما سمعناه وقرأناه من ترحيب به من قبل الناس الخائفين على دينهم وأخلاقهم ، كما سمعنا حربه و استهجانه من قبل من غيبتهم المادة عن وعيهم الإسلامي .
نأتي الآن إلى مناقشة حجة المعترضين في ضوء الواقع المعاصر :
فإنهم يرون أن هذا الخطاب وسيلة لفهمه الفهم السيء من قبل بعض رواد التكفير والتفجير ، فأول ما يرد على موقفهم ذلك : أنه لا حدّ لهذا الزعم ، فمثله يورده المرجئة على أهل السنة ، ومثله يورده المستشرقون على خطاب القرآن !
ثم إن الفهم السيء لا يواجه بالكتم ، فالكتم لا يزيده إلا سوءاً ، بل يواجه بالبيان الكامل ، فكما نقول : المرتد يقتل ، ومن يقول كذا فهو مرتد ، فإننا نقول : المرتد يقتله الإمام ، وليس الحل : أن نسكت عن الحق ، ونحذف كلمة المرتد من قاموسنا ، فإن المتطرف سيجدها في قاموس الإسلام العريض منذ 14 قرناً !
إن من يفهم الخطاب فهماً سيئاً لن يخلو منهم زمان ، ولو خلا منهم لكان زمان النبي وأصحابه أولى زمان بخلوه منهم ، ولم يخلو كما هو معلوم ، ووجودهم لم ولن يكون مبرراً لكتم الشرع وبيان الحق .
فخطأهم يتحملونه ، وسوء فهمهم إنما هو عليهم ، لا علينا حتى نكتم الحق .
كما إنني أقرأ موقف هؤلاء الذين يرون الفهم السيء لفتوى التكفير مبرراً لكتمها رغم مصلحتها في حماية القيم الإسلامية : أنه في سياق تأثرهم بالنزعة المادية ، التي ترجح الضرر المادي على الضرر المعنوي ، وتجعل غياب قيمة إسلامية هيناً أمام غياب فرد مسلم !
بقلم : عبد الوهاب آل غظيف