تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 6 من 15 الأولىالأولى 123456789101112131415 الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 120 من 282

الموضوع: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

  1. #101
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (99)

    من صــ 465 الى صـ
    ـ 472

    فأجاب:
    الحمد لله رب العالمين، الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له واستعانته والتوكل عليه ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار كما قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين} {ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون} وقال تعالى:

    {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي كما أنتم عبادي ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي.
    فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة فكيف بمن دونهم؟. وقال تعالى: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}.
    فبين سبحانه أن من دعي من دون الله من جميع المخلوقات من الملائكة والبشر وغيرهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه وأنه ليس له شريك في ملكه بل هو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأنه ليس له عون يعاونه كما يكون للملك أعوان وظهراء وأن الشفعاء عنده لا يشفعون إلا لمن ارتضى فنفى بذلك وجوه الشرك. وذلك أن من يدعون من دونه إما أن يكون مالكا وإما أن لا يكون مالكا وإذا لم يكن مالكا فإما أن يكون شريكا وإما أن لا يكون شريكا وإذا لم يكن شريكا فإما أن يكون معاونا وإما أن يكون سائلا طالبا فالأقسام الأول الثلاثة وهي: الملك والشركة والمعاونة منتفية وأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه كما قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وكما قال تعالى:

    {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض} وقال تعالى: {الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} وقال تعالى:

    {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} {ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} فإذا جعل من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كافرا فكيف من اتخذ من دونهم من المشايخ وغيرهم أربابا وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى: مثل أن يطلب شفاء مريضه من الآدميين والبهائم أو وفاء دينه من غير جهة معينة أو عافية أهله وما به من بلاء الدنيا والآخرة وانتصاره على عدوه وهداية قلبه وغفران ذنبه أو دخوله الجنة أو نجاته من النار أو أن يتعلم العلم والقرآن أو أن يصلح قلبه ويحسن خلقه ويزكي نفسه وأمثال ذلك: فهذه الأمور كلها لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ - سواء كان حيا أو ميتا - اغفر ذنبي ولا انصرني على عدوي ولا اشف مريضي ولا عافني أو عاف أهلي أو دابتي وما أشبه ذلك.
    ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان فهو مشرك بربه من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنبياء والتماثيل التي يصورونها على صورهم ومن جنس دعاء النصارى للمسيح وأمه قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} الآية وقال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}.
    وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض؛ فإن " مسألة المخلوق " قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابن عباس: " {إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله} " وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه:

    أن لا يسألوا الناس شيئا فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " {يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون} " والاسترقاء طلب الرقية وهو من أنواع الدعاء ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {ما من رجل يدعو له أخوه بظهر الغيب دعوة إلا وكل الله بها ملكا كلما دعا لأخيه دعوة قال الملك: ولك مثل ذلك}.

    ومن المشروع في الدعاء دعاء غائب لغائب ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليه وطلبنا الوسيلة له وأخبر بما لنا في ذلك من الأجر إذا دعونا بذلك فقال في الحديث: " {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة}.
    ويشرع للمسلم أن يطلب الدعاء ممن هو فوقه وممن هو دونه فقد روي طلب الدعاء من الأعلى والأدنى؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودع عمر إلى العمرة وقال: " {لا تنسنا من دعائك يا أخي} لكن صلى الله عليه وآله وسلم لما أمرنا بالصلاة عليه وطلب الوسيلة له ذكر أن من صلى عليه مرة صلى الله بها عليه عشرا وأن من سأل له الوسيلة حلت له شفاعته يوم القيامة فكان طلبه منا لمنفعتنا في ذلك وفرق بين من طلب من غيره شيئا لمنفعة المطلوب منه ومن يسأل غيره لحاجته إليه فقط وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أويسا القرني وقال لعمر:
    " {إن استطعت أن يستغفر لك فافعل}وفي الصحيحين أنه كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر لعمر استغفر لي لكن في الحديث أن أبا بكر ذكر أنه حنق على عمر وثبت أن أقواما كانوا يسترقون وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرقيهم. وثبت في الصحيحين {أن الناس لما أجدبوا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم فدعا الله لهم فسقوا} وفي الصحيحين أيضا:
    أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استسقى بالعباس فدعا فقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وفي السنن {أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله. فسبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: ويحك إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك}. فأقره على قوله إنا نستشفع بك على الله وأنكر عليه نستشفع بالله عليك؛ لأن الشافع يسأل المشفوع إليه والعبد يسأل ربه ويستشفع إليه والرب تعالى لا يسأل العبد ولا يستشفع به.
    وأما " زيارة القبور المشروعة " فهو أن يسلم على الميت ويدعو له بمنزلة الصلاة على جنازته كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أصحابه إذا زارو القبور أن يقولوا: " {سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم} وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام}.
    والله تعالى يثيب الحي إذا دعا للميت المؤمن كما يثيبه إذا صلى على جنازته: ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين. فقال عز من قائل: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحي إلى الميت ولا مسألته ولا توسله به؛ بل فيها منفعة الحي للميت كالصلاة عليه والله تعالى يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه ويثيب هذا على عمله فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعو له}.
    فصل:
    وأما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات:
    إحداها: أن يسأله حاجته مثل أن يسأله أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل: فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #102
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (100)

    من صــ 473 الى صـ
    ـ 480

    وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه فهذا من أفعال المشركين والنصارى فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا:

    {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال سبحانه وتعالى: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون} وقال تعالى:
    {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} وقال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} فبين الفرق بينه وبين خلقه. فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع فيقضي حاجته: إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع فلا يفعل إلا ما شاء وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه " {لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له}.
    فبين أن الرب سبحانه يفعل ما يشاء لا يكرهه أحد على ما اختاره كما قد يكره الشافع المشفوع إليه وكما يكره السائل المسئول إذا ألح عليه وآذاه بالمسألة. فالرغبة يجب أن تكون إليه كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب} {وإلى ربك فارغب} والرهبة تكون من الله كما قال تعالى: {وإياي فارهبون} وقال تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون} وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
    وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد من الله لا يمكنني أن أدعوه إلا بهذه الواسطة ونحو ذلك من أقوال المشركين فإن الله تعالى يقول: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} وقد روي: أن الصحابة قالوا يا رسول الله: ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية.
    وفي الصحيح أنهم كانوا في سفر وكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " {يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا بل تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته} وقد أمر الله تعالى العباد كلهم بالصلاة له ومناجاته وأمر كلا منهم أن يقول:
    {إياك نعبد وإياك نستعين} وقد أخبر عن المشركين أنهم قالوا {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. ثم يقال لهذا المشرك أنت إذا دعوت هذا فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك وأقدر على عطاء سؤالك أو أرحم بك فهذا جهل وضلال وكفر وإن كنت تعلم أن الله أعلم وأقدر وأرحم فلم عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟ ألا تسمع إلى ما خرجه البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: " {كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم: إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم:
    إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به - قال - ويسمي حاجته} أمر العبد أن يقول: أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم. وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك وأعلى درجة عند الله منك فهذا حق؛ لكن كلمة حق أريد بها باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك وأعلى درجة منك فإنما معناه أن يثيبه ويعطيه أكثر مما يعطيك ليس معناه أنك إذا دعوته كان الله يقضي حاجتك أعظم مما يقضيها إذا دعوت أنت الله تعالى: فإنك إن كنت مستحقا للعقاب ورد الدعاء - مثلا لما فيه من العدوان - فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله ولا يسعى فيما يبغضه الله وإن لم يكن كذلك فالله أولى بالرحمة والقبول.
    وإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه أعظم مما يجيبه إذا دعوته. فهذا هو " القسم الثاني " وهو ألا تطلب منه الفعل ولا تدعوه ولكن تطلب أن يدعو لك. كما تقول للحي: ادع لي وكما كان الصحابة - رضوان الله عليهم - يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء فهذا مشروع في الحي كما تقدم وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا ولا اسأل لنا ربك ولم يفعل هذا أحد من الصحابة والتابعين ولا أمر به أحد من الأئمة ولا ورد فيه حديث بل الذي ثبت في الصحيح أنهم لما أجدبوا زمن عمر - رضي الله عنه - استسقى بالعباس وقال:
    اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. ولم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله لنا واستسق لنا ونحن نشكو إليك مما أصابنا ونحو ذلك. لم يفعل ذلك أحد من الصحابة قط بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان بل كانوا إذا جاءوا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون عليه فإذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر الشريف بل ينحرفون ويستقبلون القبلة ويدعون الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع. وذلك أن في " الموطأ " وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال:

    " {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} وفي السنن عنه أنه قال " {لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني} وفي الصحيح عنه أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: " {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها وعن أبويها:

    ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: " {إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك} وفي سنن أبي داود عنه قال: " {لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج}. ولهذا قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور وقالوا:
    إنه لا يجوز أن ينذر لقبر ولا للمجاورين عند القبر شيئا من الأشياء لا من درهم ولا من زيت ولا من شمع ولا من حيوان ولا غير ذلك كله نذر معصية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " {من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} واختلف العلماء: هل على الناذر كفارة يمين؟ على قولين ولهذا لم يقل أحد من أئمة السلف: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة أو فيها فضيلة ولا إن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور - قبور الأنبياء والصالحين - سواء سميت " مشاهد " أو لم تسم وقد شرع الله ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء. فقال تعالى {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} ولم يقل: المشاهد.
    وقال تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} ولم يقل في المشاهد وقال تعالى: {قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} وقال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم {صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا} وقال صلى الله عليه وآله وسلم {من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة}.
    وأما القبور فقد ورد نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذها مساجد ولعن من يفعل ذلك وقد ذكره غير واحد من الصحابة والتابعين كما ذكره البخاري في صحيحه والطبري وغيره في تفاسيرهم وذكره وثيمة وغيره في " قصص الأنبياء " في قوله تعالى {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناما؟ وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها والدعاء عندها وفيها ونحو ذلك هو أصل الشرك وعبادة الأوثان؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " {اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد}.
    واتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين - الصحابة وأهل البيت وغيرهم - أنه لا يتمسح به ولا يقبله؛ بل ليس في الدنيا من الجمادات ما يشرع تقبيلها إلا الحجر الأسود وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك.
    ولهذا لا يسن باتفاق الأئمة أن يقبل الرجل أو يستلم ركني البيت - اللذين يليان الحجر - ولا جدران البيت ولا مقام إبراهيم ولا صخرة بيت المقدس ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين. حتى تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره؛ لأنه بدعة وذكر أن مالكا لما رأى عطاء فعل ذلك لم يأخذ عنه العلم ورخص فيه أحمد وغيره؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما فعله.
    وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقبيله فكلهم كره ذلك ونهى عنه؛ وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين. وهذا ما يظهر الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرجل الصالح في حياته وبين سؤاله بعد موته وفي مغيبه؛ وذلك أنه في حياته لا يعبده أحد بحضوره فإذا كان الأنبياء - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - والصالحون أحياء لا يتركون أحدا يشرك بهم بحضورهم؛
    بل ينهونهم عن ذلك ويعاقبونهم عليه ولهذا قال المسيح عليه السلام {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد} {وقال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده} وقال: " {لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد} ولما قالت الجويرية: {وفينا رسول الله يعلم ما في غد.

    قال: دعي هذا قولي بالذي كنت تقولين}. وقال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " {ولما صفوا خلفه قياما قال: لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضهم بعضا}



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #103
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (101)

    من صــ 481 الى صـ
    ـ 488



    وَقَالَ أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك. ولما سجد له معاذ نهاه وقال: " {إنه لا يصلح السجود إلا لله ولو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها - من عظم حقه عليها} ولما أتي علي بالزنادقة الذين غلوا فيه واعتقدوا فيه الإلهية أمر بتحريقهم بالنار.
    فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه بغير حق من يريد علوا في الأرض وفسادا كفرعون ونحوه ومشايخ الضلال الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم كما أشرك بالمسيح وعزير. فهذا مما يبين الفرق بين سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالح في حياته وحضوره وبين سؤاله في مماته ومغيبه ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم؛ لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف.
    ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب كما ذكره السائل ويستغيث به عند المصائب يقول: يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضره أو جلب نفعه وهذا حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم ومعلوم أن خير الخلق وأكرمهم على الله نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الناس بقدره وحقه أصحابه: ولم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك؛ لا في مغيبه ولا بعد مماته. وهؤلاء المشركون يضمون إلى الشرك الكذب؛ فإن الكذب مقرون بالشرك وقد قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} {حنفاء لله غير مشركين به} وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم {عدلت شهادة الزور الإشراك بالله. مرتين أو ثلاثا} وقال تعالى: {إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين} وقال الخليل عليه السلام {أئفكا آلهة دون الله تريدون} {فما ظنكم برب العالمين}. فمن كذبهم أن أحدهم يقول عن شيخه إن المريد إذا كان بالمغرب وشيخه بالمشرق وانكشف غطاؤه رده عليه وإن الشيخ إن لم يكن كذلك لم يكن شيخا. وقد تغويهم الشياطين كما تغوي عباد الأصنام كما كان يجري في العرب في أصنامهم ولعباد الكواكب وطلاسمها: من الشرك والسحر كما يجري للتتار والهند والسودان وغيرهم من أصناف المشركين: من إغواء الشياطين ومخاطبتهم ونحو ذلك
    فكثير من هؤلاء قد يجري له نوع من ذلك لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين قد تنزل عليهم وقد يصيب أحدهم كما يصيب المصروع: من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر ويكلمه بما لا يعقل هو والحاضرون وأمثال ذلك مما يمكن وقوعه في هؤلاء الضالين.
    وأما القسم الثالث وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك: افعل بي كذا وكذا. فهذا يفعله كثير من الناس؛ لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء ولم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه؛ إلا ما رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد بن عبد السلام. فإنه أفتى: أنه لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك؛ إلا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - إن صح الحديث في النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ومعنى الاستفتاء: قد روى النسائي والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: " {اللهم: إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة.
    يا محمد: يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي. اللهم: فشفعه في} فإن هذا الحديث قد استدل به طائفة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. قالوا: وليس في التوسل دعاء المخلوقين ولا استغاثة بالمخلوق وإنما هو دعاء واستغاثة بالله؛ لكن فيه سؤال بجاهه كما في سنن ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر في دعاء الخارج للصلاة أن يقول: " {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة.
    خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت}. قالوا ففي هذا الحديث أنه سأل بحق السائلين عليه وبحق ممشاه إلى الصلاة والله تعالى قد جعل على نفسه حقا قال الله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} ونحو قوله: {كان على ربك وعدا مسئولا} وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " {يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال الله ورسوله أعلم قال. حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} وقد جاء في غير حديث: " {كان حقا على الله كذا وكذا} كقوله: " {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال - قيل: وما طينة الخبال؟ قال:{عصارة أهل النار}.
    وقالت طائفة ليس في هذا جواز التوسل به بعد مماته وفي مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل في حياته بحضوره كما في صحيح البخاري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون. وقد بين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
    وذلك التوسل به أنهم كانوا يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم ويدعون معه ويتوسلون بشفاعته ودعائه كما في الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - {أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان بجوار دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل. فادع الله لنا أن يمسكها عنا قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال: اللهم: حوالينا ولا علينا. اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر قال: وأقلعت فخرجنا نمشي في الشمس} ففي هذا الحديث أنه قال: ادع الله لنا أن يمسكها عنا.
    وفي الصحيح أن عبد الله بن عمر قال: إني لأذكر قول أبي طالب في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:
    وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
    فهذا كان توسلهم به في الاستسقاء ونحوه. ولما مات توسلوا بالعباس رضي الله عنه كما كانوا يتوسلون به ويستسقون. وما كانوا يستسقون به بعد موته ولا في مغيبه ولا عند قبره ولا عند قبر غيره وكذلك معاوية بن أبي سفيان استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك إلى الله فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا.
    فلذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والخير فإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل والاستسقاء بالنبي والصالح بعد موته ولا في مغيبه ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار ولا غير ذلك من الأدعية. والدعاء مخ العبادة. والعبادة مبناها على السنة والاتباع لا على الأهواء والابتداع وإنما يعبد الله بما شرع لا يعبد بالأهواء والبدع قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين}
    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الدعاء والطهور.
    (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

    جماع معنى الاعتكاف والاحتباس والوقوف والمقام.
    يقال: عكف على الشيء يعكف ويعكف عكوفا, وربما قيل: عكفا: إذا أقبل عليه مواظبا. ومنه قوله تعالى: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: آية 138]. وقوله سبحانه حكاية عن إبراهيم عليه السلام {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} [الأنبياء: 52] وقوله أيضا: {قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين} [الشعراء: 71].
    فعداه باللام؛ لأن المعنى: أنتم لها عابدون ولها قانتون.

