الصيام وشخصية المسلم


د. محمود فتوح محمد سعدات








إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فى ضوء عرض موضوع "دور الصيام في تكوين شخصية الإنسان المسلم في ضوء الكتاب والسُّنَّة " يمكن استخلاص العديد من النقاط الهامة من أبرزها:
1- إن للعبادات آثاراً جليلة على السلوك الإنساني، فللصلاة أثرها، وللحج أُثره، وللزكاة والصدقات والإنفاق آثار، وللصيام أثره الجليل العظيم، والناظر إلى المجتمع الإسلامي في شهر رمضان يعجب من الصلاح النسبي الظاهر في المجتمع خاصة في النهار، فمهما كان المجتمع بعيداً عن خلق الإسلام فسيتغير الحال في رمضان، فتمتلئ المساجد، ويختم أكثر الناس القرآن، ويكثرون من الذكر والتوبة، ويرسلون الدموع، ويظهرون الخشوع، ويجهرون بالاعتراف، ويندمون على الاقتراف.

2- جعل الله عز وجل صيام رمضان فريضة يتعين على كل مسلم بالغ عاقل أن يؤديها، وقد أبان الشارع الحكيم عظم الفوائد التي ينطوي عليها صيام رمضان، فقد قال عز من قائل: ﴿ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (سورة البقرة: 184)، وهذه الخيرية الواردة في الآية الكريمة لا تقتصر فقط على الجانب الروحي والنفسي فحسب، بل وعلى الجانب الجسمي والحيوي، بحيث يكون صيام رمضان نشاطا روحيا وجسميا يرتقي بالإنسان جسماً وروحاً.

3- يعد الصوم مدرسة تربوية كبرى يتربى فيها المسلم على الإيمان الحقيقي، الإيمان الذي تزينه التقوى والمراقبة والمراجعة والمحاسبة، الإيمان الذي يتربى فيه المسلم على الحمد والشكر والتحمل والصبر، والإيمان الذي يجمله علم ويحليه حلم، فالصوم من أهم العوامل والمؤثرات التي تربط الإنسان بخالقه وتوقظه من غفلته فيندم على ما ارتكبه من المخالفات والآثام وتصحو هذه النفس عن المعاصي وينقطع شهرا إلى الله تعالى حتى وهو في عمله دائما يتذكر صيامه ومع تلاوة القرآن وفي كل أحواله هو مع الله تعالى. إشراقات ونورانيات وروحانيات كلها ببركة شهر القرآن توبة وغفران وعفو ورضوان ينقاد إليه المسلم في هذا الشهر فيعود إلى نقاء وصفاء وسمو روح عن كثير من الشهوات وملذات الجسد.

4- يجب على المسلم أن يبتعد أثناء الصوم عن اللغو في القول، والفُحش في الكلام، ويتجنّب الرفث والفسق، فلا يُضَيِّع وقته في مجالس السوء والنميمة، ولا تضعف نفسه أمام شهوات الحياة المادية والمعنوية، ولا يدفعه سوء أدب الآخرين معه واستفزازهم له بالقول والعمل، إلى التفوه بالكلام الفاحش معهم والتلفظ بالعبارات البذيئة تجاههم، وبذلك يتحقق المقصد السامي للصوم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (لَيْسَ الصّيامُ منَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفَث، فَإنْ سَابَّكَ أحدٌ أوْ جَهِلَ عَليْكَ فَقُلْ: إنّي صَائِمٌ إنِّي صائِمٌ).

5- يعد الصيام شعيرة من الشعائر الدينيَّة وركنٌ من أركان الإسلام، حظيت باهتمام الإسلام كتابًا وسنَّة، وكذلك اهتمَّ بها علماء المسلمين سلفًا وخلفًا من حيث وجوبُه وآدابه وشروطه ومبطلاته وثبوته، ومعالجة ذلك بالكتابة والتأليف والتصنيف والشرح والوعظ والإرشاد والتوجيه.

