ركائز البحث العلمي بين معالجة المعرفة وإنتاجها


ياسر جابر الجمَّال

أصبحت قضية البحث العلمي والكتابة والتأليف من القضايا السهلة الميسورة في ظل التقدم الكبير، وتوفر كافة سبل الحصول على المعلومات والقضايا، ولا يمكن أن تبحث أو تكتب عن قضية إلا وقد سبقك إليها آخرون، أو على الأقل توجد لها تمهيدات.
وهكذا أصبحت الكتابة والتصنيف مجرد صنعة أكثر منها نوعًا من الإبداع والقدرة المعرفية والعلمية، وإخراج جواهر العقل؛ فقد أصبحت مجموعة قواعد رياضية -إن جاز تسميتها بهذا- أو لوغاريتمات يتم حفظها وتطبيقها في كافة الأبحاث، وعلى هذ يصبح البحث كاملًا مكتملًا إذا توفرت فيه هذه الشروط.
القضية الآن ليست في كيف تكتب كتابًا أو بحثًا؛ فالكتب والأبحاث ملء السمع والبصر، ووفق الشروط الأكاديمية المطلوبة؛ لكن هل هذه الكتب تمثل إضافة؟ وهل هذه الكتب والمؤلفات تفيد في نقلة علمية ومعرفية ومن ثم بناء عقول جديدة قادرة على الإنتاج المعرفي الذي يسهم في النهوض من جديد؟
البحث العلمي الذي يمكن من خلاله وفي ضوء معطياته بناء معرفة، هو البحث الذي يستطيع أن يعبِّر عن ذاته، ويقدِّم أفكاره بكل صدق وشفافية، ويعترض كيفما يشاء، ويقبل من الأقوال ما يشاء ويترك ما يشاء.
وإلا فنحن في طريقنا لإنتاج الجهل؛ ولكن من خلال ما نسميه معرفة، إنه جهل من نوع جديد، جهل علمي، ناتج عن عدم إدراك العملية العلمية الحقيقية، وعدم الإلمام بالصورة الحقيقية للبحث العلمي والمعرفة.
البحث العلمي الذي يجعل الإنسان غير قادر على التمييز بين الصواب والخطأ، فهذا تجهيل، وليس بحثًا علميًّا، كذلك البحث الذي يجعل الإنسان مجرد مقلِّد وليس لديه القدرة على الاختيار أو القبول والرفض فهذا جهل جديد.
ليس مجرد حفظ الكتب والقدرة على القراءة فيها وضم بعضها إلى بعض يُنتج معرفة، بل هي قراءة فقط ترفع عن صاحبها قدرًا من الجهل لا أكثر ولا أقل.
القراءة الواعية والكتابة الواعية هي القراءة التي تعتمد على ركائز أساسية منها النظرة الواعية الناقدة المتفرسة للمكتوب والعابرة عبر نصوصه، ودلالاته.
إن السُّلطات التي يمارسها بعض الناس على الآخرين تحت مزاعم التوجيه والإشراف التي تصِل في بعض الأحيان إلى التكبيل أو تعطيل ملكات الإنسان، هي جريمة في حد ذاتها تجعل من الإنسان مجرد دُمية، وكذلك في الجانب الآخر التساهل واعتبار الإنسان لديه القدرة على إنتاج المعرفة دون امتلاك الآليات، هو نوع من التهريج والقشرية.
إنني وأنا أكتب هذه السطور لا يعنيني الالتزام بحرفية القضايا كما هي عليه، فهذا موجود ومكرر مئات المرات، ولكن ما أريد قوله هو فتح باب جديد أمام العقل في كيفية تلقي وإنتاج المعرفة، ومن ثم بناء معرفة جديدة قائمة على الابتكار وليس التقليد.
الكلام على البحث العلمي لا يتوقف ولا ينتهي، وإنما هو عصارة تجارب يتمكن الإنسان من خلاله من تمييز الغث من السمين، والصواب من الخطأ، وما له داعٍ وما ليس له داعٍ.
وهكذا وفي البداية فإننا نحاول الوقوف على بعض تلك القضايا في الورقات الآتية؛ منها على سبيل المثال:
– المقصود بالبحث العلمي.
– الهدف من البحث العلمي.
– آليات ووسائل البحث العلمي.
– مناهج البحث العلمي.
– أنواع الأبحاث العلمية.
وغير ذلك من القضايا التي سوف نستطرد في الحديث عنها.
نموذج تطبيقي:

