خطبة الحرم المكي - دعوة للصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد


الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 15 جمادي الأولى 1444ه، الموافق 9 ديسمبر 2022م، بعنوان: {دعوة للصلاح والإصلاح ومحاربة الفساد}، للشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر أهمها: فوائد تمكين المسلم الأمين، والرقابة مسؤولية الفرد والجماعة، وشمولية وظيفة الاحتساب والرقابة، والآثار المهلكة لانتشار الفساد واستشرائه، وبعض مظاهر الفساد، ومن مقاييس النزاهة وعواقبها الحسنة، والدور الفعال والمؤثر للإعلام في نشر الوعي، وجهود بلاد الحرمين الشريفين لمحاربة الفساد.
في بداية الخطبة بين الشيخ بن حميد أن المسلم الصالح حين يكون في موقعِ المسؤوليَّة فهو الحارسُ الأمينُ -بإذن الله- لمقدَّراتِ البلادِ والعبادِ، يحفظ الحقَّ، وينشُر العدلَ، ويُخلِص في العمل، ويُحافِظ على مكتسَبات الأمة، وصاحبُ المسؤوليَّة المخلِص صالحٌ في نفسه، مُصلِحٌ لغيره، يأمر بالصلاح، وينهى عن الفساد.
الرَّقابة مسؤولية يتحملها الفردُ
والإسلام قد جعَل من الرَّقابة مسؤوليةً يتحملها الفردُ، كما تتحملها الجماعةُ، وهذا هو الاحتساب في بابه الواسع؛ فالاحتساب -بسعته وشموله رقابةً ومراقبةً- يحمي -بإذن الله- الفردَ والمجتمعَ والمنشآت والدولةَ من الفساد والإفساد، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(الْح َجِّ: 41)، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}( آلِ عِمْرَانَ: 104).
الموظَّف الصالح
إن العامل الصالح، والموظَّف الصالح، والْمُواطِن الصالح بإيمانه بربه، وبوازعٍ مِنْ دِينِه يجتهد في أداء عمله، ويَحرِص على مَنْع الممارَسات الخطأ، أو يُبلِّغ عنها لِمَنْ يستطيع مَنعَها، والعامل الصالح، والموظف الصالح عندَه من الصدق في دِينه، والأمانةِ في عَمَلِه، والولاء لمجتمعه، والحرص على المصلحة العامة ما يدفَعُه إلى الإحسان، والجِدّ، وحُسن الإنتاج، وعدم الرضا بالفساد والانحراف.
الفسادُ منهجٌ منحرفٌ
ثم أكد الشيخ ابن حميد أنَّ الفساد منهجٌ منحرفٌ، متلوِّنٌ، متفلِّتٌ، مستترٌ، محاطٌ بالسرية والخوف، وهو تواطؤٌ وابتزازٌ، وتسهيلٌ لارتكاب المخالَفات الممنوعة، والممارَسات الخطأ، والفسادُ استغلالٌ مقيتٌ للإمكانات الشخصيَّة والرسميَّة والاجتماعيَّة، يستهدِف تحقيقَ منافعَ غيرِ مشروعةٍ، ومكاسبَ محرمةٍ لنفسه ولِمَنْ حولَه، إنه سوءُ استغلالٍ للسلطةِ والصلاحيَّةِ، في مخالَفة للأحكام الشرعَّية، والقِيَم الأخلاقيَّة، والأنظمة المرعيَّة.
الفساد يبدد الموارد
وبالفساد تضطرب الأولوياتُ في برامج الدول ومشاريعها، وتُبَدَّد مَوارِدُها، وتُستنزف مصادِرُها، وبالفساد تتدنَّى مستوى الخدمات العامَّة، وتتعثَّر المشاريعُ، ويسوء التنفيذُ، وتَضعُف الإنتاجيةُ، وتُهدَر مصالحُ الناس، ويَضعُف الاهتمامُ بالعمل، وقيمةِ الوقت، ويضطرب تطبيقُ الأنظمة، والفساد يؤدِّي إلى التغاضي عن المخاطِر التي تَلحَق الناسَ في مآكلهم، ومشاربهم، وسائر مرافقهم.
الفساد يُزَعزِع القيمَ الأخلاقيةَ
الفساد يُزَعزِع القيمَ الأخلاقيةَ القائمةَ على الصدقِ، والأمانةِ، والعدلِ، وتكافؤِ الفُرَصِ، وعدالةِ التوزيعِ، ويَنشُر السلبيةَ، وعدمَ الشعور بالمسؤوليَّة، كما ينشر الشعورَ بالظلم؛ ممَّا يُؤدِّي إلى حالاتٍ من الاحتقانِ، والحقدِ، والتوتُّرِ، والإحباطِ، واليأسِ من الإصلاح، والفساد يجعل المصالحَ الشخصيةَ تتحكَّم في القرارات، ويُضعِف الولاءَ الصادقَ للحقّ والأُمَّة والدولة، ويُعزِّز العصبيةَ المذمومةَ مذهبيةً أو قَبَلِيَّةً أو مناطقيةً، فهو يهدِّد الترابطَ الأخلاقيَّ، وقِيَمَ المجتمع الحميدةَ المستقرةَ.
