-
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير
مثنى محمد الهبيان
[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}
السؤال الأول:
ما معنى الحمد ؟ وما الفرق بين الحمد والمدح ؟
الجواب:
معنى الحمدِ: الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية، كالعلم والصبر والرحمة ،أم على عطائه وتفضُّله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جماداً ولكن لا تحمده .
وقد ثبت أنّ المدح أعم من الحمد, فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده , أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد , أمّا المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل؛ ولذا كان المدح منهياً عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احثوا التراب في وجه المداحين» بخلاف الحمد فإنه مأمور به؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».
وبذا علمنا من قوله: {الحَمْدُ للهِ }أن الله حيٌّ له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه, ولو قال : (المدح لله) لم يفد شيئاً من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
السؤال الثاني :
لِمَ لم يقل سبحانه (الشكر لله) ؟
الجواب:
لأنّ الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته , وقد تحمده على ذلك .
وقد جاء في «لسان العرب» : (والحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته, فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم، فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك وإلى الخلق جميعاً, وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية , وإن لم يتعلق شيء منها بك، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
السؤال الثالث:
قوله تعالى {الحَمْدُ للهِ }ولِمَ لم يقل (أحمد الله) أو (نحمد الله) ؟
الجواب:
قوله تعالى : {الحَمْدُ للهِ }أولى من وجوه عدة:
1ـ أنّ القول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مختص بفاعل معين، ففاعل (أحمد) هو المتكلم وفاعل (نحمد) هم المتكلمون , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) مطلقةٌ لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إذا قلت : (أحمد الله) أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أنّ غيرك حمده , وإذا قلت : (نحمد الله) أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أنّ غيركم حمده , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
2ـ وقول (أحمد الله) تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أنّ من تحمده يستحق الحمد، في حين إذا قلت (الحمد لله) أفاد ذلك استحقاق الحمدِ للهِ وليس مرتبطاً بفاعل معين.
3ـ وقول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مرتبط بزمن معين؛ لأنّ الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أنّ الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه.
ولا شك أنّ الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود، وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن، وإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله أنْ يكون مرتبطاً بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل، فيكون الحمد أقل مما ينبغي, وحمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان , ولذلك فإنّ عبارة {الحَمْدُ للهِ } مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في «تفسير الرازي» أنه لو قال :(أحمد الله) أفاد ذلك كون القائل قادراً على حمده، أمّا لما قال (الحمد لله) فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
وقول (أحمد الله) جملة فعلية و(الحمد لله) جملة اسمية , والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أنّ الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا؛ إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
4ـ وقول (الحمد لله) معناه أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلآئه على العباد. فقولنا: (الحمد لله) معناه : أنّ الحمد لله حق يستحقه لذاته، ولو قال :(أحمد الله) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته, ومعلوم أنّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أنّ شخصاً واحدا حمده.
والحمد عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تلفَّظَ الإنسان بقوله : (أحمد الله) مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك.
أما إذا قال: (الحمد لله) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأنّ معناه: أنّ الحمد حق لله وملكه , وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن. فثبت أنّ قوله (الحمد لله) أولى من قوله (أحمد الله) أو من (نحمد الله).
ونظيره قولنا {لَا إِلَهَ إِلَّا} فإنه لا يدخل في التكذيب، بخلاف قولنا "أشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذباً في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {المنافقون:1} .
السؤال الرابع:
لماذا لم يقل{الحَمْدُ للهِ }بالنصب أي ( الحمد َ لله )؟
الجواب:
إن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب، ذلك أنّ قراءة الرفع تدل على أنّ الجملة اسمية، في حين أنّ قراءة النصب تدل على أنّ الجملة فعلية، بتقدير"نحمد" أو "أحمد" او «احمدوا» بالامر، والجملةُ الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية؛ لأنها دالة على الثبوت.
وقد يقال : أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى «احمدوا الحمد لله» كما تقول: «الإسراع في الأمر» بمعنى أسرعوا؟
والجواب: لا . فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لأنّ الأمر بالشيء لا يعني أنّ المأمور به مستحق للفعل، وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان {الحَمْدُ للهِ } بالرفع أولى من ( الحمد َ لله ) بالنصب في الإخبار والأمر.
السؤال الخامس:
لماذا لم يقل «حمداً لله»؟
الجواب:
الحمد لله معرَّفةٌ بأل، وحمداً نكرة, والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير، ذلك أن «أل» قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها، ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لك الحمد كله» فدل على استغراق الحمد كله، فعلى هذا يكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
السؤال السادس:
{الحَمْدُ للهِ } أهي خبر أم انشاء؟
الجواب:
الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب , والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
قال أكثر النحاة والمفسرين :إنّ (الحمد لله) إخبار كأنه يخبر أنّ الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال : إنها إنشاء؛ لأنّ فيها استشعار المحبة، وقسم قال : إنها خبر يتضمن إنشاء.
وأحيانا يحتمل أنْ تكون التعبيرات خبراً أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه, فعلى سبيل المثال قد نقول : (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء، وقد نقول: (رزقك الله وعافاك) والقصد منها: أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أنْ تستعمل خبراً وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر, ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كأنْ نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول : الحمد لله.
السؤال السابع:
لماذا لم يقل سبحانه : إنّ الحمد لله؟
الجواب:
لا شك إنّ الحمد لله , لكن هناك فرق بين التعبيرين أنْ نجعل الجملة خبراً محضاً في قول{الحَمْدُ للهِ } حيث (تعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه (إنّ) لا يمكن إلا أنْ يكون إنشاء , لذا فقول : (الحمد لله) أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك , لذا جمعت {الحَمْدُ للهِ }بين الخبر والإنشاء ومعناهما. مثلا نقول : رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول : إنّ رحمة الله عليك، فهذا خبر وليس دعاء .
ومن المعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء) أما: قد رحمه الله (إخبار) , رزقك الله (دعاء) أما : قد رزقك الله (إخبار)
السؤال الثامن:
لماذا لم يقل سبحانه : لله الحمد؟
الجواب:
لله الحمد : تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه ,مثال(لفلانٌ الكتاب) تقال للتخصيص والحصر, وإذا قُدِّمَ الجارُ والمجرورُ على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أنّ الحمد سيكون لغير الله)
الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى. الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل , وأمّا العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى .
والمقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً , وليست مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد وردت في القران الكريم{فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] .
لا أحد يمنع التقديم، لكنّ التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. والمقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية , أمّا في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أنّ الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا، فهو المحمود الأول، لذا جاءت (فلله الحمد) مقدَّمةً حسب ما اقتضاه السياق العامُّ للآيات في السورة.
السؤال التاسع:
لماذا التفصيل في الجاثية { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] ولم ترد في الفاتحة؟
الجواب:1ـ في الجاثية : تردَّدَ ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما, فقد جاء في أول السورة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية:3] فلو نظرنا في جوِّ سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. قال تعالى : {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:27 يعني هو ربُّهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ} [الجاثية:27 إذن هو رب العالمين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ} [الجاثية:22] فهو ربهما {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22] فهو ربُّ العالمين. {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] فجمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة , أمّا في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين {المؤمِنينَ} ، {الضَآلِينَ}.. لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.
يتبع
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (1)
المهندس مثنى محمد هبيان
الاستعاذة
قال الله تعالى : [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ(199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) ]. {الأعراف}.
[وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98) ]. {المؤمنون}.
[... ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ(36) ]. {فصِّلت}.
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها , وهو أنّ الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عن طبعه ـ الطيِّب في الأصل ـ إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة من العدوِّ الشيطانيِّ لا محالة , إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً , ولا يبتغي غير هلاكِ ابنِ آدم لشدَّةِ العداوة بينه وبين أبيه آدمَ عليه السلام من قبل .
والشيطان في لغة العرب : مشتَقٌّ من ـ شطن ـ إذا بَعُدَ , فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير , وقيل هو مشتَقٌّ من ـ شاط ـ لأنه مخلوق من النار .
روى مطعم بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة قال : «الله أكبر كبيراً، ثلاث مرات، والحمد لله كثيراً، ثلاث مرات، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً»، ثلاث مرات ثم قال صلى الله عليه وسلم : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من هَمزِه ونَفخِه ونَفثِه» .
والرَّجيمُ: معناه المرجومُ أي: ملعونٌ، كما قال تعالى للشيطان:[قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ] {الحجر:34}
والاستعاذة هي: الالتجاء والاستجارة إلى الله تعالى لتجنُّب ودفع كل ذي شر، ولطلب كل ذي خير , وجاء بالصيغة الفعلية لتدلَّ على الحدوث والتجدُّد .
والاستعاذة لا تتمُّ إلا بعلم العبد بكونه عاجزاً عن جلب المنافع الدينية والدنيوية, وعن دفع جميع المضار الدينية والدنيوية , وأنّ الله تعالى وحده هو القادر على إيجاد جميع المنافع ودفع جميع المضار , فإذا حصل هذا العلم , حصل للقلب انكسار وتواضع وخضوع .
والآياتُ تطلب منا الاستعاذة من الشيطان قبل أن نقرأ القرآن ؛ ذلك لأن كل مخلوق إذا اتجه إلى خالقه واستعاذ به يكون هو الأقوى برغم ضعفه لأنك جعلت الله في جانبك , ونحن حينما نصفي جهاز استقبالنا لحسن استقبال كلام الله ,لا نفعل ذلك بقدراتنا نحن ولا بقوتنا ولكن بالاستعانة بقوة وقدرة الله , لماذا؟ لأن معوِّقات المنهَج عند الإنسان المؤمن إنما هي من عمل الشيطان.
وعطاء الله في القرآن الكريم متساوٍ لجميع الخلق ولكن كل إنسان يأخذ على قدر إيمانه، فالقرآن يُقرأ والناس تسمع , ولكن هل يتقبل الجميع القرآن تقبُّلاً متساوياً ؟ بالطبع لا.
والله سبحانه يريدنا عندما نقرأ القرآن أن نُبعِدَ الشيطانَ عن أنفسنا قبل أن يُبعِدَنا هو عن منهج الله وعن آياته .
وبما أننا لا نرى الشيطان وهو يرانا ولا نعرف أين هو, بينما هو يعرف أين نحن , فلا بد من أن نستعيذ بقوةٍ تستطيع أن تقهره , فطلب الله منا أن نستعيذ به وأن نلجأ إليه لأنه هو القادر على أن يحمينا ويصفي قلوبنا ونفوسنا من همزات الشياطين ، فيحسن استقبالنا للقرآن وآياته فتمسّ آياتُه قلبَك ونفسَك وتكون لك هدىً ونوراً .
سؤال : هل من فرق بين الرجيم والمرجوم؟
جواب : عندنا لغتان: فعيل ومفعول. فعيل نسميها صفةً مشبَّهةً كأن الرجم لازم له . وعندما نقول : مرجوم، في لغة تميم تقول: مفعول، وفي لغة الحجاز تقول أحياناً: فعيل , لكن هنا ليست بفارق اللغة، وإنما اختيرت الصفة المشبهة التي تدل في الغالب على الثبات , وهذا يعني أنّ صفة الرجم لاصقة به. أمّا المرجوم فقد يكون مرجوماً الآن لكن لا يكون مرجوماً بعد ساعة، بينما (رجيم ) هو صفته اللاصقةُ به أي أن عليه هذا الرجم دائماً.
سؤال : ما الفرق بين الفعلين ( أعوذ ) و ( ألوذ ) ؟
جواب : العياذ : للفرار من الشر , و اللياذ : لطلب الخير . قال الشاعر :
يا من ألوذ به فيما أؤمله=ومن أَعوذ به مما أُحاذره
من لطائف الاستعاذة :
1ـ في قوله :(أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق .
2ـ الاستعاذة اعترافٌ بعجز النفس وبقدرة الرب .
3ـ أنّ الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان .
4ـ أنّ سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك .
5ـ الشيطان عدوٌّ للإنسان .
6ـ الاستعاذة طهور للفم مما كان يتعاطاه العبد من اللَّغو والرَّفث وتطييبٌ له وهو يتهيأ لتلاوة كلام الله , وهي أيضاً تنظيف للقلب من لَوث وسوسة الشيطان .
7ـ إنما قال : (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر بل ذكر (الله)؛ لأنّ هذا الاسم أبلغُ في كونه زاجراً عن المعاصي عن سائر الأسماء والصفات؛ ولأنه فقط الإله المستحق للعبادة.
8ـ عندما يقول العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دلّ ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان .
9ـ الشيطان اسم، والرجيم صفةٌ، فذكر الحق سبحانه الاسم والصفة , فكأنّ الله يقول لك إنّ هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فلما تكبر رجمناه وطردناه , وأنت لو جلس معك لحظة واحدة لألقاك في النار، فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه، فقل: ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ).
10ـ للعبد عَدُوَّان : أحدهما ظاهرٌ والآخر باطنٌ وهو مأمور بمحاربتهما لكن محاربةُ العدو الباطن ـ وهو الشيطان ـ أولى؛ لأنه إن وجد فرصةً فهي في الدين واليقين، وإنْ غلبك كنت مفتوناً , وأمّا العدو الظاهر ففي متاع الحياة الدنيا، وإنْ غلبك كنت مأجوراً.
11ـ أدخَلَ الألفَ واللامَ في (الشيطان) ليكونَ تعريفاً للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئيةٌ وغير مرئيةٍ .
12ـ كأنه تعالى يقول : (إنه شيطان رجيم , وأنا رحمن رحيم) فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم .
13ـ أعوذ : فعل مضارع يصلحُ للحال حقيقةً وللمستقبل مجازاً .
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (2)
المهندس مثنى محمد هبيان
البسملة ومقاصد سورة القاتحة وأسماؤها وفضلها
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها , نزل مقروناً باسم الله سبحانه وتعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1} ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .
وإننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله؛ لأننا لا بدّ أن نحترم عطاء الله في كونه , فحين نزرع الأرض مثلاً لا بدّ أن نبدأ باسم الله؛ لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها، ولا خلقنا البذرة التي نبذرها، ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع ،وهكذا.
وأنت حين تبدأ كل شيء باسم الله كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .
ومن رحمة الله سبحانه أنه علّمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله ؛ لأنّ الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه, والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة , فلو أنّ الله لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها، كأن تقول : باسم القوي، وباسم الرزاق، وباسم المجيب، وباسم القادر، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات، ولكنّ الله تعالى جعلنا نقول : {بسم الله} الجامع لكل هذه الصفات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» أي: عمل ناقص فيه شيء ضائع , لأنك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك, وحين لا تبدأ العمل باسم الله فليس عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا وبترت عطاءه في الآخرة , أمّا إذا أردت عطاء الدنيا والآخرة فأقبل على كل عمل باسم الله .
وعندما تبدأ قراءة القرآن باسم الله الذي آمنت به رباً وإلهاً والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى , وأنه خلق وأوجد , ويحيي ويميت, وله الأمر في الدنيا والآخرة, وأنه سيثيبك في الآخرة تشعر أنّ البداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
ونلاحظ أنّ هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في البسملة وفي سورة الفاتحة، وهذه الأسماء هي : (الله ـ الرحمن ـ الرحيم) ونقول إنه ليس في القرآن تكرار, وإذا تكرر اللفظ فإنّ معناه في كل مرة يوحي بدلالة جديدةعن معناه في المرة السابقة؛ لأنّ الله هو المتكلم ؛ لذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح وفي معناه الصحيح .
وقولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء، وهي كذلك طلب العون من الله بكل كمال صفاته .
و{الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله وغفرانه وتوفيقه حتى لا نستحي من أن نستعين به إن كنا قد فعلنا معصية, والله يريدنا أن نستعين باسمه دائماً في كل أعمالنا , فاذا سقط واحد منا في معصية , قال: كيف أستعين باسم الله وقد عصيته؟
نقول له: ادخل عليه من باب الرحمة يغفر لك واستعن به يجبك , وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله؛ لأنّ عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , ولولا أن رحمة الله سبقت عدله ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض , فالله يقول في سورة النحل :[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {النحل:61} والإنسان خلق هلوعاً ضعيفاً وذنوبه كثيرة , ولا يمكن لأحد أن ينسب الكمال إلى نفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
ولكن {الرحمن الرحيم} في الفاتحة مقترنةٌ برب العالمين الذي أوجدك من عدم وأمدك بِنِعَمٍ لا تعد ولا تحصى، فأنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله في ربوبيته , ذلك أنّ الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة.
والله سبحانه رب للمؤمن والكافر، وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه، وهذه رحمة تستوجب الشكر، لذلك في الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه؛ فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه.
كذلك علَّمنا الحق أن نقول:{بسم الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أنّ الباب مفتوح للاستعانة بالله , وأنّ المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله؛ لأنه رحمن رحيم .
الفاتحة
أولاً ـ هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن :
سُمِّيت الفاتحة، وأم الكتاب، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم , كما ورد في «صحيح البخاريِّ» أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمدُ لله ربِّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وقد وصفها الله تعالى بالصلاة.
فما سِرُّ هذه السورة؟
سورة الفاتحة مكية، وآياتها سبع بالإجماع , وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها فهي أول القرآن ترتيبا لا تنزيلاً, وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم واشتملت مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه: العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه إليه جلّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم, والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقة والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه وغير ذلك من مقاصد وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة، ولهذا تسمى بأمِّ الكتاب.
إذن اشتملت سورة الفاتحة على كلِّ معاني القرآن، فهدف السورة الاشتمالُ على كل معاني وأهداف القرآن.
والقرآن نصَّ على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة. والقرآن يدعو للاعتقاد بالله، ثم عبادته، ثم حدد المنهج في الحياة، وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة:
1ـ العقيدة:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.
2ـ العبادة:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
3ـ مناهج الحياة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ]. {الفاتحة}.
وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاث.
4ـ تذكِّرُ سورة الفاتحة بأساسيات الدين؛ ومنها:
آ ـ شكرُ نعم الله {الحمد لله}.
ب ـ الإخلاص لله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
ج ـ الصحبة الصالحة:[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} .
د ـ وتذكُّرُ أسماء الله الحسنى وصفاته: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3}.
هـ ـ الاستقامة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} .
و ـ الآخرة: [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] {الفاتحة:4} ويوم الدين هو يوم الحساب.
ز ـ أهمية الدعاء.
ح ـ وحدة الأمَّة:{نعبدُ} {نَسْتَعيِنُ} [الفاتحة:5] ورد الدعاء بصيغة الجمع مما يدل على الوحدة، ولم يرد بصيغة الافراد.
إذن سورة الفاتحة تُسَلسِلُ مبادئَ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة) وهي تثني على الله تعالى وتدعوه؛ لذا فهي اشتملت على كل أساسيات الدين.
أنزل الله تعالى الكتب الثلاثة (الزبور، التوراة، والإنجيل) ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع القرآن في الفاتحة، وجُمعت الفاتحة في الآية:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
وقد افتتح القرآن بها فهي مفتاح القرآن، وتحوي كل كنوز القرآن، وفيها مدخلٌ لكل سورة من باقي سور القرآن , وبينها وبين باقي السور تسلسلٌ بحيث إنه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائماً.
ثانياً ـ أسماء هذه السورة :
1ـ فاتحة الكتاب.
2ـ سورة الحمد.
3ـ أم القرآن.
4ـ السبع المثاني.
5ـ الوافية.
6ـ الواقية.
7ـ الأساس.
8ـ الشفاء.
9ـ الصلاة : في الحديث القدسي « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ».
10ـ سورة الشكر.
11ـ سورة الدعاء.
وهناك أسماء أخرى , وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .
ثالثاً ـ فضل السورة :
الآن وقد عرفنا أهداف سورة الفاتحة التي نكررها (17) مرة في صلاة الفريضة يومياً ما عدا النوافل, لا شك أننا سنستشعر هذه المعاني ونتدبر معانيها ونحمد الله تعالى ونثني عليه وندعوه بالهداية لصراطه المستقيم.
وسورة الفاتحة مكية على قول أكثر العلماء، وفي فضائلها ذكر العلماء أنّ منها :
آ ـ نزلت من كنز تحت العرش .
ب ـ قال الحسين رضي الله عنه : أودع الله سبحانه العلوم في الكتب الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المُفصَّلِ، ثم أودع علوم المفصَّلِ في الفاتحة .
ج ـ فاتحة الكتاب شفاءٌ من السُّمِّ، كما في حديث حذيفة بن اليمان .
د ـ وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله، فأولها ثناء على الله تعالى:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2} ، وآخرها دعاء لله بالهداية: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} ولو قسَّمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أنّ نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفاً) من : {الحَمْدُ لِله} إلى {وإيَّاك نَسْتَعينُ} ، ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفاً) من {اهدِنا الصِرَاطَ} إلى {ولا الضَّآلينَ}وكأنها إثبات للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) ، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال : (مالك يوم الدين)، قال عز وجل: مجَّدني عبدي، وقال مرَّةً: فوّض إلي عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كلَّ شيء.
وقد سُئِلَ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه : لماذا تقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة؟ فأجاب : لأستمتع بردِّ ربي.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (3)
المهندس مثنى محمد هبيان
اللمسات البيانية في البسملة
[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:1}
السؤال الأول:
ما معنى الباء في قوله تعالى: {بِسمِ} ؟ وما متعلَّقُها؟
الجواب:
البصريون يسمونها باء الإلصاقِ، والكوفيون يسمونها باء الآلة، ويسميها قومٌ باء التضمين وهي متعلِّقةٌ بمضمرٍ لا محالة، و قد يكون اسماً وقد يكون فعلاً, وعلى التقديرين يجوز أن يكون متقدِّماً ويجوز أن يكون متأخراً نحو :
ـ ابتداء الكلام باسم الله , أو : باسم الله ابتدائي المضمر اسم
ـ أبدأ باسم الله , أو : باسم الله أبدأ المضمر فعل
السؤال الثاني:
لماذا حُذفت الهمزة من ( باسم ) وتكتب{بِسمِ} ؟
الجواب:
للوصل فأصبحت تكتب وتلفظ {بَسمِ} .
السؤال الثالث:
ما دلالة جمع الصيغتين: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3} معاً في البسملة ؟
الجواب:
قد يجمع القران الكريم صيغتين من مادة واحدة احتياطاً للمعنى كقوله: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وذلك:
1 ـ صيغة «فعلان»: تدل على الصفات المتجددة نحو: عطشان وجوعان وغضبان , وهذه الصفات ليست ثابتةً بل تزول وتتحول .
2 ـ صيغة «فعيل» تدل على الثبوت نحو : كريم وبخيل وطويل وجميل ، وفي لغتنا الدارجة تقول : هو ضعفان، إذا أردت الحدوث , فإن أردت الثبوت تقول : هو ضعيف، وكذلك «طولان و طويل».
3 ـ جمع الله لذاته الوصفين : إذ لو اقتصر على (رحمن) لظنَّ ظانٌّ أنّ هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان وريّان , ولو اقتصر على (رحيم) لظَنَّ أنّ هذه صفة ثابتة، ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها , إذ قد تمرُّ على الكريم أوقات لا يكرم فيها, وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك .
والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال، فجمع بينهما حتى يعلم العبد أنّ صفته الثابتة هي الرحمة، وأنّ رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع , وحتى لا يستبد به الوهم بأنّ رحمته تعرض ثم تنقطع, أو قد يأتي وقت لا يرحم فيه سبحانه , فجمع الله كمال الاتصاف بالرحمة لنفسه .
4ـ واعلم أنه لما تفرَّدَ الربُّ سبحانه بعظم رحمته لم يُسَمِّ بالرحمن ـ بالألف واللام ـ أحداً غيره.
وعندما ندعو الله سبحانه : يارحمن الدنيا ورحيم الآخرة , فإن رحمة الله في الدنيا هي للمؤمن والكافر, أمّا رحمته في الآخرة فهي للمؤمن فقط.
السؤال الرابع:
ما الأحرف الأبجدية التي لم ترد في هذه السورة ؟وما دلالة ذلك ؟
الجواب:
هذه السورة لم يحصل فيها سبعةٌ من الحروف وهي (الثاء ـ الجيم ـ الخاء ـ الزاي ـ الشين ـ الظاء ـ والفاء) .
وقالوا : إن هذه الحروف السبعةَ مشعرةٌ بالعذاب مثل (الثبور ـ جهنم ـ الخزي ـ الشقاء ـ ظل ذي ثلاث شعب، و لظى ـ الفراق) كما قال تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ] {الرُّوم:14}.
ونقول: ربما تكون الحكمة : أنّ الله تعالى ذكر في كتابه أنّ لجهنم سبعة أبواب , والله أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ تدل على العذاب تنبيهاً على أنّ من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمناً من الدركات السبع في جهنم، والله أعلم.
السؤال الخامس :
ما خصائص مكونات لفظ الجلالة ( الله ) ؟
الجواب :
اسم لفظ الجلالة ( الله) مكونات حروفه هي دون الأسماء جميعها, ويأتي لفظها من خالص الجوف , لا من الشفتين , ولفظ الجلالة ( الله ) لا تنطق به الشفاه لخلوه من النقاط .
ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة ( اللهُ ) مضموم الهاء , ومن إعجاز اسم الجلالة
( الله ) أنه مهما نقصت حروفه فإنّ الاسم يبقى كما هو :
1ـ إذا حذفنا أول حرف يكون لدينا ( لله ) كما في الآية: [وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] {الأعراف:180} .
2ـ وإذا حذفنا الألف واللام الأولى بقيت ( له ) كما في الآية : [مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] {البقرة:255}.
3ـ وإذا حذفنا الألف واللام الأولى واللام الثانية بقيت الهاء مضمومة ( هـُ ) ورغم ذلك تبقى الإشارة له كما في الآية: [هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ] {الحشر:22}.
4ـ وإذا حذفنا اللام الأولى فقط بقيت ( إله ) كما في الآية:[وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ] {الزُّخرف:84}.
لذلك مهما نقصت حروف لفظ الجلالة ( الله ) فإنّ الاسم يبقى كما هو .
فسبحان الله العظيم .
السؤال السادس:
ما دلالة رسم كلمة: {بِسْمِ} بدون ألف الوصل ورسمها بألف الوصل {بِاسْمِ} في القرآن الكريم ؟
الجواب:
وردت كلمة: {بِسْمِ} بدون ألف الوصل ثلاث مرات في القرآن الكريم (بخلاف فواصل السور ) في الآيات التالية :
[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:1}
[بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا] {هود:41}
[إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ ] {النمل:30} [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] {النمل:30}
ووردت كلمة: {بِاسْمِ} بألف الوصل أربع مرات في القرآن على النحو التالي :
[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الواقعة:74}
[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الواقعة:41}
[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ] {الحاقة :52}
[اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}
وحين نتدبر الآيات التي وردت فيها: {بِسْمِ} بدون ألف وصل , نلاحظ أنه جاء بعدها لفظ الجلالة: {اللهِ} كما نلاحظ أنه تعني الابتداء , أي : نبدأ{بِسْمِ اللهِ} ويوحي حذف الألف في: {بِسْمِ} أنه يجب علينا عمل الصلة مع الله فقط بأقصر الطرق وأسرعها .
أمّا الحالات التي جاءت فيها: {بِاسِمِ} بألف الوصل فإننا نلاحظ أنها جاءت بقصد التسبيح أو القراءة , وهي أمور تحتاج إلى التفكر والتدبر والتمهل . والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (4)
المهندس مثنى محمد هبيان
[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2}
السؤال الأول:
ما معنى الحمد ؟ وما الفرق بين الحمد والمدح ؟
الجواب:
معنى الحمدِ: الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية، كالعلم والصبر والرحمة ،أم على عطائه وتفضُّله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جماداً ولكن لا تحمده .
وقد ثبت أنّ المدح أعم من الحمد, فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده , أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان. فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد , أمّا المدح فقد يكون قبل ذلك؛ فقد تمدح إنسانا ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل؛ ولذا كان المدح منهياً عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «احثوا التراب في وجه المداحين» بخلاف الحمد فإنه مأمور به؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله».
وبذا علمنا من قوله: {الحَمْدُ للهِ }أن الله حيٌّ له الصفات الحسنى والفعل الجميل، فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه, ولو قال : (المدح لله) لم يفد شيئاً من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
السؤال الثاني :
لِمَ لم يقل سبحانه (الشكر لله) ؟
الجواب:
لأنّ الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية، فإنك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته , وقد تحمده على ذلك .
وقد جاء في «لسان العرب» : (والحمد والشكر متقاربان، والحمد أعمُّهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته, فكان اختيار الحمد أولى أيضا من الشكر لأنه أعم، فإنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك وإلى الخلق جميعاً, وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية , وإن لم يتعلق شيء منها بك، فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
السؤال الثالث:
قوله تعالى {الحَمْدُ للهِ }ولِمَ لم يقل (أحمد الله) أو (نحمد الله) ؟
الجواب:
قوله تعالى : {الحَمْدُ للهِ }أولى من وجوه عدة:
1ـ أنّ القول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مختص بفاعل معين، ففاعل (أحمد) هو المتكلم وفاعل (نحمد) هم المتكلمون , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) مطلقةٌ لا تختص بفاعل معين وهذا أولى , فإنك إذا قلت : (أحمد الله) أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أنّ غيرك حمده , وإذا قلت : (نحمد الله) أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أنّ غيركم حمده , في حين أنّ عبارة (الحمد لله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
2ـ وقول (أحمد الله) تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أنّ من تحمده يستحق الحمد، في حين إذا قلت (الحمد لله) أفاد ذلك استحقاق الحمدِ للهِ وليس مرتبطاً بفاعل معين.