    777 - ومر علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟!
    ويقال: فلان عاكف على فرج حرام
    وعكف حول الشيء: استداروا.
    وقال الطرماح:
    فبات بنات اليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #104
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الثالث
    الحلقة (102)

    من صــ 489 الى صـ
    ـ 496





    ثم صار هذا في لسان الشرع عند الإطلاق مختصا بالعكوف لله وعليه في بيته:
    كما قال تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187].
    وقال تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
    وقال في موضع آخر: {للطائفين والقائمين} [الحج: آية 26].
    ولم يذكر العكوف لمن, وعلى من؛ لأن عكوف المؤمن لا يكون إلا لله.
    ويستعمل متعديا أيضا, فيقال: عكفه يعكفه ويعكفه عكفا: إذا حبسه ووقفه؛ كما قال تعالى: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: آية 25] , ويقال: ما عكفك عن كذا؟ أي: ما حبسك عنه, وعكف الجوهر في النظم.
    والتاء في الاعتكاف تفيد ضربا من المعالجة والمزاولة؛ لأن فيه كلفة؛ كما يقال: لست وألست, وعمل واعتمل, وقطع واقتطع.
    وربما حسب بعضهم أنه مطاوع عكفه فاعتكف, كما يقال: انعكف عليه, وهو ضعيف.
    ولما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه؛ كما كان المشركون يعكفون على أصناهم وتماثيلهم, ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم؛ شرع الله سبحانه لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى.
    وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك؛ فلذلك كان الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه.
    ولو قيل: لعبادة الله فيه؛ كان أحسن؛ فإن الطاعة موافقة الأمر, وهذا يكون بما هو في الأصل عبادة؛ كالصلاة, وبما هو في الأصل غير عبادة, وإنما يصير عبادة بالنية؛ كالمباحات كلها؛ بخلاف العبادة؛ فإنها التذلل للإله سبحانه وتعالى.
    وأيضا؛ فإن ما لم يؤمر به من العبادات, بل رغب فيه: هو عبادة, وإن لم يكن طاعة؛ لعدم الأمر.
    ويسمى أيضا الجوار والمجاورة.
    778 - قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد, فأرجله وأنا حائض». رواه البخاري.
    لأنه قد جاور الله سبحانه بلزوم بيته ومكانا واحدا لعبادته:
    779 - كما في الحديث: يقول الله تعالى: أنا جليس من ذكرني».
    ويسمى المقام بمكة مجاورة؛ لأنه مجاور بيت الله؛ كما يجاور الرجل بيت الرجل.
    مسألة:
    وهو سنة لا يجب إلا بالنذر.
    في هذا فصلان:

    أحدهما: أن الاعتكاف سنة وقربة بالكتاب والسنة والاجماع: أما الكتاب:
    فقوله تعالى: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة: آية 125].
    وقوله في الآية الأخرى: {والقائمين} [الحج: آية 26].
    وقوله سبحانه: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: آية 178].
    وأما السنة:
    780 - فروى ابن عمر؛ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان».
    781 - وعن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى, ثم اعتكف أزواجه من بعده». متفق عليهما.

    782 - وقد تقدم حديث أبي سعيد: «أنه اعتكف هو وأصحابه العشر الأوسط والآخر».
    وفي رواية: «اعتكف العشر الأول أيضا».

    783 - وكان يعتكف أزواجه معه.
    وفاته الاعتكاف عاما فاعتكف في العام القابل عشرين.
    وتركه مرة في رمضان فاعكتف العشر الأول من شوال.
    وهذا كله يدل على محافظته صلى الله عليه وسلم.
    وأجمع المسلمون على أنه قربة وعمل صالح.
    وأيضا؛ ففيه من القرب والمكث في بيت الله, وحبس النفس على عبادة الله, وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله, والتخلي لأنواع العبادات المحضة من التفكر وذكر الله وقراءة القرآن والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار إلى غير ذلك من أنواع القرب.
    784 - وقد روي عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: «هو يعكف الذنوب, ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها». رواه ابن ماجه.
    وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن المعتكف قد حبس الذنوب ووقفها, وامتنع منها؛ فلا تخلص إليه.
    785 - كما قال: «الصوم جنة».
    وقد تهيأ لجميع العبادات.
    فإن قيل: هذا الحديث فيه فرقد السبخي, وقد تكلم فيه, ولهذا قال أبو داوود: قلت لأحمد: تعرف في فضل الاعتكاف شيئا؟ قال: لا؛ إلا شيئا ضعيفا. وكذلك تقل أبو طالب.
    قيل: فرقد السبخي رجل صالح, قد كتب الناس أحاديثه, وأحاديث الترغيب والترهيب يتسامح في أسانيدها؛ كما قال أحمد: إذا جاء الترغيب والترهيب؛ سهلنا, إذا جاء الحلال والحرام؛ شددنا.
    وقول أحمد: «إلا شيئا ضعيفا»: إشارة إلى أن إسناده ليس قويا, وهذا القدر قدر لا يمنع الاحتجاج به في الأحكام؛ فكيف في الفضائل.
    786 - وقد روى إسحاق بن راهوية, عن أبي الدرداء؛ قال: «من اعتكف ليلة؛ كان له كأجر عمرة, ومن اعتكف ليلتين؛ كان له كأجر عمرتين. . .» ثم ذكر على قدر ذلك.

    الفصل الثاني: أنه ليس بواجب في الشرع, بل يجب بالنذر, وهذا إجماع.

    قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا؛ إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا, فيجب عليه.
    وهذا لأن الله لم يوجبه ولا رسوله, وكان أكثر الناس لا يعتكفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأمرهم به.
    787 - بل قال لهم لما اعتكف العشر الأوسط: «إني أتيت, فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف؛ فليعتكف».
    وترك الاعتكاف مرة, وهو مقيم, ثم قضاه في شوال.
    وأما وجوبه بالنذر:
    788 - فلما روت عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع
    الله؛ فليطعمه, ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصيه».
    789 - وعن عمر: أنه قال: يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: - «أوف بنذرك». متفق عليهما.
    (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    قال الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم وخص الحج بالذكر تمييزا له؛ ولأن الحج تشهده الملائكة وغيرهم ولأنه يكون في آخر شهور الحول. فيكون علما على الحول كما أن الهلال علم على الشهر ولهذا يسمون الحول حجة فيقولون: له سبعون حجة وأقمنا خمس حجج. فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع ابتداء. أو سببا من العبادة. وللأحكام التي تثبت بشروط العبد. فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له وهذا يدخل فيه الصيام والحج ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة. وهذه الخمسة في القرآن.
    قال الله تعالى: {شهر رمضان} وقال تعالى: {الحج أشهر معلومات} وقال تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} وقال تعالى: {فصيام شهرين متتابعين} وكذلك قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر}. وكذلك صوم النذر وغيره.
    وكذلك الشروط من الأعمال المتعلقة بالثمن ودين السلم والزكاة والجزية والعقل والخيار والأيمان وأجل الصداق ونجوم الكتابة والصلح عن القصاص وسائر ما يؤجل من دين وعقد وغيرهما. وقال تعالى: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وقال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق} فقوله: {لتعلموا} متعلق والله أعلم بقوله: {وقدره} لا بجعل. لأن كون هذا ضياء.
    وهذا نورا لا تأثير له في معرفة عدد السنين والحساب؛ وإنما يؤثر في ذلك انتقالها من برج إلى برج. ولأن الشمس لم يعلق لنا بها حساب شهر ولا سنة وإنما علق ذلك بالهلال. كما دلت عليه تلك الآية ولأنه قد قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} فأخبر أن الشهور معدودة اثنا عشر والشهر هلالي بالاضطرار.
    فعلم أن كل واحد منها معروف بالهلال. وقد بلغني أن الشرائع قبلنا أيضا إنما علقت الأحكام بالأهلة وإنما بدل من بدل من أتباعهم كما يفعله اليهود في اجتماع القرصين وفي جعل بعض أعيادها بحساب السنة الشمسية وكما تفعله النصارى في صومها حيث تراعي الاجتماع القريب من أول السنة الشمسية وتجعل سائر أعيادها دائرة على السنة الشمسية بحسب الحوادث التي كانت للمسيح وكما يفعله الصابئة والمجوس وغيرهم من المشركين في اصطلاحات لهم فإن منهم من يعتبر بالسنة الشمسية فقط ولهم اصطلاحات في عدد شهورها؛

    لأنها وإن كانت طبيعية فشهرها عددي وضعي. ومنهم من يعتبر القمرية لكن يعتبر اجتماع القرصين وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها من الاضطراب.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  5. #105
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (103)

    من صــ 497 الى صـ
    ـ 4





    وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار. ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار ولهذا سموه هلالا؛ لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان: إما سمعا وإما بصرا كما يقال: أهل بالعمرة وأهل بالذبيحة لغير الله إذا رفع صوته ويقال لوقع المطر الهلل. ويقال: استهل الجنين إذا خرج صارخا. ويقال: تهلل وجهه إذا استنار وأضاء.
    وقيل: إن أصله رفع الصوت.
    ثم لما كانوا يرفعون أصواتهم عند رؤيته سموه هلالا ومنه قوله: يهل بالفرقد ركبانها كما يهل الراكب المعتمر وتهلل الوجه مأخوذ من استنارة الهلال. فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس ولا يشرك الهلال في ذلك شيء فإن اجتماع الشمس والقمر الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال: أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس مع تعب وتضييع زمان كثير واشتغال عما يعني الناس وما لا بد له منه وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.
    ثم قال - رحمه الله تعالى -:
    وأما الحول فلم يكن له حد ظاهر في السماء فكان لا بد فيه من الحساب والعدد فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس وتكون السنة مطابقة للشهور؛ ولأن السنين إذا اجتمعت فلا بد من عددها في عادة جميع الأمم؛ إذ ليس للسنين إذا تعددت حد سماوي يعرف به عددها فكان عدد الشهور موافقا لعدد البروج جعلت السنة اثني عشر شهرا بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية. وبهذا كله يتبين معنى قوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل.
    وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال وكذلك قوله تعالى {قل هي مواقيت للناس والحج}. فظهر بما ذكرناه أنه بالهلال يكون توقيت الشهر والسنة وأنه ليس شيء يقوم مقام الهلال ألبتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. ومن عرف ما دخل على أهل الكتابين والصابئين والمجوس وغيرهم في أعيادهم وعباداتهم وتواريخهم وغير ذلك من أمورهم من الاضطراب والحرج وغير ذلك من المفاسد:
    ازداد شكره على نعمة الإسلام مع اتفاقهم أن الأنبياء لم يشرعوا شيئا من ذلك وإنما دخل عليهم ذلك من جهة المتفلسفة الصابئة الذين أدخلوا في ملتهم وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله. فلهذا ذكرنا ما ذكرناه حفظا لهذا الدين عن إدخال المفسدين فإن هذا مما يخاف تغييره فإنه قد كانت العرب في جاهليتها قد غيرت ملة إبراهيم بالنسيء الذي ابتدعته فزادت به في السنة شهرا جعلتها كبيسا؛ لأغراض لهم.
    وغيروا به ميقات الحج والأشهر الحرم حتى كانوا يحجون تارة في المحرم وتارة في صفر. حتى يعود الحج إلى ذي الحجة حتى بعث الله المقيم لملة إبراهيم فوافى حجه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد استدار الزمان كما كان ووقعت حجته في ذي الحجة فقال في خطبته المشهورة في الصحيحين وغيرهما:

    {إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض: السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان} وكان قبل ذلك الحج لا يقع في ذي الحجة حتى حجة أبي بكر سنة تسع كان في ذي القعدة. وهذا من أسباب تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج. وأنزل الله تعالى: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}.

    فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيما؛ لما يدخله من الانحراف والاضطراب. ونظير الشهر والسنة اليوم والأسبوع. فإن اليوم طبيعي من طلوع الشمس إلى غروبها.
    وأما الأسبوع فهو عددي من أجل الأيام الستة: التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم استوى على العرش. فوقع التعديل بين الشمس والقمر: باليوم والأسبوع بسير الشمس.
    والشهر والسنة: بسير القمر وبهما يتم الحساب. وبهذا قد يتوجه قوله: {لتعلموا} إلى {جعل} فيكون جعل الشمس والقمر لهذا كله. فأما قوله تعالى {وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} وقوله: {الشمس والقمر بحسبان} فقد قيل: هو من الحساب. وقيل: بحسبان كحسبان الرحا. وهو دوران الفلك. فإن هذا مما لا خلاف فيه بل قد دل الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على مثل ما عليه أهل المعرفة من أهل الحساب من أن الأفلاك مستديرة لا مسطحة.
    فصل:
    لما ظهر بما ذكرناه عود المواقيت إلى الأهلة. وجب أن يكون المواقيت كلها معلقة بها. فلا خلاف بين المسلمين أنه إذا كان مبدأ الحكم في الهلال حسبت الشهور كلها هلالية: مثل أن يصوم للكفارة في هلال المحرم أو يتوفى زوج المرأة في هلال المحرم أو يولي من امرأته في هلال المحرم أو يبيعه في هلال المحرم إلى شهرين أو ثلاثة. فإن جميع الشهور تحسب بالأهلة. وإن كان بعضها أو جميعها ناقصا.
    فأما إن وقع مبدأ الحكم في أثناء الشهر. فقد قيل: تحسب الشهور كلها بالعدد بحيث لو باعه إلى سنة في أثناء المحرم عد ثلاثمائة وستين يوما وإن كان إلى ستة أشهر عد مائة وثمانين يوما فإذا كان المبتدأ منتصف المحرم كان المنتهى العشرين من المحرم. وقيل: بل يكمل الشهر بالعدد والباقي بالأهلة. وهذان القولان روايتان عن أحمد وغيره. وبعض الفقهاء يفرق في بعض الأحكام.

    (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    قال: وقوله: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} قال: والقصاص ليس بعدوان؟ فيقال: العدوان مجاوزة الحد لكن إن كان بطريق الظلم كان محرما وإن كان بطريق القصاص كان عدلا مباحا فلفظ العدوان في مثل هذا هو تعدي الحد الفاصل لكن لما اعتدى صاحبه جاز الاعتداء عليه والاعتداء الأول ظلم والثاني مباح ولفظ عدل مباح. ولفظ الاعتداء هنا مقيد بما يبين أنه اعتداء على وجه القصاص بخلاف العدوان ابتداء فإنه ظلم فإذا لم يقيد بالجزاء فهم منه الابتداء: إذ الأصل عدم ما يقابله.
    (فصل)
    وقال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    " وجماع الأمر " أن الذنوب كلها ظلم: فإما ظلم العبد لنفسه فقط أو ظلمه مع ذلك لغيره؛ فما كان من ظلم الغير فلا بد أن يشرع من عقوبته ما يدفع به ظلم الظالم عن الدين والدنيا كما قال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} فجعل السبب المبيح لعقوبة الغير التي هي قتاله: {بأنهم ظلموا}.

    وقال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} فبين أن الظالم يعتدى عليه: أي بتجاوز. الحد المطلق في حقه؛ وهو العقوبة وهذا عدوان جائز كما قال: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.

    وقول بعضهم: إن هذا ليس بعدوان في الحقيقة وإنما سماه عدوانا على سبيل المقابلة كما قالوا مثل ذلك في قوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. لا يحتاج إليه؛ فإن العدوان المطلق هو مجاوزة الحد المطلق وهذا لا يجوز في حقه إلا إذا اعتدى فيتجاوز الحد في حقه بقدر تجاوزه.
    (وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ... (196)
    جماع معنى الحج في أصل اللغة: قصد الشيء وإتيانه، ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه، ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة، وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ".
    وقول في حاجة الله، وحاجة رسوله.
    ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى: ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة: الحج القصد، ويقول بعضهم: هو القصد إلى من يعظم، ويقول بعضهم: كثرة القصد إلى من يعظمه. ورجل محجوج، ومكان محجوج، أي مقصود مأتي. ومنه قوله:
    وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السكيت: يقول يكثرون الاختلاف إليه.
    وقوله:
    قالت تغيرتم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج
    ثم غلب في الاستعمال الشرعي، والعرفي على حج بيت الله - سبحانه وتعالى - وإتيانه. فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] وقال سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} [البقرة: 196] وقد بين المحجوج في قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] وقوله تعالى: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [البقرة: 158] فإن اللام في قوله {البيت} [البقرة: 158] لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الآخر.