6- يحقق الصوم العديد من الفوائد التي تعود بالنفع على المسلم، منها:
أنَّ الصيام يُربِّي المسلم تربيةً روحيَّة ممتازة تجعلُه تقيًّا ورعًا يُراقب الله في كلِّ حركاته وسكناته وسره وعلنه.
أنَّ الصوم يُربِّي المسلمَ على السيطرة على الجانب المادي في حياته كلِّها ويدفعُه إلى التغلُّب عليه والانتصار للجانب الروحي والمعنوي.
أنَّ الصيام يُربِّي المسلم على سدِّ باب الفتن والغواية بكلِّ أنواعها وأشكالها، ويجعل له حصنًا منيعًا أمام كلِّ التَّيَّارات الوافدة عليه.
أنَّ الصوم يُربِّي في المسلم الحرصَ الشديد على اكتساب الفضائل والاتِّصاف بها والبُعد عن الرذائل ومحاربتها، كما يُطهِّر النَّفس الإنسانيَّة ويُزكِّيها من الأدران والمعاصي ويُصقلها صقلاً يجعلُ المسلم ذا شفافيةٍ عاليةٍ وحسٍّ مرهف.
أنَّ الصوم يُربِّي المسلم على الجمع بين القول والعمل وإعداده للقبول ويُهيِّئه للفهم والإدراك، كما يزرع فيه حبَّ التحرِّي والدقَّة في كلِّ ما يتغذَّى منه من مَأكَلٍ ومشربٍ.
يُكوِّنُ الصوم الرغبة لدى المسلم في العمل الصالح قبلَ حفظ المعلومات عنه.
يجعلُ الصوم لدى المسلم ملكةً فكريَّة يميِّز بها الأفكار الصائبة من الأفكار المشوبة.
يدفعه إلى تجديد العودة إلى الله والإقبال عليه والكف عن الأعمال الذميمة، ويُساعده على صَفاء الذهن وسلامة الفكر وتنشيط الذاكرة.
ينقي الصوم روح المسلم من كلِّ الشوائب؛ فيدفعه ذلك الأثر إلى خفَّة حركة أعضائه نحوَ الطاعات ويُفيده رقَّة القلب، وشفافية الروح، وكبح جماح الشهوة، ودفع الطُّغيان النفسي، وطهارة سائر جوارحه.
يعمل الصوم على تقوية إرادة الصائم وشحْذ همَّته.
يُربِّي الصوم في المسلم تهذيبَ منطقه، وتهذيب كلِّ ما يصدر عنه من أقوال وأفعال؛ من خلال حفظ اللسان من الرفث والصخب، مع تعريف المسلم بمهامِّ جوارحه ووظائفها.
تنمية الروح الجهاديَّة من حيث بذْل الجهد في تنفيذ التعاليم الربانيَّة، ومجاهدة النفس وإجبارها على سلوك منهج الله.
الصوم يُربِّي المسلم ويُوعِّيه على التدرُّج في معالجة الأمور، وكسب النتائج من خلال المعالجة الحكيمة.
تقوية وتنمية مبدأ الحرية ودقَّة الرقابة وضبط النفس؛ من خلال إشعار الصائم بمسؤوليَّاته عن نفسه وتحمُّل المتاعب والمشاق عن طواعية واختيار، والتغلُّب على العادات والعواطف.
الصوم مدرسةٌ خلقيَّة يُربِّي المسلم على الصدق والارتقاء الخلقي والرغبة في معالجة الأمور والاتِّصاف بخلق الحياء.
الصوم يُربِّي في المسلم غضَّ البصر عن المحرَّمات، والعمل على كسب رضا الله ومحبة الناس.
الصوم يُربِّي في المسلم الصبر والتحمُّل وتهذيب سلوكه، والانفكاك من أسْر الشهوات، وتربيته على الانضباط والوعي ودقَّة المواعيد.
الصوم يُربِّي المسلم على الاستقامة وتنميتها لديه من خلال مُراقبة الله في السر والعلن، وأداء الواجب على الوجه المشروع، والإخلاص فيه ومداومة محاسبة النفس.
تعويد الناشئة على أداء الأمانة والوفاء بالعهد والمواثيق.
يعمل الصيام على تنمية التكافل الاجتماعي من خلال وجوب زكاة الفطر وإخراجها لفقراء المسلمين، والإسهام في إسعاد المحتاجين، وتشجيع الغني على الأخْذ بيد العاجزين والأرامل واليتامى.
يعمل الصوم على نشر المحبَّة والمودَّة داخل المجتمع، وتنمية روح البذل والسخاء، وتعود البر والإحسان نحو الوالدين والأقارب والجيران.
تكوين العاطفة والرحمة في نفوس المجتمع؛ من أجل تعميق التضامن الإسلامي بين أفراده.
تربية المسلم على حبِّ العدل والمساواة ومعايشتهما عمليًّا.
تربية المسلم على حبِّ خُلُقِ العفَّة والنزاهة، والبُعد عن الغيبة والنميمة وما شابه ذلك.