3ـ وقول (أحمد الله) أو (نحمد الله) مرتبط بزمن معين؛ لأنّ الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أنّ الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه.
ولا شك أنّ الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود، وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن، وإنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله أنْ يكون مرتبطاً بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل، فيكون الحمد أقل مما ينبغي, وحمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان , ولذلك فإنّ عبارة {الحَمْدُ للهِ } مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في «تفسير الرازي» أنه لو قال :(أحمد الله) أفاد ذلك كون القائل قادراً على حمده، أمّا لما قال (الحمد لله) فقد أفاد ذلك أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين، فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
وقول (أحمد الله) جملة فعلية و(الحمد لله) جملة اسمية , والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أنّ الجملة الاسمية دالة على الثبوت، وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا؛ إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
4ـ وقول (الحمد لله) معناه أن الحمد والثناء حقٌّ لله وملكه، فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلآئه على العباد. فقولنا: (الحمد لله) معناه : أنّ الحمد لله حق يستحقه لذاته، ولو قال :(أحمد الله) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته, ومعلوم أنّ اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أنّ شخصاً واحدا حمده.
والحمد عبارة عن صفة القلب، وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلاً منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال. فإذا تلفَّظَ الإنسان بقوله : (أحمد الله) مع أنه كان قلبه غافلاً عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك.
أما إذا قال: (الحمد لله) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأنّ معناه: أنّ الحمد حق لله وملكه , وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والاجلال أو لم يكن. فثبت أنّ قوله (الحمد لله) أولى من قوله (أحمد الله) أو من (نحمد الله).
ونظيره قولنا {لَا إِلَهَ إِلَّا} فإنه لا يدخل في التكذيب، بخلاف قولنا "أشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذباً في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {المنافقون:1} .
السؤال الرابع:
لماذا لم يقل{الحَمْدُ للهِ }بالنصب أي ( الحمد َ لله )؟
الجواب:
إن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب، ذلك أنّ قراءة الرفع تدل على أنّ الجملة اسمية، في حين أنّ قراءة النصب تدل على أنّ الجملة فعلية، بتقدير"نحمد" أو "أحمد" او «احمدوا» بالامر، والجملةُ الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية؛ لأنها دالة على الثبوت.
وقد يقال : أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى «احمدوا الحمد لله» كما تقول: «الإسراع في الأمر» بمعنى أسرعوا؟
والجواب: لا . فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لأنّ الأمر بالشيء لا يعني أنّ المأمور به مستحق للفعل، وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان {الحَمْدُ للهِ } بالرفع أولى من ( الحمد َ لله ) بالنصب في الإخبار والأمر.
السؤال الخامس:
لماذا لم يقل «حمداً لله»؟
الجواب:
الحمد لله معرَّفةٌ بأل، وحمداً نكرة, والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير، ذلك أن «أل» قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها، ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «اللهم لك الحمد كله» فدل على استغراق الحمد كله، فعلى هذا يكون المعنى: أنّ الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
السؤال السادس:
{الحَمْدُ للهِ } أهي خبر أم انشاء؟
الجواب:
الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب , والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
قال أكثر النحاة والمفسرين :إنّ (الحمد لله) إخبار كأنه يخبر أنّ الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال : إنها إنشاء؛ لأنّ فيها استشعار المحبة، وقسم قال : إنها خبر يتضمن إنشاء.
وأحيانا يحتمل أنْ تكون التعبيرات خبراً أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه, فعلى سبيل المثال قد نقول : (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء، وقد نقول: (رزقك الله وعافاك) والقصد منها: أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أنْ تستعمل خبراً وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر, ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كأنْ نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول : الحمد لله.
السؤال السابع:
لماذا لم يقل سبحانه : إنّ الحمد لله؟
الجواب:
لا شك إنّ الحمد لله , لكن هناك فرق بين التعبيرين أنْ نجعل الجملة خبراً محضاً في قول{الحَمْدُ للهِ } حيث (تعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه (إنّ) لا يمكن إلا أنْ يكون إنشاء , لذا فقول : (الحمد لله) أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك , لذا جمعت {الحَمْدُ للهِ }بين الخبر والإنشاء ومعناهما. مثلا نقول : رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول : إنّ رحمة الله عليك، فهذا خبر وليس دعاء .
ومن المعلوم أنه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء) أما: قد رحمه الله (إخبار) , رزقك الله (دعاء) أما : قد رزقك الله (إخبار)
السؤال الثامن:
لماذا لم يقل سبحانه : لله الحمد؟
الجواب:
لله الحمد : تقال إذا كان هناك كلام يراد تخصيصه ,مثال(لفلانٌ الكتاب) تقال للتخصيص والحصر, وإذا قُدِّمَ الجارُ والمجرورُ على اسم العلم يكون بقصد الاختصاص والحصر (لإزالة الشك أنّ الحمد سيكون لغير الله)
الحمد لله في الدنيا ليست مختصة لله سبحانه وتعالى. الحمد في الدنيا قد تقال لأستاذ أو سلطان عادل , وأمّا العبادة فهي قاصرة على الله سبحانه وتعالى .
والمقام في الفاتحة ليس مقام اختصاص أصلاً , وليست مثل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فقد وردت في القران الكريم{فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] .
لا أحد يمنع التقديم، لكنّ التقديم والتأخير في القرآن الكريم يكون حسب ما يقتضيه السياق. والمقام في سورة الفاتحة هو مقام مؤمنين يقرون بالعبادة ويطلبون الاستعانة والهداية , أمّا في سورة الجاثية فالمقام في الكافرين وعقائدهم وقد نسبوا الحياة والموت لغير الله سبحانه، لذا اقتضى ذكر تفضله سبحانه بأنه خلق السموات والأرض وأثبت لهم أنّ الحمد الأول لله سبحانه على كل ما خلق لنا، فهو المحمود الأول، لذا جاءت (فلله الحمد) مقدَّمةً حسب ما اقتضاه السياق العامُّ للآيات في السورة.
السؤال التاسع:
لماذا التفصيل في الجاثية { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] ولم ترد في الفاتحة؟
الجواب:
1ـ في الجاثية : تردَّدَ ذكر السموات والأرض وما فيهن وذكر ربوبية الله تعالى لهما, فقد جاء في أول السورة {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الجاثية:3] فلو نظرنا في جوِّ سورة الجاثية نلاحظ ربوبية الله تعالى للسموات والأرض والخلق والعالمين مستمرة في السورة كلها. قال تعالى : {وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الجاثية:27 يعني هو ربُّهما {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ} [الجاثية:27 إذن هو رب العالمين {وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ} [الجاثية:22] فهو ربهما {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية:22] فهو ربُّ العالمين. {فَللهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الجاثية:36] فجمع الربوبية في السموات والارض والعالمين في آية واحدة , أمّا في الكلام في الفاتحة فهو عن العالمين فقط وذكر أصناف الخلق من العالمين {المؤمِنينَ} ، {الضَآلِينَ}.. لذا ناسب التخصيص في الجاثية وليس في الفاتحة.
يتبع
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (5)
المهندس مثنى محمد هبيان
{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2]
2ـ قوله تعالى:{وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [الجاثية:37] ولم يذكر الكبرياء في الفاتحة؛ لأنه جاء في الجاثية ذكر المستكبرين بغير حق كما في الآيات:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(9) }. [الجاثية]. فدلّ على مظهر من مظاهر الاستكبار, لذا ناسب أن يرد ذكر الكبرياء في السموات والأرض، فسبحانه تعالى يضع الكلام بميزان دقيق بما يتناسب مع السياق العام للآيات.
السؤال العاشر:
في قوله تعالى{الحَمْدُ للهِ }جاء سبحانه وتعالى باسمه العلم{اللهِ}ولم يقل الحمد للخالق أو القدير أو أي اسم آخر من أسمائه الحسنى، فلماذا جاء باسمه العلم؟
الجواب:
1ـ لأنه إذا جاء بأي اسم آخر غير العَلَمِ لدلَّ على أنه تعالى استحقَّ الحمد فقط بالنسبة لهذا الاسم خاصة، فلو قال: الحمد للقادر، لفهمت على أنه يستحق الحمد للقدرة فقط، لكن عند ذكر الذات {اللهُ}فإنها تعني أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته لا لوصفه.
2ـ من ناحية أخرى: الحمد لله مناسبة لما جاء بعدها{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لأنّ العبادة كثيراً ما تختلط بلفظ الله، فلفظ الجلالة {اللهُ} يعنى الإله المعبود، مأخوذة من أَلِهَ (بكسر اللام) ومعناها: عُبِدَ ، ولفظ الله مناسب للعبادة، وأكثر اسم اقترن بالعبادة هو لفظ الله تعالى (وللعلم فإنّ أكثر من 50 مرة اقترن لفظ الله بالعبادة في القرآن) لذا فالحمد لله مناسب لأكثر من جهة.
لذلك نجد أنّ الحمد{للهِ}أولى من قول: الحمد للسميع، أو العليم، أو غيرها من أسماء الله الحسنى. وقولُ: الحمد لله، أولى من قول: أحمد الله، أو الحمدَ لله، أو حمداً لله، أو أنّ الحمدَ لله، أو الحمدُ للحيِّ، أو القادر، أو السميع، أو البصير. جلَّت حكمة الله سبحانه وتعالى وجلّ قوله العزيز.
السؤال الحادي عشر:
ما السور التي بدأت بقوله{الحَمْدُ للهِ }؟
الجواب:
1ـ السور التي بُدئت بالحمد هي خمسُ سور أولها الفاتحة، ثم: الأنعام، الكهف، سبأ، وفاطر. ثم نجدها تتكرر في داخل عدد من السور في سبع عشرة مرة.
و هذه البدايات تبيّن نماذج من الحمد، وعلى الأغلب أنّ {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في الفاتحة هو جنس الحمد، وهناك نماذج أخرى يُحمَد الله عز وجل لآلائه ، فهنا من رحمته، وهنا من فضله، وهنا من علمه، وهنا من إعطائه العلم للآخرين، وهنا من رحمته بهم، وهنا من خلقه السموات والأرض.
والسور الأربع كأن بداياتها متكاملة:
آ ـ الأولى:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
والآية تكلمت عن الأمور المنظورة والكلام فيها عن الخلق بمعنى البدء، لكن غالباً فيه معنى التقدير والتصوير, لأنهم يقولون: هذا الصانع خلق القماش، يعني قدّره قبل أنْ يقصه، والخلق غير التكوين والإنشاء, والتصوير يصور الشيء، والكلام هنا خاص عن خلق السموات والأرض ومن رحمة الله سبحانه تعالى جعل الظلمات والنور، معناه: نظّم السموات والأرض بما فيها من ظلمات ونور مبنية على الحركة وعلى وجود الإشعاع من داخل بعضها، وبعضها خال من الإشعاع.
ب ـ الثانية:{الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1] هذه الآية تكلمت عن الأمور غير المنظورة كالملائكة.
ج ـ الثالثة:{الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ} [سبأ:1] الآية تكلمت عن ملك الله تعالى للسموات والأرض، وكل ما في السموات والأرض هو ملك لله سبحانه وتعالى وحده.
د ـ ثم الرابعة: {الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف:1] الآية تكلمت عن الكتاب الذي يجمع كل القيم ويبين المنهج الإلهي.
فهذه نماذج من آلاء الله سبحانه وتعالى ونعمه التي يجب أن يُحمد عليها, لكن لكل حمدٍ في كل سورة حيثيةٌ خاصةٌ.
2ـ أمّا {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] في سورة الفاتحة فجمعت كل الحيثيات فجاءت شاملةً للكون كله، وجاء بلفظ {الحَمْدُ} لتدل على جنس الحمد كلِّه، بينما توجد حيثياتٌ جزئيةٌ في بدايات السور الأربع، وبينها نوع من التلازم والتشابك.
3ـ عندما ننتقل إلى عموم سور القرآن الكريم نجد في كل موضع كلمة {الحَمْدُ للهِ} لها معناها ولها مدلولها لكن يجمعها جميعاً حتى في هذا الموضع ( آية الفاتحة 2 ) أنه ليس فيها معنى الحصر وقصر الحمد على الله سبحانه وتعالى وليس فيها دعوة إلى أنْ لا يحمد سواه.
لكن سنجد في آيات أخرى هناك قصر {لَهُ الحَمْدُ}، ففي الأماكن التي يقول الله فيها: {الحَمْدُ للهِ} يفسح المجال فيها لأن يحمد الإنسان غير الله سبحانه وتعالى للبشر مثلاً على خُلُقِه، على علمه، على كرمه، لكنْ في الأماكن التي يُطلب فيها أنْ يكون الحمد حصراً وقصراً لله سبحانه وتعالى يقول: {فَللهِ الحَمْدُ} أو {لَهُ الحَمْدُ}.
السؤال الثاني عشر:
ما الخماسيات الأخرى الموجودة في افتتاح سور القرآن الكريم؟
الجواب:
في القرآن الكريم توجد سبع خماسيات في افتتاح سور القرآن الكريم وهي:
1ـ الخماسية الأولى: المفتتحة بالتحميد، وهي السور المذكورة في السؤال السابق، وهي: الفاتحة ـ الأنعام ـ الكهف ـ سبأ ـ فاطر. وكلها مكية.
2ـ الخماسية الثانية: المفتتحة بالتسبيح، وهي: الحديد ـ الحشر ـ الصف ـ الجمعة ـ التغابن. وكلها مدنية.
3ـ الخماسية الثالثة: المفتتحة بأحرف (الر)، وهي يونس ـ هود ـ يوسف ـ إبراهيم ـ الحجر. وكلها مكية.
4ـ الخماسية الرابعة: المفتتحة بالنداء، وهي: النساء ـ المائدة ـ الحج ـ الحجرات ـ الممتحنة. وكلها مدنية.
5ـ الخماسية الخامسة: المفتتحة بنداء الرسول عليه السلام، وهي: الأحزاب ـ الطلاق ـ التحريم ـ المزمل ـ المدثر. وكلها مكية.
6ـ الخماسية السادسة: المفتتحة بالاستفهام، وهي: الإنسان ـ الغاشية ـ الشرح ـ الفيل ـ الماعون. وكلها مكية.
7ـ الخماسية السابعة: المفتتحة بالأمر(قل)، وهي: الجن ـ الكافرون ـ الإخلاص ـ الفلق ـ الناس. وكلها مكية.
والله أعلم.
يتبع
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (6)
المهندس مثنى محمد هبيان
قوله تعالى: {ربِ العَالمِين}
السؤال الأول: ما معنى الرَّبِّ في اللغة ؟
الجواب:
الرَّبُّ هو المالك والسيد والمربي والمنعم والقيّم، فإذن رب العالمين هو ربهم ومالكهم وسيدهم ومربيهم والمنعم عليهم وقَيِّمُهم، لذا فهو أولى بالحمد من غيره، وذكر{ربِ العَالمِين} هي أنسب ما يمكن وضعه بعد {الحَمْدُ للهِ}.
رب العالمين يقتضي كل صفات الله تعالى ويشمل كل أسماء الله الحسنى.
السؤال الثاني: ما دلالة كلمة {العَالَمِينَ}؟
الجواب:
العالمين: جمع عَالَم , والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى , والعالم يجمع على العوالم وعلى العالمين, لكن اختيار العالمين على العوالم أمر بلاغيٌّ، ويعني ذلك أنّ العالمين خاص للمكلفين وأولي العقل (أي: لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] ومن المؤكد أنه ليس نذيراً للبهائم والجماد. وبهذا استدلوا على أنّ المقصود بالعالمين أولو العقل وأولو العلم أو المكلفون.
و{العَالَمِينَ}جمع عالم بكل أصنافه لكن يغلُب العقلاء على غيرهم فيقال لهم: (العالمين) ولا يقال لعالم الحشرات أو الجماد أو البهائم : {العَالَمِينَ} وعليه فلا تستعمل كلمة العالمين إلا إذا اجتمع العقلاء مع غيرهم وغلبوا عليهم.
أمّا العوالم قد يطلق على أصناف من الموجودات ليس منهم البشر أو العقلاء أو المكلفون: تقال للحيوانات والحشرات والجمادات.
السؤال الثالث: لماذا لم تجمع عالم على عوالم ؟ وما الفرق بين عوالم وعالمين و علاّم؟
الجواب:
1ـ القاعدة اللغوية :
صيغة الجمع ( فواعل ) هي جمع تكسير، وهي إمّا أنْ تكون :
آ ـ جمعاً لمؤنث بصيغة فاعلة , نحو : كافرة وكوافر ـ ساجدة وسواجد ـ نازلة ونوازل.
ب ـ أو جمعاً لغير العاقل بصيغة فاعل، نحو : قارض وقوارض ـ زاحف وزواحف ـ ناقص ونواقص.
2ـ (عالمين) :
ومفردها (عالم) ولم تجمع على عوالم في القرآن الكريم حسب القاعدة اللغوية أعلاه , والسبب في ذلك أنّ المقصود بها في السياقات القرآنية هو العاقلون ، فأحياناً المقصود منها هو عالم الناس , وأحياناً عالم الإنس والجن (الثقلان)، وأحياناً عالم الملائكة والشياطين ، وأحياناً يتسع معناها فتشمل المخلوقات كافة, العاقلين وغير العاقلين لذلك ينبغي أنْ تجمع كلمة (عالم) على (عالمين) إشارةً إلى العاقلين من الإنس والجن والملائكة والشياطين لتمييزها عن العوالم غير العاقلة.
قال الفرّاء وأبو عبيدة : العالم عبارةٌ عما يعقل من (الإنس والجن والملائكة والشياطين) ولا يقال للبهائم : عالم .
3ـ علاّم :
وردت في القرآن الكريم أربع مرات في آيات ( المائدة 109و 116 ، التوبة 78، سبأ 48) وهي مبالغة من عالم , وقد تكون علاّمة بزيادة تاء التأنيث للمبالغة لكن لا تستعمل مع الله تعالى , ولم يقل القرآن : علاّمة ، لأنّ علم الله لا يترقى بلاغة ولا كمية . والله أعلم.
السؤال الرابع: ما سبب اختيار كلمة {رَبِّ} و {العَالَمِينَ} في الآية؟
الجواب:
1ـ اختيار كلمة العالمين له سببه في سورة الفاتحة، فــ (العالمين) تشمل جيلاً واحداً، أو قسماً من جيل , وقد تشمل كل المكلفين, وفي الآية : {قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ} [الحجر:70] في قصة سيدنا لوط جاءت هنا بمعنى: قسم من الرجال.
واختيار العالمين أيضاً لأنّ السورة كلها في المكلفين , وفيها طلب الهداية وإظهار العبودية لله وتقسيم الخلق، وكله خاص بأولي العقل والعلم , لذا كان من المناسب اختيار العالمين على غيرها من المفردات أو الكلمات، وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، و(العالمين) رد على اليهود الذين ادعوا أن الله تعالى هو رب اليهود فقط، فجاءت {رَبِّ العَالَمِينَ} لتشمل كل العالمين لا بعضهم.
2ـ أمّا اختيار كلمة{رَبِّ} فلأنها تناسب ما بعدها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لأنّ من معاني الرب (المربي)، وهي أشهر معانيه وأولى مهام الرب الهداية , لذا اقترنت الهداية كثيراً بلفظ الرب , كما اقترنت العبادة بلفظ الله تعالى كما في الآيات :{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50) }. [طه].
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) }. [الأعلى]. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الأنعام:161] { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24] ، {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصَّفات:99] ، {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] لذا ناسب لفظ رب مع اهدنا الصراط المستقيم وفيها طلب الهداية.
السؤال الخامس: أين وردت {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} كاملة في القرآن الكريم ؟
الجواب:
1ـ وردت {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}كاملة في القرآن الكريم في ستة مواضع هي : الفاتحة 2، الأنعام 45 ، يونس 10، الصافات 182، الزمر 75 ، غافر 65 .
2ـ {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} في بداية الفاتحة بعد البسملة معناه بداية عمل.
وفي نهاية سورة الصافات بعد الحديث عن الكون وما يضم إلى قيام الساعة انتهاء الحياة {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ(181 ) وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(181) } [الصَّافات] النهاية.
كذلك في نهاية سورة الزمر {وَتَرَى المَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الزُّمر:75] والأنعام {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(45) } [الأنعام] في نهاية الحياة، وفي نهاية السور التي تشير إلى نهاية الحياة، أونهاية مواقف معينة تأتي {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}وفي الأنعام نهاية عمل وانتهى أمرهم.
و{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فيها كلام عن الناس، لاحظ الآية الأولى {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [يونس:10] هذا في يوم القيامة في الجنة، وقوله تعالى في سورة غافر {هُوَ الحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [غافر:65] هنا في آخر الدعاء , وهنا يحتمل أوله وآخره {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } كأنما الحمد في الأولى والآخرة.
والفائدة التي نقولها أنّ كلمة {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} جاءت في أول الفاتحة تحميداً وتمجيداً لله سبحانه وتعالى وبها يختم العمل والدعاء وتأتي في سور أخرى في الآخرة أي: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} في البدء وفي الختام.
يتبع
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (7)
المهندس مثنى محمد هبيان
حول معنى قوله تعالى {الرحمن الرحيم}
السؤال الأول:
كلمتا ( الرحمن،الرحيم) كل منهما مشتق من الرحمة. فما الفرق بينهما في قوله تعالى {الرحمن الرحيم} ؟
الجواب:
{الرحمن} على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل, ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية أنّ صفة (فعلان) تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء والاتصاف بالوصف إلى حده الأقصى، فيقال: غضبان، بمعنى امتلأ غضباً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86] لكنّ الغضب زال {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ} [الأعراف:154] ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان، فيكون عطشان فيشرب فيذهب العطش .
أما صيغة (فعيل) فهي تدل على الثبوت سواء كان خٍلقة , مثل طويل، جميل، قبيح، فلا يقال : خطيب، لمن ألقى خطبة واحدة، وإنما تقال لمن يمارس الخطابة، وكذلك الفقيه.
هذا الإحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة إلى الآن فنقول لمن بدا عليه الطول (طولان) فيرد : هو طويل (صفة ثابتة)، فلان ضعفان (حدث فيه شيء جديد لم يكن) فيرد : هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو أصلاً ضعيف) .
ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معاً، فلو قال : {الرحمن} فقط لتوهم السامع أنّ هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره، ولو قال : {الرحيم} وحدها لفهم منها أنّ صفة رحيم مع أنها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة إنما قد تنفك، مثلاً عندما يقال : فلان كريم، فهذا لا يعني أنه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة، إنما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.
وجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على أنّ صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة , ويدل على أنّ رحمته لا تنقطع , وهذا يأتي من باب الاحتياط للمعنى، وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا ينفك عن إحداهما فهذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة وغير منقطعة.
{الرحمن}: والرحمن معناه كثير الرحمة، أو ذو الرحمة العامة الشاملة، ولذلك يقولون: كلمة الرحمن معناها : هو رحمن في الدنيا والآخرة، وهو رحمن بكل خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يحرم الكافر من رحمته، وفي الحديث: «لو كانت هذه الدنيا تعدل جناح بعوضة عند ربكم ما سقى كافراً فيها شربة ماء». لكن يسقي الكافر ويعطيه الصحة ويعطيه النظر ويعطيه السمع ويعطيه الاستقامة وهو يكفر بالرحمن، ومع ذلك يرحمه الله في هذه الدنيا، ولكن سيأتي الوقت الذي يحاسبه عليه، فهو رحمن في الدنيا والآخرة للجميع.
{الرحيم}: أما اسم {الرحيم} فجاء في المرتبة الثالثة في السورة: الله، الرحمن، الرحيم. يقول علماؤنا: الرحيم بالمؤمنين .
و لذلك لاحظ كلمة الرحمن لأنها المرحلة الثانية بعد لفظ الله، جاءت مثل لفظة (الله) التي لا يُسمّى بها مخلوق , كذلك كلمة (الرحمن) لا يسمى بها مخلوق ولا حتى بالإضافة ، لذلك لما مسيلمة الكذاب سُمِّيَ : رحمن اليمامة أخزاه الله سبحانه وتعالى.
لكن كلمة (الرحيم) يمكن أنْ يوصف بها البشر أيضاً؛ لأنها رحمة قليلة بالقياس إلى الرحمن ولا تقارن برحمة الله سبحانه وتعالى , وقد وصِفَ محمد صلى الله عليه وسلم بالرحيم في الآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وأنت يمكن أن تقول : هذا إنسان رحيم، لكن لا يمكن أنْ تقول: هذا إنسان رحمن، هذا التدرج يفيد الانتقال من الكل إلى الجزئيات.
السؤال الثاني:
لماذا إذن قدّم سبحانه (الرحمن) على (الرحيم)؟
الجواب:
قدّم صيغة الرحمن، والتي هي الصفة المتجددة وفيها الامتلاء بالرحمة لأبعد حدودها؛ لأنّ الإنسان في طبيعته عجول , وكثيرا ما يؤثر الإنسان الشيء الآتي السريع وإنْ قل على الشيء الذي سيأتي لاحقا وإنْ كثر , ووقوع كلمة (الرحيم) بعد كلمة الرَّبِّ يدلنا على أنّ الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا, وفيها إشارة إلى أنّ المربي يجب أنْ يتحلى بالرحمة وتكون من أبرز صفاته وليست القسوة ، والرَّبُّ بكل معانيه ينبغي أنْ يتصف بالرحمة سواء كان مربياً أو سيداً أو قيماً وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (8)
المهندس مثنى محمد هبيان
حول معنى قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
السؤال الأول: ماذا عن القراءة الثانية ( مَلِكِ ) ؟
الجواب:
هناك قراءة متواترة {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وبعض المفسرين يحاولون تحديد أي القراءتين أولى وتحديد صفة كلٍّ منهما , لكنْ في الحقيقة ليس هناك قراءة أولى من قراءةٍ فكلتا القراءتين متواترة نزل بهما الروح الأمين ليجمع بين معنى المالك والمَلِكِ.
السؤال الثاني: ما الفرق بين المَلِكِ والمالك ؟
الجواب:
المالك من التملُّكِ، والمَلِك بكسر اللام (بمعنى الذي يملك المِلكَ) .
ومَلِكٌ -بكسر اللام- من (المُلك) -بضم الميم- أي الحُكمِ كما في الآية {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزُّخرُف:51] ـ المُلكُ هنا بمعنى الحكم , والحاكم الأعلى هو الله تعالى.
المالك قد يكون ملكاً وقد لا يكون , والمَلِك قد يكون مالكاً وقد لا يكون. المالك يتصرَّفُ في ملكه كما لا يتصرف المَلِكُ (بكسر اللام) , والمالك عليه أن يتولى أمر مملوكه من الكسوة والطعام , والملِك ينظر للحكم والعدل والإنصاف.
المالك أوسع لشموله العقلاء وغيرهم، والملِك هو المتصرف الأكبر وله الأمر والإدارة العامة في المصلحة العامة , فنزلت القراءتان لتجمع بين معنى المالك والمَلِك وتدل على أنه سبحانه هو المالك وهو المَلِك {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ } [آل عمران:26] ـ المُلكُ ملكُه سبحانه وتعالى , فجمع بين معنى المِلكية والمُلكِ .
السؤال الثالث: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} لِمَ لمْ يذكر الدنيا؟ سواء كان مالكاً أو مَلِكاً فلماذا لم يقل (مالك يوم الدين والدنيا)؟
الجواب:
أولاً : قال:{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} فهو مالكهم ومَلِكُهم في الدنيا وهذا شَمَلَ الدنيا. (مالك يوم الدين) هو مالك يوم الجزاءِ، ويعني مَلَكَ ما قبله من أيام العمل ,والعمل يكون في الدنيا، فقد جمع في التعبير يوم الدين والدنيا, وبقوله: (يوم الدين) شمل فيه الدنيا أيضاً.
السؤال الرابع: لِمَ قال : يوم الدين، ولم يقل : يوم القيامة؟
الجواب:
الدِّين بمعنى الجزاء، وهو يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم , ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر وكلها من معاني الدين, وكلمة (الدين) أنسب للفظ (رَبِّ العالمين) وأنسب للمكلفين (الدِّين يكون لهؤلاء المكلفين) فهو أنسب من يوم القيامة؛ لأنّ القيامة فيها أشياء لا تتعلق بالجزاء، أمّا الدين فمعناه الجزاء وكل معانيه تتعلق بالمكلفين؛ لأنّ الكلام من أوله لآخره عن المكلفين، لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.
السؤال الخامس: لماذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ } فأضاف الملك إلى اليوم، واليوم لا يُملَكُ ؟
الجواب:
اليوم لا يملك لكن ما فيه يملك , والسبب لقصد العموم, ومالك اليوم هو مالك لكل ما فيه وكل من فيه , فهو أوسع، وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم وكل ما فيه ومن فيه, فهي إضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه وأحداثه وكل ما فيه من باب المِلكية (بكسر الميم) والمُلكية (بضم الميم).