مقـدمة:

الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تُعد الإسكندرية – عروس البحر المتوسط – من أكثر المدن جمالًا في العالم؛ لِما حباها الله من موقع متميز وطبيعةٍ ساحرة، وهواءٍ جميل، ما جعل الشعراء يتبارون في التغني بها والحديث عنها، و”المدائن كالناس، لكل مدينة طابعها وملامحها وقسماتها، أو قل شخصيتها التي تنفرد بها، إذ إن لكل فرد من الناس شخصيته التي تميِّزه عن غيره وتحيطه بجو خاص به، كما تتكون شخصية الفرد من عوامل الوراثة والبيئة وملابسات الحياة المختلفة، كذلك الأمر بالقياس إلى المدينة.
وكلما كانت هذه العوامل أعرق وأبعد إيغالًا وأكثر تداخلًا، كان طابع شخصيتها أكثر انفرادًا وأشد تميزًا ومن ثم نجد بين المدن – كما نرى بين الناس – مدًنا أوساطًا، تقل الفروق بينها وتكثر وجوه التشابه فيها، وأخرى بائنات بنفسها، منفردات بما خط الزمن عليها من ملامح عميقة معقدة متشابكة؛ حيث قد اجتمع لها من الأسباب والملابسات في خلال التاريخ الممتد المتطاول، ما لم يجتمع للجمهرة الكبرى؛ ولأنَّه كان لها من قوة الحياة ما استطاعت أن تصمد به لأحداث الزمن وصروف الأيام، والإسكندرية من أعرق المدن تاريخًا، وأكثرها في أحداث الزمن مشاركة، وقد كان لها من موقعها، وما أتاحه لها هذا الموقع على مرِّ القرون ما جنبها أن تنصاع في غيرها، كما جعلها من أبرز المدن شخصيةً وأقواها طابعًا، وأشدها إثارة للباحث والمتأمل والمتطلع.
لهذه الشخصية جوانبها الكثيرة ومظاهرها المختلفة؛ لكن الأدب هو ولا ريب أول مظاهرها؛ إذ كان أشدها اتصالًا بها و أقواها تعبيرًا عنها وتمثيلًا لها، وما من شيء أدل منه في حقيقة الأمر عليها، فهو ينبع من أغوارها البعيدة متغلغلًا في سائر جوانبها” (1).
ولا جناح علينا أن ندرس الشعر السكندري واتجاهاته مستقلًا بذاته عن التيار الأدبي العام في مصر؛ فمدينة الإسكندرية منذ عصور موغلة في التاريخ تكونت لها شخصية مستقلة صنعها موقعها الجغرافي المتميز بين الشرق والغرب، فهي تولي وجهها شطر أوروبا، وتمد ذراعيها إلى شرق العالم العربي وغربه، وتلقي بظلالها على قارة إفريقيا السمراء، فتتلقى من هذه المنابع جميعًا قطرات من الثقافات المتباينة المختلفة، وتمزج بينها، وتنتج لنا نتاجًا جديدًا. “
وإذا كان هذا مبررًا كافيًا لأن ندرس الشعر السكندري مستقلًا، فإن هناك مبررًا منهجيًا علميًا أيضًا يفرض علينا تفتيت البيئات الكبرى ودراستها وحدات صغيرة مستقلة، فإن ذلك أحرى أن يكون أكثر دقة، وأجدر أن يستقصي المسائل ويكشف صغيرها وكبيرها، وما نحن بمبتدعي هذا المنهج، ولكن لنا أسوة في أوروبا، فقد عرفته أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، عندما تنبه رجال الأدب إلى الألوان المختلفة التي تميِّز الآداب المحلية واللغات المحلية فدرسوها”(2).


(1) – محمد طه الحاجري: مقدمة شعراء الإسكندرية في العصور الإسلامية لعبدالعليم القباني، الدار القومية للطباعة والنشر، (د-ت)، ص3-4.
(2) – عبدالمحسن عاطف سلام: الحركة الأدبية في الإسكندرية الحديثة، مجلة كلية الآداب، ج 13/ص1.