الثبات بعد رمضان


الشيخ أحمد علوان






الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه على ما أسداه وأولاه من الإنعام والإكرام والخير الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا ظهير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله السراج المنير والبشير النذير، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله يسير، وسلم تسليمًا كثيرًا، وبعد:
فها هو رمضان قد انقضى، وفيه كانت الهمة العالية، وقراءة القرآن اليومية، وصلاة التراويح كل ليلة، فهل ستنقطع هذه الأعمال بعد رمضان؟ أم ستكون الاستمرارية؟! فالمسلم يجب أن يتصف بالثبات والربانية.

فمِن أبرز صفات الربانية: أن نتعبد لله في كل وقت وكل شهر، لا توقف عبادتنا على موسم دون آخر، أو وقت دون غيره، بل الديمومة والاستمرار، وعلى المسلم أن يدعو الله بالثبات على طاعة الله في كل وقت، ويكثر منه بعد رمضان، كما علمنا ربنا، فقال: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، ورسولنا صلى الله عليه وسلم كان يُكثِر من الدعاء بالثبات؛ فقد سئلت السيدة أم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينِك))، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما لأكثر دعائك: يا مُقلِّب القلوب، ثبِّتْ قلبي على دينك؟ قال: ((يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ))[1].

فالاستقامة طريق الكرامة، ودليل البشارة؛ يقول ربنا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30].

كما أنها ملخص الرسالة، ورسالة السلامة، عندما يأتي أحد الصحابة فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فيجمع له صلى الله عليه وسلم الإسلام في كلمة، هي (الاستقامة)؛ فعن سفيان بن عبدالله الثقفي، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قُلْ: آمنتُ بالله، فاستقِمْ))[2].

ولعل أهمَّ السبل التي تعين المرء على الثبات والاستقامة بعد رمضان هو أن يأتمر بأوامر الله، وينتهي بنواهيه، ويفعل ما كُلِّف به، ويجتنب ما نُهِيَ عنه؛ مصداق ذلك قولُه تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66].

كما أن التنوع في أداء التكاليف يمنع الملل، ويقطع الكلل، فخذ من رمضان صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو صم يومي الاثنين والخميس، وخذ من التراويح أن تقوم بركعتين أو بأربع، وخذ من القرآن أن تقرأ ولو جزءًا أو حزبًا في اليوم، فالمراد أن تكون على صلة وديمة بالعبادة.

لماذا نسأل الله الثبات؟
تخيل معي حال امرأة ظلت تغزل شهرًا من الزمن، وبعد انقضاء الشهر، تحصد ما غزلته في ثلاثين يومًا، فنقضته في لحظة، فلم تُفِدْ منه بشيء، كذا الحال لمن داوم على الصيام والقيام وتلاوة القرآن وفِعل الخيرات طيلة ثلاثين يومًا، ويأتي بعد رمضان، وكأن شيئًا لم يكن، وهذا الصنف من الناس يحذرنا منه ربنا، فيقول: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92]، ويأتي سؤال الثبات بعد رمضان لهذه الأسباب:
1. الثبات وصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم:
إن الحق سبحانه وتعالى أوصانا بالثبات على عبادته حتى الممات، فقال: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

وأوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك بالثبات والاستقامة، فقال: ((استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ))[3].

وتصف السيدة عائشة عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته لربه عز وجل، فتقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملًا أثبَتَه...))[4]؛أي: داوَمَ عليه.

2. مَن عاش على شيء مات عليه:
ليعلم كل مسلم أنَّ مَن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه، وكلما كانت البداية فيها نشاط وهمة وثبات، كانت النتيجة سارَّةً وسعيدةً، وكما قال ابن عطاء الله: من أشرقت بدايته، أشرقت نهايته.

والإنسان في هذه الدنيا يعمل ويعمل حتى يلقى الله عز وجل، فيرى نتيجة ما قدم، فالخاتمة الحسنة لا تأتي بعمل سيئ، وفي ذلك يقول ابن رجب: "فالخواتيم ميراث السوابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق،وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقةٌ بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقةٌ بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟"[5].

وكان عبدالله بن عمر إذا قرأ قول الله: ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ [سبأ: 54]، بكى، وقال: اللهم لا تحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: وما تشتهي؟! قال: أشتهي أن أقول: لا إله إلا الله.

3. العبادة لا تتوقف إلا بالموت:
إن المؤمن دائمُ العمل، ولا يتوقف عمله إلا إذا توقف أجله، فليقدم شيئًا ينفعه إذا انقطع الأجل، وتوقف العمل، ويرجى منه الأمل، سئل الإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدمٍ في الجنة.

فلا تتوقف عن العمل ما دامت فيك حياة، وتعبَّدْ لربك حتى آخر نفس، فكل عبادة تقوم بها، ستحصد خيرها؛ يقول ربنا: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].

ومِن توفيق الله للعبد: أن يوفِّقَه لعمل صالح قبل الموتِ ثم يقبضه عليه؛ عن أنسٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله))، فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: ((يوفقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت))[6].

وصية عملية:
حاول أن تُسلِّمَ على أكبر عدد من الناس، مَن تعرفهم ومن لا تعرفهم، وأن تبتسم في وجوههم..فكل شخص تبتسم له فإن لك بها صدقة عند الله، وبكل شخص تُسلِّم عليه وتصافحه تتساقط ذنوبك كما تتساقط أوراق الشجر.



[1] الترمذي (3522)، وقال: حديثٌ حسنٌ.

[2] مسلم (38).

[3] ابن ماجه (277)، ومسند أحمد (22378)، وصححه الأرناؤوط.

[4] مسلم (746).

[5] جامع العلوم والحكم، (ج1، ص173).

[6] الترمذي (2142)، وقال: حديثٌ صحيحٌ.