السؤال السادس : ما أسماء يوم القيامة التي وردت في القرآن ؟
الجواب:
عدد أسماء يوم القيامة في القرآن ما يقارب أربعة وعشرين اسماً ، وهي :
1ـ يوم الدين . [الفاتحة: 4]
2ـ الآخرة . [البقرة: 4]
3ـ القيامة . [البقرة: 85]
4ـ الدار الآخرة . [البقرة: 94]
5ـ اليوم الآخر . [البقرة: 177]
6ـ الساعة . [الأنعام: 31]
7ـ يوم الحسرة . [مريم: 39]
8ـ يوم البعث . [الروم :56]
9ـ يوم الفصل . [الصافات :21]
10ـ يوم التلاق . [غافر: 15]
11ـ يوم الآزفة . [غافر: 18]
12ـ يوم الحساب . [غافر :27 ]
13ـ يوم التناد . [غافر: 32 ]
14ـ يوم الجمع . [الشورى : 7 ]
15ـ يوم الوعيد . [ق :20 ]
16ـ يوم الخلود . [ق : 34 ]
17ـ يوم الخروج . [ق : 42 ]
18ـ الواقعة . [الواقعة : 1]
19ـ يوم التغابن . [التغابن : 9 ]
20ـ الحاقة . [الحاقة : 1 ]
21ـ القارعة . [الحاقة: 4]
22ـ الطامة الكبرى . [النازعات : 34]
23ـ الصاخة . [عبس: 33]
24ـ الغاشية . [الغاشية: 1]
لذلك كان اقتران الحمد بهذه الصفات في الآيات السابقة أحسن اقتران وأجمله:
ـ {الحَمْدُ للهِ} فالله محمود بذاته وصفاته على العموم والله هو الاسم العلم , ثم محمود بكل معاني الربوبية .
ـ { رَبِّ العَالَمِينَ} لأنّ من الأرباب من لا تحمد عبوديته.
ـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهو محمود في كونه رحمن رحيم، محمود في رحمته لأنّ الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة, فالرحمة إذا لم توضع في موضعها لم تكن مدحاً لصاحبها، أمّا الله فمحمود في رحمته يضعها حيث يجب أنْ توضع وهو محمود يوم الدين محمود في تملكه وفي مالكيته.
ـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} محمود في ملكه ذلك اليوم كما في قراءة (مَلِكِ يوم الدين).
فاستغرق الحمد كل الأزمنة فلم يترك سبحانه زمناً لم يدخل فيه الحمد أبداً من الأزل إلى الأبد , فقد استغرق الحمد قبل الخلق {الحَمْدُ للهِ} حين كان تعالى ولم يكن معه شيء قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات، فاستغرق الحمد هنا الزمن الأول وعند خلق العالم {رَبِّ العَالَمِينَ}. واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} واستغرق الحمد يوم الجزاء كله، ويوم الجزاء لا ينتهي لأنّ الجزاء لا ينتهي، فأهل النار خالدون فيها وأهل الجنة خالدون فيها لا ينقضي جزاؤهم، فاستغرق الحمد كل الأزمنة من الأزل إلى الأبد كقوله تعالى { لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ } فهذه الآيات جمعت أعجب الوصف.
يتبع
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (9)
حول معنى قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
مثنى محمد هبيان
السؤال الأول:
لِمَ قدَّمَ مفعولي الفعلين (نعبد) و(نستعين) ؟
الجواب:
قدّم هنا في الآية المفعولين لنعبد ونستعين, وهذا التقديم هو للاختصاص لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة , لذا لم يقل : نعبدك ونستعينك؛ لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى , أمّا قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده، وكذلك في الاستعانة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}تكون بالله حصراً وكما في الآية {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [الممتحنة:4] فكلها مخصوصة لله وحده حصـراً، فالتوكل والإنابة والمرجع كله إليه سبحانه {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:11] .
أمّا قوله تعالى :{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] فإن تقديم الإيمان على الجار والمجرور هنا لأن الإيمان ليس محصوراً بالله وحده فقط، بل علينا الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر, لذا لم تأت (به آمنا) ، أمّا في التوكل فجاءت {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] لا (توكلنا عليه) لأنّ التوكل محصور بالله تعالى وحده.
السؤال الثاني:
لماذا كُرِّرت: {إيَّاكَ} مع فعل الاستعانة ولم يقل (إياك نعبد ونستعين)؟
الجواب:
التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به, ولو اقتصرنا على ضمير واحد (إياك نعبد ونستعين) لم يعن المستعان إنما عنى المعبود فقط , ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة, بمعنى أنه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. ويفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة ربط الاستعانة بالعبادة , وهذا غير وارد، وإنما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال , ونستعين به على وجه الاستقلال . وقد يجتمعان , لذا وجب التكرار في الضمير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
والتكرار توكيد في اللغة، وفي التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.
السؤال الثالث:
ما دلالة إطلاق فعل الاستعانة وعدم تقييده بشيء معين ؟
الجواب:
أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد بأن نستعين على شيء معين، أو نستعين على طاعة معينة، أو غيره، إنما أطلقها لتشمل كل شيء، فهي ليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا بل وتشمل كل شيء يريد الإنسان أن يستعين بربه؛ لأن الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد.
السؤال الرابع:
ما دلالة استعمال ضمير الجمع: { نَعْبُدُ } { نَسْتَعِينُ}ولم يستعمل ضمير المفرد ؟
الجواب:
لقد عبّر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع{نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ}وليس بالتعبير المفرد (أعبد) و(أستعين) ، وفي هذا إشارة إلى أهمية الجماعة في الاسلام ,لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة , وتلزم أنّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة ,وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الأعياد، والصيام, إضافة إلى أنّ المؤمنين إخوة، فلو قال : إياك أعبد؛ لأغفل عبادة إخوته المؤمنين ,ولذلك عندما نقول : إياك نعبد، نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين أيضاً.
السؤال الخامس:
لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟
الجواب:
1ـ ليدل على أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذن شعار وإعلان أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله .
2ـ وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الأمانة الثقيلة إذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه واعتراف الإنسان بضعفه.
السؤال السادس:
لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟
الجواب:
1ـ العبادة هي علة خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة، فالعبادة أولى بالتقديم.
2ـ العبادة هي حق الله، والاستعانة هي مطلب من مطالبه، وحق الله أولى من مطالبه.
السؤال السابع:
تبدأ السورة بـ: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.وهذه كلها من أسلوب الغَيبَةِ، أي كلها للغائب، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلو قسنا على سياق الآيات الأولى لكان أولى القول : (إياه نعبد وإياه نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟
الجواب:
في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو العكس : الالتفات. وللالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، أمّا الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه.
وأمّا الفائدة التي يقتضيها المقام فهي إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة نحو قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] فيها التفات فلم يقل : وجرين بكم , لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.
وعندما قال سبحانه : {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فهو حاضر دائماً، فنودي بنداء الحاضر المخاطب.
والكلام من أول الفاتحة إلى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] كله ثناء على الله تعالى، والثناء يكون في الحضور والغيبة , والثناء في الغيبة أصدق وأولى أمّا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو دعاء , والدعاء في الحضور أولى وأجدى ، إذن الثناء في الغيبة أولى والدعاء في الحضور أولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.
السؤال الثامن:
هل بالإمكان أن يقال في غير القرآن (وبك نستعين)؟
الجواب:
قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الفعل يتعدّى بنفسه (اِستَعَانَهُ) أو يتعدى بحرف الجر (استعانَ به) وهو متعدٍّ في الحالتين استعنتَهُ أو استعنتَ به. وإذا تقدَّمَت (بك نستعين) سيكون معنى الحصر أيضاً في (إياك) وفي (بك) , لكن لماذا فُضّلت (إياك) على (بك)؟ وما الفائدة؟
نلاحظ أنّ الآيات السابقة هي نوع من التربية والتوجيه وليس فيها موضع شَكٍّ، والتأكيد يكون في مواضع الشك، أنت تقول : نجح زيد، إذا كان السامع خالي الذهن، لكن إذا كنت تعلم أنّ لديه بعض الشك في نجاح زيد فتقول له: لقد نجح زيد، فتستعمل مؤكِّدات مثل : إنّ زيداً ناجح، أو إنّ زيداً لناجح , بحسب ما تعتقده من شك في نفسه، فلمّا كان الفعل يتعدّى بنفسه فهذه الباء لم تزده معنى , يعني هي ليست مثلاً للمصاحبة أو الوسيلة كما تقول : كتبت بالقلم، فلما لم تأتِ لزيادةِ معنى فهي للتأكيد. تقول: ليس زيدٌ مسافراً , نفيتَ السفر عن زيد , فإذا أردت التأكيد تقول: ليس زيد بمسافرٍ، وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزُّمر:36] فهنا فيها تأكيد.
والموضع في آية الفاتحة ليس موضعَ تأكيد , يعني ليس هناك شك في أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمُ المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فلما كان ليس فيها شك لا يستعمل الباء (بك نستعين) فجاءت: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنه لو جاءت (إياك نعبد وبك نستعين) كأنه يريد أنْ يزيل شكاً بهذا التأكيد والشك هنا غير وارد، بينما قوله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } كان هناك شك وإلا كان يقول: (أليس الله كافياً عبده) فلمّا أكد معناه أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقِّين وهذه لغة العرب.
هذا شيءٌ، والشيء الثاني لو قال: (إياك نعبد وبك نستعين) تفوتُ هذه المناسبة والملاءمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:] إياك وإياك. وهذه مسألة ثانويةٌ لكنّ المسألة الأساسية ترتبط بالمعنى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
من روائع البيان في سور القرآن" (10)
حول معنى قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}
مثنى محمد هبيان
السؤال الأول:
هل قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} هو صيغة دعاء ؟
الجواب:
هذا دعاء، ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء، فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم، وهذا بدوره يدلّ على أهمية الطلب، وهذا الدعاء له أثره في الدنيا والآخرة، ويدلّ على أنّ الإنسان لا يمكن أن يهتدي للصراط المستقيم بنفسه إلا إذا هداه الله تعالى لذلك. وإذا تُرك الناس لأنفسهم لذهب كل إلى مذهبه ولم يهتدوا إلى الصراط المستقيم ,وبما أنّ هذا الدعاء في الفاتحة ولا صلاة بدون فاتحة؛ فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة , وهذا غير دعاء السنة كما في قوله تعالى: [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] [البقرة:201].
السؤال الثاني:
ما معنى الهداية ؟ وهل فعل (هدى) لازمٌ أم متعدٍّ؟
الجواب:
الهداية : هي الإلهام والدلالة، وهي الإرشاد لطريق الحقِّ والهدى والدلالة عليه والتبيين , وفعل الهداية ( هدى يهدي ) في العربية قد يتعدَّى بثلاث طرق :
آ ـ بنفسه دون حرف جر، مثل قوله تعالى{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} حيث تعدى الفعل بنفسه.
ب ـ وقد يتعدى بإلى، كقوله تعالى: [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] [الشورى:52] [وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] [النازعات:19] .
ج ـ وقد يتعدى باللام: [الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا] [الأعراف:43] [بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ] [الحُجُرات:17].
وذكر أهل اللغة أنّ الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه هو :
1ـ التعدية بدون حرف تقال لمن يكون في الطريق أو الصراط ولمن لا يكون فيه، كقولنا : هديته الطريقَ، قد يكون هو في الطريق فنعرّفه به، وقد لا يكون في الطريق فنوصله إليه.
شواهد قرآنية :
آ ـ استعملت لمن هم خارج الطريق أو الصراط :
[فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا] [مريم:43] الآية خطاب لأبي إبراهيم عليه السلام، وأبو سيدنا إبراهيم لم يكن في الطريق.
[وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] [النساء:68] والمنافقون ليسوا في الطريق.
ب ـ واستعملت لمن هم في الصراط :
[وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا] [إبراهيم:12] قيلت في رسل الله تعالى.
[وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] [الفتح:2] الآية خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول مالك للصراط, فاستعمل الفعل المعدّى بنفسه في الحالتين.
2 ـ أنّ التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه، بمعنى أنّ المهديَّ كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية إليه، لذلك فإن التعدية ( باللام وإلى) لمن لم يكن في الصراط، كقوله تعالى: [فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ] [ص:22] [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ] [يونس:35].
وتستعمل (هداه له) بمعنى (بينه له).
السؤال الثالث:
ما مراحل الهداية؟
الجواب:
الهداية على مراحل وليست هداية واحدة , فالبعيد عن الطريق (الضال ) يحتاج من يوصله إليه ويدله عليه (فنستعمل هداه إليه) والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرّفه بأحوال الطريق وأماكن الأمن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس, ثم إذا سلك الطريق في الأخير يحتاج إلى من يريه ويبين غايته, واستعمل سبحانه اللام [الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ] [الأعراف:43] وهذه خاتمة الهدايات.
ونلخِّص ما سبق على النحو التالي:
-إنسان بعيد يحتاج من يوصله إلى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى .
-إذا وصل إلى الطريق ويحتاج إلى من يعرّفه بالطريق وأحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه.
-إذا سلك الطريق ويحتاج إلى من يبلغه مراده وغايته نستعمل الفعل المتعدي باللام.
والهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل أو الصراط أبداً في القرآن؛ لأنّ الصراط ليس غاية وإنما وسيلة توصل للغاية , واللام إنما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده أو للقرآن لأنها خاتمة الهدايات كقوله: [إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] [الإسراء:9] وقوله : [يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ] [النور:35].
السؤال الرابع:
هل جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف ؟
الجواب:
لا ، والأمثلة التالية تبين الفرق :
آ ـ قوله تعالى: [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى] [يونس:35].
جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى؛ لأنّ معنى الآيات تفيد : (هل من شركائكم من يوصل إلى الحق، قل الله يهدي للحق) الله وحده يرشدك ويوصلك إلى خاتمة الهدايات، ويعني أنّ الشركاء لا يعرفون أين الحق, ولا كيف يرشدون إليه ويدلون عليه.
ب ـ قوله تعالى :[يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] [المائدة:16].
استعمل الهداية معدّاة بنفسها بدون حرف، واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدّى بإلى لأنّ معنى الآيات : أنه من اتبع رضوان الله وليس بعيداً ولا ضالاً استعمل له الفعل المعدى بنفسه , والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط ويحتاج إلى من يوصله إلى الصراط ؛ لذا قال : [وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] استعمل الفعل المعدى بإلى .
السؤال الخامس:
في آية الفاتحة تعدّى فعل الهداية بنفسه؛ فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفعل معدّى بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدّى بنفسه لجمع عدة معانٍ، فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى أن يوصله إليه، والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصّره بأحوال الطريق والثبات والتثبيت على الطريق.
السؤال السادس:
كم مرة جاء فعل الهداية بصوره المختلفة في القرآن الكريم ؟
الجواب:
لقد جاء فِعلُ ـ هدى ـ ومشتقاته في القرآن على 68 صيغة وبتكرار 314 مرة وذلك حسب الجدول التالي :
https://majles.alukah.net/imgcache/broken.gif
السؤال السابع:
لماذا لم تأت الصيغةٌ مثلاً ( إيانا أهدِ ) كما في الآية السابقة ؟
الجواب:
كما سبق وقدَّمَ سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فلماذا لم يقل سبحانه (إيانا اِهدِ)؟
هذا المعنى لا يصح، فالتقديم بإياك نعبد وإياك نستعين تفيد الاختصاص، ولا يجوز أنْ نقول : (إيانا اِهدِ) بمعنى خُصَّنا بالهدايةِ ولا تهدِ أحداً غيرنا، فهذا لا يجوز، لذلك لا يصح التقديم هنا. المعنى تطلَّب التقديم في المعونة والاستعانة ولم يتطلَّبه في الهداية ؛ لذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم).
السؤال الثامن:
لم قال : اهدنا ، ولم يقل : اهدني؟
الجواب:
لأنه مناسب لسياق الآيات السابقة، وكما في آيات الاستعانة والعبادة اقتضى الجمع في الهداية أيضاً ، كما أنّ فيه إشاعة لروح الجماعة وقتلاً لروح الأثرة والأنانية، وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس بأنْ ندعو للآخرين بما ندعو به لأنفسنا.
والاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة، فإذا كثر السالكون يزيد الأنس ويقوى الثبات, فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل أو يسقط أو تأكله الذئاب, فكلما كثر السالكون كان أدعى للاطمئنان والاستئناس.
والاجتماع رحمة والفرقة عذاب,ويشير الله تعالى إلى أمر الاجتماع والأنس بالاجتماع وطبيعة حب النفس للاجتماع، كما ورد في قوله الكريم: [وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا] [النساء:13] فكلمة {خَلِدِينَ} جاءت بصيغة الجمع ؛ لأنّ المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأنس ببعضهم، بينما قوله تعالى:[وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] [النساء:14] هذا في العذاب فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة، فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين: النار والوحدة.
لذلك عندما قال سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} فيه شيءٌ من التثبيت والاستئناس .
وهذا الدعاء ارتبط بأول السورة وبوسطها وآخرها؛ لأنّ: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] مهمة الرَّبِّ وهي الهدايةُ , وكثيراً ما اقترنت الهدايةُ باسمِ الرَّبِّ فهو مرتبطٌ برب العالمين، وارتبط بقوله: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] لأنّ من هداه الله فقد رحمه، وأنت الآن تطلب من الرحمن الرحيم الهداية, أي : تطلب من الرحمن الرحيم ألا يتركك ضالاً غير مهتد.
ثم قال: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فلا تتحقق العبادة إلا بسلوك الطريق المستقيم, وكذلك الاستعانة , ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} أي: صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم: [وَلَا الضَّالِّينَ] والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم , فالهداية والضلال نقيضان و [الضَّالِّينَ] نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.
السؤال التاسع:
ما دلالة الفعل (هدى) ؟ و لماذا لم يستخدم الفعل أرشد أو دلّ مثلاً ؟
الجواب:
1ـ تختلف دلالة الفعل (هدى) باختلاف الحرف المصاحب له (هداه ، هداه إلى, هداه لـ) : والتعبير (هداه إلى الشيء) يشير إلى بُعده كما هو مبين في السؤال الثالث من هذه الآية , بينما الأفعال : بيّن ودلّ وأرشد كلها تعطي معنى الإيضاح والتبيين.
2 ـ أيضاً يوجد شيء في [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ]: فعلُ الهداية ليس هو مجرد الإرشاد, وإنما الهداية فيها شيء كأنه يكون إلى القلب أيضاً، صحيح هو هداه إلى كذا كأنه أرشده , لكن في استعمالات العرب كأنه يمس شيئاً داخلياً فيه، ومنه الهدية لما تقدمها لإنسان, والهدية غير العطاء, العطاء شيء مادي, بينما الهدية هي أيضاً شيء مادي لكن في داخله نوع من المحبة والحميمية والود, وفي الحديث الشريف «تهادوا تحابوا» وهناك فرق بين أعطيته وأهديته , الهدية فيها شيء قلبيٌّ وكأنّ هذا الشيء جعل القرآن يختار [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] لأنه ليس فيها فقط مجرد إرشاد أو إيضاح ، وإنما تتضمن نوعاً من المحبة والود .
السؤال العاشر:
لماذا اختار كلمة (الصراط) بدلا من الطريق أو السبيل؟
الجواب:
لو لاحظنا البناء اللغوي للصراط هو على وزن (فِعال) بكسر الفاء، وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالحِزام والشِّداد والسِّداد والخِمار والغِطاء والفِراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال، بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى.
الصراط يدل على أنه واسع رحب يتسع لكل السالكين , أمّا كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق أي مسلوك , والسبيل على وزن فعيل ونقول أسبلت الطريق إذا كثر السالكون فيها، لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال. فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع, وهذا في أصل البناء اللغوي .
(قال الزمخشري في كتابه «الكشاف» :الصراط من صرط كأنه يبتلع السبل كلما سلك فيه السالكون وكأنه يبتلعهم من سعته).
السؤال الحادي عشر:
ما المعاني الأخرى من النظائر والوجوه للفظة ( الهدى ) ؟
الجواب:
لفظة ( الهدى ) وردت في القرآن الكريم بمعانِ متعددة منها :
1 ـ بمعنى البيان , كقوله تعالى :[أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ] [البقرة: ٥].
2 ـ بمعنى الدين , كقوله تعالى : [قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ] [آل عمران: 73].
3 ـ بمعنى الإيمان , كقوله تعالى: [وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى] [مريم: 76].
4 ـ بمعنى الداعي , كقوله تعالى : [وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ] [الرعد: 7] [وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا] [الأنبياء: 73].
5 ـ بمعنى الرسل والكتب , كقوله تعالى : [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38].
6 ـ بمعنى المعرفة , كقوله تعالى : [وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ] [النحل: 16].
7 ـ بمعنى الرشاد , كقوله تعالى : [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] [الفاتحة: 6].
8 ـ بمعنى القرآن , كقوله تعالى : [وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدَى] [النجم: 23].
9 ـ بمعنى التوراة , كقوله تعالى :[وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الهُدَى] [غافر: 53].
10 ـ بمعنى الحجة , كقوله تعالى :[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [البقرة: 258].
11 ـ بمعنى التوحيد , كقوله تعالى :[وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا] [القصص: 57].
12 ـ بمعنى السُنّة , كقوله تعالى : [وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] [الزخرف: 22].
13 ـ بمعنى الإصلاح , كقوله تعالى : [وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِينَ] [يوسف: 52].
14 ـ بمعنى الإلهام , كقوله تعالى :[ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] [طه: 50].
15 ـ بمعنى التوبة , كقوله تعالى : [إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ]
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (11)
مثنى محمد هبيان
حول معنى قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
السؤال الأول:
لماذا جاءت كلمة (الصراط) معرفة بأل مرة في الآية السابقة، ومضافة مرة أخرى هنا في هذه الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}؟
الجواب:
جاءت كلمة الصراط مفردة ومعرفة بتعريفين: بالألف واللام والإضافة , وموصوفة بالاستقامة ممّا يدل على أنه صراط واحد لا غير، وهو موصوف بالاستقامة؛ لأنه ليس بين نقطتين إلا طريق مستقيم واحد, والمستقيم هو أقصر الطرق وأقربها وصولاً إلى الله، وأي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل إلى المطلوب ولا يوصل إلى الله تعالى. والمقصود بالوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى مرضاته، فكلنا واصل إلى الله وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزَّمل:19] [الإنسان:29] {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحِجر:41].
وقد وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة ولم ترد مجتمعةً أبداً بخلاف السبيل، فقد وردت مفردة ووردت جمعاً { سُبُلَ }لأنّ الصراط هو الأوسع وهو الذي تفضي إليه كل السبل { فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام:153] {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [المائدة:16] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ }[يوسف:108] فالصراط هو صراط واحد مفرد؛ وهو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل، واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود.
ثم زاد هذا الصراط توضيحاً وبياناً بعد وصفه بالاستقامة وتعريفه بأل بقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] فجمعت هذه الآية كل أصناف الخلق المكلفين ولم تستثنِ منهم أحداً فذكر:
1ـ الذين أنعم الله عليهم وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.
2ـ الذين عرفوا الحق وخالفوه{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7] { المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ويقول قسم من المفسرين: إنهم العصاة.
3ـ الذين لم يعرفوا الحق وهم الضالون {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)}[الكهف:103-104] وهذا الحسبان لا ينفعهم، إنما هم من الأخسرين.
ولا يخرج المكلفون عن هذه الأصناف الثلاثة؛ فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الأصناف.
السؤال الثاني:
هل كلمة الصراط توحي بالاستقامة؟
الجواب:
كلا، الصراط هو السبيل الواسع؛ لأنّ كلمة (فِعَال) فيها معنى الاشتمال فيشتمل على كل ما فيه ولا يضيق بما فيه , بغض النظر عما إذا كان مستقيماً أو متعرجاً, ولذا لا بدّ من قول : (المستقيم) لعدة معانٍ:
آـ مستقيم حتى يبيّن استقامته فليس فيه اعوجاج .
ب ـ وليبيّن أنه لا يوجد طريق مستقيم آخر بين نقطتين، أي بينك وبين النهاية التي يريدها الله عز وجل لك , فلا يوجد إلا طريق واحد بخط واحد بمستقيم واحد , وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خطّ خطاً في الأرض وقال : هذا صراط الله المستقيم وخطّ خطوطاً على جانبيه وقال: هذه هي السُّبُل، وعلى رأس كل سبيلٍ شيطانٌ يدعو إليه.
لذلك لا يوجد إلا دين واحد، وطريق واحد يوصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى, وهوخط مستقيم لا يحتمل التعدد، فإذا قال شخص : منهجي لا يتعارض مع الإسلام، أو يوازي الإسلام فهذا الكلام كله لا ينفع، منهجك هو الإسلام ولا يكون بين نقطتين إلا مستقيم واحد؛ لأنه يمكن أنْ يكون بينهما أكثر من خط متعرج أو منحنٍ لكنَّ هناك مستقيماً واحداً.
السؤال الثالث:
قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }[الفاتحة:7] ولم يقل: (تُنعم عليهم)؛ فلماذا ذكر الفعل الماضي؟
الجواب:
اختار الفعل الماضي على المضارع ليتعين زمانه وليبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة نحو قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69].
وفي الآية {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}إذا قال: (تُنعم عليهم) لأغفل كل من أنعم عليهم سابقاً من رسل الله والصالحين, ولو قال: (تنعم عليهم) لم يدل في النص على أنه سبحانه أنعم على أحد سابقاً، ولاحتمل أنْ يكون صراط الأولين غير الآخرين، ولا يفيد التواصل بين زُمَر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أنْ تقوم الساعة. مثال: اذا قلنا : أعطني ما أعطيتَ أمثالي، فمعناه : أعطني مثل ما أعطيت سابقاً، ولو قلنا: أعطني ما تعطي أمثالي فهي لا تدل على أنه أعطى أحداً قبلي.
ولو قال : (تنعم عليهم) لكان صراط هؤلاء أقل شأناً من صراط الذين أنعم عليهم، فصراط الذين أنعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين, أمّا الذين تنعم عليهم فلا يشمل هؤلاء، فالإتيان بالفعل الماضي يدل على أنه بمرور الزمن يكثر عدد الذين أنعم الله عليهم , فمن ينعم عليهم الآن يلتحق بالسابقين من الذين أنعم الله عليهم فيشمل كل من سبق وأنعم الله عليهم , فهم زمرة كبيرة من أولي العزم من الرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم ,وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم.
أما الذين (تنعم عليهم)، فتختص بوقت دون وقت, ويكون عدد المنعم عليهم قليلاً، لذا كان قوله سبحانه {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}أوسع وأشمل وأعم من الذين تنعم عليهم.
السؤال الرابع:
لماذا عبّر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل {أَنْعَمْتَ}والمغضوب عليهم والضالين بالاسم؟
الجواب:
الاسم يدل على الشمول ويشمل سائر الأزمنة من المغضوب عليهم والدلالة على الثبوت، أمّا الفعل فيدل على التجدد والحدوث فوصفه أنهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.
السؤال الخامس:
إذن فلماذا لم يقل: (المُنْعَم عليهم) للدلالة على الثبوت؟
الجواب:
لو قال: (صراط المُنْعَم عليهم) بالاسم لم يتضح من الذي أنعم , إنما بيّن المنعِم (بكسر العين) في قوله {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}لأنّ معرفة المنعِم مهمة , فالنعم تقدر بمقدار المنعِم (بكسر العين)؛ لذا أراد سبحانه وتعالى أنْ يبين المُنعِم ليبين قدرَ النعمة وعظيمها, ومن عادة القرآن أنْ ينسب الخير إلى الله تعالى وكذلك النعم والتفضل, وينزه نسبة السوء إليه سبحانه كما في قوله تعالى : {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه فقد يقول: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] لكن لا يقول: زينا لهم سوء أعمالهم {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37] {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ } [آل عمران:14] { زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } [غافر:37] {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [فاطر:8] {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [الأنفال:48] أما النعمة فينسبها الله تعالى إلى نفسه لأنّ النعمة كلها خير {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } [القصص:17] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزُّخرُف:59] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصِّلت:51] ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره إلا في آية واحدة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب:37] فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.
السؤال السادس:
لماذا ذكرت الآية {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}بصيغة المبني للمجهول و {الضَّالِّينَ} بصيغة اسم الفاعل؟
الجواب:
أولاً جيء بكلٍّ منهما اسماً {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و {الضَّالِّينَ} للدلالة على الثبوت , فالغضب عليهم ثابت والضلال فيهم ثابت لا يرجى فيهم خير ولا هدى، والقرآن لم يقل :(صراط الذين غضب عليهم وضلوا) وإنما المغضوب عليهم ولا الضالين، فجاء بالوصفين بالاسمية للدلالة على ثبوت هذين الوصفين فيهما.
يبقى السؤال : لماذا جاء المغضوب عليهم اسم مفعول ولم يقل: (غاضب) اسم فاعل؟ والجواب: أنّ مغضوب عليهم، اسم مفعول، يعني وقع عليهم الغضب، ولم يذكر الجهة التي غضبت عليهم، ليعم الغضب عليهم من جميع الجهات : غضب الله وغضب الغاضبين لله من الملائكة وغيرهم , فهو لا يتخصَّصُ بغاضب معين , أي لم يغضب عليهم فلان أو فلان وإنما مغضوب عليهم من كل الجهات , بل هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم في الآخرة، كما في قوله تعالى:{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقوله تعالى {ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] إذن مغضوب عليهم من كل الجهات، وحذفُ جهةِ الغاضب فيه عموم وشمول، أما (الضالين) فهم الذين ضلّوا.
السؤال السابع:
لماذا قال : {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}ولم يقل: (غضبت عليهم)؟
الجواب:
جاء باسمِ المفعولِ وأسنده للمجهول ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس، حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض، وحتى جلودهم تتبرأ منهم، ولذا جاءت (المغضوب عليهم) لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.
السؤال الثامن:
لماذا أضاف النعمة إليه سبحانه وحذف فاعل الغضب ؟
الجواب:
جاء في «التفسير القيِّم» : وأضاف النعمةَ إليه وحذف فاعلَ الغضبِ لوجوه :
1ـ أنّ النعمة هي الخير، والغضب من باب الانتقام , فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما.