    وفيه لغتان قد قرئ بهما. الحج، والحج، والحجة بفتح الحاء وكسرها. ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة، والطواف بالبيت، وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت، فإذا أطلق الاسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة ; إما في الحج الأكبر، أو الأصغر.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  6. #106
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (104)

    من صــ 5 الى صـ
    ـ 12





    سئل شيخ الإسلام - رحمه الله ورضي عنه -:
    عن العمرة هل هي واجبة؟ وإن كان فما الدليل عليه؟
    فأجاب:
    فصل:
    والعمرة في وجوبها قولان للعلماء هما قولان في مذهب الشافعي وأحمد والمشهور عنهما وجوبها. والقول الآخر لا تجب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وهذا القول أرجح فإن الله إنما أوجب الحج بقوله: {ولله على الناس حج البيت} لم يوجب العمرة وإنما أوجب إتمامهما. فأوجب إتمامهما لمن شرع فيهما وفي الابتداء إنما أوجب الحج. وهكذا سائر الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا إيجاب الحج ولأن العمرة ليس فيها جنس غير ما في الحج فإنها إحرام وإحلال وطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وهذا كله داخل في الحج.

    وإذا كان كذلك فأفعال الحج لم يفرض الله منها شيئا مرتين فلم يفرض وقتين ولا طوافين ولا سعيين ولا فرض الحج مرتين. وطواف الوداع ليس بركن بل هو واجب وليس هو من تمام الحج ولكن كل من خرج من مكة عليه أن يودع.

    ولهذا من أقام بمكة لا يودع على الصحيح فوجوبه ليكون آخر عهد الخارج بالبيت كما وجب الدخول بالإحرام في أحد قولي العلماء لسبب عارض لا كون ذلك واجبا بالإسلام كوجوب الحج. ولأن الصحابة المقيمين بمكة لم يكونوا يعتمرون بمكة. لا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه بل لم يعتمر أحد عمرة بمكة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها لسبب عارض. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
    وقال - رحمه الله تعالى -:
    والأظهر أن العمرة ليست واجبة وأن من حج ولم يعتمر فلا شيء عليه سواء ترك العمرة عامدا أو ناسيا؛ لأن الله إنما فرض في كتابه حج البيت بقوله: {ولله على الناس حج البيت}. ولفظ الحج في القرآن لا يتناول العمرة بل هو سبحانه إذا أراد العمرة ذكرها مع الحج كقوله: {وأتموا الحج والعمرة لله} وقوله: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فلما أمر بالإتمام أمر بإتمام الحج والعمرة وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست باتفاق الناس.
    وآية آل عمران نزلت بعد ذلك سنة تسع أو عشر، وفيها فرض الحج. ولهذا كان أصح القولين أن فرض الحج كان متأخرا. ومن قال: إنه فرض سنة ست فإنه احتج بآية الإتمام وهو غلط فإن الآية إنما أمر فيها بإتمامهما لمن شرع فيهما لم يأمر فيها بابتداء الحج والعمرة. والنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة الحديبية قبل أن تنزل هذه الآية ولم يكن فرض عليه لا حج ولا عمرة ثم لما صده المشركون أنزل الله هذه الآية. فأمر فيها بإتمام الحج والعمرة وبين حكم المحصر الذي تعذر عليه الإتمام. ولهذا اتفق الأئمة على أن الحج والعمرة يلزمان بالمشروع فيجب إتمامهما. وتنازعوا في الصيام والصلاة والاعتكاف.
    وأيضا فإن العمرة ليس فيها جنس من العمل غير جنس الحج فإنها إحرام وطواف وسعي وإحلال وهذا كله موجود في الحج.
    والحج إنما فرضه الله مرة واحدة لم يفرضه مرتين ولا فرض شيئا من فرائضه مرتين لم يفرض فيه وقوفين ولا طوافين؛ بل الفرض طواف الإفاضة وأما طواف الوداع فليس من الحج وإنما هو لمن أراد الخروج من مكة ولهذا لا يطوف من أقام بمكة وليس فرضا على كل أحد بل يسقط عن الحائض ولو لم يفعله لأجزأه دم ولم يبطل الحج بتركه بخلاف طواف الفرض والوقوف. وكذلك السعي لا يجب إلا مرة واحدة والرمي يوم النحر لا يجب إلا مرة واحدة ورمي كل جمرة في كل يوم لا يجب إلا مرة واحدة وكذلك الحلق والتقصير لا يجب إلا مرة واحدة. فإذا كانت العمرة ليس فيها عمل غير أعمال الحج وأعمال الحج إنما فرضها الله مرة لا مرتين علم أن الله لم يفرض العمرة.
    والحديث المأثور في {أن العمرة هي الحج الأصغر} قد احتج به بعض من أوجب العمرة وهو إنما يدل على أنها لا تجب؛ لأن هذا الحديث دال على حجين: أكبر وأصغر. كما دل على ذلك القرآن في قوله: {يوم الحج الأكبر} وإذا كان كذلك فلو أوجبناها لأوجبنا حجين: أكبر وأصغر.
    والله تعالى لم يفرض حجين وإنما أوجب حجا واحدا والحج المطلق إنما هو الحج الأكبر وهو الذي فرضه الله على عباده وجعل له وقتا معلوما لا يكون في غيره كما قال {يوم الحج الأكبر} بخلاف العمرة فإنها لا تختص بوقت بعينه بل تفعل في سائر شهور العام. ولأن العمرة مع الحج كالوضوء مع الغسل والمغتسل للجنابة يكفيه الغسل ولا يجب عليه الوضوء عند جمهور العلماء.

    فكذلك الحج؛ فإنهما عبادتان من جنس واحد: صغرى وكبرى. فإذا فعل الكبرى لم يجب عليه فعل الصغرى ولكن فعل الصغرى أفضل وأكمل كما أن الوضوء مع الغسل أفضل وأكمل. وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لكنه أمرهم بأمر التمتع وقال: {دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة} كما قد بسط في موضع آخر. والله أعلم.

    وسئل رحمه الله:
    ماذا يقول أهل العلم في رجل ... آتاه ذو العرش مالا حج واعتمرا
    فهزه الشوق نحو المصطفى طربا ... أترون الحج أفضل أم إيثاره الفقرا
    أم حجة عن أبيه ذاك أفضل أم ... ماذا الذي يا سادتي ظهرا
    فأفتوا محبا لكم فديتكمو ... وذكركم دأبه إن غاب أو حضرا
    فأجاب رضي الله عنه:
    نقول فيه بأن الحج أفضل من ... فعل التصدق والإعطاء للفقرا
    والحج عن والديه فيه برهما ... والأم أسبق في البر الذي ذكرا
    لكن إذا الفرض خص الأب كان إذا ... هو المقدم فيما يمنع الضررا
    كما إذا كان محتاجا إلى صلة ... وأمه قد كفاها من برا البشرا
    هذا جوابك يا هذا موازنة ... وليس مفتيك معدودا من الشعرا.
    [مسألة الإحصار]
    مسألة: (والمحصر يلزمه دم، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام).

    وجملة ذلك: أن المحرم بالحج إذا صده عدو عن البيت، ولم يكن له طريق آخر يذهب فيه، أو صد عن دخول الحرم: فإنه يجوز له التحلل ويرجع لقوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والتحلل لا يكون إلا بنية الإحلال والخروج من الإحرام. فلو حلق، أو ذبح، أو فعل شيئا من المحظورات غير ناو للتحلل: لم يصر حلالا، بخلاف ما لو فعل ذلك بعد إتمام النسك؛ لأنه إذا تم نسكه صار حلالا بالشرع حتى لو نوى دوام الإحرام لم يصح، كالصيام إذا غربت الشمس؛ والمصلي إذا سلم.
    وإذا لم يتم: فهو مخير بين الإتمام والإحلال كالمريض الصائم والمصلي الذي يجوز له قطع الصلاة. لا يخرج من العبادة إلا بما ينافيها من النية ونحوها، لكن المحرم لا يفسد إحرامه إلا بالوطء ولا بد من .. . .
    وليس له أن يتحلل حتى ينحر هديا إن أمكنه؛ لأن الله يقول: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] فأمر بإتمام الحج والعمرة وجعل ما استيسر من الهدي في حق المحصر قائما مقام الإتمام.
    وهذا يدل على وجوب الهدي من وجوه؛ أحدها: أن التقدير: فإن أحصرتم فعليكم ما استيسر من الهدي، أو ففرضكم ما استيسر فهو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف، ترك ذكر المحذوف لدلالة سياق الكلام عليه، كما قال:

    {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196]، وكما قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 185].


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  7. #107
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (105)

    من صــ 13 الى صـ
    ـ 20



    الثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِتْمَامِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ قَائِمًا مَقَامَ الْإِتْمَامِ. وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ فَمَا قَامَ مَقَامَهُ يَكُونُ وَاجِبًا؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَنْحَرَ الهدي؛ لأنه بدل عن تمام النسك. ولا يجوز له التحلل حتى يتم النسك.
    الثالث: أن قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] كقوله: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، وذلك أن الإحصار المطلق هو الذي يتعذر معه الوصول إلى البيت، وهذا يوجب الهدي لا محالة.
    الرابع: أنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] وهذا عام .. . فإن أراد التحلل قبل النحر: لم يكن له ذلك. حتى لو رفض إحرامه وفعل شيئا من المحظورات فهو باق على إحرامه.
    قال أصحابنا: فإن تحلل قبل الهدي فعليه دم لأجل إحلاله.
    وقال أبو الخطاب: وإن نوى التحلل قبل الهدي والصيام ورفض الإحرام: لزمه دم وهو على إحرامه. ومعناه: إذا كان الرفض بالحلق ونحوه. فأما إن تعددت المحظورات .. . .
    وإذا نحر الهدي: صار حلالا بمجرد ذلك مع نية الإحلال في إحدى الروايتين اختارها القاضي. وهذا ينبني على أن الحلاق ليس بواجب على المحرم المتم. فعلى المحصر أولى، وينبني أيضا على أن الحلق .. . .
    قال القاضي: فعلى هذا يحل من إحرامه بأدنى ما يحظره الإحرام من طيب، أو غيره، والأشبه: أنه لا يحتاج إلى ذلك بل بنفس الذبح.
    والرواية الثانية: عليه أن يحلق رأسه؛ لأن الحلاق واجب، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حلقوا رءوسهم في عمرة الحديبية.
    فصل
    وينحر الهدي في موضع حصره حيث كان من حل، أو حرم، هذا هو المنصوص عن - في مواضع - وعليه أكثر أصحابه.
    وقال أبو بكر: إن أمكنه أن يبعث بالهدي حتى ينحر بمكة في الموضع بعث به، وإلا حل يوم النحر.
    قال ابن أبي موسى: قال بعض أصحابنا: لا ينحر هدي الإحصار إلا بالحرم.
    لقوله {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33]؛ لأن الله قال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، ثم قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] والهدي المطلق: إنما هو ما أهدي إلى الحرم بخلاف النسك، ثم إنه قال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196]. وهدي المحصر داخل في هذا، لا سيما وقد تقدم ذكره.
    ومحل الهدي: الحرم لقوله سبحانه: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33].
    ولأنه لو كان محله موضع الحصر لكان قد بلغ محله، ومن قال هذا زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر بالحرم، وأن طرف الحديبية من الحرم.

    ووجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما صدهم المشركون عن العمرة زمن الحديبية: نحروا وحلقوا بالحديبية عند الشجرة وهي من الحل.

    ولأن الحل: موضع للتحلل في حق المحصر، فيكون موضعا للنحر كالحرم، وهذا لأن محل شعائر الله إلى البيت العتيق من الأعمال والهدي، فمتى طاف المحرم بالبيت: فقد شرع في التحلل، ومتى وصلت الهدايا إلى الحرم: فقد بلغت محلها. وهذا عند القدرة والاختيار.
    فأما في موضع العجز: فقد جوز الله للمحصر أن يحل من إحرامه بالحل، وصار محلا له فكذلك يصير محلا لهديه، ولا يقال: الهدي قد يمكن إرسالها .. . .
    وأما قوله: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} [البقرة: 196] فإن محله المكان الذي يحل فيه؛ وهذا في حال الاختيار هو الحرم، كما قال: {والهدي معكوفا أن يبلغ محله} [الفتح: 25]. فأما حال الاضطرار فإنه قد حل ذبحه للمحصر حيث لا يحل لغيره.
    [مسألة هدي التمتع]
    مسألة: (الضرب الثاني: على الترتيب وهو هدي التمتع يلزمه شاة، فإن لم يجد فيصام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع).
    هذا الهدي واجب بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
    وبالسنة كما تقدم عن ابن عمر، وبالإجماع.
    وفيه فصول: -
    الأول: في الهدي ويجزئ فيه ما يجزئ في الأضحية وهو بدنة، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم؛ لأن الله قال: {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] والغنم: الهدي بدليل قوله في جزاء الصيد: {هديا بالغ الكعبة} [المائدة: 95]، ولا يقال: فقد يدخل في الجزاء ما لا يدخل في مطلق الهدي من الصغير والمعيب ويسمى هديا؛ لأن ذلك إنما وجب باعتبار المماثلة المذكورة في قوله: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95] وفي آية التمتع أطلق الهدي، ولم يعتبر فيه مماثلة شيء؛ ولأن ذلك يدل على أن المعيب والصغير من الأزواج الثمانية يكون هديا، وهذا صحيح، كما أن الرقبة المعيبة تكون رقبة في العتق، لكن الواجب في مطلق الهدي والرقبة: إنما يكون صحيحا على الوجه المشروع.
    وعلم ذلك بالسنة؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم («أهدى مرة غنما») متفق عليه.
    وعن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم: («قسم بين أصحابه في متعتهم غنما، فأصاب سعدا يومئذ تيس») رواه سعيد.
    ولا يجب عليه الهدي حتى يكون واجدا له؛ إما بأن يكون مالكه، أو يجد ثمنه. فإن كان عادما بمكة واجدا ببلده بحيث يمكنه أن يقترض: لم يجب ذلك عليه نص عليه في رواية الأثرم إذا وجب عليه هدي متعة وليس معه نفقة وهو ممن لو استقرض أقرض فلا يستقرض ويهدي، قال الله: {فمن لم يجد فصيام} [البقرة: 196] وهذا ليس بواجد؛ وذلك لأنه قد وجب عليه الهدي، أو بدله في مكة فلم يجب عليه الاقتراض، كما لو عدم الماء، وهذا بخلاف عادم الرقبة في الظهار على أحد .. . .
    ولأنها عبادة مؤقتة ذات بدل، فإذا عدم المبدل حين الوجوب: جاز له الانتقال إلى بدله كالطهارة.
    فصل
    وأما صيام السبعة فيجوز تأخيره إلى أن يرجع إلى أهله، فإذا رجع إليهم فإن صامها في طريقه، أو في مكة بعد أيام منى وبعد التحلل الثاني جاز، وإن صامها قبل التحلل الثاني وبعد التحلل الأول لم يجز سواء رجع إلى وطنه، أو لم يرجع ذكره القاضي .. . .
    قال - في رواية أبي طالب -: إن قدر على الهدي وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء.
    وقال - في رواية الأثرم - وقد سأله عن صيام السبعة، يصومهن في الطريق أم في أهله؟ فقال: كل قد تأوله الناس ووسع في ذلك كله.
    والأصل في ذلك قوله تعالى: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196].
    فذهب القاضي وأصحابه وغيرهم إلى أن معنى ذلك: إذا رجعتم من الحج؛ لأنه قد قال تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج} [البقرة: 196] ثم قال: {وسبعة إذا رجعتم} [البقرة: 196] فتقدير الرجوع من الحج - الذي تقدم ذكره - أولى من تقدير الرجوع من السفر؛ لأنه لم يذكر، ولأنه لو رجع إلى أهله قبل الإحلال الثاني، لم يجز الصوم. فعلم أن الحكم مقيد بالرجوع من الحج فقط، ويصح تسميته راجعا من الحج بمعنيين:
    أحدهما: أنه قد عاد إلى حاله قبل الإحرام من الإحلال.
    والثاني: أنه يفعل في أماكن مخصوصة، فإذا قضاه ورجع عن تلك الأماكن وانتقل عنها سمي راجعا بهذا الاعتبار.
    وفيها طريقة أخرى أحسن من هذه، وهي طريقة أكثر السلف أن معنى الآية: إذا رجعتم إلى أهلكم وهي طريقة أحمد؛ لأنه قال: إذا فرط في الصوم وهو متمتع صام بعدما يرجع إلى أهله وعليه دم.
    وقال - في رواية جماعة -: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم؛ وإن شاء صام في الطريق؛ وذلك لما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر وعائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

    («لما قدم مكة، قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله»). وذكر الحديث. وهذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم -.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  8. #108
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (106)

    من صــ 21 الى صـ
    ـ 28


    فصل
    ويجوز أن يصوم كل واحد من الثلاثة والسبعة متفرقا، كما يجوز أن يصومه متتابعا نص عليه؛ لأن الله - سبحانه - أطلقه ولم يقيده بالتتابع، فيبقى على ما أطلقه الله - سبحانه -.
    (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله ... (197)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    قال: وقوله: {أشهر معلومات} والأشهر ليست هي الحج؟ فيقال: معلوم أن أوقات الحج أشهر معلومات ليس المراد أن نفس الأفعال هي الزمان ولا يفهم هذا أحد من اللفظ ولكن قد يقال: في الكلام محذوف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات ومن عادة العرب الحسنة في خطابها أنهم يحذفون من الكلام ما يكون المذكور دليلا عليه اختصارا كما أنهم يوردون الكلام بزيادة تكون مبالغة في تحقيق المعنى.
    فالأول كقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} فمعلوم أن المراد فضرب فانفلق لكن لم يحتج إلى ذكر ذلك في اللفظ إذ كان قوله: قلنا: (أن اضرب)؛ فانفلق: دليلا على أنه ضرب فانفلق. وكذلك قوله: {من آمن} تقديره بر من آمن أو صاحب من آمن. وكذلك قوله: {الحج أشهر} أي: أوقات الحج أشهر فالمعنى متفق عليه لكن الكلام في تسمية هذا مجازا وقول القائل: نفس الحج ليس بأشهر؛ إنما يتوجه لو كان هذا مدلول الكلام؛ وليس كذلك بل مدلوله عند من تكلم به أو سمعه: أن أوقات الحج أشهر معلومات.
    [مسألة أشهر الحج]
    مسألة: (وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
    هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، وقال في رواية ... .
    ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر، نص عليه في رواية حرب وأبي طالب، وذلك لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم.