يغفر الذنوب فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري 38 ومسلم 760) وهذا الحديث دليل على فضل صوم رمضان وعظيم أثره، حيث كان من أسباب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات.

7- ويساهم الصوم في تحقيق العديد من الفوائد الروحية الجليلة مثل غرس خلق المراقبة الذاتية في النفس، فالصوم واجب في رمضان، والاستحمام جائز أو واجب أحياناً، وفي حالات كثيرة يشتد العطش بالمسلم في نهار رمضان، ثم يلقي بنفسه بين الماء ليستحم، ويعمّه الماء من كلّ جهة، وهو شديد الحاجة إلى كوب منه يطفئ به ظمأه ويردّ عطشه، ولكنه لا يفعل مع أنه لا رقيب من البشر عليه، ولن يعلم أحد من الناس ما ارتكب وهذا الخلق نوع من التربية السامية يغرسه الإسلام في المسلم ليسير في الحياة مستقيماً، لا خوفاً من القانون فطالما استطاع كثير من الناس أن يخدعوا القانون، ولا خوفاً من الناس فطالما أفلت المجرمٍ من عيون الناس، ولكن خوفاً من نفسه ومن ضميره ومن الله، كما أن للصوم معطيات تربوية مفيدة منها؛ امتلاك سلاح الصّبر؛ وتنمية الإحساس والشعور بالآخرين؛ وغيرها الكثير.

وفى ذلك يقول الشاعر عن الصوم:
يا أخي هل تصوم في الصوم حباً

أم ترى فيه منقذا من جهنمْ؟

وترى فيه للجنان سبيلاً
حاسباً في سلوكه كل منعمْ

لم يك الصوم أيها الناس جوعاً
لا ولا كان كي نبخل ونكرم

وامتلاء البطون كل مساء
وبدار الفقير للخبز مأتم

أيها الصائم الذي صام تيهاً
يطأ الأرض خاشياً أن تَهَشَّمْ

ترمق البائسين رمق ازدراء
وحقوق اليتم عندك تهضم

وأمانيك كلها حين تمشي
أن يكون الطعام أحلى وادسم

والفقير الذي ببابك يبكي
جائعاً خالي الوفاض ومحطم
صم عن الكذب والنفاق وحاسب
نزعة الشر في فؤادك واعلمْ
أن مثل الصيام حب اليتامى
فإنقاذ الفقير أجدى وأحكمْ


8- الصوم وإن كان عبادة، أمر المولى عز وجل بامتثالها من خلال الامتناع (المؤقت) عن الأكل والشرب والمفطرات الأخرى... إلا أن هذه العبادة ذات مغزى تربوي عميق، لكونها تساهم بقسط وافر في تهذيب سلوك الإنسان وتنمية الجانب القيمي في ذاته. وتبدأ الدلائل التربوية للوهلة الأولى بدعوة كريمة من الله تعالى لعباده بان يدخلوا - جميعاً - في ضيافته، مهيّئاً لهم - بذلك - الجوّ النفسي الملائم والتربة التربوية الصالحة لإنبات بذور الفضائل الخيرة في أنفسهم.