2ـ أنّ الله سبحانه هو المتفرد بالنِّعَمِ , فأضيف إليه ما هو متفردٌ به .
3ـ أنّ في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره.
إضافة إلى أنّ القرآن جعل كُلاًّ من المغضوب عليهم والضالين اسماً وذلك للدلالة على الثبوت فهو غضب عليهم دائم ثابت لا يزول , واتصافهم بالضلال على وجه الثبوت أيضاً فلا يُرجى لهم خيرٌ ولا هدى .
ثم انظر كيف ذكر (لا) بين المغضوب عليهم والضالين , لئلا يُفهمَ أن المباينةَ لمن جمع الغضب والضلال دون من لم يجمعهما .
ونظير ذلك أن تقول : أنا لا أحب من تكبَّر وبخل , أو : أنا لا أحب من تكبر ولا من بخل , فالجملة الأولى تحتمل أنه لا يحب هذين الصنفين وتحتمل أنه لا يحب من جمع بين الوصفين دون من لم يجمعهما .
السؤال التاسع:
في قوله تعالى{غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} لِمَ ذكر ( لا ) بعد ذكر (غير)؟ أي لوقال مثلاً: (غير المغضوب عليهم والضالين)؟
الجواب:
إذا حذفت (لا) يمكن أن يفهم أنّ المباينة والابتعاد هو فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة فقط، أمّا من لم يجمعها {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}فلا يدخل في الاستثناء.
فاذا قلنا مثلا : لا تشرب الحليب واللبن الرائب (أي: لا تجمعهما) أمّا إذا قلنا: لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب، كان النهي عن كليهما إن اجتمعا أو انفردا.
السؤال العاشر:
ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفةً واحدة، والمردودين فريقين : مغضوباً عليهم وضالين ؟
الجواب:
الذين جمعوا بين الحق والعمل به هم {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فإن اختلَّ قيدُ العمل فهم الفسقة { المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وإن اختلَّ قيدُ العلم فهم {الضَّالِّينَ}.
وللعلم فإن مدّ كلمة {الضَّالِّينَ} في التلاوة مداً لازماً مثقلاً مقداره ست حركات توحي بكثرة هؤلاء الضالين ووفرتهم, وهم ( النصارى) ومن ضلّ من الأمم الأخرى , ومن ضلّ من المسلمين أيضاً , وذلك بالمقارنة بـ : {المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم اليهود , حيث جاءت بدون مد لتدل على قلة عددهم . والله أعلم .
السؤال الحادي عشر :
فلماذا قدّم إذن المغضوب عليهم على الضالين؟
الجواب:
1ـ المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق وهم أشد بعداً؛ لأنه ليس من عَلِمَ كمن جَهِلَ، لذا بدأ بالمغضوب عليهم , وفي معنى الحديث الصحيح: «أنّ المغضوب عليهم هم اليهود، وأما النصارى فهم الضالون».
2ـ المغضوب عليهم أشد ضلالاً وجرماً وعقوبة؛ لأنه علم وجحد, وليس من علم كمن لا يعلم فبدأ بهم . لذلك قيل في العقائد :
وعالم بعلمه لم يَعْمَلَنْ= مُعذَّبٌ من قبل عُبّاد الوَثَن
3ـ جاء في الحديث الصحيح أنّ المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين النصارى, واليهود أسبق فناسب أنْ يُبدأ بهم .
4ـ صفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود، وهي صفة إبليس عندما أُمر بالسجود لآدم عليه السلام وهو يعرف الحق ومع ذلك عصى الله تعالى, وهي أيضاً أول معصية ظهرت على الأرض عندما قتل ابن آدم أخاه، فهي إذن أول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض، قال تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ } [النساء:93] ولذا بدأ بها.
أمّا جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم فلأنّ المغضوب عليهم مناقض للمُنعم عليهم والغضب مناقض للنعم.
للبحث تتمة
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (12)
حول معنى قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
مثنى محمد هبيان
السؤال الثاني عشر :
ما الفرق بين معنى الضلال في الفاتحة {وَلَا الضَّالِّينَ}و قوله تعالى {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] و {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحى:7] ؟
الجواب:
معنى الضلال في الآيات الثلاث واحد وهو عدم معرفة شرع الله سبحانه وتعالى.
آ ـ قوله تعالى {وَلَا الضَّالِّينَ} أي: عدم معرفة شرع الله .
ب ـ فموسى عليه السلام فعل هذا قبل النبوة ؛ فهو لا يعرف شرع الله.
ج ـ والرسول عليه السلام عندما يقول له الله عز وجل : {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} {الضُّحى:7} يعني: لم تكن عارفاً شرع الله تعالى فهداك إلى معرفة شرع الله بالنبوة.
فالضلال هنا عدم معرفة شرع الله، وليس الضلال معناه الفسق والفجور وعمل المنكرات، وإنما هو الجهل بشرع الله سبحانه وتعالى أي: غير الضالين، وموسى عليه السلام قبل النبوة فعل هذا؛ لأنه كان جاهلاً بشرع الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف شرع الله تعالى قبل النبوة، فالمعنى واحد.
السؤال الثالث عشر :
ما مرادفات كلمة: {الصِّرَاطَ} التي جاءت في القرآن الكريم ؟
الجواب:
منظومة كلمة ( صراط ) تأتي على النحو التالي:
إمام - صراط - طريق - سبيل - نهج - فَجٌّ - جُدَدٌ (جمع جادَّةٍ) - نفق
وجاء المعنى العام لكل منها على النحو التالي:
ـ إمام : وهو الطريق العام الرئيس الدولي الذي يربط بين الدول وليس له مثيل، وتتميز أحكامه في الاسلام بتميز تخومه، وقدسية علامات المرور فيه هي من أهم صفاته،وهو بتعبيرنا الحاضر الطريق السريع بين المدن (Highway)، وقد استعير هذا اللفظ في القرآن الكريم؛ ليدل على الشرائع {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء:71] أي كل ما عندهم من شرائع، وجاء أيضا بمعنى كتاب الله {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
ـ صراط: هو كل ممر بين نقطتين متناقضتين كضفتي نهر، أو قِمَّتي جبلين، أو الحق والباطل، والضلالة والهداية في الإسلام، أو الكفر والإيمان. والصراط واحد لا يتكرر في مكان واحد ولا يثنى ولا يجمع، وقد استعير في القرآن الكريم للتوحيد فــ (لا إله إلا الله) تنقل من الكفر إلى الإيمان {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:161] {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43] {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] .
والصراط عموماً هو العدل المطلق لله تعالى وما عداه فهو نسبي. {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] والتوحيد هو العدل المطلق وما عداه فهو نسبي.
ـ سبيل: هو الطريق الذي يأتي بعد الصراط ، وهو ممتدٌّ طويل آمن سهل لكنه متعدد (سُبُلٌ جمع سبيل) {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] والسبل متعددة ، ولكن شرطها أنْ تبدأ من نقطة واحدة وتصب في نقطة واحدة عند الهدف. وفي السبيل عناصر ثلاث: ممتدٌّ، متحرك ويأخذ إلى غاية.
والمذاهب في الإسلام من السبل كلها تنطلق من نقطة واحدة وتصل إلى غاية واحدة، وسبل السلام تأتي بعد الإيمان والتوحيد بعد عبور الصراط المستقيم، ولتقريب الصورة إلى الأذهان فيمكن اعتبار السبل في عصرنا الحاضر وسائل النقل المتعددة؛ فقد ينطلق الكثيرون من نقطة واحدة قاصدين غاية واحدة، لكن منهم من يستقل الطائرة، ومنهم من يستقل السيارة ومنهم من يستقل الدراجة، ومنهم من يركب الدواب وغيرها.
واستخدمت كلمة السبيل في القرآن بمعنى (حقوق) في قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ } [آل عمران:75].
وابن السبيل في القرآن هو من انقطع عن أهله انقطاعا بعيداً وهدفه واضح ومشروع؛ كالمسافر في تجارة أو للدعوة؛ فلا تعطى الزكاة لمن انقطع عن أهله بسبب غير مشروع كالخارج في معصية أو ما شابه.
ـ طريق: الطريق يكون داخل المدينة, وللطرق حقوق خاصة بها، وقد سميت طرقاً؛ لأنها تطرق كثيراً بالذهاب والإياب المتكرر من البيت إلى العمل والعكس، والطريق قد تكون هي العبادات التي نفعلها بشكل دائم كالصلاة والزكاة والصوم والحج والذكر. {يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] .
ـ نهج: وهو عبارة عن ممرات خاصة لا يمر بها إلا مجموعة خاصة من الناس، وهي كالعبادات التي يختص بها قوم دون قوم, مثل نهج القائمين بالليل ونهج المجاهدين في سبيل الله ونهج المحسنين وأولي الألباب وعباد الرحمن، فكل منهم يعبد الله تعالى بمنهج معين, وعلى كل مسلم أن يتخذ لنفسه نهجاً معيناً خاصاً به يعرف به عند الله تعالى؛ كبرّ الوالدين والذكر والجهاد والدعاء والقرآن والإحسان وغيرها {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] وإذا لاحظنا وصفها في القرآن وجدنا لها ثلاث صفات والإنفاق فيها صفة مشتركة.
آ ـ نهج المستغفرين بالأسحار: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ(19) } [الذاريات:17-18-19].
ب ـ ونهج أهل التهجد: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] .
ج ـ ونهج المحسنين: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .
ـ فجّ: وهو الطريق بين جبلين {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] .
ـ جادة: وتجمع على جُدُد كما وردت في القرآن الكريم: {وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [فاطر:27] والجادة هي الطريق الذي يرسم في الصحراء أو الجبال من شدة الأثر ومن كثرة سلوكه.
ـ نفق: وهو الطريق تحت الأرض، قال تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ } [الأنعام:35] .
السؤال الرابع عشر:
ما أصل كلمة آمين التي نختم بها الفاتحة على أنها دعاء، وهل لها بديل في لغة العرب؟.
الجواب:
لا شك أنّ الذي يصلي في المساجد يلحظ هذا الأمر أنه عندما ينتهي الإمام من قراءة الفاتحة يقول هو : آمين، ويقول من وراءه: آمين ويحرص على أنْ يكون التأمين واحداً، ففي السنة والحديث الصحيح أنّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتز من كلمة آمين؛ لأنّ الصحابة كانوا يقولونها بصوت واحد ليس مرتفعاً، ولا يعني علو الصوت كما يفهمه بعض الشباب أنْ يصرخ بأعلى صوته؛ لأنك لا تنادي أصم ، ولكنك تناجي ربك.
ومن هذه الألفاظ كلمة (آمين) وهي كلمة عربية صميمية النسبة، مثل: هيهات ومثل أفٍّ ومثل صه، فهذه أسماء أفعال.
آمين: اسم فعل بمعنى: اللهم استجب، هي فعل أمر طبعاً ولكنّ الأمر من الأدنى إلى الأعلى يخرج للدعاء, كما نقول: اللهم اغفر لنا، اغفر: فعل أمر لكن علماءنا يقولون :خرج للدعاء. فإذن (آمين) اسم فعل أمر بمعنى: اللهم استجب؛ لأنّ كلمة آمين لم تستعمل إلا مع الله، حتى في الجاهلية لا تقول لشخص يتكلم آمين بمعنى: استجب لي يا فلان، لكن آمين يعني: اللهم استجب لكلامه وحتى قبل نزول القرآن، كلمة اللهم كانت مستعملة عندهم ويعنون بها يا الله :
إني إذا ما حدثٌ ألمّا= أقول ياللهم ياللهمّا
لأنّ هذه الكلمة (اللهم) جُعِلت خاصة بنداء الله تعالى، ولأنها جُعِلت هكذا أُدخل عليها حرف النداء مع أنّ الميم هي عوض عن حرف النداء، فقال :(ياللهم) وهذا شاهد نحوي. إذن آمين هي اسم فعل.
وهناك إشكال : أنّ كلمة آمين نسمعها في الصلوات في الكنائس من الأوروبيين الآن يميلونها يقولون :(Amen) هذه الكلمة وجودها في اللغات الأخرى لا يعني أنها ليست عربية، وإنما هي موجودة في اللغة السريانية التي هي الآرامية.
وكلمة (آمين) من لغتنا، والرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على قول آمين ثم بعد ذلك صاروا يشتقون منها «إني داعٍ فأمّنوا» اُشتق منها فعل أي: قولوا آمين اللهم استجب. لهذا الكلمة عربية، وهي اسم فعل طالما كان عندنا صفة نشتق منها، آمين هي كلمة عربية شأنها شأن هيهات وشأن أفٍ ثم صارت العرب تولّد أسماء.
وفي الحديث الشريف «إذا أمّن الإمام فأمّنوا، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» .
خامسًا : تناسب افتتاح الفاتحة مع خاتمتها :
تبدأ السورة بقوله تعالى :{الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ}.
وختمت بقوله سبحانه : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}.
والعالَمون إما مُنعَم عليهم، أو مغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه، أو ضالون وهم الذين لم يعلموا الحق.
ولا يخرج العالمون عن هذا، فناسب المفتتح الخاتمة أوثق مناسبة وأتمها.
جاء في «التفسير القيم» لابن القيم : "من بعد ذكر المُنعَم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال، فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة؛ لأنّ العبد إمّا أن يكون عالمًا الحق أو جاهلاً به.
والعالم بالحق إمّا أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفًا له.
فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة.
فالعالم بالحق العامل به هو المُنعَم عليه .
والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه.
والجاهل بالحق هو الضال.
والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل.
والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل.
فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به، والجاهل بالحق أحق باسم الضلال" .
خاتمـــة :
من منا مهما بلغ من فصاحة وبلاغة وبيان، من منا يستطيع أن يأتي بكلام فيه هذا الإحكام وهذا الاستواء مع حسن النظم ودقة الانتقاء؟ فكل كلمة في موقعها جوهرة ثمينة منتقاة بعناية؛ لتؤدي معاني غزيرة بكلمات يسيرة، وكل واحدة واسطة عقد لا يجوز استبدالها ولا نقلها ولا تقديمها ولا تأخيرها وإلا لاختل المعنى أو ضعف أو فقد بعض معانيه؟
إنه الإعجاز الإلهي الذي يتجلى في الكون كله، ويحف بالقرآن كله، مجموعه وجزئياته، كلماته وحروفه، معانيه وأسراره، ليكون النور الذي أراد الله أن يهدي ويسعد به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والحمد لله رب العالمين
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (13)
مثنى محمد هبيان
أولاً : تناسب خاتمة الفاتحة مع فاتحة البقرة :
تنتهي سورة الفاتحة بذكر المنعَم عليهم والمغضوب عليهم والضالين:
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
والبقرة تبدأ بذكر هؤلاء أجمعين.
تبدأ بذكر المتقين: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وهؤلاء منعَم عليهم
ثم تقول:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] تجمع الكافرين من المغضوب عليهم والضالين وتذكر المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
إذن اتفقت خاتمة سورة الفاتحة مع افتتاح سورة البقرة.
ذكر في خواتيم الفاتحة أصناف الخلق المكلفين : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
وذكرهم في بداية البقرة، المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق وحادوا عنه والضالون لم يعلموا الحق وإنما ضلوا الطريق، ويضربون مثلاً لليهود والنصارى، والمغضوب عليهم منهم اليهود والنصارى. وفواتح البقرة تحدثت عن هذه الأصناف: المتقين والكفار والمنافقين فجمعت المغضوب عليهم والضالين حيث يجمعهم الكفار.
سؤال: هل هذا الأمر مقصود في حد ذاته من قِبل الله سبحانه وتعالى , يعني هذه التوأمة بين خواتيم السور وبداية السور التي تليها؟
جواب :
قسم من الباحثين قالوا إنّ القرآن كتاب حياة، خذ مثلاً أيَّ يوم من أيام الحياة هل هي مترابطة في مسألة واحدة؟ أو أنّ فيها أموراً مختلفة متعددة كلها تجمعها الحياة ؟
وكذلك القرآن كتاب حياة فيه ما فيه، وتقع أمور كثيرة متعددة مترابطة ولكن لا يبدو هذا الترابط ظاهراً.
ونحن الآن نلاحظ في هذا الوضع التوقيفي ارتباطاً واضحاً في هذه المسألة, ولذلك قال الرازي: إنّ آيات القرآن كلها كأنها هي كلمة واحدة من حيث الترابط , أي: كأنها آية واحدة في ترابطها.
ونحن لا نقول إنّ ذلك غير مقصود، ولكننا ننظر في شيء موجود أمامنا ونبحث فيه هل هنالك تناسب أم لا؟ في هذا الوضع الحالي نحن الآن نرى أنّ هناك ترابطاً واضحاً، ونحن نصف في تقديرنا فيما يظهر لنا في هذا الأمر، والله أعلم .
ثانيا ً ـ هدف السورة: الاستخلاف في الأرض ومنهجه :
سورة البقرة وآياتها (286 آية) هي أول سورة نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومع بداية تأسيس الأمة الإسلامية (والسور المدنية بشكل عام تُعنى بجانب التشريع) وهي أطول سور القرآن، وأول سورة في الترتيب بعد الفاتحة، وفضل سورة البقرة وثواب قراءتها ورد في عدد من الأحاديث الصحيحة منها: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تُحاجَّان عن صاحبهما» وفي رواية «كأنهما غمامتان او ظُلَّتان» وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» أخرجه مسلم والترمذي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرأوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلَةُ» أي: السحرة، رواه مسلم في «صحيحه».
وهدف السورة هوالاستخلاف في الأرض، أي: (البشر هم المسؤولون عن الأرض)، ولذا جاء ترتيبها في أول المصحف، فالأرض ملك لله عز وجل وهو خلقها, وهو يريد أن تسير وفق إرادته فلا بدّ أن يكون في الأرض من هو مسؤول عنها, لذا عندما نقرأ السورة يجب علينا أن نستشعر مسؤولية الإنسان في خلافة الارض.
وكما أسلفنا فإنّ هدف السورة هو الاستخلاف في الأرض، وسورة البقرة هي أول سور المصحف ترتيباً، وهي أول ما نزل على الرسول عليه السلام في المدينة مع بداية تأسيس دولة الإسلام الجديدة وتكوينها ، فكان يجب أن يعرف المسلمون ماذا يفعلون ومما يحذرون، والمسؤولية معناها أنْ نعبد الله كما شاء وأنْ نتبع أوامره وندع نواهيه.
والسورة مقسمة إلى أربعة أقسام:
1- مقدمة. 2- القسم الأول. 3- القسم الثاني. 4- خاتمة.
وسنشرح هدف كل قسم على حدة :
1ـ المقدمة:
وفيها وصف أصناف الناس، وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1 - 29). وتتضمن :
آ ـ آيات المتقين (آية 1 - 5) .
ب ـ آيات الكافرين (آية 6 - 7).
ج ـ آيات المنافقين (آية 8 - 20) والإطناب في ذكر صفات المنافقين للتنبيه إلى عظيم خطرهم وكبير ضررهم؛ لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهم أشد من الكافرين.
2ـ القسم الأول للسورة :
وهو يمثل باقي الجزء الأول من القرآن، وفيه يعرض نماذج لثلاث مجموعات من الناس قد استخلفهم الله، وهذه النماذج هي :
آ ـ استخلاف آدم في الأرض (تجربة تمهيدية ): قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] واللطيف أنه سبحانه أتبع هذه الآية بـ {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
وهذه الآية محورية تعني أنه إذا أردت أنْ تكون مسؤولاً عن الأرض يجب أنْ يكون عندك علم , لذا علّم الله تعالى الأسماء كلها, وعلّمه الحياة وكيف تسير, وعلّمه تكنولوجيا الحياة وعلّمه أدوات الاستخلاف في الأرض، وهذا إرشاد لأمة الإسلام إنْ أرادوا أنْ يكونوا مسؤولين عن الأرض فلا بدّ لهم من العلم مع العبادة، فكأنّ تجربة سيدنا آدم عليه السلام هي تجربة تعليمية للبشرية بمعنى كيفية المسؤولية عن الأرض . وأهم أمرين في هذا النموذج :
- أنّ الله سبحانه علّم آدم تكنولوجية الحياة {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31].
- أنّ المعصية هي سبب الاستبدال .
ب ـ قصة بني إسرائيل الذين استخلفوا في الأرض فأفسدوا:
وهو نموذج فاشل من الاستخلاف في الأرض، وأهم الأمور في هذا النموذج الفاشل هي :
ـ تذكير الله لهم بنعمه عليهم كما في الآية 40 {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:47] . انظر الآيات ( 52ـ 94 )
ـ بيان أخطائهم والموبقات التي ارتكبوها كقتل الأنبياء بغير الحق، والمادية، وعصيانهم وكفرهم بآيات الله، واعتداء أصحاب السبت، وقصتهم مع البقرة وجدلهم الكبير حول ذبحها مع نبيهم موسى عليه السلام حيث لم يرضوا تنفيذ شرع الله.
ـ عدم الإيمان بالغيب.
ج ـ نموذج ناجح للاستخلاف في الأرض : (قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام) وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة.
وهكذا : أولاً ابتلى سبحانه آدم في أول الخلق (تجربة تمهيدية) ثم بني إسرائيل فكانت تجربة فاشلة، ثم ابتلى إبراهيم عليه السلام فنجح {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] . وفي هذه الآية إثبات أنّ الاستخلاف في الأرض ليس فيه محاباة، فالذي يسير على منهج الله وطاعته يبقى مسؤولاً عن الأرض والذي يتخلى عن هذا المنهج لا ينال عهد الله : {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] .
وملخص القول في القسم الأول من السورة: إنّ القصص الثلاث التي وردت فيه: قصة آدم: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] . وقصة بني إسرائيل : {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} [البقرة:47] . وقصة سيدنا إبراهيم عليه السلام : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة:124] . هذه القصص الثلاث بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الارض وعلينا نحن أمة المسلمين أنْ نتعلم من تجارب الذين سبقونا وأنْ نستشعر الأخطاء التي وقعت فيها الأمم السابقة ونعرضها على أنفسنا دائما لنرى إنْ كنا نرتكب مثل هذه الأخطاء فنتوقف عن ذلك ونحذو حذو الأمم السابقة التي نجحت في مهمة الاستخلاف في الأرض كسيدنا إبراهيم عليه السلام .
3ـ القسم الثاني من السورة : أوامر ونواه للأمة المسؤولة عن الأرض :
وفي هذا القسم توجيه الله تعالى للناس الذين رأوا المناهج السابقة وتجارب الأمم الغابرة مفاده: يجب أنْ تتعلموا من الأخطاء وسيعطيكم ربكم أوامر ونواهي كي تكونوا مسؤولين عن الأرض بحق وتكونوا نموذجاً ناجحاً في الاستخلاف في الأرض، وكل هذه الأوامر والنواهي متعلقة بثلاثة أمور :
آ ـ طاعة الله في أوامره ومنهجه الشامل المتكامل : مثل الأمر بطاعة تحويل القبلة، تطبيق الأحكام الجنائية والأحكام التعبدية، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج والمواريث وأحكام الأسرة والطلاق وأحكام الجهاد والإنفاق وأحكام النظام المالي وتحريم الربا .
ب ـ تميز الأمة في مصطلحاتها مع وسطية التميز وتوازنه.
ج ـ تقوى الله .
4ـ الختام ـ {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ـ الآيتان [ 285ـ286]
وقد ختمت السورة بدعاء المؤمنين : {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة:285]، كما بدأت بأوصاف المؤمنين وبهذا يلتئم شمل السورة أفضل التئام، فسبحان الله العلي العظيم.
والخلاصة: نحن مسؤولون عن الأرض, والمنهج الكامل, وعلينا أنْ ندخل في السِّلم كافة، والمنهج له إطار: طاعة الله، وتميُّزٌ، وتقوى .
أمّا عناصر المنهج فهي: تشريع جنائي، مواريث، إنفاق، جهاد، حج، أحكام صيام، تكاليف وتعاليم كثيرة، فلا بدّ أنْ نستعين بالله تعالى على أدائها لنكون أهلا للاستخلاف في الأرض ولا نقع في أخطاء الأمم السابقة.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (14)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات البيانية في سورة البقرة
السؤال الأول: لماذا وردت بعض أسماء السور مرفوعة مثل: الكافرون والمؤمنون، وبعضها بالجرّ بالاضافة مثل : سورة الحجِ و البقرةِ؟
الجواب:
الناظر في فهرس السور لا يقول: البقرة، وإنما يقول : هذه سورة البقرةِ , وأما الإعراب: سورة البقرة تعرب: خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: هذه سورة البقرة, وهذه سورة آل عمران وهكذا. فالأسماء المفردة جاءت بالجر مجرورة.
وأما الأسماء التي جاءت بصيغة جمع المذكر السالم، فيبدو أنّ تسميتها جاءت حسبما ورد في السورة فلما كانت {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون:1] بالرفع سميت سورة الكافرون على الحكاية.
و السور التي اسمها جمع مذكر سالم هي أربع سور: المؤمنون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، المنافقون {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] ، الكافرون {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين َ} [المطفِّفين:1] جاءت مجرورة باللام فسميت المطفِّفين.
فالاسم الذي هو جمع مذكر سالم حُكِيَ في السورة، وأمّا الباقي عموماً فأُخضع للقاعدة , فإذا كان منصرفاً جُرَّ بالكسرة وإذا كان ممنوعاً من الصرف مثل سورة يونسَ جُرَّ بالفتحة نيابة عن الكسرة وكذلك سورة يوسفَ
{الم} [البقرة : 1].
السؤال الأول: ما دلالة الحروف المقطعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم؟
الجواب:
الأحرف المقطعة في بداية بعض سور القرآن الكريم هي عِلمٌ مستور وسِرٌّ محجوب عجزت العلماء عن إدراكه، وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولذلك من الأفضل أن نقول:
( الله أعلم بمراده )
ولهذا قال الصديق رضي الله عنه : (لكل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور) وقال الشعبي: (سر الله تعالى فلا تطلبوه) وهنا لا نتكلم عن المقصود وإنما عن الخصائص لهذه الأحرف المقطعة :
1ـ سميت حروفاً مقطعة؛ لأنّ كل حرف ينطق بمفرده.
2ـ كل حرف في اللغة العربية له اسم وله مسمى.
والناس ينطقون حين يتكلمون بمسمى الحرف وليس باسمه، مثال: كلمة (كتب) هذه تنطق بمسمى الحروف فإذا أردت أن تنطق بأسمائها تقول (كاف وتاء وباء) إنظر إلى الجدول أدناه :
وهكذا
ومن اللطيف أن نلاحظ هنا أنّ علماء اللغة جعلوا المسمَّى صدر كُلَّ اسم له ـ كما قال ابن جني ـ وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع.
3ـ الذي لم يتعلم قد ينطق بمسميات الحروف ولكن لا يمكن أنْ ينطق بأسمائها , ولعلّ هذا أول ما يلفتنا، فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كان أمياً , والأمي يستطيع أن ينطق بمسميات الحروف فيقول : الكتاب , فإذا طلبت منه أن ينطق بأسماء الحروف فإنه لا يستطيع أن يقول لك إن كلمة الكتاب مكونة من الألف واللام والكاف والتاء والألف والباء.
والرسول صلى الله عليه وسلم وهو أُمِّيٌّ جاء ونطق بأسماء الحروف فكانت هذه الحروف دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه، وأنّ هذا القرآن موحى به من الله سبحانه وتعالى.
4ـ لذلك نجد أنّ سور الفواتح تبدأ بأسماء الحروف وينطق هذه الحروف بأسمائها, وقد تجد الكلمة نفسها في آية أخرى فتنطق بمسمياتها , لذلك أول سورة البقرة تنطق (ألف لام ميم)، بينما في سورة الشرح تنطق الكلمة بمسميات الحروف {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرح:1] وقد كُتبت فواتح السور على صورة الحروف أنفسها لا على صورة النطق بها اكتفاء بشهرتها .
5 ـ كل القرآن مبني على الوصل دائماً وليس على الوقف, فإذا نظرت إلى آخر حرفٍ من أي سورة بما فيها سورة الناس تجد أن الحرف الأخير عليه حركة. أمثلة:
ـ آخر سورة يونس {وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} [يونس:109] النون عليها فتحة وليس سكون.
ـ آخر آية في آخر سورة في القرآن {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] السين عليها كسرة وليس سكون.
لذلك فكل آيات القرآن الكريم مبنية على الوصل ما عدا أحرف فواتح السور فهي مبنية على الوقف .
6ـ القدماء انتبهوا إلى أنّ السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة بُنيت على تلك الأحرف فمثلاً :
(سورة ق) تتكرر فيها الكلمات التي فيها حرف القاف مثل{قَولٍ} [ق:18] ، {رَقيبٌ} [ق:18] ،{والقُرءانِ} [ق:1] ، {تَنقُصُ} [ق:4] ،{وَأَلقيْنا} [ق:7] ،{بَاسِقاتٍ} [ق:10] ، {بِالخَلقِ} [ق:15] .
وكذلك (سورة ص) تكثر فيها الكلمات التي فيها حرف الصاد مثل:{مَنَاص} [ص:3] ،{واصبِرُوا} [ص:6] ،{وأَصحَابُ} [ص:13] ،{صَيْحَةً} [ص:15] ،{وَفَصلَ} [ص:20] ،{الخَصْمِ} [ص:21] .
حتى أنهم جعلوا إحصائية في {الر} وقالوا: أنها تكررت فيها الكلمات التي فيها {الر} 220 كلمة هذا قول القدامى.