    [وعن ابن الزبير في قوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم]، وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر " رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه.

    وعن الضحاك عن ابن عباس قال: " أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه الدارقطني.
    وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: " أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني، وفي لفظ: وعشر ذي الحجة، وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن، ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله، كما قد جاء في روايات أخرى.
    وعشر ذي الحجة:
    اسم لمجموع الليالي وأيامها، فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: («ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر») وقال تعالى: {وليال عشر} [الفجر: 2] ويوم النحر داخل فيها، وقال تعالى: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر} [الأعراف: 142]ويوم النحر هو آخر الأربعين، ولفظ العشر - وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء -: فإنما دخل فيه اليوم لسببين:
    أحدهما: أنهم في التاريخ إنما يؤرخون بالليالي؛ لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا، ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر.
    الثاني: أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - («من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال») وقوله: (من هذه الأيام العشر).
    وأيضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر.
    وأيضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه، والحج له إحرام وإحلال، فأشهره هي: الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه.
    وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال: يوم النحر، وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه، وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره.
    وأيضا: فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر، والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين.
    فإن قيل: فقد روى عروة بن الزبير قال: قال عمر بن الخطاب: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة: 197] قال عمر بن الخطاب: لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال: إني أحب أن يزار البيت، إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا ".
    وعن التميمي عن ابن عباس قال: " شوال وذو القعدة وذو الحجة " [ذكره البخاري، وعن مجاهد عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة] رواهن سعيد.

    قيل: ليس بين الروايتين اختلاف في المعنى، كما يقال: قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث، ويقال: له خمسون سنة وإن كان لم يكملها، فكثير ما يعبر بالسنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص، فمن قال: وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة، ومن قال: وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل.

    فإن قيل: فقد قال {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197].
    قلنا: الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا، لا سيما إذا كانت بالأهلة.
    وذكر القاضي: أن فائدة هذه المسألة اليمين. وليس كذلك، وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر، وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها، وأن الأفضل أن يعتمر قبلها، وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا، وقبل ذلك هو وقت الصيام، فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج.
    ومن فوائده: أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره، فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك؛ لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها، وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل.
    وذكر ابن عقيل: أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه.

    (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب (197)

    عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون يقولون: نحن المتوكلون فإذا قدموا سألوا الناس؛ فقال الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجا كان مطيعا لله في هذين الأمرين بخلاف من ترك ذلك ملتفتا إلى أزواد الحجيج كلا على الناس؛ وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين فهو ملتفت إلى الجملة لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  9. #109
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (107)

    من صــ 29 الى صـ
    ـ 36





    (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)
    سئل شيخ الإسلام:
    أيما أفضل: يوم عرفة أو الجمعة أو الفطر أو النحر؟
    فأجاب:
    الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة باتفاق العلماء. وأفضل أيام العام هو يوم النحر. وقد قال بعضهم يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر} لأنه يوم الحج الأكبر في مذهب مالك والشافعي وأحمد كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {يوم النحر هو يوم الحج الأكبر}. وفيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة ورمي جمرة العقبة وحدها والنحر والحلق وطواف الإفاضة فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنة واتفاق العلماء والله أعلم.
    وسئل: (*)
    عن يوم الجمعة ويوم النحر أيهما أفضل؟

    فأجاب:
    يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع ويوم النحر أفضل أيام العام. قال ابن القيم: وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه.
    وسئل:
    عن أفضل الأيام؟
    فأجاب:
    الحمد لله، أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها. وأفضل أيام العام: يوم النحر كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " {أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر}.

    (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)

    قالت عائشة: " «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله: " {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199]»
    " وفي لفظ: " «قالت: الحمس هم الذين أنزل الله فيهم: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم، فلما نزلت: {أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] رجعوا إلى عرفات» " متفق عليه.
    وعن جبير بن مطعم قال: " «أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس، فما شأنه هاهنا، وكانت قريش تعد من الحمس» " متفق عليه.
    وعن جابر قال: «كانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه، ويكون منزله ثم، فأجاز ولم يعرض حتى أتى عرفات فنزل» رواه مسلم.
    فإن قيل: كيف قيل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199] والإفاضة من عرفات بعد قوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} [البقرة: 198].
    قيل: قد قيل: إنه لترتيب الإخبار، ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفات أن تذكروه عند المشعر الحرام، ثم يأمركم أن تفيضوا من حيث أفاض الناس، وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيب الفعل المأمور به، وإنما أمر بهذا بعد هذا لأن الأول أمر لجميع الحجيج، والثاني: أمر للحمس خاصة، ويقال: إنه معطوف على قوله: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال} [البقرة: 197] إلى قوله: فاتقوا. . . {ثم أفيضوا} [البقرة: 199] ويكون معناه: فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسق، ثم بعد فرض الحج يفيض من حيث أفاض الناس، ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات.
    فإن قيل: لم ذكر لفظ الإفاضة دون الوقوف؟
    قيل: لأنه لو قال: ثم قفوا حيث وقف الناس لظن أن الوقوف بعرفة يجزئ في كل وقت بحيث يجوز تقديمه، وأما الإفاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف، وقد علموا أن وقت الدفع هو آخر يوم عرفة، فإذا أمروا بالإفاضة منها علم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج، فلا تتجاوز ولا يقصر عنها ; لأن المقصر والمجاوز لا يفيضان منها.
    وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء الليثي، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي: " «أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى: الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، وأردف رجلا خلفه ينادي بهن» " رواه الخمسة، قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.
    وفي رواية لسعيد: «من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».

    وفي رواية له: «فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه».
    (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)


    [مسألة الرمي]
    مسألة: (والرمي).
    لا يختلف المذهب أن الرمي واجب ; لأن الله سبحانه قال: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] إلى قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة: 198] إلى قوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول} [البقرة: 200] الآية. إلى قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون} [البقرة: 203].

    فأمر سبحانه - بعد قضاء المناسك - بذكر الله سبحانه، وأمر بذكره في أيام معدودات أمرا يختص الحاج ; لأنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم} [البقرة: 203]
    {عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} [البقرة: 203] وإنما يمكن ذلك للحاج. فعلم أنهم مأمورون بهذا الذكر بمنى، وليس بمنى ذكر ينفرد به الحج إلا ذكر الجمار، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " «إنما جعل الطواف بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» "، فعلم أن رمي الجمار شرع لإقامة ذكر الله المأمور به في قوله: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة: 203].
    وأيضا: فإنه قال: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} [البقرة: 203] فعلم أنه من تعجل قبل اليومين لا يزول عنه الإثم، وإنما ذاك لأن بمنى فعلا واجبا، ولا فعل بها إلا رمي الجمار، لأن المبيت أخف منه، وإنما وجب تبعا له.
    وأيضا: فإنه أمر بالذكر في الأيام، وجعل التعجيل فيها: فلا بد من فعل واجب في الأيام.
    وأيضا: فما روى.
    ومن رمى بحجر قد رمى به: لم يجزه ومن رمى بذهب، أو فضة: لم يجزه قولا واحدا.
    وفي غير الحصى روايتان؛ إحداهما لا يجزئه إلا الحجر، فليعد الرمي.
    والثانية: يجزئه مع الكراهة.

    (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (207)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    إذا فعل العبد ما أمره الله به فأفضى ذلك إلى قتل نفسه فهذا محسن في ذلك كالذي يحمل على الصف وحده حملا فيه منفعة للمسلمين وقد اعتقد أنه يقتل فهذا حسن. وفي مثله أنزل الله قوله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} ومثل ما كان بعض الصحابة ينغمس في العدو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى الخلال بإسناده عن عمر بن الخطاب: " أن رجلا حمل على العدو وحده فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: لا ولكنه ممن قال الله فيه: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد}.

    __________
    Q وهذا السؤال، والجواب، والتعليق، ذكره ابن القيم في (البدائع) أيضا: 3/ 162.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  10. #110
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (108)

    من صــ 37 الى صـ
    ـ 44



    [فصل البرهان الثامن " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " والجواب عليه]
    فصل قال الرافضي: " البرهان الثامن: قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [سورة البقرة: 7 - 2].
    قال الثعلبي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي طالب لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، فقال له: «يا علي، اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنه لا يخلص إليك منهم مكروه - إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك، فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله.

    إليها: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد - عليه الصلاة والسلام - فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فنزلا، فكان جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة؟ فأنزل الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}» [سورة البقرة: 207].

    وقال ابن عباس: إنما نزلت في علي لما هرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين إلى الغار، وهذه فضيلة لم تحصل لغيره تدل على أفضلية علي على جميع الصحابة، فيكون هو الإمام ".
    الجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا النقل. ومجرد نقل الثعلبي وأمثاله لذلك، بل روايتهم، ليس بحجة باتفاق طوائف [أهل] السنة والشيعة. لأن هذا مرسل متأخر، ولم يذكر إسناده، وفي نقله من هذا الجنس للإسرائيليات والإسلاميات أمور يعلم أنها باطلة، وإن كان هو لم يتعمد الكذب.
    ثانيها: أن هذا الذي نقله من هذا الوجه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسيرة، والمرجع إليهم في هذا الباب. الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر هو وأبو بكر إلى المدينة لم يكن للقوم غرض في طلب علي، وإنما كان مطلوبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر، وجعلوا في كل واحد منهما ديته لمن جاء به، كما ثبت ذلك في الصحيح الذي لا يستريب أهل العلم في صحته، وترك عليا في فراشه ليظنوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت فلا يطلبوه، فلما أصبحوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم، ولم يؤذوا عليا، بل سألوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرهم أنه لا علم له به، ولم يكن هناك خوف على علي من أحد، وإنما كان الخوف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، ولو كان لهم في علي غرض لتعرضوا له لما وجدوه، فلما لم يتعرضوا له دل على أنهم لا غرض لهم فيه، فأي فداء هنا بالنفس؟.

    والذي كان يفديه بنفسه بلا ريب، ويقصد أن يدفع بنفسه عنه، ويكون الضرر به دونه ; هو أبو بكر. كان يذكر الطلبة فيكون خلفه، ويذكر الرصد فيكون أمامه، وكان يذهب فيكشف له الخبر. وإذا [كان] هناك ما يخاف أحب أن يكون به لا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.

    وغير واحد من الصحابة قد فداه بنفسه في مواطن الحروب، فمنهم من قتل بين يديه، ومنهم من شلت يده، كطلحة بن عبد الله. وهذا واجب على المؤمنين كلهم. فلو قدر أنه كان هناك فداء بالنفس لكان هذا من الفضائل المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، فكيف إذا لم يكن هناك خوف على علي؟.

    قال: ابن إسحاق في " السيرة " - مع أنه من المتولين لعلي المائلين إليه - وذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله، واستخلاف علي على فراشه ليلة مكر الكفار به، قال: " «فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -
    فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

    قال: فلما كانت عتمة الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى، ينام، فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامهم قال لعلي: نم على فراشي واتشح ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
    وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لما اجتمعوا له، وفيهم: أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم [من] بعد موتكم، فجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
    قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم، فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم. وأخذ الله على أبصارهم عنه، فلا يرونه. . . ولم يبق منهم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا.
    قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش مسجى ببرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه بردة.
    فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا وكان مما أنزل الله [من القرآن] ذلك اليوم: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [سورة الأنفال: 30]وقوله: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} الآية [سورة الطور: 30] وأذن الله لنبيه في الهجرة عند ذلك». فهذا يبين أن القوم لم يكن لهم غرض في علي أصلا.
    وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " اتشح ببردي هذا الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم رجل بشيء تكرهه ". فوعده - وهو الصادق - أنه لا يخلص إليه مكروه، وكان طمأنينته بوعد الرسول [- صلى الله عليه وسلم -].
    الرابع: أن هذا الحديث فيه من الدلائل على كذبه ما لا يخفى، فإن الملائكة لا يقال فيهم مثل هذا الباطل الذي لا يليق بهم، وليس أحدهما جائعا فيؤثره الآخر بالطعام، ولا هناك خوف فيؤثر أحدهما صاحبه بالأمن، فكيف يقول الله لهما: أيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ ولا للمؤاخاة بين الملائكة أصل، بل جبريل له عمل يختص به دون ميكائيل، وميكائيل له عمل يختص به دون جبريل، كما جاء في الآثار أن الوحي والنصر لجبريل، وأن الرزق والمطر لميكائيل.
    ثم إن كان الله قضى بأن عمر أحدهما أطول من الآخر فهو ما قضاه، وإن قضاه لواحد وأراد منهما أن يتفقا على تعيين الأطول، أو يؤثر به أحدهما الآخر، وهما راضيان بذلك، فلا كلام. وأما إن كانا يكرهان ذلك، فكيف يليق بحكمة الله ورحمته أن يحرش بينهما، ويلقي بينهما العداوة؟ ولو كان ذلك حقا - تعالى الله عن ذلك - ثم هذا القدر لو وقع مع أنه باطل، فكيف تأخر من حين خلقهما الله قبل آدم إلى حين الهجرة؟ وإنما كان يكون ذلك لو كان عقب خلقهما.
    الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ عليا ولا غيره، بل كل ما روي في هذا فهو كذب.
    وحديث المؤاخاة الذي يروى في ذلك - مع ضعفه وبطلانه - إنما فيه مؤاخاته له في المدينة، هكذا رواه الترمذي، فأما بمكة فمؤاخاته له باطلة على التقديرين.
    وأيضا فقد عرف أنه لم يكن فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة باتفاق علماء النقل.
    السادس: أن هبوط جبريل وميكائيل لحفظ واحد من الناس من أعظم المنكرات ; فإن الله يحفظ من شاء من خلقه بدون هذا. وإنما روي هبوطهما يوم بدر للقتال، وفي مثل تلك الأمور العظام، ولو نزلا لحفظ واحد من الناس لنزلا لحفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه، اللذين كان الأعداء يطلبونهما من كل وجه، وقد بذلوا في كل واحد منهما ديته، وهم عليهما غلاظ شداد سود الأكباد.
    السابع: أن هذه الآية في سورة البقرة، وهي مدنية بلا خلاف، وإنما نزلت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، لم تنزل وقت هجرته.