مظاهر الفساد
وعن مظاهر الفساد قال الشيخ ابن حميد: للفسادِ مظاهرُ كثيرةٌ، ومسالكُ متنوعةٌ، مِنَ: الاختلاس، والرشوة، وسوءِ استخدام السلطةِ والصلاحيةِ، وإفشاءِ أسرار العمل، أو كتمانِ معلوماتٍ حقُّها أن تكونَ معلومةً مُعلَنةً، في الشأن الماليّ أو الوظيفيّ، والعبث والتزوير بالوثائق والمستندات والقرارات، وعدم احترام العمل وأوقات الدوام -حضورًا وانصرافًا-، وضَعْفِ الإنجاز، والتشاغلِ أثناء العمل بقراءات خارجية، أو استقبالِ مَنْ لا علاقةَ لهم بالعمل، والبحثِ عن مَنافِذَ وأعذارٍ، والتهربِ من تنفيذ الأنظمة والتعليمات والتوجيهات، وعدمِ المبالاة، والعزوفِ عن المشارَكة الفاعلة، والتساهل في استخدام المال العامّ ولو كان يسيرًا في الأثاث والأدوات المكتبيَّة، والمبالَغة في إقامة المناسَبات، والصرف عليها، وسوءِ توظيف الأموال، وإقامةِ مشاريعَ وهميةٍ، والعبثِ بالمناقَصات والمواصَفات.
محارَبة الفساد
وإذا كان ذلك كذلك فلابد من محارَبة الفساد، ومُكافَحته، والتزامِ الصلاح والإصلاح، والنزاهة والشفافيَّة، ولزوم المراقَبة؛ فذلك هو المفتاحُ القائدُ -بإذن الله- لأسباب الخير والفَلَاح، والتوفيق والصلاح، والأمن والطمأنينة، وانتشار العدالة، ومحاربةُ الفساد ليست وظيفةً لجهة معينة، أو فئة خاصة فقط، بل هي مسؤولية الجميع، ديانةً، وأمانةً، وخُلُقًا، ومسؤوليةً.
النزاهة والعدالة والصلاح
وإذا كان هذا هو الفساد بآثاره وسلبياته، فإنَّ النزاهةَ والعدالةَ والصلاحَ هي التي تحفظ هيبةَ الدولة وكرامتها، وتؤكد التلاحمَ بينَها وبينَ مواطنيها، وتغرسُ الثقةَ في الأجهزة والأنظمة، ومقاييسُ النزاهة هي: الديانة، والصدق، والعدالة، والوضوح، والشفافية، في أجواء النزاهة تكون المنافَسات النزيهة، والتنافس الشريف على تقديم الأفضل والأجود والأنسب.
ممَّا يُعِين على النزاهة ويبعد عن الفساد
وممَّا يُعِين على النزاهة ويبعد عن الفساد: تحديد مسؤوليات الموظَّف، وإصدار الأدلة الإرشاديَّة، والتوعية المنظَّمة، وتبصير الناس بحقوقهم، وتشجيعهم على المساعَدة في كشف المفسدين.
إصلاحُ أجهزة الرقابة
وممَّا يُعين على ذلك: إصلاحُ أجهزة الرقابة، وتقويتُها، ودعمُها في كفاءاتها، وتبسيطُ أساليب العمل الإداريّ، وتقويةُ الرقابة المحاسبيَّة الإداريَّة والنظاميَّة والماليَّة، وسَنُّ الأنظمةِ الصارمةِ في مواجَهة الفساد، وتطبيقُها بحزمٍ وعدالةٍ وحياديَّةٍ، والبعدُ عن المجامَلات المُضْعِفة، والعنايةُ ببرامج الإصلاح الإداريّ، ومنحُها الأولويةَ، وتوسيعُ دائرة تكافُؤِ الفُرَصِ، والمساواةُ على أساس معايير الجودة والاستحقاق؛ وفي التنزيل العزيز: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(الْق َصَصِ: 26).
غرس القيم في النفوس
ومما يعين كذلك: غرسُ قِيَم الجِدّ في العمل، وحفظُ الوقت، والتواصي بالحق، والتزام الأخلاق مِنَ الصدق والأمانة والإخلاص، وحُسْن الظنِّ بالله، وصدق التعلق به، والاعتماد عليه، والاهتمام بالمصلحة العامَّة، والشعور الحقّ بالمسؤولية، وزرع الثقة من الجميع، مع بثّ أجواء حرية الرأي، والمناقَشة، والمكاشَفة، والإبلاغ الأمين عن المفسدينَ.
دور الإعلام
ثم أكد الشيخ ابن حميد دور الإعلام فقال: للإعلامِ دورُه الفعَّال في نشر الوعي الصحيح، والمعلومات والحقائق في تثبُّت، وتحرٍّ، وحيادية، وعدم التسرع في توجيه الاتهام للأفراد أو الجهات، مع الثناء على مَنْ يستحق الثناءَ، والإشادةِ بالصالحينَ والشرفاءِ، وأصحاب الأداء الحَسَن، والإيجابيَّة في العمل وهم -ولله الحمد- كثير، والحفاظ على العلاقات الطيبة والإيجابيَّة بين زملاء العمل، والتعاون فيما بينهم، وتجنُّب تصيُّد الأخطاء وتتبُّعها، وتغليب حُسن الظن.