والعلماء جمعوا الأحرف المقطعة وقالوا :عندما نجمعها نجد أنها مكونة من (14) حرفاً تمثّل نصف حروف المعجم ، وجاءت في 29 سورة وهي عدد حروف المعجم وتمثل نصف الأحرف المجهورة، ونصف الأحرف الشديدة، ونصف المُطبَقَة، ونصف المنقوطة، ونصف الخالية من النقط، ونصف المستقرة، ونصف المنفتحة، ونصف المهموسة، ونصف المستعلية، ونصف المقلقلة، و نصف الرَّخوة وهكذا ، لكن هم خاضوا في هذا للنظر فيه.
هذه الأحرف المفرّغة من المعنى رُكبت تركيباً خاصاً فصارت آيات مبينة موضحة وهي موضع الإعجاز وموضع التحدي للعرب الفصحاء، هم يقيناً أدركوا هذا المعنى وإلا لكانوا سألوا عنه.
وقسم قال : إن كل السور التي تبدأ بحرف (ط) تبدأ بقصة موسى أولاً، وهناك من جعل منها معادلة رياضية فقال: أن كل سورة فيها {ألم} نسبة الحروف ألف إلى لام تساوي نسبة الحروف لام إلى ميم.
7ـ عدد سور الفواتح ( 29 ) سورة من أصل ( 114 ) سورة أي: حوالي 25%. من سور القرآن بينما نسبة عدد كلماتها إلى كلمات القرآن فتقارب 48% .
8ـ مجموع الفواتح بدون تكرار ( 14 ) فاتحة وتتكون من ( 14 ) حرفاً من الأحرف الهجائية وتجمعها جملة (طرق سمعك النصيحة) أو (صح طريقك مع السنة) وتعرف هذه الحروف بالأحرف النورانية.
9 ـ هناك فواتح مؤلفة :
آـ من حرف واحد :{ن} [القلم:1]{ق} [ق:1]{ص} [ص:1] .
ب ـ فواتح من حرفين : {طه} [طه:1] . {يس} [يس:1] . {طس} [النمل:1] . {حم} [الدخان:1] .
ج ـ وفواتح من ثلاثة أحرف: {ألم} [البقرة:1] . {الر} [إبراهيم:1] . {طسم} [الشعراء:1] .
د ـ وفواتح من أربعة أحرف : {ألمص} [الأعراف:1] . {المر} [الرعد:1]
هـ ـ وفواتح من خمسة أحرف : {كهيعص} [مريم:1] . {حم عسق} [الشورى1 - 2].
10ـ وتنقسم الفواتح من حيث تكرارها إلى قسمين :
آ ـ فواتح لم تتكرر صورتها إلا مرة واحدة، وعددها عشرة وهي: {ألمص} [الأعراف:1]، {المر} [الرعد:1] {كهيعص} [مريم:1]، {طه} [طه:1] {طس} [النمل:1] {يس} [يس:1]، {ص} [ص:1] ، {حم عسق} [الشورى: 1 - 2]، {ق} [ق:1]، {ن} [القلم:1] .
ب ـ فواتح تكررت صورتها : [ {ألم} ـ6 مرات], [ {ألر}ـ 5 مرات], [{طسم}ـ2 مرة ], [{حم} ـ 6 مرات ].
11 ـ بعض الفواتح جزء من فاتحة أخرى: {طس} متكررة في {طسم} وفاتحة {ص} متكررة في {كهيعص} و {ألمص} وفاتحة {ق} متكررة في {حم عسق}]
12 ـ ترتيب سور الفواتح الـ (29) حسب نزولها هو : [ ن ـ ق ـ ص ـ الأعراف ـ يس ـ مريم ـ طه ـ الشعراء ـ النمل ـ القصص ـ يونس ـ هود ـ يوسف ـ الحجر ـ لقمان ـ غافر ـ فصلت ـ الشورى ـ الزخرف ـ الدخان ـ الجاثية ـ الأحقاف ـ إبراهيم ـ السجدة ـ الروم ـ العنكبوت ـ البقرة ـ آل عمران ـ الرعد ].
13ـ وقد قامت الدكتورة عائشة عبد الرحمن والملقبة ببنت الشاطىء بدراسة تاريخية لهذه السور الـ ( 29 ) وخلصت إلى النتائج التالية :
آ ـ أنه بدأت من أوائل الوحي لافتة إلى سر الحرف ثم كثرت وتتابعت في أواسط العهد المكي حين بلغ الجدل أشده فعُرضت قضية التحدي , وظلت الآيات تعاجزهم وتتحداهم أنْ يأتوا بمثله أو بسورة منه إلى أول العهد المدني الذي نزلت فية آية البقرة فحسمت الجدل العقيم بعد أن ألزمتهم الحجة على صدق المعجزة بعجزهم مجتمعين أنْ يأتوا بسورة من مثله.
ب ـ أكثر السور المبدوءة بالحروف نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء والسحر والشعر والكهانة، فواجههم القرآن بالتحدي.
14 ـ من عجائب أحرف الفواتح وهي (14) حرفاً أنها تمثل نصف حروف المعجم وترددت في ( 29 ) سورة على عدد حروف المعجم , كما أنّ هذه الحروف تشتمل على أنصاف أجناس الحروف, فهي تمثل النصف من الحروف المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمطبقة والمنفتحة والمستعلية والمنخفضة ومن حروف القلقلة, وبيان ذلك حسب الجدول التالي :
15 ـ تتألف الأحرف الهجائية للغة العربية من (29) حرفاً، أمّا الأحرف الأبجدية فتتألف من (28) حرفاً على اعتبار أنه لا فرق بين الألف والهمزة في الأبجدية.
قال الناظم :
وعِدةُ الحروفِ للهجــــاءِ= تسعٌ وعـشرون بلا مــــــراءِ
أولها الهمـــزةُ لكن سُمِّيت= بألفٍ مجــــــازاً إذ قد صورت
وذلك أنهم يسمون كلاً من الهمزة والألف اللينة (ألفاً) ويفرقون بينهما بوصفهم للألف باللينة أوالممدودة , أي : الألف الممدودة اللينة فرع عن الهمزة.
16 ـ الحروف في اللغة نوعان : مبنى و معنى :
آ ـ حرف مبنى : وهو الحرف الذي لا معنى له إلا للدلالة على الصوت فقط.
ب ـ حرف معنى : مثل ( في) للظرفية، و (من) للابتداء، و( على ) للاستعلاء.
17 ـ على الأصح فإنّ أحرف الفواتح لا تعرب .
18 ـ شاء الله سبحانه وتعالى أنْ يبقى معناها في الغيب عنده , وأنت أيها المسلم المؤمن خذ كلمات الله التي تفهمها بمعانيها وخذ الحروف التي لا تفهمها بمرادات الله فيها , وهذه الحروف هي سر من أسرار الله تعالى يريدنا أنْ ننتفع بقراءتها سواء فهمناها أم لم نفهمها .
أي أنّ القول الفصل فيها : إنها حروف لها سر من قبل الله تعالى لا نعلمه, وقسم قال : هي من المتشابه الذي لا نعلمه، قد يكون هذا الرأي هو السديد ، ولكن هذه الملاحظات جديرة بالانتباه أيضاً.
19ـ وقدً انتبه القدامى إلى أنّ هذه السور التي تبدأ بهذه الأحرف يكون التعبير فيها بطابع هذه الأحرف، يعني التي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية ويعني أنها تعطيك بداية فنية لما يكثر من الأحرف في هذه السورة. مثل :
آ ـ سورة (ق) تردد فيها الكلمات التي فيها قاف {ق وَالقُرْآَنِ المَجِيدِ} [ق:1] ، {إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَان ِ}[ق:17] ، {قَعِيدٌ} [ق:17]، {سَائِقٌ} [ق:21] ، {تَشَقَّقُ} [ق:44])، في (ص) ذكر الكلمات فيها صاد نحو: الخصومات، الخصم، يختصمون، مناص، صيحة، اصبروا، صيحة، اصبر.
ب ـ ثم استدلوا إلى الإحصاء ، قالوا وضربوا مثالاً في سورة يونس تبدأ بـ{ألر} [يونس:1] وفي هذه السورة تكررت الكلمات التي فيها راء كثيراً، وأقرب السور إليها سورة النمل والنحل, وهي أطول منها لكنها لم تتردد الراء فيها كما في يونس ففيها (220 راء)، هكذا أحصوا والله أعلم.
ج ـ ثم الملاحظة أنّ كل السور التي تبدأ بالطاء {طه}{طس}{طسم} كلها تبدأ بقصة موسى أولاً، كلها بلا استثناء.
ويبدو كما يقولون أنّ اللمسة البيانية أنها تشير إلى أنّ الحروف المذكورة في أوائل بعض السور تطبع طابع السورة فيكون من باب السمة التعبيرية.
ليس هذا فقط ولكن قبل سنوات أخرج دكتور مهندس كتاباً عن المناهج الرياضية في التعبير القرآني عملها على الكمبيوتر وهو يقول : إنه لاحظ أن الأحرف المذكورة في بداية السور تتناسب مع السور تناسباً طبيعياً؛ فالتي تبدأ بـ {ألم} يكون الألف أكثر تكراراً في السورة، ثم اللام ثم الميم, وليس هذا فقط وإنما نسبة الألف إلى اللام مثل نسبة اللام إلى الميم، هذه معادلة رياضية وقد قال بأنه راجع الصحف و طبقها على الصحف لكنه وجد القرآن متفرداً بها.
والذي عليه الكثيرون أنّ هذه من دلائل الإعجاز, بمعنى أنّ هذا القرآن المبين الواضح مكوّن من هذه الأصوات غير المبينة في ذاتها, وأنّ القرآن جاء بكلام معجز من جنس كلامهم فأتوا بمثله إنْ استطعتم, والسلف كانوا يوكلون معاني هذه الأحرف لله تعالى .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (15)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة
السؤال الأول: لماذا لم يلتزم القرآن نفس الأحرف المقطعة في كل السور؟وهل هناك مناسبة بين تلك الأحرف والآية التي تليها حيث ذكر الكتاب أو القرآن ؟
الجواب:
أولا: الأحرف المقطعة جاءت في 29 موضعاً في القرآن الكريم والذي تم التوصل إليه ما يلي :
آ ـ لا توجد مناسبة ظاهرة، لكن هناك مناسبة اختيار ما بَعْدَها بالنظر إليها.
ب ـ هذه المناسبة هي من الجانب الصوتي، وتنطبق على جميع ما ورد ذكره من : كلمة كتاب وكلمة قرآن.
ج ـ القاعدة: أنه إذا كانت الحروف المقطعة أكثر من مقطعين أوأكثر من حرفين فعند ذلك يأتي معها الكتاب لأنّ الكتابة ثقيلة، وإذا كانت الحروف المقطعة تتألف من مقطعين أو حرفين فيأتي معها القرآن، باستثناء إذا كان الحرف الثاني مقطعاً ثقيلاً كالميم مثلاً لأنه مديد (ميم، حركة طويلة، ميم: قاعدتان وقمة طويلة) وهو من مقاطع الوقف. فالميم حرف ثقيل لأنه يبدأ بصوت وينتهي بالصوت نفسه وبينهما هذه الحركة الطويلة والعرب تستثقل ذلك ، والميم من أحرف الجهر والغنة , بينما الهاء والسين من أحرف الهمس والإصمات .
- أمثلة :
1ـ {حم} حرفان , الحاء مقطع والميم مقطع ثقيل لأنه مديد (ميم، حركة طويلة، ميم: قاعدتان وقمة طويلة وهو من مقاطع الوقف فجاء بعدها لفظة الكتاب .
2ـ {الم(1) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2 )} [البقرة:1-2] , أكثر من مقطعين، جاء بعدها كلمة لفظة الكتاب.
3ـ {طه} {طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ لِتَشْقَى(2)} [طه:1-2]) ذكر لفظة القرآن.
4ـ {يس(1) وَالقُرْآَنِ الحَكِيمِ(2)} [يس:1-2]) ـ ذكر لفظة القرآن لأنّ السين ليس ثقيلاً وإنما هو من أحرف الهمس .
5ـ {ص وَالقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ(1)]. [ص:1] حرف واحد فذكر لفظة القرآن.
ورسم هذه الحروف رسم توقيفي أي على ما رسمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يكن يعرف الرسم.
وهذه الأحرف جميعاً حيثما وردت تشير إلى أصوات متناسقة ليس بينها تنافر، كأنّ القرآن يقول لنا : هذه الأصوات ينبغي ألا يكون فيها نوع من التنافر.
فمثلاً :
آ ـ {ألم} [البقرة:1] الألف من أقصى الحلق من الوترين، واللام مخرجها الذي هو فويق مفارز الثنايا والرباعية والناب والضاحك , واللام مخرجه منتشر ويميل، والميم بانضمام الشفتين.
ب ـ {كهيعص} [مريم:1] في لفظ واحد .
ج ـ ولذلك لمّا جاء في القرآن في موضع واحد حرفان من مخرج واحد مع ما فيهما من اختلاف جعل كل واحد في آية، فقال:{حم} [الشورى:1] آية ، و{عسق} [الشورى:2] آية؛ لأنّ الحاء والعين من مخرج واحد ولا يكونان في لفظ واحد مع أنّ بين الحاء والعين فروقاً في الصفات منها :
ـ في مسألة الشدة والرخاوة: الحاء رخوة ومعناها يجري به الصوت، والعين متوسط.
والصفات من حيث الشدة والرخاوة فيها: أصوات شديدة وأصوات رخوة وأصوات متوسطة، كأنها تبدأ شديدة وتنتهي رخوة أو ظاهرها الشدة لكن يجري بها الصوت من غير مخرجها مثل الميم أوالنون.
ـ وشيء آخر : الحاء مهموس والعين مجهور، ولذلك الاختلاف جُعِل كل واحد في آية حتى لا يكونا في بناء واحد، فإذن نوعية الصوت أيضاً منتقاة.
ثانياً ـ بعض الحروف المقطعة عُدّت آيات وبعضها ما عُدّ آية، فقوله تعالى:{الم(1) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2 ) }. [البقرة:1-2] {ألم} [البقرة:1] آية. وأرقام الآيات توقيفية على ما فعله الصحابة، فهم لم يضعوا أرقاماً، وإنما وضعوا فجوات، ثم بعد ذلك وضعت الأرقام.
وانظر الجدول التالي الذي يبين ما جاء في الآية بعد الأحرف المقطعة :
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (17)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
ما دلالة قوله تعالى {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] ؟ وما إعراب {لا} ؟
الجواب:
1ـ جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] جعلت أحد الغربيين يُسلِمُ بمجرد أنْ سمعها، كيف؟
قال : إنه مهما بلغتْ فصاحةُ أيٍّ من البشر في اللغة والكتابة وتمكنُه منهما، فإنه إذا كتب كتاباً أو رسالة ثم أعاد قراءتها فلا بدّ أنْ يُغير حرفاً أو كلمة أو جملة، وهذا يحدث في كل مرة يعيد قراءة ما كتب .
ولفظة (لا) في قوله تعالى{لَا رَيْبَ} [البقرة:2] هي نافية للجنس، أي: تنفي الريب بالكلية.
وفي قوله تعالى {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] دليل واضح لا يقبل الشك على أنه من عند الله تعالى, فمهما تكررت القراءة لا تجد ما قد تحتاجه من تنقيح أو تعديل ,وهذا من إعجازه ودليل على قدرة الله العظيم على إحكام آياته {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ }[هود:1] .
2ـ (لا) نافية للجنس و (ما) نافية كذلك فما الفرق بينهما ؟
يُقال : لا رجلَ في الدار , ويقال : ما من رجلٍ في الدار , فما الفرق بينهما علماً بأنّ التعبيرين نص في نفي الجنس ؟
آ ـ (لا) تستعمل لجواب سؤال حاصل أو مقدر هو : هل من ؟ نحو : من سأل عن وجود أحد في الدار ؟ فالجواب: لا , ويكون الجواب كالإعلام.
ب ـ (ما) تستعمل كَرَدٍّ على قولٍ أو ما نُزِّلَ هذه المنزلة، نحو من قال : إنّ في الدار لرجلاً , فيكون الرَّدُّ : ما من رجلٍ في الدار , فهو رَدٌّ على قول وتصحيح ظن.
شواهد قرآنية على استعمال ( ما) كرد على أقوالهم :
- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73] .
- {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ(62) } [آل عمران:61-62] .
- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] .
- {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] .
- {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ } [آل عمران:78] .
- {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } [التوبة:56] .
شواهد قرآنية على استعمال (لا) كإعلام للمخاطب :
- {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
- {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ } [البقرة:256].
- {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ } [محمد:19] .
3ـ وإنْ قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى {لَا رَيْبَ فِيهِ} وبين إخبار الله بشك الكفار وريبهم فيه، ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]
وجوابه : أنه لظهور أدلته عند من نظر فيه لا ريب فيه عنده , أمّا الريبة فيه فهي لعدم نظر الكفار والمشركين في أدلة صحته .
وقال الرازي : المراد أنه ليس محلاً للريب، أو هو نفيٌ معناه النهي، أي: لا ترتابوا أنه من عند الله تعالى.
ما دلالة قوله تعالى:{ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} ؟ وما معنى التقوى؟
الجواب:
1-التقوى هو : أنْ يحفظ الإنسان نفسه بشيء ويحمي نفسه من خطر , والقرآن وقاية، وهذه الوقاية تكون بالأعمال الصالحة التي تقي المؤمن من النار.
وقوله تعالى :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ } ليس معناه أنْ نجعل بيننا وبين الله وقاية، ولكنّ المعنى أنْ نجعل بيننا وبين غضب الله وعذابه وقاية , فنحن نتقي بصفات كمال الله (غافر الذنب والرحمن والرحيم والغفور) من صفات جلال الله (المنتقم والجبار والمتكبر).
وقد قال الحسن البصري في تعريف التقوى : التقوى هي الخوف من الجليل، والرضى بالقليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل .
وقال غيره : التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك .
وقال رحمه الله تعالى عن القرآن الكريم : الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته ... ولكن للمتقين ..؛ لأنّ التقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب.
2ـ الوقف على {فيِهِ} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لَا رَيْبَ} ، والقراءة الأولى أولى لأنه يكون في هذه الحالة الكتاب نفسه هدى وفي الثانية يكون الكتاب فيه هدى.
3ـ في الآية تنبيه على أنه الكلام المتحدى به في قوله تعالى {ألم} ثم أُشير بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير جهة التحدي , ثم نفى عنه الريب فكان شهادة بكماله , ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين.
وفي الأولى حذف ورمز إلى الغرض بألطف وجه , وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة , وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف , وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر {هُدىً} موضع الوصف الذي هو (هاد) وإيراده منكّراً ليفيد عموم الهدى. والله أعلم.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (18)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
السؤال الأول:
ما دلالة قوله تعالى { يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ}[البقرة:3] ؟
الجواب:
1- الغيب هو كل ما غاب عن العين , ولذلك يقال :ليس مع العين أين؛ لأنّ ما تراه لا تريد عليه دليلاً ولكنّ الغيب لا تدركه الحواس إنما يُدرك بغيرها.
ومن المعروف أننا ندرك الأشياء بواسطة حواسنا الخمس (السمع،والبصر، والشم، والذوق واللمس) ولكنّ هناك أشياء تدرك بغير هذه الحواس.
أمثلة: حقيبتان لهما نفس الشكل واللون والحجم لا تستطيع بحواسك الظاهرة أنْ تدرك أيهما أثقل , لكن عن طريق حاسة العضل تستطيع معرفة الأثقل.
كذلك الشعور بالجوع والعطش والاستيقاظ والنفس البشرية وغيرها كلها إدراكات متعددة تعمل بغير علم منا، وقد يكون لهذه الإدراكات مقدمات.
و الغيب هو الشيء الذي ليس له مقدمات, ولا يمكن أنْ يصل إليه علمُ خَلْقٍ من خلق الله حتى الملائكة والجن وحتى الرسل إلا ما يعلّمه الله لرسله بما يشاء من الغيب.
وقمة الغيب هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وكذلك الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كل هذه الأمور أمور غيبية أخبرنا الله عنها , ولقد أراد الله تعالى رحمة بعقولنا أنْ يقرب لنا قضية الغيب فأعطانا من الكون المادي أدلة على أنّ وجود الشيء وإدراك هذا الوجود هما أمران منفصلان تماماً.
لهذا لا بدّ أنْ تعرف أنّ وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك هذا الشيء، فأنت لك روح لكن لا تدركها وإنما تشعر بأثرها في إحياء جسدك.
والله سبحانه قد أعطانا من آياته في الكون ما يجعلنا ندرك أنّ لهذا الكون خالقاً, وأنّ وراء كل ما في هذا الكون قوة هائلة هي التي خلقت وأبدعت ونظمت , فإذا جاء رسولٌ يبلغنا أنّ الله هو الذي خلق هذا الكون فلا بدّ أن نصدقه.
2ـ قوله تعالى: {الَّذِينَ} إمّا موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة، أو منصوب على المدح بتقدير: أعني الذين يؤمنون ، أو منقطع مرفوع على الابتداء مخبر عنهم بـ {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ }[البقرة:5] .
3ـ قيل : الغيب: مصدر أقيم مكان اسم المفعول.
4ـ ذكر الله تعالى في آية النمل: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ } [النمل:65] ووصف المؤمنين بأنهم {يُؤمِنُونَ بالغَيِبِ} [البقرة:3] والسؤال : ما لا يُعلَمُ كيف يؤمن به ؟
والجواب: أنّ المراد هو الغيب الذي دلّ البرهان على صحته ووقوعه وذُكر في القرآن الكريم كالقيامة والجنة والنار .
السؤال الثاني:
ما معنى الصلاة لغة ؟ ولماذا كتبت بالواو{الصلوة}؟
الجواب:
1ـ ذكروا في لفظ الصلاة لغة أنها بمعنى : الدعاء .
2 - لمعرفة لماذا كتبت كلمة {الصلوة} بالواو انظر الجواب في آية البقرة 238
السؤال الثالث:
ما معنى الرزق ؟ وما دلالة الحرف (من) في الآية ؟ ولماذا قدّم مفعول الفعل ؟
الجواب:
1ـ الرزق في كلام العرب هو الحظُّ كما في قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]. والحظُّ هو نصيب المرء وما هو خاص له دون غيره.
2ـ أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ونفقت الدابة إذا ماتت أي: خرج روحها.
3ـ أسند الرزق لله فهو المنعم.
4ـ قدّم مفعول الفعل دلالة على أنه أهم.
5ـ ( من) للتبعيض، أي: بعض مالهم وليس كله صيانة لهم وتسهيلاً على النفس.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (19)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5]
اللمسات البيانية لهذه الآية تتضح في السؤال التالي :
السؤال الأول: المطلوب إجراء مقارنة بين آيات بداية سورة البقرة و آيات بداية سورة لقمان
الجواب:
الجدول التالي يلخص لنا المقارنة المطلوبة :
https://majles.alukah.net/imgcache/2022/07/37.jpg
الملاحظات البيانية حسب التسلسل :
1ـ قال في البقرة {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] واسم الإشارة (ذا) للمفرد المذكر، وهو الكتاب واللام للبعد والكاف للخطاب بينما قال في لقمان: {تِلْكَ آَيَاتُ }[لقمان:2] لأنّ تلك للمؤنث، أي الآيات، ويشار بتلك إلى البعيد وتستعمل تلك للمفرد، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ }[الأعراف:22] وللجمع على نحو ما مثِّل سابقا .
2ـ قال في البقرة: {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] بينما قال في لقمان: {تِلْكَ آَيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ} [لقمان:2] ولم يشر إلى الكتاب فقط ، والسبب- والله أعلم -:
آ ـ لو لاحظنا في سورة لقمان أنه تردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً: قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } [لقمان:7] والآيات الكونية مثل: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } [لقمان:10] ، إلقاء الرواسي وإخراج النبات وسمّاها آيات: {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32] .
ب ـ ثم هنالك أمر آخر وهو أن كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من الآيات، وفي لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة، في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة (47) مرة والآيات (21) مرة وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين والآيات خمس مرات، وهذه سمة تعبيرية أنّ التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر، والتي بدأ فيها بالآيات ذكر فيها الآيات أكثر.
3ـ قال في سورة لقمان: {الكِتَابِ الحَكِيمِ}[لقمان:2] بينما في البقرة لم يصف الكتاب فلماذا؟ وما معنى الحكيم؟
الجواب:
آ ـ الحكيم قد يكون من الحِكمة أو من الحُكم، وهذا من باب التوسع في المعنى، ولو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص.
ب ـ في سورة البقرة لم يصف الكتاب؛ لأنّ السورة فيها اتجاه آخرحيث قال: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وهو ذكر التقوى والمتقين .
ففي البقرة قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ثم قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(2 4) } [البقرة:23-24] اتقوا النار مقابل المتقين، فإذن هناك مناسبة بين هدى للمتقين وكلمة التقوى التي ترددت كثيراً في البقرة، كما أنّ قوله تعالى {لا رَيْبَ فيِهِ} [البقرة:2] متناسب مع قوله {وإن كُنتم فيِ رَيْبٍ} [البقرة:23] .
ج ـ أمّا وصفه بالحكيم في سورة لقمان فهو مناسب لما ورد في السورة من ذكر الحكمة {آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ } [لقمان:12] وذكر الحِكَم ، وربنا وصف نفسه بأنه عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة , فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة وذكر الحكمة، لذلك قال في لقمان: {الكِتَابِ الحَكِيمِ} [لقمان:2]
4ـ وفي البقرة قال فقط:{هُدىً للمتَقِينَ} [البقرة:2] بينما قال في لقمان: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3] فما دلالة ذلك ؟
آ ـ ما الفرق بين المتقي والمحسن؟
المتقي هو الذي يحفظ نفسه فيتقي الأشياء، أمّا المُحسِن فيحسن إلى نفسه وإلى غيره، كما قال تعالى: وَبِالوَالِدَيْ نِ إِحْسَانًا } [البقرة:83] فالإحسان يكون إلى نفسه وإلى غيره , أمّا التقوى فتقتصر على النفس .
والإحسان إلى الآخرين هو من الرحمة، فلمّا رحموا الآخرين وتعدّى إحسانهم إلى غيرهم زادهم ربنا رحمة، أمّا التقوى فهي للنفس , وهؤلاء إحسان للنفس وإلى الآخرين, والإحسان إلى الآخرين هو الرحمة فلمّا زادوا هم زادهم ربهم , والجزاء من جنس العمل، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء، قال تعالى في الآخرة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }[يونس:26] وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] و {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:3] .
ب ـ ولو لاحظنا أنّ هذه الأوصاف {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ }[لقمان:3] هي مناسبة لما ورد في عموم سورة لقمان وما شاع في جوِّها من هدى ورحمة وإحسان:
ـ فمن مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] والذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، هذا هدى، وجوُّ الهداية في سورة لقمان شائع.
ـ والرحمة لمّا ذكر قوله تعالى {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [لقمان:10] هذا من الرحمة.
ـ ولمّا ذكر تسخير ما في السموات والأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20] هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟
ـ ومن مظاهر الإحسان أيضاً إيتاء الزكاة , وفي الوصية بالوالدين والإحسان إليهما، إذن جوُّ السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان, وهذه ليست في البقرة، وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى نحو: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)} [البقرة:3-4] وصف كثير ثم انتهى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أمّا في لقمان فاختصر {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[لقمان:4] .
والإيمان أعمّ من الإحسان، ولا يمكن للإنسان أنْ يكون متقياً حتى يكون مؤمناً، وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين والمسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.
5ـ في البقرة قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] ولم يقلها في لقمان، وقال في البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }[البقرة:4] ولم يقلها في لقمان ,فما دلالة ذلك ؟ ولماذا؟
آ ـ قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] هذا متعلق بالسورة نفسها، ومفتتح السورة غالباً ما يكون له علاقة بطابع السورة من أولها إلى نهايتها.
ففي سورة البقرة قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] وبعدها قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة:8] هذا من الغيب : لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر، وقال على لسان بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً } [البقرة:55] إذن هم لا يؤمنون بالغيب وطلبهم عكس الغيب لذلك هو قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ } [البقرة:3] وليس مثل هؤلاء الذين يقولون: آمنا وما هم بمؤمنين، ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أنْ يروا الله جهرة .
بينما في لقمان قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن هم مؤمنون بالغيب، وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32] إذن الطابع العام في سورة البقرة هو الإيمان بالغيب وطلب الإيمان أو الإنكار على عدم الإيمان بالغيب, بينما في لقمان الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن يؤمنون بجزء من الغيب بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] هذه ليست إيماناً بالغيب وربنا يريد الإيمان بالغيب.
ب ـ قوله تعالى {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ}[البقرة:3] ولم يقل: آمنوا بالغيب، مع أنّ إيمان المتقين بالغيب مؤكد في الآية، فلماذا ؟
والجواب أنّ قوله تعالى {يؤمنون} [البقرة:3] بصيغة المضارع ولم يقل: آمنوا بصيغة الماضي؛ لأنّ الإيمان منا مستمر متجدد لا يطرأ عليه شك ولا ريبة.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (20)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5]
6ـ قال في لقمان: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }[لقمان:4] وفي البقرة قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:3] . فما دلالة ذلك ولماذا ؟
آ ـ الإنفاق أعم من الزكاة , والزكاة من الإنفاق , فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة.
ب ـ ونلاحظ قوله تعالى في لقمان {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [لقمان:4] وفي البقرة قال : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] لأنه تكرر في البقرة ذكر الإنفاق (17) مرة وذكر الزكاة كذلك في عدة مواطن,ومن آيات ذكر الإنفاق قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ }[البقرة:261] .
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة:262] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة:274] فتكرار الإنفاق في سورة البقرة عدا الأمر بالزكاة ناسب استعمال لفظة ـ ينفقون ـ لأنها أعم. أمّا في لقمان فما ذكر الإنفاق لأنّ طابع السورة يختلف عن طابع سورة البقرة .
7ـ وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }[البقرة:4] لم يقل هذا في سورة لقمان لأنه في البقرة جرى هذا , وطُلِب من أهل الكتاب أنْ يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً نحو قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة:41] إذن المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وهؤلاء المشركون لم يؤمنوا أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا} [البقرة:76] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [البقرة:91] هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه , بينما طلب الله تعالى من المؤمنين أنْ يؤمنوا بما أنزل إلى الرسول عليه السلام وما أنزل على الرسل قبله , وحتى في آخر البقرة قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] فطابع السورة هكذا، وأمّا في لقمان فلم يوجد مثل هذا أصلاً , ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة.
8ـ قال تعالى فى سورة لقمان:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وفي آية البقرة قال:{وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4] أي كرّر{هُمْ} قبل{َبِالآَخِرَةِ} فما دلالة ذلك ؟ ولماذا قدّم الجار والمجرور على الفعل (يوقنون) ؟
آـ لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وفي أولها وآخرها {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[لقمان:6] {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8] {عَذَابٍ غَلِيظٍ}[لقمان:24] {إِلَيَّ المَصِيرُ}[لقمان:14] {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان:28] {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] .
ب ــ ثم هي بدأت بالآخرة{يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وانتهت بالآخرة بقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان:34] فناسب زيادة{هُمْ} [لقمان:4] توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة.
ج ـ إضافة إلى أنّ هؤلاء ذكر عنهم أنهم محسنون , والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة , وليس كما في البقرة {لِلمُتَقِينَ} [البقرة:2] والمتقي هو الذي يحفظ نفسه فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذا من الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه» ولذلك زاد في ذكر إيمانهم ويقينهم لمّا كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26] فزاد في ذكر إيمانهم فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فهم أعلى في اليقين؛ لأنّ اليقين درجات والإيمان درجات فالإيمان يزيد، والاطمئنان درجات، واليقين درجات، والمحسنون يعبدون الله كأنهم يرونه , إذن درجة يقينهم عالية، فأكّد هذا الأمر فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فأكّدها على ما ذكر في سورة البقرة: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ السورة والآية كلها تستدعي ذكر الزيادة.
د ـ لكنّ الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدّم الجار والمجرور على الفعل فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ولم يقل: وهم يوقنون بالآخرة.
والأصل في اللغة العربية أنْ يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بدّ أنْ يكون لسبب وهنا قدّم {وَبِالأَخِرَةِ} [البقرة:4] وكذلك في البقرة {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق , وأمّا الإيمان بالله فكثير من الناس يؤمنون بالله لكنّ قسماً منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة؛ مثل كفار قريش: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية:32] وهم مؤمنون بالله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن هم مؤمنون بالله لكنْ غير مؤمنين بالآخرة، ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فالإيمان بالله كأنه متسع، لكنّ اليقين بالآخرة ليس متسعاً , والتقديم هنا للاهتمام والقصر.
9ـ النهاية واحدة في السورتين وبنفس رقم الآية رقم 5 {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فما دلالة ذلك ؟
آ ـ هؤلاء المذكورون بهذه الصفات قال الله سبحانه عنهم: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة؛ لأنّ الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا هو الرب في اللغة.
ب ـ لم يقل :(على هدى من الله) وإنما قال : {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}وفي ذلك أمران:
الأول : يمكن أنْ يقال هدى من الله؛ لأنّ الله (لفظ الجلالة) اسم العلم وكل الأمور تنسب إليه، ويصح أنْ تُنسب إليه باسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ولكن هناك أشياء من الجميل أنْ تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل: أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم , وهنا قال: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية .
واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن، وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:161] وكثيراً ما تقترن الهداية بالرب، وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي.
الثاني : وهناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى، وذلك بإضافة الضمير" هم " إلى {رَبِهم} ، ولو استعمل اسم العلم فليس فيه علاقة بهم وإنما عامة، لكنْ {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] لا شك أنّ ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم؛ لذا فاختيار كلمة (رب) مناسبة مع الهداية .
فالهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد، ثم إضافة الضمير {رَّبِهّمْ} [البقرة:5] هذا فيه أنّ الله يحبهم ويقربهم إليه، وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه، ولا شك أنّ رب الإنسان أحنى عليه.
ج ـ في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] يستعمل مع الهداية لفظ {عَلَى} [البقرة:5] بعكس الضلال يستعمل لها لفظ {فِي} {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] وهذا ملاحظ في القرآن الكريم {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:4] {إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} [النمل:79] ويستعمل في للضلال : {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يس:47] وليس فقط في الضلال وإنما الذي يؤدي إلى الضلال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45] {َفنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11] كأنّ المهتدي هو مستعلٍ يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه وهو مستعلٍ على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه، أمّا الساقط في اللُّجَّة أو في الغَمرَةِ أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة؛ لذا يقولون: يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على) ومع الضلال (في).
د ـ ثم ختم الآية بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] .
آ ـ أولاً جاء بضمير الفصل: {هُمُ} وجاء بالتعريف: {المُفْلِحُونَ} ولم يقل: أولئك مفلحون، ولم يقل: هم مفلحون، وإنما حصر أنّ هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر.
ب ـ (أولئك) في الأصل اسم إشارة , ومن الناحية الحسية إذا لم نرد المجاز نستعمل (أولئك ) للبعيد و( هؤلاء ) للقريب، هذا هوالأصل مثل هذا وذلك.
ج ـ ثم تأتي أمور أخرى مجازية؛ كأنّ هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلوِّ مرتبتهم بفلاحهم بــــ (أولئك) إشارة إلى علوِّ منزلتهم وعلوِّ ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعلٍ فيما يسير وهو مستعلٍ أصلاً، فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ، ثم حصر الفلاح فيهم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] حصراً .
د ـ قوله تعالى: {هُمُ} هذا ضمير الفصل ويفيد في الغالب التوكيد والقصر, حتى إنه قيل في تسمية ضمير الفصل: أنه يفصل الخبر عن الصفة وهذا أصل التسمية، أي: أنّ أصل التسمية حتى يُعلم أن الذي بعده خبر وليس صفة؛ لأنه أحياناً يظن السائل أنّ هذا صفة وبعده خبر، ونحو ذلك قوله تعالى:{وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] .
هـ ـ وذَكَرَ في هذه الآية ركنين أساسيين، الأول: في إصلاح النفس (إقامة الصلاة) ، والثاني: في الإحسان إلى الآخرين (إيتاءالزكاة)، وإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة ؛ ولذلك لمّا قال الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أفاد الحصر أي لا فلاح في غير هؤلاء، ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل ليكون على هدى من ربه، وليس وراء ذلك أي فلاح آخر.
****
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (21)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]
السؤال الأول:
ما دلالات هذه الآية ؟
الجواب:
1ـ قوله تعالى {إِنَّ} تفيد التوكيد .
2ـ الكافرون صنفان :
آـ صنف كفر بالله، وعندما جاء الهدى حكّم عقله وعرف الحق فآمن.
ب ـ وصنف آخر مستفيد من الكفر؛ ولذلك هو متشبِّثٌ به,ومهما جاءه من الإيمان والأدلة فإنه سوف يعاند ويكفر؛ لأنه يريد أنْ يحتفظ بسلطاته الدنيوية ونفوذه القائم ولا يقبل أنْ يُجرد منهما ولو بالحق هذا الصنف هو الذي قال الله عنه : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] .
هذا الكافر الذي اتخذ الكفر طريقاً لجاه الدنيا لن يؤمن سواء أنذرته أم لم تنذره، بل إنّ هؤلاء هم الذين يقاومون الدين ويحاربون كل من أسلم وآمن , ولذلك فإنّ عدم إيمانهم ليس بسبب أنّ منهج الإيمان لم يبلغهم، ولكنْ لأنّ حياتهم قائمة ومبنية على الكفر.
3ـ قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة:6] صيغة جمع، وقوله {لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] صيغة جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد، فمعناه أنّ كل واحد منهم لا يؤمن , ومثال ذلك قول المعلم للطلاب : "أخرجوا دفاتركم" أي: ليخرج كل طالب دفتره.
السؤال الثاني:
ما معنى {سَوَآءٌ} في الآية ؟
الجواب:
1ـ قوله تعالى في الآية {سَوَآءٌ} بمعنى الاستواء، فكأنه قيل : إنّ الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه .
2ـ جاءت لفظة {سَوَآءٌ} هنا وبدون واو (حرف عطف)؛ لأنها جاءت ضمن جملة اسمية، بينما جاءت لفظة {وسَوَآءٌ} [يس:10] في آية يس وهي قوله تعالى {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس:10] لأنها جملة مستقلة معطوفة على جملة سابقة فجاءت بواو العطف.
السؤال الثالث:
هل هناك أكثر من قراءة في قوله تعالى أَأَنْذَرْتَهُم ْ} ؟ ولماذا ذُكرالإنذار دون البشارة؟
الجواب:
1ـ الإنذار هو التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي, وإنما ذُكر الإنذار دون البشارة؛ لأنّ تأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى من تأثير البشارة, واشتغال الإنسان بدفع الضرر أشد من اشتغاله بجلب المنفعة , فكان ذكر الإنذار أولى .
2ـ في قوله تعالى أَأَنْذَرْتَهُم ْ}ست قراءات :
آ ـ إمّا بهمزتين محققتين بينهما ألف , أو لا ألف بينهما.
ب ـ أو أنّ تكون الهمزة الأولى قوية والثانية أقل قوة بينهما ألف , أو لا ألف بينهما.
ج ـ مع حذف حرف الاستفهام , أو بحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرىء {قد أفلح}.
السؤال الرابع:
ما القول في جملة {لا يُؤمِنُونَ} [البقرة:6] ؟
الجواب:
هذه إما أنْ تكون جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبراً لـ {إنَّ} .
السؤال الخامس:
ما قاعدة دخول ألف الاستفهام على ألف القطع أَأَنْذَرْتَهُم ْ} ؟
الجواب:
1 ـ إذا دخلت ألف الاستفهام على ألف القطع وكانت ألف القطع مفتوحة, نحو قول الله تعالى:{ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } فإنْ شئتَ أثبتَ الهمزتين معاً في اللفظ، وإنْ شئتَ همزت الأولى ومددت الثانية، وأمّا في الكتابة فإنّ بعض الكتاب يثبتهما معاً ليدل على الاستفهام، ألا ترى أنك لو كتبت (أنتَ قلت للناس) (أنذرتهم أم لم تنذرهم) لم يكن بين الاستفهام والخبر فرقٌ، وبعضهم يقتصر على واحدةٍ استثقالاً لاجتماع ألفين.
2ـ فإذا كانت ألف القطع مضمومة ودخلت عليها ألف الاستفهام , نحو قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} {آل عمران:15} و قولك: أَؤُكرمك، أَؤُعطيك , قُلبتْ ألف القطع في الكتاب واواً، وعلى ذلك كتاب المصحف، وفي غيره إنْ شئت كتبت ذلك بألفين على مذهب التحقيق.
3ـ وإذا كانت ألف القطع مكسورة ودخلت عليها ألف الاستفهام, نحوقوله تعالى :{قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ } {يوسف:90} ونحوقولك: "أئِنَّك ذاهب" "أئِذَا جئتُ أكرمْتَني" قلبتْ ألف القطع ياء، وعلى ذلك كتاب المصحف، وفي غيره إنْ شئت كتبت ذلك بألفين على مذهب التحقيق.
-4ومَن كان من لغته أن يُحدث بين الألفين مدة , مثل قول ذي الرمة:
أيَا ظَبيةَ الوَعْساءِ بينَ جَلاجِلِ=وبينَ النَّقَا آأَنْتِ أمْ أمُّ سالِم
فلا بدّ من إثبات ألفين؛ لأنها ثلاث ألفات في الحقيقة، فتحذف واحدة؛ استثقالاً لاجتماع ثلاث ألفات، ولا يجوز أنْ تحذف اثنتين فتخل بالحرف. والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (22)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة : {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]
السؤال الأول:
ما معنى الختم ؟ولماذا تم الختم على القلوب والسمع والبصر ؟
الجواب:
آ ـ الختم والكتم أخوان ومن الألفاظ الواردة في القرآن في معنى الختم : الطبع ـ الكنان ـ الرين على القلب ـ الوقر في الأذن ـ الغشاوة في البصر .
ب ـ هذه هي الآية الثانية في الكلام عن الكفار في أول سورة البقرة , وهؤلاء كانوا من عتاة الكفرة من الذين علم الله سبحانه وتعالى أنهم قد أقفلوا قلوبهم .
وقوله تعالى في الآية السابقة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة:6] هذه التصريحات في القرآن تجاه أناس معينين هو من دلائل النبوة، ولا يكون من كلام بشر؛ لأنه ما يكون موقفك لو أنّ هؤلاء تظاهروا بالإسلام وقالوا: نحن أسلمنا؟ إذن هذا علم الله سبحانه وتعالى، و هؤلاء عتاة الكفر أغلقوا قلوبهم.
ج ـ الختم هو الطابَع من الطين،والأصل أنّ العربي كان يغلق فوهة شيء من الأشياء إذا أراد أنْ يحفظها ويأتي بشيء من الطين يضعه على مكان عقدة الخيط ويختم بخاتِمه (خاتَم وخاتِم)، والآن مستعمل هذا الختم بالشمع الأحمر.
إذن هم أغلقوا قلوبهم أولاً فختم الله سبحانه وتعالى عليها، ولا يحتج أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي ختم فهم مسيّرون ؛ لأنهم هم أغلقوا قلوبهم أولاً؛ لأنّ الختم لا يكون إلا على شيء مغلق، فهم أغلقوا قلوبهم وما عادوا مستعدين للاستماع ولا للتقبّل؛ لذا قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة:] فهؤلاء لا يؤمنون، أي: انتهى حالهم، وهذا الأمر لا يكون لعموم الناس ، إذن الختم لا يكون إلا بعد الإغلاق، هم أغلقوا قلوبهم فختم الله عليها.
د ـ والقلب عند العرب هو موطن العقل والتفكير وهم هكذا يستعملونه، والدماغ عندهم حشو الجمجمة، وفي لغة العرب أنّ الإنسان يعقل ويفكر ويتأثر بالعاطفة وكلها في القلب، والقرآن كلّم الناس أنّ موطن العقل وموطن التفكير هو في القلب .
وبماذا يتدبر الإنسان؟ يتدبر بما يسمعه؛ لأنّ الأصل أنّ الآيات تلقى إلقاء على الناس، الدعوة شفاهاً، والكلام شفاهاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يكلمهم , فهم إذا أغلقوا قلوبهم ما الفائدة ؟!!!! كأنهم لا يحتاجون إلى آذانهم.
والسمع هو الوسيلة الأولى التي تدعوك إلى أنْ تنظر، بعد أنْ يقال لك :انظر فتنظر، وهم :
1ـ أولاً أغلقوا قلوبهم فخُتم عليها.
2ـ والطريق إلى القلوب هو السمع وما عاد ينفع فختم عليها أيضاً .
3ـ والسمع وسيلة التذكير بالإبصار فغشّيت الأبصار {غِشَاوَةٌ} .
لذلك جاء هذا الترتيب الطبيعي، ولا يمكنْ أن يتغير إلا في ظرف معين كما في سورة الإسراء: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97] .
السؤال الثاني:
لماذا ترد كلمة (السمع ) بصيغة المفرد, والأبصار ثم القلوب بالجمع كما في هذه الآية ؟
الجواب:
آ ـ القلوب ما يحوك فيها التفكير، وهذا شيء واسع مطلق وليس له حدود حتى لو كان الإنسان ساكتاً؛ لأنّ فكره وقلبه و تفكيره ليس له حدود.
كذلك النظر أيضاً واسع لكنه لا شك أقل من القلب، فأنت تنظر إلى مكان محدود النظر يأتي في الدرجة الثانية في السعة، متنوع، يعني ترى أشياء كثيرة.
أمّا السمع فيستقبل الصوت فقط لا يستقبل شيئاً آخر, فالسمع يتعامل مع شيء واحد وهو الصوت اللغوي، والبصر يتعامل مع أشياء كثيرة والقلب يتعامل مع أشياء كثيرة أكثر , فالذي يتعامل مع الكثير استعمل له الجمع، والذي يتعامل مع الواحد استعمل له المفرد (السمع).
ب ـ لو أنّ مجموعة من الناس ألقي عليهم آية من الآيات، هم كلهم ستدخل في آذانهم بصورة واحدة لا تختلف , وستدخل هذه الذبذبات وتترجم في رؤوسهم , فإذن المستقبَل في السمع واحد ، لكنْ لمّا استقبلوه كلٌّ سيفكر فيه بطريقة خاصة وليس بصورة واحدة، فهذا يقتضي توحيد السمع وجمع القلوب.
ج ـ القلوب جمع قلب، والأبصار جمع بصر، ليس عندنا جمع آخر ، وقلوب جمع كثرة، وأبصار جمع قِلّة، وطبعاً كلاهما يستعمل للكثرة والقلة، والقرآن جاء بلغة العرب, والعرب جمعوا القلب على قلوب، وجمعوا البصر على أبصار.
د ـ بعض علمائنا يقولون: وحَّدَ كلمة السمع؛ لأنّ صورتها صورة المصدر، والمصدر عادة لا يُجمع؛ لأنه يدل على الحدث المطلق؛ لأنّ مدركات السمع واحد وهو الصوت، بينما مدركات القلوب ومدركات الأبصار متعددة، أي: ما يدركه السمع واحد وهو الصوت اللغوي والترجمة تكون في الذهن أي: في القلب , بينما النظر مدركاته كثيرة فالقلب مدركاته كثيرة, ومدركات السمع هو الصوت اللغوي، وهو هذه الموجة. (لكن العرب جمعت السمع على أسماع ).
السؤال الثالث:
استعمل الختم على القلب والسمع, واستعمل الغشاوة مع البصر فلماذا ؟ وما فائدة تكرار حرف الجر (على) في الآية ؟
الجواب:
آ ـ هنا استخدم القرآن الختم على القلب وعلى السمع مع العطف؛ لأنه أراد أنْ يجمع بختم واحد القلوب والسمع لارتباط الموضوع، حيث إنّ موضوع التفكر يكون عن طريق السماع، فلمّا أغلقوا قلوبهم لم يعد هناك فائدة للسمع، فختم على الاثنين: ختم على قلوبهم وعلى سمعهم بختمين وليس بختم واحد؛ لأنّ القلب شيء والسمع شيء آخر.
أمّا قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [البقرة:7] فهذه جملة جديدة وليست معطوفة، فيما لو أردنا أن نقف على سمعهم، ثم نتابع: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}.
والبصر يحتاج لتغطية، أمّا السمع فيحتاج إلى ختم؛ لأنه ليس هناك شيء يغطيه.
ب ـ كرر حرف الجر (على) ليدل على شدة الختم في الموضعين : القلوب والسمع.
السؤال الرابع:
ما دلالة تقديم السمع على البصر في الآية ؟
الجواب:
آ ـ قدّم السمع على البصر للتفضيل، وهذا التفضيل عام في جميع القرآن عدا آيتين هما : الكهف [ 26] والسجدة [12] وسوف نتكلم عنهما في موضعيهما إن شاء الله.
ب ـ السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث الله نبياً أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلى بالعمى كيعقوب عليه السلام .
ج ـ حاسة السمع عند الطفل الوليد أسبق بالعمل من حاسة البصر.
د ـ تستطيع بالسمع استكمال معارف العقل، بينما البصر لا يوقفك إلا على المحسوسات.
السؤال الخامس :
ما دلالة تنكير{غِشَاوَةٌ} و {عَذَابٌ} في الآية ؟
الجواب:
نكَّرَ {غِشَاوَةٌ} للتعميم ، ونكّر {عَذَابٌ} ليشمل كل أنواع العذاب .
والعذاب العظيم نقيض الحقير, والعذاب الكبير نقيض الصغير, فكأنّ العذاب العظيم فوق العذاب الكبير ، والله أعلم.
السؤال السادس:
جعل الله تعالى السَّدَّ للكفرة في آية يس {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} [يس:9] دون آية البقرة هذه، فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
1ـ وصف الله تعالى في أول البقرة الكتاب بأنه لا ريب فيه وهو هدى للمتقين , وبيّن صفات المتقين فذكر ما يتعلق بالإيمان والتقوى والهدى، ثم ذكر الكفرة فذكر أنه مختوم على قلوبهم وعلى سمعهم وأنّ على أبصارهم غشاوة فانسدت منافذ الإيمان والتقوى والهدى .
2ـ بينما ذكر في يس {إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ(3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4) } [يس:3-4] والصراط إنما يكون للسير فيه وسلوكه، فذكر ما يمنع الكفرة من سلوك الصراط المستقيم وهو الأغلال في أعناقهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم.
أمّا المؤمنون فإنهم على الصراط المستقيم يسلكونه ويتخذونه سبيلاً، ولم يذكر مثل ذلك في البقرة فكان ذكر السد مناسباً في: {يَس} فناسب كل تعبير مكانه الذي هو أليق به. والله أعلم.
السؤال السابع:
في آية البقرة قدّم القلوب على السمع : {عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ، وفي آية الجاثية 23 قدّم السمع على القلب وعلى البصر : {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] فما دلالة هذا التقديم والتأخير ؟
الجواب:
في آية البقرة قدّم القلوب على السمع , وفي آية الجاثية قدّم السمع على القلب وذلك للأسباب التالية :
1ـ في آية البقرة :
ـ ذكر القلوب المريضة « آية البقرة:10» فقدّم القلوب لذلك .
ـ آية البقرة ذكرت من أصناف الكافرين من هم أشد ضلالاً وكفراً ممن ذكرتهم آية 23 الجاثية انظر آيات البقرة [6] و [7].
ـ أنّ الإنذار وعدمه لهذه الأصناف سواء , وأنهم ميؤوس من إيمانهم , ولم يقل مثل ذلك في آية الجاثية.
ـ كرّر حرف الجر: {عَلَى} مع القلوب والأسماع مما يفيد التوكيد : {عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7] ولم يكرر في الجاثية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية:23] .
ـ قال في البقرة: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والثبات، أي : أنّ هؤلاء شأنهم دائماً فلا أمل في إبصارهم في يوم من الأيام.
ـ ختم الآية بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7] ولم يقل ذلك في الجاثية فدلّ على أنّ صفات الكفر في البقرة أشد تمكنا فيهم .
2 ـ في آية الجاثية : إضافة إلى ما ذكر أعلاه :
ـ ذكر الأسماع المعطلة: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا}[الجاثية:8] فقدّم السمع .
ـ قال: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية:23] بالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث: {وَجَعلَ} فعل ماض ، ومعنى ذلك أنّ الغشاوة لم تكن قبل الجعل، يدلك على ذلك قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] مما يدلّ على أنه كان مبصراً قبل ترديه .
3 ـ لذلك قدّم ختم القلب على ما سواه؛ لأنه هو الأهم، فإنّ القلب هو محل الهدى والضلال ,وإذا ختم عليه فلا ينفع سمع ولا بصر، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال صلى الله عليه وسلم : « ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، واذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» فكان تقديم القلب في البقرة أولى وأنسب وتقديم السمع في الجاثية أنسب, والله أعلم .
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (23)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]
السؤال الأول:
قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] الضمير{هُم} جمع و {مَن} للمفرد فما دلالة الجمع بين الصيغتين؟
الجواب:
(من) و(ما) في اللفظ مذكران صالحان للمفرد والمثنى والجمع المذكر والمؤنث، والأصل في (من) إذا ذكرت أنْ يُبدأ بدلالة لفظها ثم ينصرف إلى المعنى، فدلالة اللفظ مفرد مذكر ثم يصرف إلى المعنى الذي يحدده السياق.
وفي الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] {هُم} جمع و {مَنْ يَقُولُ} مفرد، فيبدأ بالمفرد.
وكذلك في الآية: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] {مَنْ يَقُولُ} مفرد، {سَقَطُوا} جمع، فيبدأ بالمفرد.
وفي الآية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] {مَن يَأْتِ} مفرد و (من) و(ما) عندما يبدأ بلفظهما تكونان للمفرد والمثنى والجمع (مذكر أو مؤنث)، وأكثر الكلام عند العرب يبدؤونه بـ(من) حتى لو كان جمعاً, ولذلك (من) لها لفظ ولها معنى، لفظها المفرد المذكر ومعناها يختلف باختلاف السياق .
وفي الآية: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] مع {يَقْنُت} [الأحزاب:31] أعاد الضمير على لفظ (من) وهو الإفراد والتذكير، ومع {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} أعاد الضمير على معناه وهو الإفراد والتأنيث .
السؤال الثاني:
لماذا كرر حرف الباء مع حرف العطف في الآية ؟
الجواب:
الآية حكاية قول المنافق أنه أكّد ذلك بالباء مرتين: {بِاللهِ وَبِاليَوْمِ الآَخِرِ} [البقرة:8] نفياً للتهمة عن نفسه وبالصيغة الفعلية: {آمنَّا} فكذَّبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} فأكده بالباء ، وبالصيغة الاسمية .
****
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (24)
مثنى محمد هبيان
من اللمسات القرآنية في سورة البقرة : {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]
السؤال الأول:
ما الفرق في استعمال: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]{لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] {لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] في آيات البقرة :
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] و : {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] ؟
الجواب:
هذه الآيات في الكلام عن المنافقين وهم لمّا يعلنوا أنهم قد آمنوا كأنما يعتقدون أنهم يخادعون الله سبحانه وتعالى .
1ـ الفعل المضارع (يشعرون) يدل على الحال أو الاستقبال، أي: الاستمرار، نحو: فلان ينظم الشعر , أي: هذه حاله.
2ـ العرب تستعمل لنفي الفعل أدوات؛ ومنها :
آ ـ استعملوا (ما) لنفي الحاضر.
ب ـ واستعملوا (لا) لنفي المستقبل.
ج ـ واستعملوا (لن) للتأبيد.
ولذلك الصيغتان: {وَمَا يَشْعُرُونَ} و {لا يَشْعُرُونَ} هي لنفي الإحساس والشعور عنهم الآن وفي المستقبل.
3ـ استعمل القرآن {وَمَا يَشْعُرُونَ} في القضايا الظاهرة وعلى الأحاسيس الواضحة فالمنافقون يخادعون, وهو عمل ظاهر, ويقولون ويتصرفون بالكلام وهذا في الحركة الظاهرة التي فيها معنى الإحساس فاستعمل هنا {وَمَا يَشْعُرُونَ} .
واستعمل {لا يَشْعُرُونَ} في الآية 12؛ لأنّ الإفساد واضح .
4ـ بينما استعمل: {لايَعْلَمُونَ} مع القضايا القلبية والمعنوية كما في الآية 13؛ لأنّ العلم في الداخل؛ ولأنّ الإيمان ليس شعوراً ظاهرا،ً وإنما هو علم الباطن.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (25)
مثنى محمد هبيان
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14]
السؤال الأول:
عن كيفية ضبط واو الجماعة في (لَقُوا) و(خَلَوا) في الآية وفي الأفعال بشكل عام ؟ ومتى تُفتَحُ الواو وتُضَمُّ ؟
الجواب:
أولاً ـ في الآية :
1ـ الواو ليست مفتوحة ولا مضمومة، وإنما هي ساكنة في الحالتين، وإنما هذا يتعلق بما قبلها.
2ـ واو الجماعة إذا كان الفعل منتهياً بياء أو واو تُحذف ويُضَمُّ ما قبل واو الجماعة وتبقى واو الجماعة ساكنة .
3ـ واو الجماعة إذا سبقت بألف يفتح ما قبلها، نحو : خلا خَلَوا , وتبقى واو الجماعة ساكنة.
أمثلة :
(لَقِيَ- لَقَوا، نَسِيَ- نَسُوا، خَشيَ- خَشَوا)
(يدعو يدعُون، خَفِي خَفُوا، خَشِيَ خَشُوا، رَمَى رَمَوا، دعا دَعَوا، مَشَى مَشَوا، قَضَى قَضَوا، رضي رضُوا، يرضى يرضَون، يمشي يمشُون، يسعى يسعَون)
ثانياً ـ تصريف الأفعال المعتلة الآخر مع واو الجماعة :
القواعد العامـــــة :
الأفعال من ناحية الزمن ثلاثة هي : ماضٍ ـ مضارع ـ أمر.
ومن ناحية البنية تنقسم الأفعال إلى : صحيح ومُعتَلٍّ.
والفعل الصحيح ينقسم إلى : سالمٍ، ومهموزٍ، ومضعَّفٍ، نحو : شكر ـ أخذ ـ مدّ .
والفعل المعتل ينقسم إلى : مثال، وأجوف، وناقص ، نحو : وعد ـ قال ـ رمى .
- الفعل الماضي المعتل مع واو الجماعة :
1ـ إذا أُسند الفعل الماضي المعتل إلى واو الجماعة يُحذف حرف العلة وتبقى الفتحة قبل الواو إذا كان المحذوف ألفاً نحو : رمى رمَوْا ، وخلا خلَوْا ، ويضم ما قبلها إذا لم يكن ألفاً نحو : خَشِيَ خشُوْا، وقال قالُوا .
2ـ إذا أُسند الفعل المضارع المعتل إلى واو الجماعة أو ياء المخاطبة يُحذف حرف العلة وتبقى الفتحة قبل الواو إذا كان المحذوف ألفاً نحو: يخشى يخشَون .