    وقد قيل: إنها نزلت لما هاجر صهيب وطلبه المشركون، فأعطاهم ماله، وأتى المدينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ربح البيع أبا يحيى ". وهذه القصة مشهورة في التفسير، نقلها غير واحد. وهذا ممكن ; فإن صهيبا هاجر من مكة إلى المدينة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  11. #111
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (109)

    من صــ 45 الى صـ
    ـ 52



    قال ابن جرير: " اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه، ومن عني بها فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعني بها المجاهدون في سبيل الله ".
    وذكر بإسناده هذا القول " وعن قتادة قال: وقال بعضهم: نزلت في قوم بأعيانهم " وروى عن " القاسم قال: حدثنا الحسين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: «نزلت في صهيب وأبي ذر جندب، أخذ أهل أبي ذر أبا ذر فانفلت منهم، فقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجع مهاجرا عرضوا له، وكانوا بمر الظهران، فانفلت أيضا حتى قدم عليه، وأما صهيب فأخذ أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرا فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان،فخرج له مما بقي من ماله فخلى سبيله».
    وقال آخرون: عني بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهاد في سبيل الله، وأمر بمعروف ".
    ونسب هذا القول إلى عمر بل وابن عباس، وأن صهيبا كان سبب النزول.
    الثامن: أن لفظ الآية مطلق، ليس فيه تخصيص. فكل من باع نفسه ابتغاء مرضات الله فقد دخل فيها.
    وأحق من دخل فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصديقه فإنهما شريا نفسهما ابتغاء مرضات الله، وهاجرا في سبيل الله، والعدو يطلبهما من كل وجه.

    التاسع: أن قوله: " هذه فضيلة لم تحصل لغيره [فدل على أفضليته] فيكون هو الإمام ".
    فيقال: لا ريب أن الفضيلة التي حصلت لأبي بكر في الهجرة لم تحصل لغيره من الصحابة بالكتاب والسنة والإجماع، فتكون هذه الأفضلية ثابتة له دون عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة، فيكون هو الإمام.
    فهذا هو الدليل الصدق الذي لا كذب فيه. يقول الله: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [سورة التوبة: 40].
    ومثل هذه الفضيلة لم تحصل لغير أبي بكر قطعا، بخلاف الوقاية بالنفس، فإنها لو كانت صحيحة فغير واحد من الصحابة وقى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه. وهذا واجب على كل مؤمن، ليس من الفضائل المختصة بالأكابر من الصحابة.
    والأفضلية إنما تثبت بالخصائص لا بالمشتركات. يبين ذلك أنه لم ينقل أحد أن عليا أوذي في مبيته على فراش النبي، وقد أوذي غيره في وقايتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: تارة بالضرب، وتارة بالجرح، وتارة بالقتل. فمن فداه وأوذي أعظم ممن فداه ولم يؤذ. وقد قال العلماء: ما صح لعلي من الفضائل فهي مشتركة، شاركه فيها غيره، بخلاف الصديق، فإن كثيرا من فضائله - وأكثرها - خصائص له، لا يشركه فيها غيره. وهذا مبسوط في موضعه.
    (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208)
    قال مجاهد: وقتادة: نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها وهذا لا ينافي قول من قال: نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب أو فيمن لم يسلم لأن هؤلاء كلهم مأمورون أيضا بذلك والجمهور يقولون: {في السلم} أي في الإسلام وقالت طائفة:
    هو الطاعة وكلاهما مأثور عن ابن عباس وكلاهما حق فإن الإسلام هو الطاعة كما تقدم أنه من باب الأعمال. وأما قوله: {كافة} فقد قيل: المراد ادخلوا كلكم. وقيل: المراد به ادخلوا في الإسلام جميعه وهذا هو الصحيح فإن الإنسان لا يؤمر بعمل غيره وإنما يؤمر بما يقدر عليه.
    (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
    [فصل: بيان فساد قولهم في تفسير آية سورة البقرة (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)]
    وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم: في تفسير آية البقرة، فإنهم قالوا: وقال: في سورة البقرة {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [البقرة: 213] قالوا: فأعني بقوله: أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر ; لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال: ومعهم الكتب ; لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد ; لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر.
    فيقال: لهم: قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير.
    وأيضا، فإنه قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة} [البقرة: 213] أي فاختلفوا. {فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
    والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء.
    وأيضا فإنه قال: وأنزل معهم الكتاب.
    والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح، ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب، فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها ; كما في قوله: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] وفي قوله: {كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] وفي القراءة الأخرى (وكتابه ورسله) وكذلك قوله عن مريم: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} [التحريم: 12] وفي القراءة الأخرى (وكتابه) وأيضا قال - تعالى -: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} [البقرة: 213].
    وقال - تعالى -: في سورة يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} [يونس: 19] وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين، واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح ; كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم ; كما قال - تعالى -:
    {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253] وقال - تعالى -: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} [الحج: 19] يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله:{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176] وقوله: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك} [هود: 118] وأيضا: فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن، فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل.
    وأيضا فإنه قال: {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} [البقرة: 213].
    وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن أوتوا الكتاب فاختلفوا.

    والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا، وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  12. #112
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (110)

    من صــ 53 الى صـ
    ـ 60


    وهذا يتناول أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل ; كما قال - تعالى -: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]
    وأما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين، فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك.

    أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وأنه يتعب وغير ذلك.
    والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا: عن المسيح أنه خالق السماوات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و:{اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} [التوبة: 31] الآية.
    والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى.
    وأما الأنبياء - عليهم السلام - فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا ; كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].
    والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم.
    وفي الصحيحين «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
    وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله. والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله ; كما قال - تعالى -: في النصارى {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [التوبة: 31] وقال:

    في اليهود {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به.

    ومن لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها.
    ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته، فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما.
    وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه.
    والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى.

    وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات، حتى منعوا من مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك.

    والمسيح - عليه السلام - أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا: ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس، لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك، فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى. والمسيح - عليه السلام - جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا، وجعلته النصارى هو الله خالق السماوات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فشهدوا أنه عبد الله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب، فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل، فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق ;
    كما قال - تعالى -: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87] والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع ; كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات.

    (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216)

    وسئل شيخ الإسلام:
    عن {قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته} " ما معنى تردد الله؟
    فأجاب: هذا حديث شريف قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء وقد رد هذا الكلام طائفة وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور والله أعلم بالعواقب. وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد.
    والتحقيق: أن كلام رسوله حق وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس؛ وأجهلهم وأسوئهم أدبا بل يجب تأديبه وتعزيره ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الظنون الباطلة؛ والاعتقادات الفاسدة ولكن المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل؛ فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:

    الشيب كره وكره أن أفارقه فاعجب لشيء على البغضاء محبوب وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح {حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره} وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: {لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه}.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  13. #113
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (111)

    من صــ 60 الى صـ
    ـ 68

    فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هَذَا حَالُهُ صَارَ مَحْبُوبًا لِلْحَقِّ مُحِبًّا لَهُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَوَّلًا بِالْفَرَائِضِ وَهُوَ يحبها ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق؛ فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده؛ وهي المساءة التي تحصل له بالموت فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مساءة عبده وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته.

    ثم قال بعد كلام سبق ذكره: ومن هذا الباب ما يقع في الوجود من الكفر والفسوق والعصيان؛ فإن الله تعالى يبغض ذلك ويسخطه ويكرهه وينهى عنه وهو سبحانه قد قدره وقضاه وشاءه بإرادته الكونية وإن لم يرده بإرادة دينية هذا هو فصل الخطاب فيما تنازع فيه الناس: من أنه سبحانه هل يأمر بما لا يريده.

    فالمشهور عند متكلمة أهل الإثبات ومن وافقهم من الفقهاء أنه يأمر بما لا يريده وقالت القدرية والمعتزلة وغيرهم: إنه لا يأمر إلا بما يريده. والتحقيق: أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية: فالأول كقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقوله تعالى {ولكن يريد ليطهركم} وقوله تعالى {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} إلى قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} فإن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضى وهي الإرادة الدينية. وإليه الإشارة بقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
    وأما الإرادة الكونية القدرية فمثل قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} ومثل قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

    فجميع الكائنات داخلة في هذه الإرادة والمشيئة لا يخرج عنها خير ولا شر ولا عرف ولا نكر وهذه الإرادة والمشيئة تتناول ما لا يتناوله الأمر الشرعي وأما الإرادة الدينية فهي مطابقة للأمر الشرعي لا يختلفان وهذا التقسيم الوارد في اسم الإرادة يرد مثله في اسم الأمر والكلمات؛ والحكم والقضاء والكتاب والبعث والإرسال ونحوه؛ فإن هذا كله ينقسم إلى كوني قدري وإلى ديني شرعي. والكلمات الكونية هي: التي لا يخرج عنها بر ولا فاجر وهي التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر} قال الله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.

    وأما الدينية فهي: الكتب المنزلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وقال تعالى: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه}. وكذلك الأمر الديني كقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والكونية: {إنما أمره إذا أراد شيئا}. والبعث الديني كقوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم} والبعث الكوني: {بعثنا عليكم عبادا لنا} والإرسال الديني كقوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق}. والكوني: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}.
    وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. فما يقع في الوجود من المنكرات هي مرادة لله إرادة كونية داخلة في كلماته التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهو سبحانه مع ذلك لم يردها إرادة دينية ولا هي موافقة لكلماته الدينية ولا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء فصارت له من وجه مكروهة. ولكن هذه ليست بمنزلة قبض المؤمن فإن ذلك يكرهه؛ والكراهة مساءة المؤمن وهو يريده لما سبق في قضائه له بالموت فلا بد منه وإرادته لعبده المؤمن خير له ورحمة به؛ فإنه قد ثبت في الصحيح: {أن الله تعالى لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له}.
    وأما المنكرات فإنه يبغضها ويكرهها؛ فليس لها عاقبة محمودة من هذه الجهة إلا أن يتوبوا منها فيرحموا بالتوبة وإن كانت التوبة لا بد أن تكون مسبوقة بمعصية؛ ولهذا يجاب عن قضاء المعاصي على المؤمن بجوابين: أحدهما: أن هذا الحديث لم يتناولها وإنما تناول المصائب.
    والثاني: أنه إذا تاب منها كان ما تعقبه التوبة خيرا فإن التوبة حسنة وهي من أحب الحسنات إلى الله والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أشد ما يمكن أن يكون من الفرح وأما المعاصي التي لا يتابا منها فهي شر. على صاحبها والله سبحانه قدر كل شيء وقضاه؛ لما له في ذلك من الحكمة كما قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} فما من مخلوق إلا ولله فيه حكمة. ولكن هذا بحر واسع قد بسطناه في مواضع والمقصود هنا: التنبيه على أن الشيء. المعين يكون محبوبا من وجه مكروها من وجه وأن هذا حقيقة التردد وكما أن هذا في الأفعال فهو في الأشخاص. والله أعلم.

    (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ... (217)

    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} من باب بدل الاشتمال والسؤال إنما وقع عن القتال فيه فلم قدم الشهر وقد قلتم: إنهم يقدمون ما بيانه أهم وهم به أعنى؟. قيل: السؤال لم يقع منهم إلا بعد وقوع القتال في الشهر وتشنيع أعدائهم عليهم انتهاكه وانتهاك حرمته وكان اهتمامهم بالشهر فوق اهتمامهم بالقتال فالسؤال إنما وقع من أجل حرمة الشهر فلذلك قدم في الذكر وكان تقديمه مطابقا لما ذكرنا من القاعدة.
    فإن قيل: فما الفائدة في إعادة ذكر القتال بلفظ الظاهر وهلا اكتفى بضميره فقال: هو كبير؟ وأنت إذا قلت: سألته عن زيد هو في الدار كان أوجز من أن تقول أزيد في الدار؟. قيل: في إعادته بلفظ الظاهر بلاغة بديعة وهو تعليق الحكم الخبري باسم القتال فيه عموما ولو أتى بالمضمر فقال: هو كبير لتوهم اختصاص الحكم بذلك القتال المسئول عنه وليس الأمر كذلك؛وإنما هو عام في كل قتال وقع في شهر حرام.
    ونظير هذه الفائدة {قوله صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الوضوء بماء البحر فقال -: هو الطهور ماؤه} فأعاد لفظ الماء ولم يقتصر على قوله: " نعم توضئوا به " لئلا يتوهم اختصاص الحكم بالسائلين لضرب من ضروب الاختصاص فعدل عن قوله: " نعم توضئوا " إلى جواب عام يقتضي تعليق الحكم والطهورية بنفس مائه من حيث هو فأفاد استمرار الحكم على الدوام وتعلقه بعموم الأمة وبطل توهم قصره على السبب فتأمله فإنه بديع.
    فكذلك في الآية لما قال: {قتال فيه كبير} فجعل الخبر بـ (كبير واقعا عن {قتال فيه} فيتعلق الحكم به على العموم؛ ولفظ " المضمر " لا يقتضي ذلك. وقريب من هذا قوله تعالى {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين} ولم يقل أجرهم تعليقا لهذا الحكم بالوصف وهو كونهم مصلحين وليس في الضمير ما يدل على الوصف المذكور.
    وقريب منه وهو ألطف معنى قوله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} ولم يقل فيه تعليقا بحكم الاعتزال بنفس الحيض وإنه هو سبب الاعتزال وقال:

    {قل هو أذى} ولم يقل: (المحيض أذى لأنه جاء به على الأصل؛ ولأنه لو كرره لثقل اللفظ به لتكرره ثلاث مرات وكان ذكره بلفظ الظاهر في الأمر بالاعتزال أحسن من ذكره مضمرا ليفيد تعليق الحكم بكونه حيضا بخلاف قوله: {قل هو أذى} فإنه إخبار بالواقع والمخاطبون يعلمون أن جهة كونه أذى هو نفس كونه حيضا بخلاف تعليق الحكم به فإنه إنما يعلم بالشرع فتأمله.


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  14. #114
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (112)

    من صــ 69 الى صـ
    ـ 76



    (فصل)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    وتمام " الورع " أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات. ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
    وكذلك " الزهد والرغبة " من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد وما يكرهه من ذلك؛ وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى أو حقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك.

    وقد قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل}. يقول سبحانه وتعالى: وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر، وظهور أهله أعظم من ذلك فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.

    وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلما له هو جاهل فإن هذا الحيوان لا بد أن يموت فإذا قتل لمنفعة الآدميين وحاجتهم كان خيرا من أن يموت موتا لا ينتفع به أحد والآدمي أكمل منه ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك؛ لكن ما لا يحتاج إليه من تعذيبه نهى الله عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح. كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " {إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} ".

    (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)

    و " المنافع " التي كانت قيل هي المال. وقيل: هي اللذة. ومعلوم أن الخمر كان فيها كلا هذين؛ فإنهم كانوا ينتفعون بثمنها والتجارة فيها كما كانوا ينتفعون باللذة التي في شربها؛ ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما حرم الخمر {لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها وآكل ثمنها}. وكذلك " الميسر " كانت النفوس تنتفع بما تحصله به من المال وما يحصل به من لذة اللعب. ثم قال تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} لأن الخسارة في المقامرة أكثر والألم والمضرة في الملاعبة أكثر.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عن " الخمر والميسر " هل فيهما إثم كبير ومنافع للناس؟ وما هي المنافع؟
    فأجاب:

    هذه الآية أول ما نزلت في الخمر؛ فإنهم سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية؛ ولم يحرمها فأخبرهم أن فيها " إثما " وهو ما يحصل بها من ترك المأمور وفعل المحظور وفيها " منفعة " وهو ما يحصل من اللذة ومنفعة البدن والتجارة فيها فكان من الناس من لم يشربها ومنهم من شرب؛ ثم بعد هذا شرب قوم الخمر فقاموا يصلون وهم سكارى؛ فخلطوا في القراءة؛ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فنهاهم عن شربها قرب الصلاة؛ فكان منهم من تركها. ثم بعد ذلك أنزل الله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. " فحرمها الله في هذه الآية من وجوه متعددة؛ فقالوا: انتهينا. انتهينا. ومضى حينئذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإراقتها؛ فكسرت الدنان والظروف؛ ولعن عاصرها؛ ومعتصرها؛ وشاربها؛ وآكل ثمنها.
    (فصل: رفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    ومعلوم أن الصلاة " أفضل العبادات " كما في الصحيحين عن {ابن مسعود أنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد. قال حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني}. وثبت أيضا في الصحيحين {عنه أنه جعل أفضل الأعمال إيمان بالله وجهاد في سبيله ثم الحج المبرور}.
    ولا منافاة بينهما؛ فإن الصلاة داخلة في مسمى الإيمان بالله كما دخلت في قوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} قال البراء بن عازب وغيره من السلف: أي صلاتكم إلى بيت المقدس. ولهذا كانت الصلاة كالإيمان لا تدخلها النيابة بحال فلا يصلي أحد عن أحد الفرض لا لعذر ولا لغير عذر كما لا يؤمن أحد عنه ولا تسقط بحال كما لا يسقط الإيمان؛ بل عليه الصلاة ما دام عقله حاضرا وهو متمكن من فعل بعض أفعالها فإذا عجز عن جميع الأفعال ولم يقدر على الأقوال فهل يصلي بتحريك طرفه ويستحضر الأفعال بقلبه؟ فيه قولان للعلماء وإن كان الأظهر أن هذا غير مشروع. فإذا كان كذلك تبين أن من زال عقله فقد حرم ما يتقرب به إلى الله من فرض ونفل و " الولاية " هي الإيمان والتقوى المتضمنة للتقرب بالفرائض والنوافل فقد حرم ما به يتقرب أولياء الله إليه؛ لكنه مع جنونه قد رفع القلم عنه فلا يعاقب كما لا يعاقب الأطفال والبهائم؛ إذ لا تكليف عليهم في هذه الحال.
    ثم إن كان مؤمنا قبل حدوث الجنون به وله أعمال صالحة وكان يتقرب إلى الله بالفرائض والنوافل قبل زوال عقله كان له من ثواب ذلك الإيمان والعمل الصالح ما تقدم وكان له من ولاية الله تعالى بحسب ما كان عليه من الإيمان والتقوى كما لا يسقط ذلك بالموت؛ بخلاف ما لو ارتد عن الإسلام؛ فإن الردة تحبط الأعمال وليس من السيئات ما يحبط الأعمال الصالحة إلا الردة. كما أنه ليس من الحسنات ما يحبط جميع السيئات إلا التوبة فلا يكتب للمجنون حال جنونه مثل ما كان يعمل في حال إفاقته كما لا يكون مثل ذلك لسيئاته في زوال عقله بالأعمال المسكرة والنوم؛ لأنه في هذه الحال ليس له قصد صحيح ولكن في الحديث الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم}.
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال في غزوة تبوك إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا: وهم بالمدينة قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر} فهؤلاء كانوا قاصدين للعمل الذي كانوا يعملونه راغبين فيه لكن عجزوا فصاروا بمنزلة العامل؛ بخلاف من زال عقله فإنه ليس له قصد صحيح ولا عبادة أصلا بخلاف أولئك فإن لهم قصدا صحيحا يكتب لهم به الثواب.
    وأما إن كان قبل جنونه كافرا أو فاسقا أو مذنبا لم يكن حدوث الجنون به مزيلا لما ثبت من كفره وفسقه ولهذا كان من جن من اليهود والنصارى بعد تهوده وتنصره محشورا معهم وكذلك من جن من المسلمين بعد إيمانه وتقواه محشورا مع المؤمنين من المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره سواء سمي صاحبه مولها أو متولها لا يوجب مزيد حال صاحبه من الإيمان والتقوى ولا يكون زوال عقله سببا لمزيد خيره ولا صلاحه ولا ذنبه؛ ولكن الجنون يوجب زوال العقل فيبقى على ما كان عليه من خير وشر لا أنه يزيده ولا ينقصه لكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير كما أنه يمنع عقوبته على الشر.
    وأما إن كان زوال عقله بسبب محرم: كشرب الخمر وأكل الحشيشة أو كان يحضر السماع الملحن فيستمع حتى يغيب عقله أو الذي يتعبد بعبادات بدعية حتى يقترن به بعض الشياطين فيغيروا عقله أو يأكل بنجا يزيل عقله فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول. وكثير من هؤلاء يستجلب الحال الشيطاني بأن يفعل ما يحبه فيرقص رقصا عظيما حتى يغيب عقله أو يغط ويخور حتى يجيئه الحال الشيطاني وكثير من هؤلاء يقصد التوله حتى يصير مولها. فهؤلاء كلهم من حزب الشيطان وهذا معروف عن غير واحد منهم. واختلف العلماء هل هم " مكلفون " في حال زوال عقلهم؟ والأصل " مسألة السكران " والمنصوص عن الشافعي وأحمد وغيرهما أنه مكلف حال زوال عقله. وقال كثير من العلماء ليس مكلفا وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن أحمد أن طلاق السكران لا يقع وهذا أظهر القولين. ولم يقل أحد من العلماء أن هؤلاء الذين زال عقلهم بمثل هذا يكونون من أولياء الله الموحدين المقربين وحزبه المفلحين. ومن ذكره العلماء من عقلاء المجانين الذين ذكروهم بخير فهم من القسم الأول الذين كان فيهم خير ثم زالت عقولهم.

    ومن " علامة هؤلاء " أنهم إذا حصل لهم في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان لا بالكفر والبهتان بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل له نوع إفاقة بالكفر والشرك ويهذي في زوال عقله بالكفر فهذا إنما يكون كافرا لا مسلما، ومن كان يهذي بكلام لا يعقل بالفارسية أو التركية أو البربرية وغير ذلك مما يحصل لبعض من يحضر السماع ويحصل له وجد يغيب عقله حتى يهذي بكلام لا يعقل - أو بغير العربية - فهؤلاء إنما يتكلم على ألسنتهم الشيطان كما يتكلم على لسان المصروع.

    ومن قال: إن هؤلاء أعطاهم الله عقولا وأحوالا فأبقى أحوالهم وأذهب عقولهم وأسقط ما فرض عليهم بما سلب. قيل: قولك وهب الله لهم أحوالا كلام مجمل؛ فإن الأحوال تنقسم إلى: حال رحماني وحال شيطاني وما يكون لهؤلاء من خرق عادة بمكاشفة وتصرف عجيب " فتارة " يكون من جنس ما يكون للسحرة والكهان و " تارة " يكون من الرحمن من جنس ما يكون من أهل التقوى والإيمان؛ فإن كان هؤلاء في حال عقولهم كانت لهم مواهب إيمانية وكانوا من المؤمنين المتقين فلا ريب أنه إذا زالت عقولهم سقطت عنهم الفرائض بما سلب من العقول وإن كان ما أعطوه من الأحوال الشيطانية - كما يعطاه المشركون وأهل الكتاب والمنافقون - فهؤلاء إذا زالت عقولهم لم يخرجوا بذلك مما كانوا عليه من الكفر والفسوق كما لم يخرج الأولون عما كانوا عليه من الإيمان والتقوى كما أن نوم كل واحد من الطائفتين وموته وإغماءه لا يزيل حكم ما تقدم قبل زوال عقله من إيمانه وطاعته أو كفره وفسقه بزوال العقل، غايته أن يسقط التكليف.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  15. #115
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام




    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (113)

    من صــ 77 الى صـ
    ـ 84




    ورفع القلم لا يوجب حمدا ولا مدحا ولا ثوابا ولا يحصل لصاحبه بسبب زوال عقله موهبة من مواهب أولياء الله ولا كرامة من كرامات الصالحين بل قد رفع القلم عنه كما قد يرفع القلم عن النائم والمغمى عليه والميت ولا مدح في ذلك ولا ذم بل النائم أحسن حالا من هؤلاء؛ ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام ينامون وليس فيهم مجنون ولا موله والنبي صلى الله عليه وسلم يجوز عليه النوم والإغماء ولا يجوز عليه الجنون وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه وقد أغمي عليه في مرضه.
    وأما " الجنون " فقد نزه الله أنبياءه عنه؛ فإنه من أعظم نقائص الإنسان؛ إذ كمال الإنسان بالعقل ولهذا حرم الله إزالة العقل بكل طريق وحرم ما يكون ذريعة إلى إزالة العقل كشرب الخمر؛ فحرم القطرة منها وإن لم تزل العقل؛ لأنها ذريعة إلى شرب الكثير الذي يزيل العقل فكيف يكون مع هذا زوال العقل سببا أو شرطا أو مقربا إلى ولاية الله كما يظنه كثير من أهل الضلال حتى قال قائلهم في هؤلاء:
    هم معشر حلوا النظام وخرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نفل
    مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أبوابه يسجد العقل

    فهذا كلام ضال؛ بل كافر يظن أن للمجنون سرا يسجد العقل على بابه؛ وذلك لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة أو تصرف عجيب خارق للعادة. ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين كما يكون للسحرة والكهان فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان وليا لله. ومن اعتقد هذا فهو كافر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى؛ فإن كثيرا من الكفار والمشركين فضلا عن أهل الكتاب يكون لهم من المكاشفات وخرق العادات بسبب شياطينهم أضعاف ما لهؤلاء؛ لأنه كلما كان الرجل أضل وأكفر كان الشيطان إليه أقرب؛ لكن لا بد في جميع مكاشفة هؤلاء من الكذب والبهتان.

    ولا بد في أعمالهم من فجور وطغيان كما يكون لإخوانهم من السحرة والكهان قال الله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} فكل من تنزلت عليه الشياطين لا بد أن يكون فيه كذب وفجور من أي قسم كان.

    والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أولياء الله هم الذين يتقربون إليه بالفرائض وحزبه المفلحون وجنده الغالبون وعباده الصالحون. فمن اعتقد فيمن لا يفعل الفرائض ولا النوافل أنه من أولياء الله المتقين إما لعدم عقله أو جهله أو لغير ذلك فمن اعتقد في مثل هؤلاء أنه من أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين فهو كافر مرتد عن دين رب العالمين وإذا قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله كان من الكاذبين الذين قيل فيهم: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه} فإذا كان طبع على قلب من ترك الجمع وإن صلى الظهر فكيف بمن لا يصلي ظهرا ولا جمعة ولا فريضة ولا نافلة ولا يتطهر للصلاة لا الطهارة الكبرى ولا الصغرى فهذا لو كان قبل مؤمنا وكان قد طبع على قلبه كان كافرا مرتدا بما تركه ولم يعتقد وجوبه من هذه الفرائض وإن اعتقد أنه مؤمن كان كافرا مرتدا فكيف يعتقد أنه من أولياء الله المتقين. وقد قال تعالى في صفة المنافقين: {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله} أي: استولى يقال: حاذ الإبل حوذا إذا استاقها فالذين استحوذ عليهم الشيطان فساقهم إلى خلاف ما أمر الله به ورسوله قال تعالى: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} أي تزعجهم إزعاجا فهؤلاء {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.
    وفي السنن عن أبى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان}.
    فأي ثلاثة كانوا من هؤلاء لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب الشيطان الذين استحوذ عليهم لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم؛ فإن كانوا عبادا زهادا ولهم جوع وسهر وصمت وخلوة كرهبان الديارات والمقيمين في الكهوف والمغارات كأهل جبل لبنان وأهل جبل الفتح الذي باسون وجبل ليسون ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك من الجبال والبقاع التي يقصدها كثير من العباد الجهال الضلال ويفعلون فيها خلوات ورياضات من غير أن يؤذن وتقام فيهم الصلوات الخمس بل يتعبدون بعبادات لم يشرعها الله ورسوله بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لأحوالهم بالكتاب والسنة ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان لا من أولياء الرحمن فمن شهد لهم بولاية الله فهو شاهد زور كاذب وعن طريق الصواب ناكب. ثم إن كان قد عرف أن هؤلاء مخالفون للرسول وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله فهو مرتد عن دين الإسلام وإما مكذب للرسول وإما شاك فيما جاء به مرتاب وإما غير منقاد له بل مخالف له إما جحودا أو عنادا أو اتباعا لهواه، وكل من هؤلاء كافر.
    وأما إن كان جاهلا بما جاء به الرسول وهو معتقد مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحد في الأمور الباطنة والظاهرة وأنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم لكن ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته؛ لا لقصد مخالفته ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يبين له الصواب ويعرف ما به من السنة والكتاب فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي قبله وكان كافرا مرتدا ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله كما لم ينج من ذلك الرهبان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الأوثان مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانية ومكاشفات شيطانية قال تعالى:

    {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أنهم كانوا يتأولونها في الحرورية ونحوهم من أهل البدع والضلالات. وقال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} {تنزل على كل أفاك أثيم} فالأفاك هو الكذاب والأثيم الفاجر كما قال: {لنسفعن بالناصية} {ناصية كاذبة خاطئة}.

    ومن تكلم في الدين بلا علم كان كاذبا وإن كان لا يتعمد الكذب كما ثبت في الصحيحين {عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له سبيعة الأسلمية وقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع فكانت حاملا فوضعت بعد موت زوجها بليال قلائل فقال لها أبو السنابل بن بعكك: ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب أبو السنابل بل حللت فانكحي} وكذلك لما قال سلمة بن الأكوع إنهم يقولون: إن عامرا قتل نفسه وحبط عمله فقال: " كذب من قالها؛ إنه لجاهد مجاهد " وكان قائل ذلك لم يتعمد الكذب فإنه كان رجلا صالحا وقد روي أنه كان أسيد بن الحضير؛ لكنه لما تكلم بلا علم كذبه النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد قال أبو بكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة فيما يفتون فيه باجتهادهم: إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان فكيف بمن تكلم بلا اجتهاد يبيح له الكلام في الدين؟ فهذا خطؤه أيضا من الشيطان مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له؛ كما أن الاحتلام والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو مغفور بخلاف من تكلم بلا اجتهاد يبيح له ذلك فهذا كاذب آثم في ذلك وإن كانت له حسنات في غير ذلك فإن الشيطان ينزل على كل إنسان ويوحي إليه بحسب موافقته له ويطرد بحسب إخلاصه لله وطاعته له قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
    وعباده هم الذين عبدوه بما أمرت به رسله من أداء الواجبات والمستحبات وأما من عبده بغير ذلك فإنه من عباد الشيطان؛ لا من عباد الرحمن. قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} {ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون}.
    (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)
    (فصل: نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها. ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تصدقوا. فقال رجل يا رسول الله عندي دينار. فقال تصدق به على نفسك. قال: عندي آخر. قال: تصدق به على زوجتك. قال: عندي آخر. قال تصدق به على ولدك. قال: عندي آخر. قال تصدق به على خادمك. قال عندي آخر.
    قال: أنت أبصر به}. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم {دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك. أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك}. وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف؛ وابدأ بمن تعول. واليد العليا خير من اليد السفلى}.

    وهذا تأويل قوله تعالى {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل. وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين؛ بخلاف النفقة في الغزو والمساكين؛ فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب؛ وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به؛ فإن إطعام الجائع واجب؛ ولهذا جاء في الحديث: {لو صدق السائل لما أفلح من رده} ذكره الإمام أحمد وذكر أنه إذا علم صدقه وجب إطعامه.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  16. #116
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (114)

    من صــ 85 الى صـ
    ـ 92




    وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل " عن النبي صلى الله عليه وسلم - الذي فيه من أنواع العلم والحكمة - وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام {حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذته فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات}. فبين أنه لا بد من اللذات المباحة الجميلة فإنها تعين على تلك الأمور.
    ولهذا ذكر الفقهاء: أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة؛ باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه.

    وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق. والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها.

    فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {في بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال} وفي الصحيحين {عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في في امرأتك}.
    والآثار في هذا كثيرة. فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكانت المباحات من صالح أعماله لصلاح قلبه ونيته والمنافق - لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فإن في الصحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب}.