9- جعل الله الصوم فريضة على المؤمنين على مرّ الحقب والسنين: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] وليس ذلك إلا لخيرية الصوم باعتباره فريضة ذات أبعاد تربوية هامة، حتى أنه تعالى يحث عليه في حالات جواز الإفطار بقوله: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184] وتتجلى الجوانب التربوية من كون الصيام يمتاز عن غيره من العبادات بكونه عبادة سرية فردية يقوم بها المسلم طواعية لله تعالى من خلال امتناعه الحر والمختار عن ضرورات حياته بطيب نفس وبدون قسر أو إجبار، الأمر الذي يقوي في نفس المسلم عنصر الاستسلام والانقياد للمولى تبارك و- تعالى، وكلما كان عنصر الانقياد والاستسلام في العبادة أكبر كان أثرها في تعميق الربط بين العابد وربه أقوى، وعلى هذا الأساس يعمق الصوم مفهوم الإخلاص ويثبته في وعي المسلم وسلوكه فهو يمسك عن المفطرات - المادية والمعنوية - طواعية وبصورة سرية لا يعملها إلا الله تعالى، وفي هذه الحالة يختفي عنصر الرياء والشرك الذي يدبّ - كما قيل - كدبيب النمل. وما يعزز مفهوم الإخلاص أن الصوم يشترط فيه استدامة النية، فمجر التردد فيها كاف لإبطال الصيام!.. وهذا الأمر غير مضرّ في الصلاة مثلاً على الرغم من كونها عمود الدين! لذلك من الممكن القول بانّ الصوم يمنحنا أحد معطياته التربوية الروحية متمثلة في إخلاص العبودية لله تعالى ودوام مراقبته في كلّ لحظة من لحظات حياتنا.

10- تبدأ فوائد الصوم الروحية من تثبيت الإخلاص لدى الفرد، والذي يعد ضرورة لكل عبادة إلا أنه في الصوم ذا خصوصية لا تكون في غيره من العبادات لخصوصيته بسره وكتمانه ولاشتراك الناس في العبادات إلا الصوم الذي نسبه الله لنفسه فقال الصوم لي وأنا أجزي به، ويذكره الصوم بالنعم التي أنعم الله بها على العبد، فهو يتذكر ويشكر ويدوم على شكرها بالمراقبة للمنعم، كما أنه يعود المسلم على التحمل والإرادة والعزيمة، ويعلم ضبط النفس ويساعده عليه، وكما أن الصيام يربي الإرادة على اجتناب الهوى والبعد عن المعاصي، إذ فيه قهر للطبع وفطم للنفس عن مألوفاتها، وكذلك من فوائد الصيام التدريب علي الصبر الخالص والصيام الحقيقي الذي يورث في القلب حب الطاعة وبغض المعصية.

11- أن الصوم يلعب دورا كبيرا في تكوين شخصية الإنسان المسلم لما يتمتع به الصوم من القدرة على توفير أجواء روحية ونفسية للصائم تساعده على تغيير النفس البشرية وإصلاحها، وتعبيدها لخالقها، وهذه الأجواء مكوناتها نية الصوم، وقراءة القرآن الكريم وتدبره، وكثرة الدعاء، والحرص على صلاة الجماعة، والسحور، وصلاة التراويح، والرغبة في ختم القرآن، وممارسة العبادات التي تقوى سلوك المسلم أثناء الصوم. وتؤثر هذه المكونات في تكوين شخصية الإنسان المسلم، لما للصيام من أثر جليل على العباد، فالناظر إلى المجتمع الإسلامي في شهر رمضان يعجب من الصلاح النسبي الظاهر في المجتمع خاصة في النهار، فمهما كان المجتمع بعيداً عن خلق الإسلام فسيتغير الحال في رمضان، فتمتلئ المساجد، ويختم أكثر الناس القرآن الكريم، ويكثرون من الذكر والتوبة، ويرسلون الدموع، ويظهرون الخشوع، ويجهرون بالاعتراف، ويندمون على الاقتراف، ولهذا فان للصوم أثر كبير على السلوك الإنساني، وتكوين شخصية الإنسان المسلم.

التوصيات:
وفى ضوء النتائج السابقة يوصى الكاتب بما يلي:
إجراء المزيد من المقالات والدراسات حول فريضة الصوم من أجل استخراج المزيد من الآثار النفسية والاجتماعيَّة والخلقيَّة والصحية لهذه الفريضة على الفرد والأمَّة.

زيادة توعية المسلمين بأهميَّة المحافظة على فريضة الصوم، والعمل على مراعاة الآداب الاجتماعيَّة التي تجعلُ المجتمع الإسلامي قدوةً صالحة وحسنةً لسائر الشعوب في أنحاء المعمورة في هذا الشأن.


البحث عن الوسائل التربوية والتعليمية التي تُساعد على العودة والإقبال على الله من خلال الصيام الواجب.
الاهتمام من قِبَلِ أولياء الأمور بتعويد الناشئة على الصيام وتدريبهم عليه؛ حتى يُؤهَّلوا روحيًّا وخلقيًّا منذُ الصِّغَرِ.