وملخّص ذلك في الجدول التالي :
السؤال الثاني:
ما الفرق بين: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ}[البقرة:14] و {خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] فى سورة البقرة؟
الجواب:
في قوله تعالى: {وَ إذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة:76] أي الشياطين مع بعض أو الكفار مع بعض، أما قوله {وَ إذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة:14] أي خلوا إلى رؤسائهم وإلى قادتهم .
السؤال الثالث:
ما دلالة الفرق في الخطاب في الآية بين الجملة الفعلية {آمنَّا} ، والجملة الاسمية {إنَّا مَعَكُمْ} ؟
الجواب:
هذا في وصف المنافقين , وقد فرّق القرآن بين قولهم للمؤمنين بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث {آمنَّا} وبين مخاطبتهم جماعتهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام {إنَّا مَعَكُمْ} ولم يسوَّ بينهما، فلم يقولوا: (إنا مؤمنون) كما قالوا: {إنَّا مَعَكُمْ} لعدم وجود باعثٍ ومحركٍ في عقائدهم، أمّا مخاطبة إخوانهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر فهو عن صدق رغبةٍ وارتياحٍ للمتكلم فكان مظنةً للتحقيق وللتوكيد .
السؤال الرابع:
ما المعنى الخاص المميز لكلمة {شَياطِينِهِمْ} في هذه الآية ؟
الجواب :
كل ما في القرآن من ذكرٍ لكلمة ( شيطان ) فإنها تعني إبليس وجنوده وذريته , إلا قوله تعالى في آية سورة البقرة : {وَ إذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] فإنه يريد كهنتهم مثل: كعب بن الأشرف , وحُيي بن أحطب , وأمثالهم .
السؤال الخامس :
ما النظائر الأخرى المميزة و المشابهة للسؤال السابق التي وردت في القرآن الكريم ؟
الجواب :
فيما يلي أهم النظائر المشابهة للسؤال السابق مرتبة حسب ترتيب سور المصحف :
البقرة :23
كل ما في القرآن من كلمة ( شهيد ) وتعني غير القتلى في الغزو , فهم الذين يشهدون على أمور الناس, كما في قوله تعالى في سورة البقرة : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] إلا قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ} [البقرة: 23] فإنه يُراد (شركاءكم) .
البقرة : 248
كل ما جاء من لفظة ( سكينة ) في القرآن فهي طمأنينة للقلب , كما في قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ } [الفتح: 4] , إلا التي في آية سورة البقرة {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248] فإنه يعني شيئاً من الأشياء الموجودة في التابوت من آثار موسى وهارون عليهما السلام إضافة إلى الطمأنينة والسكون.
آل عمران : 156
كل ما في القرآن من كلمة (حسرة) فهو الندامة , كقوله تعالى : {يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ} [يس :30] إلا التي في سورة آل عمران {لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } [آل عمران :156] فإنه يعني به ( حزناً ) أو الحزن .
النساء :6
كل ما جاء في القرآن من كلمة (النكاح) فهو يعني التزوج , إلا قوله تعالى في سورة النساء: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فإنه يعني : سن الاحتلام .
النساء :78
كل ما في القرآن من ذكرلكلمة ( البروج ) فإنها تعني منازل الكواكب , كقوله تعالى : {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} [البروج: 1] إلا قوله تعالى : {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78] فإنها القصور المرتفعة الحصينة .
الأنعام :1
كل ما جاء في القرآن من لفظٍ يحوي ( من الظلمات إلى النور ) فهو بمعنى الكفر والإيمان , كما في قوله تعالى : {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] غير واحد في أول سورة الأنعام : {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فيعني : ظلمة الليل ونور النهار .
الرعد :31
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( يأس ) فهو القنوط , كما في قوله تعالى : {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} [يوسف: 87] إلا التي في آية سورة الرعد {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الرعد: 31] أي : ألم يعلموا .
قال الشاعر :
أقول لهم بالشِّعبِ إذ يَيْسِرُوني=ألم تيأسوا أني ابنُ فارس زهدم
النحل : 76 ـ الإسراء : 97
كل ما جاء في القرآن من ذكر(البُكم) فهو الخرسُ عن الكلام بالإيمان , كقوله تعالى :
{صُمٌّ بُكْمٌ} فإنما أراد ( بكم ) أي الخرسُ عن النطق والتوحيد مع صحة ألسنتهم , إلا في موضعين : الأول هوقوله تعالى : {عُمْياً وبُكْماً وَصُمّاُ} [الإسراء :97] والثاني قوله تعالى : {أَحَدُهُمآ أَبْكَمُ} [النحل :76] فإنه أراد في هذين الموضعين :( اللذان لا يقدران على الكلام) .
الإسراء : 97
كل ما جاءمن لفظة ( صمم ) في القرآن فهو عن الاستماع للإيمان , إلا في موضع واحد يصف بني إسرائيل في آية الإسراء{عُمْياً وبُكْماً وَصُمّاُ} [الإسراء :97] فمعناه : لا يسمعون شيئاً .
الكهف :40
كل ما في القرآن من لفظة ( حسبان ) فهو من العدد , كما في قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: ٥] غير موضع واحد في سورة الكهف {حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف :40] فإنه بمعنى العذاب .
الكهف :82
كل كلمة ( كنز) في القرآن فالمقصود به هو المال , إلاالذي في آية سورة الكهف {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} [الكهف: 82] فإنه أراد صحفاً وعلماً .
مريم :13
كل ما جاء في القرآن من كلمة ( زكاة ) فهو المال , غير التي في آية سورة مريم {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً } [مريم:13] فإنه يعني ( تعطفاً ) .
مريم :26
كل كلمة ( صوم ) في القرآن فهو الصيام المعروف , إلا الذي في آية سورة مريم {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] فيعني : صمتاً .
مريم : 46 ـ الكهف 22
كل ما جاء في القرآن من : (يَرجُمنَّكم ) و ( يَرجُمُوكم ) فهوالقتل , إلا في موضعين : الأول في آية سورة مريم لَأَرْجُمَنَّكَ } [مريم:46] ويعني : لأشتمنك وأذمنّك قولاً وعملاً , والثاني في آية سورة الكهف {رَجْمَاً بِالغَيْبِ} [الكهف:22] أي ظناً . والرجم يعني أيضاً : الطرد واللعن , ومنه قيل للشيطان : رجيم .
الحج :40
كل كلمة ( صلاة ) في القرآن فهي عبادة ورحمة, إلا قوله تعالى في آية سورة الحج {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40] فإنه يريد بيوت عباداتهم .
النور : 2
كل ما جاءمن لفظة ( عذاب ) في القرآن فهو التعذيب بأنواعه المختلفة , إلا قوله تعالى في آية سورة النور : {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما} [النور: 2] فإنه يريد الضرب أو الجلد فقط .
النور :35
كل لفظة ( مصباح ) جاء في القرآن فهو الكوكب , إلا الذي في آية سورة النور : {المِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ} [النور: 35] فإنه السراج نفسه .
الفرقان :42 ـ ص :6
كل ما جاء في القرآن من ذكر (الصبر ) فهو محمود , إلا في موضعين فهو غير محمود : الأول : آية سورة الفرقان : {لَوْلَآ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] والثاني : آية سورة ص: {وَاْصبِرُوا عَلَى آلِهَتِكم} [ص : 6]
الشعراء : 129
كل لفظ جاء في القرآن ( لعلّكم ) فهو بمعنى ( لكي ) غير واحد في آية الشعراء : {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] فإنه للتشبيه , أي : كأنكم .
القصص : 66
النبأ والأنباء في القرآن هي الأخبار , إلا قوله تعالى في آية سورة القصص : {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ}[القصص: 66] فإنه بمعنى : الحجج .
الروم : 41
كل ما جاء في القرآن من ذكر ( البَر ) و ( البَحر) فإنه يُراد بالبحر الماء , وبالبرّ التراب اليابس , غير موضع واحد في سورة الروم : {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ} [الروم :41] فإنه بمعنى انتشار الفساد في البوادي والعمران .
الأحزاب :10
كل ما جاء في القرآن من لفظة : ( زاغوا) و( لا تُزغ ) نحو قوله تعالى : {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران :8] فإنه من : ( مالوا ) و(لا تملْ ) غير التي في آية الأحزاب: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} [الأحزاب:10] فإنها بمعنى : ( شَخَصَت ).
الأحزاب :63
كل ما جاء في القرآن من لفظة (وما أدراك ) فقد أخبرنا به , و كل ما جاء في القرآن من لفظة ( وما يُدريك ) فلم يخبرنا به . حكاه البخاري رحمه الله في تفسيره . واستدرك بعضهم عليه موضعاً , وهو قوله تعالى : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] . والله أعلم .
الصافات : 125
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( البعل ) فهو الزوج , كما في قوله تعالى : {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا}[هود:72] إلا في آية الصافات في قوله تعالى : {أَتَدْعُونَ بَعْلًا} [الصافات:125] فإنه أراد صنماً .
الصافات : 141
كل ما جاء في القرآن من ( الدّحض ) و ( الداحض ) فمعناه الباطل , كقوله تعالى : {حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ} [الشورى :16] إلا التي في آية الصافات: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ}[الصافات :141] فمعناه : من المقروعين , أو المغلوبين .ومنه قول الشاعر :
قتلنا المدحضين بكل فج=فقد قرت بقتلهم العيون
الزخرف : 32
كل ما جاء في القرآن من لفظة : (يسخرون) و( سَخِرنا ) فإنه يُراد به الاستهزاء , غير التي في آية الزخرف:{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}[الزخرف :32] فإنه أراد أعواناً وخدماً .
الزخرف :55
كل ما جاء في كتاب الله من ذكر ( الأسف ) فمعناه الحزن , كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام : {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف:84] إلا قوله تعالى : {فَلَمَّا آَسَفُونَا} [الزخرف:55] , فإنّ معناه : ( أغضبونا ) , وأمّا قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام : {غَضْبَانَ أسِفَا} [الأعراف :150] فقال ابن عباس : ( مغتاظاً ) .
الطور :30
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( ريب ) فهوالشكّ , إلا في قوله تعالى :{نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ}[الطور:30] فإنه يعني حوادث الدهر أو الموت .
القمر :47
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( السعير ) فهو يعني النار والوقود , إلا قوله تعالى في آية القمر: {إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] فإنه يعني الخسران والجنون , قاله : ابن عباس رضي الله عنهما . وقيل غير ذلك .
الحديد :29
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( لئلا) فهو بمعنى ( كيلا ) غير واحد في آية الحديد {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} [الحديد: 29] فإنه يعني : لكي يعلم .
المجادلة : 2
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( زور ) فهوالكذب , ويُراد به الشرك , كما في قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}[الفرقان:4] إلا التي في آية سورة المجادلة : {مُنْكَرًا مِنَ القَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] فإنه كذب غير شرك .
الممتحنة : 11
كل ما جاء من لفظة ( إنفاق ) في القرآن فهو الصدقة , إلا قوله تعالى في آية سورة الممتحنة {فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [المتحنة: 11] فإنّ المراد به المهر .
الطلاق :7
كل ما جاء في القرآن من {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فيعني : العمل , إلا قوله تعالى في آية سورة الطلاق : {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} [الطلاق: 7] فيعني : النفقة .
الجن : 15
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( أقسطوا ) فهو بمعنى العدل , كما في قوله تعالى : {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ} [الأحزاب: 5 ] إلا في آية سورة الجن : {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: ١٥ ] فيعني : ( الجائرين أو الظالمين ) وهم الذين يعدلون الحق بالباطل , هذا باعتبار صورة اللفظ , وإلا فمادة الرباعي ( أقسط ) تخالف مادة الثلاثي ( قسط ) .
المدثر :5
كل ما جاءفي القرآن من لفظة ( رِجز ) بكسر الراء فهو العذاب , كقوله تعالى في قصة بني إسرائيل : {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف:134] إلا التي في آية المدثر: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5] بضم الراء فإنه يعني : الصنم , فاجتنبوا عبادته .
المدثر:31
كل ما جاء في القرآن من لفظة ( أصحاب النار) فهم أهل النار , إلا قوله تعالى في آية سورة المدثر: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} [المدثر: 31] فإنه يريد خزنتها .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (27)
مثنى محمد هبيان
{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]
السؤال الأول:
لِمَ قال:{يَعْمَهُون} ولم يقل: (يعمون)؟ وما دلالة {وَيَمُدُّهُمْ} ؟
الجواب:
1ـ العمى فقد البصر وذهاب نور العين ,أمّا العَمَه فهو الخطأ في الرأي, والمنافقون لم يفقدوا بصرهم وإنما فقدوا المنطق السليم، فهم في طغيانهم يعمهون.
2ـ أسند المَدَّ إليه سبحانه فالله يمدّهم في طغيانهم هم , ولا يمدّهم في طغيان جديد لم يفعلوه.
بينما أسند المَدَّ في آية الأعراف [202] إلى الشياطين فذكرَ أنهم يمدونهم في غيٍّ جديد، قال تعالى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (28)
مثنى محمد هبيان
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]
السؤال الأول:
ما دلالة قوله تعالى في الآية: { اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى} [البقرة:16] في سورة البقرة؟
الجواب:
السؤال يعني: لماذا جاءت الَضلالة بالهدى ولم تأت الهدى بالضلالة ؟ فنقول: إنّ هناك قاعدة تقول: إنّ الباء تكون مع المتروك، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] .
السؤال الثاني:
لماذا ذكر عدم الربح ولم يذكر الخسارة، علماً أنّ الخسارة أبلغ في التوبيخ ؟
الجواب:
إنّ هَمَّ المشتري للتجارة هو حصول الربح وسلامة رأس المال, فبدأ بالأهم وهو نفي الربح ثم أتى بما يدل على الخسران بقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] فنفى ما هما مقصودان بالتجارة.
السؤال الثالث:
ما الفرق بين الفسق والضلالة؟
الجواب:
1ـ الضلال هو نقيض الهداية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالهُدَى} [البقرة:16] .
2ـ الفسق : هو الخروج من طاعة الله بكبيرة , وأصل الفسق في اللغة العربية هو خروج مكروه , ومنه يُقال للفأرة : الفُويسقة , لأنها تخرج من جحرها للإفساد .
3ـ الفرق بين الفسق والضلال أنّ الضلال قد يكون عن غير قصد وعن غير علم:
آـ الضلال هو عدم تبيّن الأمر، تقول : ضلّ الطريق قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104] هذا من دون معرفة بحيث ضلّ عن غير قصد.
ب ـ وقد يُضلّ بغير علم: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119] .
4ـ و أمّا الفسق فهو بعد العلم تحديداً, وحتى يكون فاسقاً ينبغي أنْ يكون مبلَّغاً حتى يكون فسق عن أمر ربه، إذن هنا زيادة أنهم مبلّغون ثم خرجوا فإذن هم فاسقون, ولو قال: ضالون، قد يعطيهم بعض العذر أنهم عن غير قصد، لكنهم فاسقون بعد المعرفة وبعد التبليغ فسقوا.
5ـ في قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} هذه عامة؛ لأنّ الضلال عام واليهود والنصارى منهم وليس حصراً عليهم، وقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] نفى عنه الضلال بعلم أو بغير علم, أمّا الفسق فلا يكون إلا بعد علم، فينبغي أنْ يعلم أولاً حتى يقال عنه: فاسق . قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ} [الحديد:26] فهذا بعد التبليغ: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26] تنكّبوا الصراط بعد المعرفة، وأصل الفسق هو الخروج عن الطريق يُقال: فسقت الرطبة، أي: خرجت من قشرتها.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (29)
مثنى محمد هبيان
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]
السؤال الأول:
ما دلالة المثل في هذه الآية؟ ولماذا ذهب بنورهم وليس بنارهم؟وما الفرق بين الضوء والنور؟
الجواب:
1ـ هذه الآية الكريمة من مجموعة آيات تكلمت عن المنافقين, ومعلوم أنّ المنافقين إنما سُمُّوا بهذه التسمية؛ لأنّ ظاهرهم مع المسلمين وباطنهم في حقيقة الأمر أنهم مع الكفار, حتى قيل إنّ الكفار خير منهم؛ لأنّ الكافر صريح يقول: هو كافر, لكنّ المنافق يقول لك : هو مؤمن مسلم ولكنه يهدم ويخرّب من داخل المجتمع المسلم.
فضرب الله عز وجل لهم هذا المثل , ووجود النار في الصحراء عند العرب مثال معروف على الظهور والانكشاف وهداية الضالّ ,والأمثال تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه .
2ـ الآية تتحدث عن شخص أوقد هذه النار ولمّا أوقدها وتعالى لهيبُها أضاءت ما حوله، وامتدت هذه الإضاءة إلى مسافات بعيدة واستناروا بها. ونحن نقول: إنّ هذا المثل يمكن أنْ يحمل أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو مثل الموقِدِ لهذه النار الهادية, فلمّا جاءوا من حولها ورأوا هذا النور وتذوقوا حلاوة إيمان طمسوا بأنفسهم على قلوبهم ولم يستفيدوا شيئاً من ذاك النور الذي علا ضوؤه .
و نلاحظ أنّ مضمون: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] هنا فرد، ومضمون: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } [البقرة:17] هو حوله أناس، فالعربي لا يعيش وحده، فلمّا يوقد النار تكون قبيلته حوله, فهم أيضاً يستضيؤون بهذه النار وكذلك الأغراب البعداء يهتدون لهذه النار {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] هم عاشوا في ضوء ولو لحقبة يسيرة، اطلعوا على الإسلام بخلاف الكافر الذي كان يضع إصبعيه في أذنيه ويقول: لا أسمع.
3ـ والمثل هو لبيان صفة المنافقين , ومُثلت الجماعة بالواحد؛ لأنه يجوز في اللغة وضع (الذي) موضع (الذين) كقوله سبحانه و تعالى: { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي المراد جنس المستوقدين أو الفوج الذي استوقد ناراً .
4ـ والفرق بين النور والضوء، أنّ النور لا يكون فيه حرارة , أمّا الضوء ففيه حرارة ومرتبط بالنار، والإنسان يمكن أنْ تأتيه حرارة الضوء، فالنار المضيئة إذا خفتت وخمدت يبقى الجمر وهو من مخلفات النار وهو بصيص يُرى من مسافات بعيدة، فلمّا يقول تعالى: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] يعني أصغر الأمور التي فيها هداية زالت عنهم، ولو قال في غير القرآن: ذهب الله بضوئهم، فتعني أنه ذهب الضوء لكنْ بقيت الجمرات، لكنّ يريد القرآن أنْ يبين أنّ هؤلاء بعد أنْ أغلقوا قلوبهم: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] لا يبصرون شيئاً حتى الجمر الصغير ما بقي عندهم.
السؤال الثاني:
ما الفارق بين أذهب نورهم، وذهب بنورهم؟
الجواب:
أذهبت هذا الشيء، أي: جعلته يذهب أذهبته فذهب، أنت فعلت وهو أيضاً استجاب للفعل، فلو قال: أذهب الله نورهم، كأنها تعني أنّ الله أمر النور أنْ يذهب فاستجاب وذهب، لكنّ هذا الذي ذهب قد يعود.
أما صورة: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] كأنّ الله تعالى اصطحب نورهم بعيداً عنهم, وما اصطحبه الله عز وجل لا أحد يملك أنْ يعيده، وهذا نوع من تيئيس الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين؛ لأنّ الجهد معهم ضائع .
فقوله تعالى : {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] يعني مضى به واستصحبه، وهذا يدلك أنه لم يبق لهم مطمع في عودة النور الذي افتقدوه.
وهذه خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم , فلا يقولن إنسان: إنّ هذا الشخص لا نفع من ورائه فلا داعي لوعظه وتذكيره, إذ إن الله سبحانه خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، وهو أنّ هؤلاء المنافقين قد انتهى أمرهم.
السؤال الثالث:
ما سبب استخدام المفرد والجمع في قوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ؟
الجواب:
1. من الممكن ضرب المثل للجماعة بالمفرد، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل:92].
2. اسم الموصول (الذي) قد يستعمل للفريق وليس للواحد فقط والمقصود بـ(الذي) في الآية ليس الشخص إنما قد تدل على الفريق, ويقال عادة: الفريق الذي فعل كذا ولا يقال: (الفريق الذين).
3. كما يمكن الإخبار عن الفريق بالمفرد والجمع: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] .
4. لفظة (الذي) نفسها يمكن أنْ تستعمل للمفرد والجمع، كما جاء في الشعر العربي:
وإنّ الذي حانت بِفَلجٍ دِماؤُهم= همُ القومُ كُلُّ القومِ يا أُمَّ خالدِ
السؤال الرابع:
لماذا استعمل التأنيث في قوله تعالى: {أَضَاءَتْ} ؟
الجواب:
قوله تعالى: {أَضَاءَتْ} التأنيث في الفعل للحمل على المعنى؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن وأشياء, ويعضد ذلك قراءة ابن أبي عقلة (ضاء) .
والفعل (أضاء) قد يكون لازماً أو متعدياً يُقال : أضاءت النار بنفسها وأضاءت غيرها.
السؤال الخامس:
ما دلالة حذف المفعول به في قوله تعالى: { يُبْصِرُونَ} ؟
الجواب:
كأنه من قبيل المتروك الذي لا يلتفت إليه، كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (30)
مثنى محمد هبيان
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]
السؤال الأول:
ما دلالة تكرار صفة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة:18] بنفس الترتيب في القرآن؟ ولماذا اختلاف الخاتمة بين الآيتين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] و: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فى سورة البقرة ؟
الجواب:
1ـ صفة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} تكررت مرتين بهذه الصيغة في القرآن في سورة البقرة في الآيتين( 18) و ( 171) وهي في المنافقين .
واعلم أنه لمّا كان المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة, فلم يبق إلا تشبيه حالهم لشدة تمسكهم بالعناد وإعراضهم عما يطرق سمعهم من القرآن وما يظهره الرسول صلى الله عليه وسلم من الأدلة والآيات بمن هو أصمُّ فلا يسمع, وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب فلذلك جعله بمنزلة الأبكم , وإذا لم ينتفع بالأدلة ولم يبصر طريق الرشد فهو بمنزلة الأعمى.
2ـ في آية البقرة رقم (18) قال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ(18) }[البقرة:17-18] وهذه الآيات نزلت في المنافقين، والمنافقون الذين رأوا الإيمان وسمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلام الله عز وجل وكان يُفترض أنهم تذوقوا شيئاً من الإيمان، عُرِض عليهم الإيمان ثم انتكسوا بعد ذلك، يعني أنهم تحولوا من الإيمان إلى الضلال، فإذن مَثَلُهم كمثل الذي استوقد ناراً، كأنه أُضيءَ أمامهم هذا الدين لكنهم لم ينتفعوا بذلك: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] أي: لا مجال لهم للرجوع إلى الهدى بعد أنْ باعوه، وعن الضلالة بعد أن اشتروها، ولا إلى النور الذي فقدوه؛ لأنهم نافقوا وطُبِع على قلوبهم والعياذ بالله فلا مجال للرجوع ؛ و لذلك استعمل كلمة: {لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] .
3ـ وفي الآية الثانية قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ(170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ(171)} [البقرة: 170 - 171] .
آ ـ هنا تكلّم عن آبائهم قال: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا}{البقرة:170} أي: أنّ آباءهم لا يعقلون، فالمناسب أنْ تختم الآية الثانية: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فكما أن آباءهم لا يعقلون هم لا يعقلون.
ب ـ أنّ المثال الذي ضُرِب : {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] يمثل صورتهم صورة هؤلاء وهم يُلقى عليهم كلام الله سبحانه وتعالى كمَثَلِ الذي ينعِقُ بما لا يسمع إلا دعاء، أي مثل مجموعة أغنام ينعق فيها الراعي؛ أي: يصيح فيها، وهذه الأغنام تسمع أصواتاً لكنها لا تستطيع أنْ تعقلها؛ لأنها لا تفهم , فكأنّ هؤلاء وهم يستمعون إلى كلام الله سبحانه وتعالى كالأغنام فناسب: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
ج ـ وفي آية آخرى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} [الأعراف:179] مثّلهم بهذا؛ لأنهم لا يعقلون كلام الله سبحانه وتعالى ولا يستعملون عقولهم في إدراكه؛ فجعلهم مثل الأغنام والبهائم؛ ولذلك هذه الصورة هي التي يناسبها كلمة: {لَايَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
السؤال الثاني:
ما دلالة الواو في الآية: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39] وفي البقرة لم يستخدم الواو {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] ؟
الجواب:
الأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم.
1ـ في البقرة لمّا قال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]هم في جماعة واحدة، وعندما تقول: هؤلاء شعراء فقهاء كتاب , فالصفات الثلاث موجودة في فئة واحدة , و عندما تقول : هؤلاء شعراء وفقهاء وكتاب , فيحتمل أنّ المجموعة فيها ثلاث فئات؛ ولذلك عندما قال : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] فالكلام في فئة واحدة.
2ـ وعندما قال: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} [الأنعام:39] فهناك احتمالان :
آ ـ احتمال أنْ تكون جماعة واحدة وكلهم جميعاً صُمٌّ وبُكمٌ .
ب ـ واحتمال أنْ يكون جماعات متعددة , أي: قسم صُمُّ وقسم بٌكمٌ.
3ـ وذكر في القرآن من يتكلم ولا يبصر: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [طه:125] فهو أعمى وليس أبكم.
السؤال الثالث:
لماذا هذه المغايرة بين آيتي البقرة (18) والأنعام (39) ؟
الجواب:
1ـ أنّ آية البقرة أشدّ؛ لأنها في جماعة واحدة فذكر العمى والصَّمَمَ والبكم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وقال أيضاً في الظلمات: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] , بينما آية الأنعام أقلّ فلم يذكر العمى، وإنما قال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39] .
2ـ في البقرة الكلام عن المنافقين طويل في تسع آيات من الآية [8] إلى الآية [20] ووصفهم بصفات متعددة، فذكر الإفساد ومخادعة الله والذين آمنوا، والاستهزاء وشراء الضلالة بالهدى إضافة إلى صفة التكذيب, أمّا في الأنعام ففي آية واحدة فقط، وذكر فيها صفة التكذيب بالآيات، وهي صفة واحدة: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] .
فأيهما الأولى بالذمّ وكثرة الصفات السيئة؟ الذين في سورة البقرة الذين هم ليسوا جماعتين وإنما جماعة واحدة , وهؤلاء (صمٌّ بكمٌ عميٌ ) وهم (في الظلمات )، فلا يمكن من الناحية البيانية وضع إحداهما مكان الأخرى ولا يصح؛ فهذا قانون بياني بلاغي.
السؤال الرابع:
ما دلالة الاختلاف في الترتيب بين آيتي البقرة [18] و [171] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وآية الإسراء 97 : {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] ؟
الجواب:
1ـ في آيتي البقرة كان الترتيب: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] وفي الإسراء كان الترتيب {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] مع وجود واو العطف بين الصفات في سورة الإسراء بخلاف سورة البقرة، فلا يوجد واو .
2ـ آيتا البقرة 18- 171 نزلتا في المنافقين الذين رأوا الإيمان ورأوا الرسول صلى الله عليه وسلم وعُرض عليهم الإيمان ثم انتكسوا وتحولوا إلى الضلال؛ لذلك مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً لكنهم لم ينتفعوا بذلك، وشرْعُ الله قُدّم إليهم منطوقاً لكنهم لم يستفيدوا مما سمعوه وكأنهم لم يشهدوه، علماً أنهم في الواقع شهدوه لكنهم لم ينظروا في آيات الله التي دُعوا للنظر فيها، فهم قد ابتعدوا عن الدين كثيراً لذلك استعمل معهم في ختام الآية: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18] أي: لا يرجعون إلى النور الذي فقدوه.
وأما الآية 17، فهي تتحدث عن الظلمة، والمنافق كان في ظلمات فناسب: {لَا يُبْصِرٌونَ} [البقرة:17] .
3ـ آية الإسراء تتحدث عن أُناس في المحشر وليس في الدنيا: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الإسراء:97] .
وقد سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : «إنّ الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أنْ يمشيهم على وجوههم» .
وإذا كان وضع التائه أنّ وجهه في التراب فمعنى ذلك أنه لا يبصر, وعندما يفقد البصر يبدأ بالصراخ لعل أحداً يسمعه فيرشده , فإذا فقد الكلام أو كان أبكم عند ذلك يعتمد على أُذنيه لعله يسمع صوتاً فيتجه نحوه، وهذا هو الترتيب الطبيعي فجاءت الآية: {عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] .
4ـ السحب والوجه على التراب يفقد البصر أولاً، ثم يدخل التراب في فمه فيفقد الكلام، ثم يدخل التراب في أُذنيه فيفقد السمع.
5ـ الواو في آية الإسراء تفيد تكرار العامل، أي: نحشرهم عمياً، ونحشرهم صماً، ونحشرهم بكماً، فيكون فيها نوع من التميز لتركيز المعنى.
6ـ في آية البقرة 171 ، تكلم القرآن في الآية التي سبقتها عن آبائهم فقال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فناسب أن تختم الآية 171 {لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] فكما أنّ آباءهم لا يعقلون فهم لا يعقلون أيضاً.
7ـ الآية 171 تمثل صورة هؤلاء الكفار وهم يُلقى عليهم كلام الله كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء، أي: كمجوعة أغنام والراعي يصيح فيها والأغنام تسمعه لكنها لا تفهم معانيه مهما صرخ فيها، وهذه الصورة لا يناسبها إلا (فهم لا يعقلون)؛ لأنه شبههم بالغنم التي تسمع أصواتاً ولا تدرك معناها، وهم يسمعون القرآن ولكنهم لا يفكرون فيه ولا يستخدمون عقولهم لفهمه مثل آبائهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] .