    (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم ... (221)

    سئل شيخ الإسلام:
    عن قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات} وقد أباح العلماء التزويج بالنصرانية واليهودية؛ فهل هما من المشركين أم لا؟.
    فأجاب:

    الحمد لله، نكاح الكتابية جائز بالآية التي في المائدة قال تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}. وهذا مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم وقد روي عن ابن عمر: أنه كره نكاح النصرانية وقال: لا أعلم شركا أعظم ممن تقول: إن ربها عيسى ابن مريم. وهو اليوم مذهب طائفة من أهل البدع وقد احتجوا بالآية التي في سورة البقرة وبقوله {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} والجواب عن آية البقرة من ثلاثة أوجه. (أحدها أن أهل الكتاب لم يدخلوا في المشركين فجعل أهل الكتاب غير المشركين بدليل قوله:{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا}. فإن قيل: فقد وصفهم بالشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قيل أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك؛ فإن الله إنما بعث الرسل بالتوحيد فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك؛ ولكن النصارى ابتدعوا الشرك كما قال: {سبحانه وتعالى عما يشركون} فحيث وصفهم بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به وحيث ميزهم عن المشركين فلأن أصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك.
    فإذا قيل: أهل الكتاب لم يكونوا من هذه الجهة مشركين؛ فإن الكتاب الذي أضيفوا إليه لا شرك فيه كما إذا قيل: المسلمون وأمة محمد لم يكن فيهم من هذه الجهة لا اتحاد ولا رفض ولا تكذيب بالقدر ولا غير ذلك من البدع وإن كان بعض الداخلين في الأمة قد ابتدع هذه البدع؛ لكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة فلا يزال فيها من هو متبع لشريعة التوحيد؛ بخلاف أهل الكتاب ولم يخبر الله عز وجل عن أهل الكتاب أنهم مشركون بالاسم؛ بل قال: عما يشركون بالفعل وآية البقرة قال فيها:المشركين والمشركات بالاسم والاسم أوكد من الفعل.
    الوجه الثاني أن يقال: إن شملهم لفظ (المشركين) في سورة البقرة كما وصفهم بالشرك فهذا متوجه بأن يفرق بين دلالة اللفظ مفردا ومقرونا فإذا أفردوا دخل فيهم أهل الكتاب وإذا قرنوا بأهل الكتاب لم يدخلوا فيهم كما قيل: مثل هذا في اسم الفقير والمسكين ونحو ذلك فعلى هذا يقال: آية البقرة عامة وتلك خاصة والخاص يقدم على العام. (الوجه الثالث أن يقال: آية المائدة ناسخة لآية البقرة لأن المائدة نزلت بعد البقرة باتفاق العلماء وقد جاء في الحديث المائدة من. . . (1)

    (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)

    وسئل:
    عن المرأة تطهر من الحيض ولم تجد ماء تغتسل به هل لزوجها أن يطأها قبل غسلها من غير شرط؟.
    فأجاب:

    أما المرأة الحائض إذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إذا كانت قادرة على الاغتسال وإلا تيممت. كما هو مذهب جمهور العلماء كمالك وأحمد والشافعي. وهذا معنى ما يروى عن الصحابة حيث روي عن بضعة عشر من الصحابة - منهم الخلفاء - أنهم قالوا: في المعتدة هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. والقرآن يدل على ذلك قال الله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} قال مجاهد: حتى يطهرن يعني ينقطع الدم فإذا تطهرن اغتسلن بالماء وهو كما قال مجاهد. وإنما ذكر الله غايتين على قراءة الجمهور لأن قوله: {حتى يطهرن} غاية التحريم الحاصل بالحيض وهو تحريم لا يزول بالاغتسال ولا غيره فهذا التحريم يزول بانقطاع الدم ثم يبقى الوطء بعد ذلك جائزا بشرط الاغتسال لا يبقى محرما على الإطلاق فلهذا قال: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}. وهذا كقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فنكاح الزوج الثاني غاية التحريم الحاصل بالثلاث فإذا نكحت الزوج الثاني زال ذلك التحريم؛ لكن صارت في عصمة الثاني فحرمت لأجل حقه؛ لا لأجل الطلاق الثلاث. فإذا طلقها جاز للأول أن يتزوجها.
    وقد قال بعض أهل الظاهر: المراد بقوله: {فإذا تطهرن} أي غسلن فروجهن وليس بشيء؛ لأن الله قد قال: {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فالتطهر في كتاب الله هو الاغتسال وأما قوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} فهذا يدخل فيه المغتسل والمتوضئ والمستنجي لكن التطهر المقرون بالحيض كالتطهر المقرون بالجنابة.
    والمراد به الاغتسال. وأبو حنيفة - رحمه الله - يقول: إذا اغتسلت أو مضى عليها وقت صلاة أو انقطع الدم لعشرة أيام حلت؛ بناء على أنه محكوم بطهارتها في هذه الأحوال. وقول الجمهور هو الصواب. كما تقدم والله أعلم.

    (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)
    وقال - رحمه الله تعالى -:
    فصل:

    وأما " إتيان النساء في أدبارهن " فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة وهو المشهور في مذهب مالك.
    وأما القول الآخر بالرخصة فيه: فمن الناس من يحكيه رواية عن مالك ومنهم من ينكر ذلك ونافع نقل عن ابن عمر أنه لما قرأ عليه: {نساؤكم حرث لكم} قال له ابن عمر: إنها نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.

    فمن الناس من يقول غلط نافع على ابن عمر أو لم يفهم مراده؛ وكان مراده: أنها نزلت في إتيان النساء من جهة الدبر في القبل؛ فإن الآية نزلت في ذلك باتفاق العلماء وكانت اليهود تنهى عن ذلك وتقول: إذا أتى الرجل المرأة في قبلها من دبرها جاء الولد أحول. فأنزل الله هذه الآية. " والحرث " موضع الولد؛ وهو القبل.
    __________
    Q (1) آخر ما وجد من الأصل




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  17. #117
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (115)

    من صــ 93 الى صـ
    ـ 100



    فرخص الله للرجل أن يطأ المرأة في قبلها من أي الجهات شاء. وكان سالم بن عبد الله بن عمر يقول: كذب العبد على أبي. وهذا مما يقوي غلط نافع على ابن عمر؛ فإن الكذب كانوا يطلقونه بإزاء الخطأ؛ كقول عبادة: كذب أبو محمد.

    لما قال: الوتر واجب. وكقول ابن عباس: كذب نوف: لما قال لما صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. ومن الناس من يقول: ابن عمر هو الذي غلط في فهم الآية. والله أعلم أي ذلك كان؛ لكن نقل عن ابن عمر أنه قال. أويفعل هذا مسلم لكن بكل حال معنى الآية هو ما فسرها به الصحابة والتابعون وسبب النزول يدل على ذلك. والله أعلم.
    وسئل - رحمه الله -:
    عن رجل ينكح زوجته في دبرها. أحلال هو أم حرام؟
    فأجاب:

    " وطء المرأة في دبرها " حرام بالكتاب والسنة وهو قول جماهير السلف والخلف؛ بل هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في
    أدبارهن} وقد قال تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} " والحرث " هو موضع الولد؛ فإن الحرث هو محل الغرس والزرع. وكانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها جاء الولد أحول فأنزل الله هذه الآية؛ وأباح للرجل أن يأتي امرأته من جميع جهاتها؛ لكن في الفرج خاصة. ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عزرا جمعيا؛ فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما؛ كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به والله أعلم.
    وسئل - رحمه الله تعالى -:
    عما يجب على من وطئ زوجته في دبرها؟ وهل أباحه أحد من العلماء؟
    فأجاب:

    الحمد لله رب العالمين، " الوطء في الدبر " حرام في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك عامة أئمة المسلمين: من الصحابة والتابعين وغيرهم؛ فإن الله قال في كتابه: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} وقد ثبت في الصحيح: أن اليهود كانوا يقولون إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول فسأل المسلمون عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} و " الحرث " موضع الزرع.
    والولد إنما يزرع في الفرج لا في الدبر {فأتوا حرثكم} وهو موضع الولد. {أنى شئتم} أي من أين شئتم: من قبلها ومن دبرها وعن يمينها وعن شمالها. فالله تعالى سمى النساء حرثا؛ وإنما رخص في إتيان الحروث والحرث إنما يكون في الفرج. وقد جاء في غير أثر: أن الوطء في الدبر هو اللوطية الصغرى وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في حشوشهن}
    " و " الحش " هو الدبر وهو موضع القذر والله سبحانه حرم إتيان الحائض مع أن النجاسة عارضة في فرجها فكيف بالموضع الذي تكون فيه النجاسة المغلظة: و " أيضا " فهذا من جنس اللواط ومذهب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي وأحمد وأصحابه أن ذلك حرام لا نزاع بينهم وهذا هو الظاهر من مذهب مالك وأصحابه؛ لكن حكى بعض الناس عنهم رواية أخرى بخلاف ذلك. ومنهم من أنكر هذه الرواية وطعن فيها.
    وأصل ذلك ما نقل عن نافع أنه نقله عن ابن عمر وقد كان سالم بن عبد الله يكذب نافعا في ذلك. فإما أن يكون نافع غلط أو غلط من هو فوقه. فإذا غلط بعض الناس غلطة لم يكن هذا مما يسوغ خلاف الكتاب والسنة كما أن طائفة غلطوا في إباحة الدرهم بالدرهمين واتفق الأئمة على تحريم ذلك لما جاء في ذلك من الأحاديث الصحيحة وكذلك طائفة غلطوا في أنواع من الأشربة.
    ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مسكر خمر؛ وكل خمر حرام} وأنه سئل عن أنواع من الأنبذة فقال: {كل مسكر حرام} {ما أسكر كثيره فقليله حرام} وجب اتباع هذه السنن الثابتة. ولهذا نظائر في الشريعة. ومن وطئ امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما. والله أعلم.

    (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    و " أيضا " قوله سبحانه وتعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم} فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس؛ بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها أو حراما ونحوه فإذا قيل له: افعل ذلك أو لا تفعل هذا.
    قال: قد حلفت بالله: فيجعل الله عرضة ليمينه. فإذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم في الحلف من البر والتقوى. والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولى أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين:

    إن وفى بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور؛ فقد يكون خروج أهله منه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة.

    وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة: ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه} ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم {من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم من التكفير. " واللجاج " التمادي في الخصومة؛ ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في الخصومة ولهذا تسمي العلماء هذا " نذر اللجاج والغضب " فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الامتناع من الحنث.
    فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان.
    وأيضا {فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك} أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين {فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير} وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير} وفي رواية {فليأت الذي هو خير. وليكفر عن يمينه} وهذا نكرة في سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف؛ فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا لشر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
    وقوله هنا " على يمين " هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمي الأمر المحلوف عليه يمينا كما يسمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك وكذلك أخرجاه في الصحيحين {عن أبي موسى الأشعري في قصته وقصة أصحابه؛ لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه فقال: والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم قال:
    إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها} وفي رواية في الصحيحين {إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير} وروى مسلم في صحيحه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير} وفي رواية لمسلم أيضا {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير}وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي. فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه.
    وروى النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته} وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام فروى أبو داود في سننه حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة.
    فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك} فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

    {لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك} ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة؛ كما أفتاه عمر. ولولا أن هذا النذر كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك. وإنما قال صلى الله عليه وسلم {لا يمين ولا نذر} لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  18. #118
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (116)

    من صــ 101 الى صـ
    ـ 108





    وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم {لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم} يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق.
    ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم وهذا الثاني هو الظاهر؛ لاستدلال عمر بن الخطاب به؛ فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله.
    وأيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه} رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن وأبو داود ولفظه حدثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان؛ عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى} ورواه أيضا من طريق عبد الرزاق عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث} وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث} رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ولفظه " فله ثنياه " والنسائي وقال: " فقد استثنى ".
    (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    وهؤلاء منهم من قال: " لغو اليمين " هو أن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه بلا نزاع.
    وأما إذا سبق لسانه في المستقبل: ففيه روايتان. وهذه طريقة القاضي وابن عقيل في " الفصول "؛ واختار القاضي في " خلافه " أن قوله في المستقبل لا والله بلى والله ليس بلغو وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. ومنهم من قال: ما يسبق على اللسان هو لغو بلا نزاع بين العلماء وفيما إذا حلف على شيء فتبين بخلافه روايتان.
    وهذه طريقة أبي محمد.
    " والصواب " أن النزاع في الصورتين؛ فإن الشافعي في رواية الربيع عنه يوجب الكفارة فيمن حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه؛ ولكن القول الآخر للشافعي أن هذا لغو كقول الجمهور وهذا هو قول محمد بن الحسن وكذا هو ظاهر مذهب أحمد أن كلا النوعين لغو لا كفارة فيه وهذا قول جمهور أهل العلم؛ ولهذا جزم أكثر أصحاب أحمد بأنه لا كفارة لا في هذا ولا في هذا.

    ولم يذكروا نزاعا؛ لأنه نص على أن كليهما لغو في جوابه كما ذكر ذلك الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما من المتقدمين. وذكر طائفة عنه في اللغو " روايتين "رواية كقول أبي حنيفة ومالك. ورواية كقول الشافعي كما ذكر ذلك طائفة: منهم ابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهما. وصرح بعض هؤلاء - كابن عقيل وغيره - بأنه إذا قيل: إن اللغو هو أن يسبق على لسانه اليمين من غير قصد فإنه إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث. فلهذا صار في مذهبه عدة طرق.

    " طريقة القدماء " أن كليهما لغو قولا واحدا.
    " وطريقة القاضي " أن الماضي لغو قولا واحدا وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان وهذه الطريقة توافق مذهب أبي حنيفة ومالك.
    " وطريقة أبي محمد " أن سبق اللسان لغو قولا واحدا. وفي الماضي روايتان. وهذه الطريقة توافق مذهب الشافعي.
    " والطريقة الرابعة " وهي أضعف الطرق: أن اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا وفي الأخرى هذا دون هذا.
    " والطريقة الخامسة " وهي الجامعة بين الطرق: أن في مذهبه ثلاث روايات كما ذكر ذلك صاحب المحرر فإذا سبق على لسانه: لا والله بلى والله وهو يعتقد أن الأمر كما حلف عليه: فهذا لغو باتفاق الأئمة الأربعة.
    وإذا سبق على لسانه اليمين في المستقبل أو تعمد اليمين على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه: ففي الصورتين أقوال ثلاثة؛ هي الروايات الثلاث عن أحمد. " أحدها " أن الجميع لغو كقول الجمهور وهو ظاهر مذهب أحمد وهي ومذهبه في إحدى الطريقتين بلا نزاع عنه. وعلى هذه الطريقة فقد فسر اللغو بهذا. وهذا أحد قولي الشافعي.
    " والثاني " أنه يحنث في الماضي دون ما سبق على لسانه وهو أحد قولي الشافعي أيضا.

    " والثالث " بالعكس كمذهب أبي حنيفة ومالك. فقد تبين أن المخطئ في عقد اليمين الذي حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه هو في إحدى الطريقتين كالناسي والجاهل وفي الأخرى لا يحنث قولا واحدا. والمعروفة عند أئمة أصحاب أحمد. وعلى هذا فالحالف بالطلاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه لا يحنث إذا لم يحنث الناسي والجاهل في المستقبل: إما تسوية بينهما. وإما بطريق الأولى على اختلاف الطريقتين. وهكذا ذكر المحققون من الفقهاء.

    وقد ظن بعض متأخري الفقهاء كالسامري صاحب " المستوعب " أنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث قولا واحدا؛ لأن الطلاق لا لغو فيه وهذا خطأ؛ فإن الذي يقول إن الطلاق لا لغو فيه هو الذي يحنث الناسي والجاهل إذا حلف بالطلاق وأما من لم يحنث الناسي والجاهل فإنه لا يقول لا لغو في الطلاق - إذا فسر اللغو بأن يحلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه - فإن عدم الحنث في هذه الصورة: إما أن يكون أولى بعدم الحنث في تلك الصورة أو يكون مساويا لها؛ كما قد بيناه.
    ولا يمكن أحد أن يقول: إنه إذا حلف بالطلاق والعتاق على امرأته لا يفعله ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه لم يحنث؛ ويقول إذا حلف على أمر يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه أنه يحنث؛ لأن الجهل المقارن لعقد اليمين أخف من الجهل المقارن لفعل المحلوف عليه وغايته أن يكون مثله؛ ولأن اليمين الأولى منعقدة اتفاقا.
    وأما الثانية ففي انعقادها نزاع بينهم. والله أعلم.

    (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)

    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
    " والإيلاء " هو الحلف والقسم والمراد بالإيلاء هنا أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته وهو إذا حلف بما عقده بالله كان موليا وإن حلف بما عقده لله كالحلف بالنذر والظهار والطلاق والعتاق كان موليا عند جماهير العلماء: كأبي حنيفة ومالك والشافعي في قوله الجديد وأحمد. ومن العلماء من لم يذكر في هذه المسألة نزاعا كابن المنذر وغيره وذكر عن ابن عباس أنه قال: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء والله سبحانه وتعالى قد جعل المولي بين خيرتين: إما أن يفيء وإما أن يطلق.
    والفيئة هي الوطء: خير بين الإمساك بمعروف والتسريح بإحسان. فإن فاء فوطئها حصل مقصودها وقد أمسك بمعروف وقد قال تعالى: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم} ومغفرته ورحمته للمولي توجب رفع الإثم عنه وبقاء امرأته. ولا تسقط الكفارة كما في قوله:
    {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فبين أنه غفور رحيم بما فرضه من تحلة الأيمان حيث رحم عباده بما فرضه لهم من الكفارة وغفر لهم بذلك نقضهم لليمين التي عقدوها؛ فإن موجب العقد الوفاء لولا ما فرضه من التحلة التي جعلها تحل عقدة اليمين. وإن كان المولي لا يفيء؛ بل قد عزم على الطلاق؛ فإن الله سميع عليم. فحكم المولي في كتاب الله: أنه إما أن يفيء وإما أن يعزم الطلاق. فإن فاء فإن الله غفور رحيم لا يقع به طلاق وهذا متفق عليه في اليمين بالله تعالى.
    (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ... (228)
    والقرء: هو الدم لظهوره وخروجه وكذلك الوقت؛ فإن التوقيت إنما يكون بالأمر الظاهر. ثم الطهر يدخل في اسم القرء تبعا كما يدخل الليل في اسم اليوم {قال النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: دعي الصلاة أيام أقرائك} والطهر الذي يتعقبه حيض هو قرء فالقرء اسم للجميع.
    وأما الطهر المجرد فلا يسمى قرءا؛ ولهذا إذا طلقت في أثناء حيضة لم تعتد بذلك قرءا؛ لأن عليها أن تعتد بثلاثة قروء وإذا طلقت في أثناء طهر كان القرء الحيضة مع ما تقدمها من الطهر؛ ولهذا كان أكابر الصحابة على أن الأقراء الحيض كعمر وعثمان وعلي وأبي موسى وغيرهم؛ لأنها مأمورة بتربص ثلاثة قروء؛ فلو كان القرء هو الطهر لكانت العدة قرأين وبعض الثالث فإن النزاع من الطائفتين في الحيضة الثالثة؛ فإن أكابر الصحابة ومن وافقهم يقولون:

    هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وصغار الصحابة إذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد حلت فقد ثبت بالنص والإجماع أن السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع وقد مضى بعض الطهر والله أمر أن يطلق لاستقبال العدة لا في أثناء العدة وقوله: {ثلاثة قروء} عدد ليس هو كقوله: أشهر؛ فإن ذاك صيغة جمع لا عدد فلا بد من ثلاثة قروء كما أمر الله لا يكفي بعض الثالث.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  19. #119
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (117)

    من صــ 109 الى صـ
    ـ 116






    وقال شيخ الإسلام - رحمه الله -:
    في قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} إلى قوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} إلى قوله تعالى {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. فجعل المباح أحد أمرين:
    إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالرد إلا إذا أرادوا إصلاحا؛ وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف وقال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وقال تعالى في الآية الأخرى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقال تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} وقوله هنا: {بالمعروف}.
    يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل والمعروف تزويج الكفء. وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن} إلى قوله: {وعاشروهن بالمعروف} فقد ذكر أن التراضي بالمعروف والإمساك بالمعروف؛ والتسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين؛ فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف؛ وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعا وقدرا وصفة وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار؛ والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم.

    وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف. ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله. وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف؛ لا بتقدير من الشرع قررته في غير هذا الموضع.

    والمثال المشهور هو " النفقة " فإنها مقدرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين. ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعا وقدرا: مدا من حنطة أو مدا ونصفا أو مدين؛ قياسا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علما وعملا قديما وحديثا؛ فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف ولم يقدر لها نوعا ولا قدرا ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع كما بين فرائض الزكاة والديات. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات: {لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف}.

    وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها وبتنوع الزمان والمكان وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف ولا كفاية طعامه كطعامه ولا طعام البلاد الحارة كالباردة ولا المعروف في بلاد التمر والشعير.

    كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن {حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت؛ ولا تضرب الوجه؛ ولا تقبح؛ ولا تهجر إلا في البيت}. فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للزوجة مرة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: {لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف} وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: {تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت} " ولم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين؛ لكن قيد ذلك بالمعروف تارة وبالمواساة بالزوج أخرى. وهكذا قال في نفقة المماليك؛ ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
    {: هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل؛ وليلبسه مما يلبس؛ ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم} وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق} ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف. وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس. فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب والمواساة مستحبة. وقد يقال أحدهما تفسير للآخر.

    وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع والقدر وصفة الإنفاق. وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك. أما " النوع " فلا يتعين أن يعطيها مكيلا كالبر ولا موزونا كالخبز ولا ثمن ذلك كالدراهم؛ بل يرجع في ذلك إلى العرف. فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك.
    أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك. وإن كان عادتهم أن يعطيها حبا فتطحنه في البيت فعل ذلك.

    وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك. وإن كان يشتري خبزا من السوق فعل ذلك. وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف فلا يتعين عليه دراهم ولا حبات أصلا؛ لا بشرع ولا بفرض؛ فإن تعين ذلك دائما من المنكر ليس من المعروف وهو مضر به تارة وبها أخرى. وكذلك " القدر " لا يتعين مقدار مطرد؛ بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.
    وأما " الإنفاق " فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة. وقيل: لا يجب التمليك. وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف؛ بل عرف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى يومنا هذا أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعا. وتارة أفرادا.

    ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك؛ بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير المعروف وتضارا في العشرة؛ وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر؛ لا عند العشرة بالمعروف.

    وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك. تارة قال: " {لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف} " كما قال في المملوك. وتارة قال: {تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت} " كما قال في المملوك. وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك.
    وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسى وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها فلا حق لها سوى ذلك. وإن أنكرت ذلك أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف؛ بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقا أو حب مقدر مطلقا؛ لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.
    فصل:
    وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟ فمنهم من قال: لا تجب الخدمة. وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف؛ بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف. وقيل - وهو الصواب - وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله؛ وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف.
    ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة. ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.
    فصل:
    والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق؛ فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطا لا يحرم حلالا ولا يحلل حراما فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة. ومن العرف تارة أخرى؛ لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض:

    كعارية البضع؛ والولاء لغير المعتق؛ فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط فهذه أصول جامعة مع اختصار. والله أعلم.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  20. #120
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,768

    افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



    فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
    المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
    سُورَةُ الْبَقَرَةِ
    المجلد الرابع
    الحلقة (118)

    من صــ 117 الى صـ
    ـ 124






    (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229)
    (فصل في أن البينونة نوعان)
    قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:

    و " جماع الأمر " أن البينونة نوعان: " البينونة الكبرى " وهي إيقاع البينونة الحاصلة بإيقاع الطلاق الثلاث الذي تحرم به المرأة حتى تنكح زوجا غيره.
    و " البينونة الصغرى " وهي: التي تبين بها المرأة وله أن يتزوجها بعقد جديد في العدة وبعدها. فالخلع تحصل به البينونة الصغرى دون الكبرى. والبينونة الكبرى الحاصلة بالثلاث تحصل إذا أوقع الثلاث على الوجه المباح المشروع وهو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه؛ أو يطلقها واحدة وقد تبين حملها ويدعها حتى تنقضي العدة؛ ثم يتزوجها بعقد جديد. وله أن يراجعها في العدة.
    وإذا تزوجها أو ارتجعها فله أن يطلقها الثانية على الوجه المشروع. فإذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو كلمات قبل رجعة أو عقد فهو محرم عند الجمهور؛ وهو مذهب مالك وأبي حنيفة في المشهور عنه؛ بل وكذلك إذا طلقها الثلاث في أطهار قبل رجعة أو عقد؛ في مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. ولو أوقع الثلاث إيقاعا محرما: فهل يقع الثلاث؟ أو واحدة؟ على قولين معروفين للسلف والخلف؛ كما قد بسط في موضعه.
    فإذا قيل: إنه لا يقع لم يملك البينونة الكبرى بكلمة واحدة وإذا لم يملكها لم يجز أن تبذل له العوض فيما لا يملكه فإذا بذلت له العوض على الطلاق الثلاث المحرمة بذلت له العوض فيما يحرم عليه فعله ولا يملكه فإذا أوقعه لم يقع منه إلا المباح والمباح بالعوض إنما هو بالبينونة الصغرى دون الكبرى؛ بل لو طلقها ثنتين وبذلت له العوض على الفرقة بلفظ الطلاق أو غير الطلاق لم تقع الطلقة الثالثة على قولنا: إن الفرقة بعوض فسخ تحصل به البينونة الصغرى؛ فإذا فارقها بلفظ الطلاق أو غيره في هذه الصورة وقعت به " البينونة الصغرى "وهو الفسخ دون الكبرى.
    وجاز له أن يتزوج المرأة بعقد جديد؛ لكن إن صرحت ببذل العوض في الطلقة الثالثة المحرمة وكان مقصودها أن تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره: فقد بذلت العوض في غير البينونة الصغرى وهو يشبه ما إذا بذلت العوض في الخلع بشرط الرجعة. فإن اشتراطه الرجعة في الخلع يشبه اشتراطها الطلاق المحرم لها فيه وهو في هذه الحال يملك الطلقة الثالثة المحرمة لها كما كان يملك قبل ذلك الطلاق الرجعي. والله سبحانه أعلم.

    (فصل في أن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    قال طائفة من العلماء: إن الطلاق الثلاث حرمت به المرأة عقوبة للرجل حتى لا يطلق؛ فإن الله يبغض الطلاق؛ وإنما يأمر به الشياطين والسحرة كما قال تعالى في السحر: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}
    وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان ينصب عرشه على البحر؛ ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة؛ فيأتي أحدهم فيقول ما زلت به حتى شرب الخمر.

    فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته. فيقبله بين عينيه. ويقول: أنت أنت}. وقد روى أهل التفسير والحديث والفقه: أنهم كانوا في أول الإسلام يطلقون بغير عدد؛ يطلق الرجل المرأة ثم يدعها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ضرارا فقصرهم الله على الطلقات الثلاث؛ لأن الثلاث أول حد الكثرة وآخر حد القلة.

    ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول؛ ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحيانا. وحرمه في مواضع باتفاق العلماء. كما إذا طلقها في الحيض ولم تكن سألته الطلاق؛ فإن هذا الطلاق حرام باتفاق العلماء. والله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل الشرائع وهي الحنيفية السمحة كما قال: {أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة} فأباح لعباده المؤمنين الوطء بالنكاح. والوطء بملك اليمين. واليهود والنصارى لا يطئون إلا بالنكاح؛ لا يطئون بملك اليمين.
    و " أصل ابتداء الرق " إنما يقع من السبي. والغنائم لم تحل إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث الصحيح أنه قال: {فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة
    وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وأعطيت الشفاعة} فأباح سبحانه للمؤمنين أن ينكحوا وأن يطلقوا وأن يتزوجوا المرأة المطلقة بعد أن تتزوج بغير زوجها. " والنصارى " يحرمون النكاح على بعضهم ومن أباحوا له النكاح لم يبيحوا له الطلاق.
    " واليهود " يبيحون الطلاق؛ لكن إذا تزوجت المطلقة بغير زوجها حرمت عليه عندهم. والنصارى لا طلاق عندهم. واليهود لا مراجعة بعد أن تتزوج غيره عندهم.
    والله تعالى أباح للمؤمنين هذا وهذا. ولو أبيح الطلاق بغير عدد - كما كان في أول الأمر - لكان الناس يطلقون دائما: إذا لم يكن أمر يزجرهم عن الطلاق؛ وفي ذلك من الضرر والفساد ما أوجب حرمة ذلك ولم يكن فساد الطلاق لمجرد حق المرأة فقط: كالطلاق في الحيض حتى يباح دائما بسؤالها؛ بل نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء: إما نهي تحريم أو نهي تنزيه.
    وما كان مباحا للحاجة قدر بقدر الحاجة. والثلاث هي مقدار ما أبيح للحاجة؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} وكما قال: {لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث؛ إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا} وكما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا.
    وهذه الأحاديث في الصحيح. وهذا مما احتج به من لا يرى وقوع الطلاق إلا من القصد؛ ولا يرى وقوع طلاق المكره؛ كما لا يكفر من تكلم بالكفر مكرها بالنص والإجماع؛ ولو تكلم بالكفر مستهزئا بآيات الله وبالله ورسوله كفر؛ كذلك من تكلم بالطلاق هازلا وقع به. ولو حلف بالكفر فقال: إن فعل كذا فهو بريء من الله ورسوله؛ أو فهو يهودي أو نصراني. لم يكفر بفعل المحلوف عليه؛ وإن كان هذا حكما معلقا بشرط في اللفظ؛ لأن مقصوده الحلف به بغضا له ونفورا عنه؛ لا إرادة له؛ بخلاف من قال: إن أعطيتموني ألفا كفرت فإن هذا يكفر. وهكذا يقول من يفرق بين الحلف بالطلاق وتعليقه بشرط لا يقصد كونه وبين الطلاق المقصود عند وقوع الشرط.
    ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن الخلع فسخ للنكاح؛ وليس هو من الطلقات الثلاث كقول ابن عباس والشافعي وأحمد في أحد قوليهما لأن المرأة افتدت نفسها من الزوج كافتداء الأسير؛ وليس هو من الطلاق المكروه في الأصل ولهذا يباح في الحيض؛ بخلاف الطلاق.

    وأما إذا عدل هو عن الخلع وطلقها إحدى الثلات بعوض فالتفريط منه. وذهب طائفة من السلف: كعثمان بن عفان وغيره؛ ورووا في ذلك حديثا مرفوعا. وبعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد جعلوه مع الأجنبي فسخا. كالإقالة. والصواب أنه مع الأجنبي كما هو مع المرأة؛ فإنه إذا كان افتداء المرأة كما يفدى الأسير فقد يفتدي الأسير بمال منه ومال من غيره وكذلك العبد يعتق بمال يبذله هو وما يبذله الأجنبي وكذلك الصلح يصح مع المدعى عليه ومع أجنبي فإن هذا جميعه من باب الإسقاط والإزالة.

    وإذ كان الخلع رفعا للنكاح؛ وليس هو من الطلاق الثلاث: فلا فرق بين أن يكون المال المبذول من المرأة أو من أجنبي. وتشبيه فسخ النكاح بفسخ البيع: فيه نظر؛ فإن البيع لا يزول إلا برضى المتابعين؛ لا يستقل أحدهما بإزالته؛ بخلاف النكاح؛ فإن المرأة ليس إليها إزالته؛ بل الزوج يستقل بذلك؛ لكن افتداؤها نفسها منه كافتداء الأجنبي لها.
    ومسائل الطلاق وما فيها من الإجماع والنزاع مبسوط في غير هذا الموضوع. والمقصود هنا إذا وقع به الثلاث حرمت عليه المرأة بإجماع المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولا يباح إلا بنكاح ثان وبوطئه لها عند عامة السلف والخلف؛ فإن النكاح المأمور به يؤمر فيه بالعقد. وبالوطء بخلاف المنهي عنه؛ فإنه ينهى فيه عن كل من العقد والوطء؛ ولهذا كان النكاح الواجب والمستحب يؤمر فيه بالوطء من العقد " والنكاح المحرم " يحرم فيه مجرد العقد.
    (فصل في الخلع)
    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:

    والمرأة إذا أبغضت الرجل كان لها أن تفتدي نفسها منه كما قال تعالى {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وهذا الخلع تبين به المرأة فلا يحل له أن يتزوجها بعده إلا برضاها وليس هو كالطلاق المجرد؛ فإن ذلك يقع رجعيا له أن يرتجعها في العدة بدون رضاها؛ لكن تنازع العلماء في هذا الخلع: هل يقع به طلقة بائنة محسوبة من الثلاث؟ أو تقع به فرقة بائنة وليس من الطلاق الثلاث بل هو فسخ؟ على قولين مشهورين.
    و " الأول " مذهب أبي حنيفة ومالك وكثير من السلف ونقل عن طائفة من الصحابة؛ لكن لم يثبت عن واحد منهم بل ضعف أحمد بن حنبل وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم جميع ما روي في ذلك عن الصحابة.
    و " الثاني " أنه فرقة بائنة وليس من الثلاث وهذا ثابت عن ابن عباس باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهو قول أصحابه: كطاوس وعكرمة وهو أحد قولي الشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل وغيره من فقهاء الحديث وإسحاق بن راهويه؛ وأبي ثور وداود وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم. واستدل ابن عباس على ذلك بأن الله تعالى ذكر الخلع بعد طلقتين ثم قال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} فلو كان الخلع طلاقا لكان الطلاق أربعا. ثم أصحاب هذا القول تنازعوا: هل يشترط أن يكون الخلع بغير لفظ الطلاق؟ أو لا يكون إلا بلفظ الخلع والفسخ والمفاداة ويشترط مع ذلك أن لا ينوي الطلاق؟ أو لا فرق بين أن ينويه أو لا ينويه وهو خلع بأي لفظ وقع بلفظ الطلاق أو غيره؟ على أوجه في مذهب أحمد وغيره: أصحها الذي دل عليه كلام ابن عباس وأصحابه وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه وهو الوجه الأخير وهو: أن الخلع هو الفرقة بعوض فمتى فارقها بعوض فهي مفتدية لنفسها به وهو خالع لها بأي لفظ كان ولم ينقل أحد قط لا عن ابن عباس وأصحابه ولا عن أحمد بن حنبل أنهم فرقوا بين الخلع بلفظ الطلاق وبين غيره؛ بل كلامهم لفظه ومعناه يتناول الجميع.

    والشافعي رضي الله عنه لما ذكر القولين في الخلع هل هو طلاق أم لا؟ قال: وأحسب الذين قالوا هو طلاق هو فيما إذا كان بغير لفظ الطلاق؟ ولهذا ذكر محمد بن نصر والطحاوي أن هذا لا نزاع فيه والشافعي لم يحك عن أحد هذا؛ بل ظن أنهم يفرقون.



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •