الدلالة والنحو


د. صلاح الدين صالح حسنين




ابتعد الدرس اللُّغَوِيُّ في القرن التاسِعَ عَشَرَ عنِ الدَّرْس المِعْيَاريّ الذي كان سائدًا في العصور الوُسْطى، وكان الطابع العامُّ للدرس اللُّغويِّ في هذا القرن هو طابعَ المُقارَنات اللُّغوية؛ لذا اهتمَّ اللُّغَوِيُّون في ذلك الوقت بالأصوات، وبالمُقارنات الصَّوْتية، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى دراسة بناء الكلمة، وبناء الجملة، ويُعْزَى الفضل إلى "بريل" أنه أدخل علم الدَّلالَةِ - التاريخ - إلى الحَقْل اللُّغوي بعدَ أن كان قاصِرًا على دراسة علوم البلاغة.

تَطَوَّرَ الدرسُ اللِّسانِيُّ في القرن العشرين على أيدي "دي سوسير"؛ فقد نادى هذا الرجل بدراسة اللُّغة من مَنْظورينِ: "منظور سينكروني"، و"منظور دياكروني" (منظور وصفي، ومنظور تاريخي)، وأَدَّى ذلك إلى ظهور المنهج البنائِيِّ في الدرس اللغوي، وهو المنهج الذي راجَ بعد ذلك في أوربا وأمريكا، ونشأت مدارسُ لُغويةٌ هنا وهناك متأثرةً بآراء "دي سوسير"، واهتم "دي سوسير" بوضْعِ حجر الأساس لدراسة اللُّغة بمستوياتها المختلفة دراسة عِلْميَّةً، بما في ذلك الدَّلالة بالطَّبع، فقد درس العَلاَمَة، وأوضح أنها تتركب من الدالِّ والمدلول: والدالُّ: هو الصورة السمعية، والمدلول: هو التصور، وأشار إلى أن القِيمة التي تكتسبها العلامة اللغوية من خلال دراسة اللغة كنظام.


وقد حَدث أَنِ اهتمَّ عدد من المدارس اللُّغوية بمسائل التركيب، وركزت على دراسته دراسةً شكليةً؛ أي: بعيدةً عن المعنى، واهتم عددٌ آخَرُ من هذه المدارس بدراسة المعاجم، وركزت على الاقتران أو المُصاحبة، ولكن لم يحدث رَبْطٌ بين النحو - والمقصود به التركيب هنا - والدَّلالة، وظَلَّتِ الأُمُور هكذا إلى أن ظهر "تشومسكي"، ونادى بوجوب مَزْج التركيب بالمعنى، ومِن ثَمَّ وصف منهجه بالنحو التفسيريِّ، ولكنه بالرغم مِنْ إشارته تلك لم يترجم هذه الإشارة إلى دراسة تطبيقية؛ ولكن الذي قدم مثل هذه الدراسة هو "كاتس"، و"فودور"، فقد رَكَّزَا على الاقتران المُعْجميّ، أو المصاحبة المعجميَّة، وأوضحا أنها السبيل لتفسير معنى الجملة، ومَزَجَا بذلك بين الدَّلالة والنحو؛ لأنهما أضافا مَنْهَجَهُما التفسيريَّ إلى قواعد "تشومسكي".


إنَّ هذه المُحَاوَلة دفعتْ باحثًا آخَرَ مُهِمًّا هو "فيلمور"؛ ليضع نموذجًا يَمزِج فيه بين المعنى والنحو، وجعل المعنى هو أساس بناء الجملة، وأنّ النحو ليس سوى وسيلة لتحويل بِنْيَة المعنى الأساسية إلى جملة سطحيَّة، وتطور هذا الاتجاه على أيدي "جروبر" و"جاكندوف"، وقد أدى هذا إلى ظهور النحو التوليديِّ، وتولى الريادة هنا "تشومسكي" فنشر نظرية العمل والربط gb 1981، وبناها على عدد من القوالب، وأوضح أنها تضم ثلاثة أبْنِيَة: البِنْيَة العميقة، والبِنْيَة س، والبِنْيَة السطحية:


تضم البِنْيَة العميقة
قواعد الأساس
والثيتا، وقواعد الأساس تهتم بالمقولات النحوية وتوزيعها، أما الثيتا: فتضم البنية الدَّلالية، التي تشمل المحمول والموضوع، أو الموضوعات الأساسية التي يتطلبها المحمول.


أما البِنية س: فتضم قواعد الإسقاط الموسع والحالة، وحرك أ.


وتضم البِنية السطحية البِنية المنطقية والبِنْيَة الصوتية.


إن هذه النظرية تعني أن "تشومسكي" اهتم بدَمْج العنصر الدَّلاليّ بالعنصر التركيبيّ، وجعلها على قَدَمِ المساواة، وبذلك حقق الدمج بين الدَّلالة والنحو.


لقد تَطَوَّرَ علم الدَّلالة بعد ذلك وأصبح غير قاصر على الدَّلالةِ المُعْجَمِيَّةِ ؛ بل تعداه إلى دَلالة الجملة؛ كما رأينا سابقًا، ثم تخطى ذلك أيضًا وأصبح يشمل التداولية، وتهتم التداولية بالتغييرات التي تطرأ على بناء الجملة وتُؤثر على معناها.


ثم تطور هذا العلم أخيرًا، وأصبح يَشمل دَلالة النص بكامله، وأوضح كيف يُشْتَقُّ معنى النصِّ من معنى جملةٍ.


والله الموفق.