8 ـ قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18]؛ لأنهم صاروا بمنزلة الصُمِّ في أنّ الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكمِ في أنهم لا يستجيبون لما دعوا إليه، وبمنزلة العُميِ من حيث أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (31)
مثنى محمد هبيان
البسملة ومقاصد سورة القاتحة وأسماؤها وفضلها
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها , نزل مقروناً باسم الله سبحانه وتعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1} ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .
وإننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله؛ لأننا لا بدّ أن نحترم عطاء الله في كونه , فحين نزرع الأرض مثلاً لا بدّ أن نبدأ باسم الله؛ لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها، ولا خلقنا البذرة التي نبذرها، ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع ،وهكذا.
وأنت حين تبدأ كل شيء باسم الله كأنك تجعل الله في جانبك يعينك .
ومن رحمة الله سبحانه أنه علّمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله ؛ لأنّ الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه, والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة , فلو أنّ الله لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها، كأن تقول : باسم القوي، وباسم الرزاق، وباسم المجيب، وباسم القادر، إلى غير ذلك من الأسماء والصفات، ولكنّ الله تعالى جعلنا نقول : {بسم الله} الجامع لكل هذه الصفات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» أي: عمل ناقص فيه شيء ضائع , لأنك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك, وحين لا تبدأ العمل باسم الله فليس عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا وبترت عطاءه في الآخرة , أمّا إذا أردت عطاء الدنيا والآخرة فأقبل على كل عمل باسم الله .
وعندما تبدأ قراءة القرآن باسم الله الذي آمنت به رباً وإلهاً والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى , وأنه خلق وأوجد , ويحيي ويميت, وله الأمر في الدنيا والآخرة, وأنه سيثيبك في الآخرة تشعر أنّ البداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.
ونلاحظ أنّ هناك ثلاثة أسماء لله قد تكررت في البسملة وفي سورة الفاتحة، وهذه الأسماء هي : (الله ـ الرحمن ـ الرحيم) ونقول إنه ليس في القرآن تكرار, وإذا تكرر اللفظ فإنّ معناه في كل مرة يوحي بدلالة جديدةعن معناه في المرة السابقة؛ لأنّ الله هو المتكلم ؛ لذلك فهو يضع اللفظ في مكانه الصحيح وفي معناه الصحيح .
وقولنا: {بسم الله الرحمن الرحيم} هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء، وهي كذلك طلب العون من الله بكل كمال صفاته .
و{الرحمن الرحيم} في البسملة لها معنى غير {الرحمن الرحيم} في الفاتحة ففي البسملة هي تذكرنا برحمة الله وغفرانه وتوفيقه حتى لا نستحي من أن نستعين به إن كنا قد فعلنا معصية, والله يريدنا أن نستعين باسمه دائماً في كل أعمالنا , فاذا سقط واحد منا في معصية , قال: كيف أستعين باسم الله وقد عصيته؟
نقول له: ادخل عليه من باب الرحمة يغفر لك واستعن به يجبك , وأنت حين تسقط في معصية تستعيذ برحمة الله من عدله؛ لأنّ عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها , ولولا أن رحمة الله سبقت عدله ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض , فالله يقول في سورة النحل :[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ] {النحل:61} والإنسان خلق هلوعاً ضعيفاً وذنوبه كثيرة , ولا يمكن لأحد أن ينسب الكمال إلى نفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
ولكن {الرحمن الرحيم} في الفاتحة مقترنةٌ برب العالمين الذي أوجدك من عدم وأمدك بِنِعَمٍ لا تعد ولا تحصى، فأنت تحمده على هذه النعم التي أخذتها برحمة الله في ربوبيته , ذلك أنّ الربوبية ليس فيها من القسوة بقدر ما فيها من رحمة.
والله سبحانه رب للمؤمن والكافر، وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه، وهذه رحمة تستوجب الشكر، لذلك في الفاتحة تأتي {الرحمن الرحيم} بمعنى رحمة الله في ربوبيته لخلقه؛ فهو يمهل العاصي ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه.
كذلك علَّمنا الحق أن نقول:{بسم الله الرحمن الرحيم} لكي نعرف أنّ الباب مفتوح للاستعانة بالله , وأنّ المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله؛ لأنه رحمن رحيم .
الفاتحة
أولاً ـ هدف السورة: شاملة لأهداف القرآن :
سُمِّيت الفاتحة، وأم الكتاب، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم , كما ورد في «صحيح البخاريِّ» أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلّى: «لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمدُ لله ربِّ العالمين، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وقد وصفها الله تعالى بالصلاة.
فما سِرُّ هذه السورة؟
سورة الفاتحة مكية، وآياتها سبع بالإجماع , وسميت الفاتحة لافتتاح الكتاب العزيز بها فهي أول القرآن ترتيبا لا تنزيلاً, وهي على قصرها حوت معاني القرآن العظيم واشتملت مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه: العقيدة، العبادة، التشريع، الاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء والتوجه إليه جلّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم, والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين وفيها الإخبار عن قصص الأمم السابقة والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه وغير ذلك من مقاصد وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لباقي السور الكريمة، ولهذا تسمى بأمِّ الكتاب.
إذن اشتملت سورة الفاتحة على كلِّ معاني القرآن، فهدف السورة الاشتمالُ على كل معاني وأهداف القرآن.
والقرآن نصَّ على : العقيدة والعبادة ومنهج الحياة. والقرآن يدعو للاعتقاد بالله، ثم عبادته، ثم حدد المنهج في الحياة، وهذه نفسها محاور سورة الفاتحة:
1ـ العقيدة:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.
2ـ العبادة:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
3ـ مناهج الحياة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) ]. {الفاتحة}.
وكل ما يأتي في كل سور وآيات القرآن هو شرح لهذه المحاور الثلاث.
4ـ تذكِّرُ سورة الفاتحة بأساسيات الدين؛ ومنها:
آ ـ شكرُ نعم الله {الحمد لله}.
ب ـ الإخلاص لله: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
ج ـ الصحبة الصالحة:[صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] {الفاتحة:7} .
د ـ وتذكُّرُ أسماء الله الحسنى وصفاته: [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] {الفاتحة:3}.
هـ ـ الاستقامة:[اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} .
و ـ الآخرة: [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] {الفاتحة:4} ويوم الدين هو يوم الحساب.
ز ـ أهمية الدعاء.
ح ـ وحدة الأمَّة:{نعبدُ} {نَسْتَعيِنُ} [الفاتحة:5] ورد الدعاء بصيغة الجمع مما يدل على الوحدة، ولم يرد بصيغة الافراد.
إذن سورة الفاتحة تُسَلسِلُ مبادئَ القرآن (عقيدة، عبادة، منهج حياة) وهي تثني على الله تعالى وتدعوه؛ لذا فهي اشتملت على كل أساسيات الدين.
أنزل الله تعالى الكتب الثلاثة (الزبور، التوراة، والإنجيل) ثم جمع هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع القرآن في الفاتحة، وجُمعت الفاتحة في الآية:[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] {الفاتحة:5}.
وقد افتتح القرآن بها فهي مفتاح القرآن، وتحوي كل كنوز القرآن، وفيها مدخلٌ لكل سورة من باقي سور القرآن , وبينها وبين باقي السور تسلسلٌ بحيث إنه يمكن وضعها قبل أي سورة من القرآن ويبقى التسلسل بين السور والمعاني قائماً.
ثانياً ـ أسماء هذه السورة :
1ـ فاتحة الكتاب.
2ـ سورة الحمد.
3ـ أم القرآن.
4ـ السبع المثاني.
5ـ الوافية.
6ـ الواقية.
7ـ الأساس.
8ـ الشفاء.
9ـ الصلاة : في الحديث القدسي « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي ».
10ـ سورة الشكر.
11ـ سورة الدعاء.
وهناك أسماء أخرى , وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .
ثالثاً ـ فضل السورة :
الآن وقد عرفنا أهداف سورة الفاتحة التي نكررها (17) مرة في صلاة الفريضة يومياً ما عدا النوافل, لا شك أننا سنستشعر هذه المعاني ونتدبر معانيها ونحمد الله تعالى ونثني عليه وندعوه بالهداية لصراطه المستقيم.
وسورة الفاتحة مكية على قول أكثر العلماء، وفي فضائلها ذكر العلماء أنّ منها :
آ ـ نزلت من كنز تحت العرش .
ب ـ قال الحسين رضي الله عنه : أودع الله سبحانه العلوم في الكتب الأربعة : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المُفصَّلِ، ثم أودع علوم المفصَّلِ في الفاتحة .
ج ـ فاتحة الكتاب شفاءٌ من السُّمِّ، كما في حديث حذيفة بن اليمان .
د ـ وسورة الفاتحة تعلمنا كيف نتعامل مع الله، فأولها ثناء على الله تعالى:[الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {الفاتحة:2} ، وآخرها دعاء لله بالهداية: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ] {الفاتحة:6} ولو قسَّمنا حروف سورة الفاتحة لوجدنا أنّ نصف عدد حروفها ثناء (63 حرفاً) من : {الحَمْدُ لِله} إلى {وإيَّاك نَسْتَعينُ} ، ونصف عدد حروفها دعاء (63 حرفاً) من {اهدِنا الصِرَاطَ} إلى {ولا الضَّآلينَ}وكأنها إثبات للحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فاذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) ، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: أثنى علي عبدي، وإذا قال : (مالك يوم الدين)، قال عز وجل: مجَّدني عبدي، وقال مرَّةً: فوّض إلي عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» فسبحان الله العزيز الحكيم الذي قدّر كلَّ شيء.
وقد سُئِلَ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله عنه : لماذا تقف بعد كل آية من آيات سورة الفاتحة؟ فأجاب : لأستمتع بردِّ ربي.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
من روائع البيان في سور القرآن" (32)
مثنى محمد هبيان
{يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]
السؤال الأول:
قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20] وقوله: {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة:17] ولم يقل بضيائهم، فلماذا؟
الجواب:
الضياء أبلغ من النور، ولا يلزم من ذهابه ذهاب النور, بخلاف عكسه فذهاب النور أبلغ في نفي ذلك .
السؤال الثاني:
أين المفعول به لفعل {شَاء} [البقرة:20] في الآية ؟ وهل مفعول الفعل: {أَرَاَدَ} يكثر حذفه في القرآن ؟
الجواب:
حذف المفعول به لفعل المشيئة {شَاء} [البقرة:20] كثير في كلام العرب، وفي القرآن يقول الله تعالى :
ـ {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } [البقرة:20] أي: لو شاء الله أنْ يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بسمعهم وأبصارهم.
ـ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] والتقدير: لو شاء ربك أنْ لا يفعلوه ما فعلوه.
ـ {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].
ـ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}[آل عمران:6]
ـ {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزُّمَر:74]
ـ {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8]
ولقد كثر حذف المفعول به في الفعل {شَاءَ} [الانفطار:8] والفعل {أَرَاَدَ} [الرعد:11] ولا يكادون يبرزون المفعول به إلا في الشيء المستغرب نحو :
فلو شئتُ أنْ أبكي دماً لبكيتُه=عليه ولكنْ ساحة الصَّبرِ أوسَعُ
ومن الآياتِ التي ورد مذكوراً معه مفعولُ المشيئةِ الآياتُ التالية :
ـ {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17] .
ـ {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزُّمَر:4].
ـ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}[المدَّثر:37].
ـ {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا }[الأنعام:80].
نقاط للعلم في الفعل {أَرَاَدَ} :
ورد الفعل {أَرَاَدَ} [الرعد:11] بصيغه المختلفة في القرآن الكريم في 136 موطناً لم يحذف مفعوله في واحد منها إلا في عائد الصلة، كقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود:107] وقوله : {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] وهذا غير مختص بفعل دون فعل فحذف عائد الصلة المنصوب كثير في عموم الأفعال، كقوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا} [الفرقان:41] أي: بعثه، وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدَّثر:11] أي: خلقته.
وهذا الحذف في عائد الصلة ورد في فعل الإرادة في (7) مواطن ، والباقي في (129) موطن من فعل الإرادة لم يحذف في واحد منها كقوله تعالى:
ـ {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11].
ـ {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا}[الكهف:82].
ـ {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17].
ـ {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزُّمَر:4].
السؤال الثالث:
ما دلالة لفظ : {كُلِّ} و {كُلَّما} في اللغة والقرآن ؟
الجواب:
اسم ( كُلّ) وضع لضم أجزاء الشيء على جهة الإحاطة , مأخوذ من لفظ
( الإكليل ) أو ( الكلّة) , ويفيد الانضمام إلى ذات الشيء , أو انضمام الذوات , وهو المفيد للاستغراق , وهو ملازم للأسماء , ولا يدخل على الأفعال .
وأمّا قوله تعالى : {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] , فالتنوين بدل من المضاف , أي كل واحد .
وهو لازم للإضافة معنىً , ولا يلزم إضافته لفظاَ إلا إذا وقع تأكيداً أو نعتاً, وإضافته منويّة عند تجرده منها .
ويُضاف تارة إلى الجمع المعرّف , نحو : كلُ القوم , ومثله إسم الجنس نحو : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:93].
وتارة إلى ضميره نحو :
- {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95].
- {فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}الحجر:30].
وإلى نكرة مفردة نحو: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
وربما خلا من الإضافة لفظاً وينوى فيه , نحو :
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87].
{كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام:84].
{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ}[الفرقان:39].
ولفظ ( كُل ) لإفراد التذكير , ومعناه بحسب ما يُضاف إليه , والأحوال ثلاثة :
1ـ أن يُضاف إلى نكرة فيجب مراعاة معناها , فلذلك جاء الضمير مفرداً مذكراً في قوله تعالى : {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ} [الإسراء:13] .
وجاء مؤنثاً في قوله تعالى :
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ } [آل عمران:185].
وجاء مجموعاً مذكراً في قوله تعالى :
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53].
ويجب مراعاة المعنى مع النكرة دون لفظ ( كل ) كما في قوله تعالى : {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}[غافر:5].فالجمع باعتبار ( الأمة ) .
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].لأنّ الضامر اسم جمع , كالجامل والباقر .
وأمّا قوله تعالى : {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8) } [الصافات:7ـ8].
إنما عاد الضمير إلى الجمع المستفاد من الكلام , فلا يلزم عوده إلى ( كل ) .
2ـ أن تضاف ( كُل) إلى معرفة , فيجوزمراعاة لفظها ومراعاة معناها , سواء كانت الإضافة لفظاً , نحو : {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: [ كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته ] , ولم يقل : راعون ولا مسؤولون . أو معنى, نحو : {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ}[العنكبوت:40]., فراعى لفظها . وقال : {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] فراعى المعنى .
3ـ أن تقطع عن الإضافة لفظاً , فيجوزمراعاة لفظها ومراعاة معناها , فمن الأول قوله تعالى :
{كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ} [البقرة:285].
{إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص:14] , ولم يقل : كذّبوا .
ومن الثاني قوله تعالى :
{وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال:54].
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] .
وقد تتصل ( ما ) بـ ( كل ) نحو : { كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} [البقرة:25] وهي مصدرية لكنها نائبة بصلتها عن ظرف زمان , والمعنى : كل وقت , وتسمى ( ما ) مصدرية ظرفية, أي النائبة عن الظرف , لا أنها ظرف في نفسها . و( كلما ) للتكرار . والله أعلم .
السؤال الرابع:
قد يقال : لِمَ أتى قبل الفعل {أَضَاءَ}بـ {كُلَّمَا} وقبل الفعل {أَظْلَمَ} بـ {وَإذَاَ} في الآية ؟ وما وجه المناسبة في ذلك ؟
الجواب:
فيه وجوه :
1ـ أنّ تكرار الإضاءة يستلزم تكرار الإظلام , فكان تنويع الكلام أعذب .
2ـ أنّ مراتب الإضاءة مختلفة متنوعة , فذكر ( كلّما) تنبيهاً على ظهور التعدد وقوته بالصورة والنوعية , بينما الإظلام نوع واحد , فلم يؤت بصيغة التكرار لضعف التعدد فيه , بعدم ظهوره بالنوعية , وإنْ حصل بالصورة .
3ـ قاله الزمخشري : أنه لمّا اشتد حرصهم على الضوء المستفاد من النور , كانوا كلّما حدث لهم نور تجدّد لهم باعث الضوء فيه , وأمّا التوقف بالظلام فهو نوع واحد .
4ـ قال الله : {كُلَّمَا} وعبّر عنها دون (إذا) دلالة على شدة حرصهم على إمكان المشي , فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها , وليس كذلك مع التوقف عند الإظلام . والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (33)
مثنى محمد هبيان
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]
السؤال الأول:
ما الفرق بين (البناء) و (البنيان) في الاستعمال القرآني ؟
الجواب:
استعمل القران الكريم البناء للسماء، كما في هذه الآية وآية غافر {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر:64] ، واستعمل البنيان لما بناه البشر كما في قوله تعالى : {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا} [الكهف:21] .
{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ} [الصافات:97 ] {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ } [التوبة 109].
والله أعلم
السؤال الثاني:
ما دلالة رسم كلمة: {فِرَشا} كلمة بدون ألف وسطية في الآية, ورسم كلمة : {بِنَاءً} بالشكل المعتاد ؟
الجواب:
وردت كلمة: {فِرَشا}بدون ألف وسطية لتوحي بالتصاقنا بالأرض وجاذبيتها لنا , في حين جاءت كلمة {بِنَاءً} بألف وسطية لتوحي بعظمة السماء وبنائها وسُمكها . والله أعلم .
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (34)
مثنى محمد هبيان
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]
السؤال الأول:
ما الفرق في آيات التحدي في قوله تعالى بين{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] و {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] و {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] ؟
الجواب:
التحدي كان بأكثر من صورة ، وكان هناك تحدٍّ في مكة وتحدٍّ في المدينة.
1ـ السور المكية جميعاً جاءت من غير (من) :
آ ـ {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] ، والحديث يمكن أنْ يكون آية أو عشر آيات أو سورة كاملة، بحديثٍ مثله، أي: الحديث مطلق .
ب ـ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] بسورة مثله.
ج ـ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13] بعشر سور.
د ـ {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] حكاية حالهم بأسلوب القرآن الكريم، فكان أحياناً يطالبهم بحديث ، فأحياناً يقول لهم: فأتوا بقرآن مثله، أحياناً عشر سور، أحياناً سورة واحدة مثل الكوثر أو الإخلاص، هذا كان في مكة فكان يقول: (مثلِه) بدون (من).
2ـ في المدينة (في سورة البقرة) المكان الوحيد الذي قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] هنا القرآن انتشر وأسلوبه صار معروفاً، الآن يقول لهم: {بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
3ـ لو قال : بسورة مثله، كما قال سابقاً يعني سورة مثل سور القرآن الكريم، بينما (من) هذه للتبعيض , والقرآن هل له مثل حتى يطالَبون ببعض مماثله؟ هو لم يقل : فأتوا بمثله وإنما ببعض ما يماثله أو بعض ما تتخيلونه مماثلاً ولا يوجد ما يماثله فما معناه؟ هذا معناه زيادة التوكيد.
ومعناه: أنه لو تخيلتم أو أنّ تصوّركم أنجَدَكم بأنْ تتخيلوا مثالاً لهذا القرآن فحاولوا أنْ تأتوا بمثل ذلك المثال، حتى بجزء من ذلك المثال الذي تخيلتموه، فهذا أبعد في التيئيس من قوله: {مِثْلِهِ} مباشرة.
وهذا إمعان في التحدي وأبعد؛ لأنّ القرآن صار منتشراً، وهذا غير ممكن؛ لأنّ الله تعالى قضى بأنهم : {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] فأتوا ليس بمثله وإنما بجزء مما تتخيلونه مماثلاً له.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين قوله تعالى: {مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] و {مِثْلِهِ} في آيات الإسراء [88] يونس[ 38] هود[ 13] الطور[34]؟
الجواب:
من الناحية اللغوية هناك فرق بين التعبيرين , فعندما تقول : ائتني بشيءمن مثل هذا , فهذا يعني أننا نفترض وجود أمثال لهذا الشيء.
أمّا عندما نقول : ائتني بشيء مثل هذا, فهذا لا يفترض وجود أمثال لكنه محتمل أنْ يكون لهذا الشيء مثيل وقد لا يكون, فإنْ كان موجوداً ائتني به وإنْ لم يكن موجوداً فافعل مثله.
هذا هو الفرق الرئيس بينهما, وهذا الأمر طبع كل الآيات الواردة في هذا المجال؛ حيث إننا نعرف أنّ الله تحدى الكفار والمشركين بالقرآن في أكثر من موضع.
التعليق :
1ـ أمور الريب أعمُّ وأشمل وأهم من الافتراء , والافتراء واحد من أمور الريب.
2ـ قال المفسرون: إنّ معنى {مِنْ مِثْلِهِ} أي من مثل القرآن ومن مثل رجل أُميٍّ كالرسول صلى الله عليه وسلم لا يكتب ولا يقرأ فهي تحتمل المعنيين بينما لفظ {مِثْلِهِ} لا يحتمل إلا معنى واحداً وهو مثل القرآن , لذلك فصيغة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } [البقرة:23] أعم من : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] للسببين أعلاه.
3ـ حذف مفعولي الفعلين (تفعلوا) و(لن تفعلوا) والحذف في اللغة قد يكون للإطلاق عموماً، كأنْ تقول : قد كان منك ما يؤذيني، و قد كان منك ما يؤذي، وهذا عام.
4ـ لا يمكن افتراضاً أنْ نضيف كلمة (مفتراة) في آية سورة البقرة فيقول مثلاً : فأتوا بسورة من مثله مفتراة؛ وذلك لسببين :
آ ـ هم لم يقولوا (افتراه)، كما قالوا في سورة يونس وهود .
ب ـ لا يحسن أنْ يأتي بعد (من مثله) بكلمة (مفتراة) ؛ لأنه عندما قال: (من مثله) افترض وجود مثيل له, فإذن هو ليس مفترى ولا يكون مفترى إذا كان له مثيل.
5ـ كذلك لا يصح أنْ يقول في سورتي يونس وهود مثلاً: (فأتوا بسورة من مثله) بإضافة (من)؛ لأنّ استخدام (من مثله) تفترض أنّ له مِثْلاً، إذن هو ليس بمفترى, لذلك لا يمكن استبدال إحداهما بالأخرى.
6ـ قال في البقرة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] وقال في يونس وهود: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ}؛ والسبب أنه في سورة البقرة قال: {مِنْ مِثْلِهِ} أي: افترض أنّ له مثلاً وهناك من استطاع أنْ يأتي بهذا المثل , فلماذا تدعو المستطيع !!! وإنما صح أن يأتي : {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] ليشهدوا إنْ كان هذا القول مثل هذا القرآن, فالموقف يحتاج إلى شاهد محكَّم ليشهد بما جاءوا به وليحكم بين القولين .
أمّا في سورة يونس وهود؛ فالآية تقتضي أنْ يقول: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} ليفتري مثله .
لذلك فقوله تعالى {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة:23] أعمُّ وأوسع؛ لأنه تعالى في آية البقرة طلب أمرين : دعوة الشهداء ودعوة المستطيع, أمّا في آية يونس وهود فالدعوة للمستطيع فقط .
7ـ مما سبق نلاحظ أنّ آية البقرة بنيت على العموم أصلاً {فيِ رَيْبٍ} {مِنْ مِثْلِهِ} {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} وجاءت هذه الآية {فيِ رَيْبٍ} مناسبة لأول سورة البقرة: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] .
8 ـ ثم نسأل : لماذا قال الله في آية البقرة: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} نقول:
إنّ قوله تعالى: {فَإِن لَم تَفْعَلُوا} هو الشرط، وقوله تعالى {وَلَنْ تَفْعَلُوا} هو جملة اعتراضية بغرض القطع بعدم الفعل، وهذا يناسب قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} في أول سورة البقرة.
كما ناسب أنْ يقطع بعدم الاستطاعة على الفعل بقوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ؛ لأنه ذكر ابتداء أنه لا ريب فيه.
9ـ استخدم {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] في أول سورة البقرة و{ذَلِكَ} [البقرة:2] اسم إشارة للبعيد , بينما في آيات أخرى جاء اسم الإشارة (هذا) للقريب، كما في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]؛ والسبب أنه تعالى عندما قال : {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] دعا من يستطيع أنْ يأتي بمثله وهذا أمر بعيد الحصول، وفيه إشارة إلى أنهم لن يستطيعوا إليه سبيلاً .
أمّا استخدام اسم الإشارة (هذا) فجاء مع الهدى؛ لأنّ الهداية ينبغي أنْ تكون قريبة من أفهام الناس حتى يفهموا ويعملوا.
10ـ حدد القرآن التحدي في سورة هود بعشر سور؛ لأنّ هذا من طبيعة التدرج في التحدي؛ حيث يبدأ بالكل ثم الأقل فالأقل , والله أعلم.
السؤال الثالث :
ما المعنى الخاص المميز لكلمة ( شهداءكم ) في هذه الآية ؟
الجواب :
كل ما في القرآن من كلمة ( شهيد ) غير القتلى في الغزو , فهم الذين يشهدون على أمور الناس, كما في قوله تعالى في سورة البقرة : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] , إلا قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} [البقرة: 23] فإنه يُراد : شركاءكم .
لمزيد من المعلومات حول نظائر هذه الكلمات انظر آية البقرة 14 .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (35)
مثنى محمد هبيان
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]
السؤال الأول:
مادلالة قوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ؟
الجواب:
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا}هو الشرط، وقوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة اعتراضية بغرض القطع بعدم الفعل، وهذا يناسب قوله تعالى: {لَا رَيْبَ فِيهِ}.
والقرآن تحدى البشر أولاً بأنْ يأتوا بمثل القرآن، ثم تحداهم بأنْ يأتوا بعشر سور مثله مفتريات؛ لأنهم أشاعوا في أوساط الناس أنّ القرآن مفترى, ثم تحداهم بأنْ يأتوا بسورة واحدة من مثله في البقرة [23].
ومع هذا التحدي الأخير لم يكتفِ بذلك بل بين أنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا ذلك!!!
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} تيئيس للبشر على مدى الزمن , والتأكيد على عجزهم التام .
إنه تحدٍّ، وأي إنسان في الدنيا يمكن أنْ يقول أو يُصدر هذا الحكم، هل يجرؤ محمد صلى الله عليه وسلم وبخاصة أنه في أول الدعوة لمّا يجهر بها بعد؟ هل يجرؤ أنْ يواجه أعداءه بهذا الحكم {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ؟
من الذي يضمن صحة هذا الحكم واستمراره ؟؟؟ وأين تذهب هيبة النبيِّ وقوته وصدقه؟؟
إنها النبوة إذن و {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] إنه الله العليم القادر.
ونحن الآن نتحدث بعد نيف وأربعة عشر قرناً من نزول القرآن وما زال الحكم قائماً !!!!
السؤال الثاني:
أين مفعول: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}؟
الجواب:
هو محذوف لفظاً لكنه مُراد معنى , أي: هو محذوف للاختصار , ولا يحذف إلا لدليل ، والتقدير : فإن لم تفعلوا الإتيان ولن تفعلوه , وقد حُذف للعلم به.
السؤال الثالث:
قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ} كيف نتقيه بينما نحن نطلب من الله كل النعم وكل الخير, كيف يتم هذا ؟ وكيف نتقي من نحب ؟
الجواب:
إن لله تعالى صفات جلال وصفات جمال، صفات جلال تجدها في القهار والجبار والمذل والمنتقم والضار.
أمّا صفات الجمال فتجدها في الغفار والرحمن والرحيم .
فإذا كنت تقي نفسك من النار وهي من صفات الجلال فلا بدّ أنْ تقي نفسك من صفات الجلال كلها؛ لأنه قد يكون من متعلقاتها ما هو أشد عذاباً وإيلاماً من النار.
فكأن الحق سبحانه وتعالى حين يقول : (اتقوا النار) ـ و(اتقوا الله) يعني أنْ نتقي غضب الله الذي يؤدي بنا إلى أنْ نتقي كل صفات جلاله ونجعل بيننا وبينها وقاية، فمن اتقى صفات جلال الله أخذ صفات جماله .
ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلى الجبار بالمغفرة» وكان المنطق حسب تقدير البشر أنْ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تجلى الرحمن بالمغفرة) ولكن ما دامت هناك ذنوب فالمقام لصفة الجبار الذي يعذب خلقه بذنوبهم فكأنّ صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار، وصفة الجبار للعاصين فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها فيغفر الله للعاصين ذنوبهم.
وجمال المقابلة هنا حينما تسمع أنّ الجبار يتجلى بجبروته تشعر بالفزع والخوف والرعب لكنْ عندما تسمع «تجلى الجبار بالمغفرة» فإنّ السعادة تدخل إلى قلبك؛ لأنك تعرف أنّ صاحب العقوبة وهو قادر عليها قد غفر لك.
والنار ليست آمرة ولا فاعلة بذاتها ولكنها مأمورة , إذن فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الأمر.
من جهة ثانية عرّف النار هنا فقال: {فَاتَّقُوا النَّارَ}[البقرة:24] ونّكرها في آية التحريم [6] بقوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]؛ لأنّ الخطاب في البقرة مع المنافقين وهم في أسفل النار فعرّفت بلام الاستغراق.
أما في آية سورة التحريم فالنار مع المؤمنين والذي يُعَذَّبُ من عصاتهم بالنار يكون في جزء من أعلاها، فناسب تنكيرها لتقللها.
السؤال الرابع: ما الوَقود ؟
الجواب:
الوَقود : - بفتح الواو- هو الأشياء التي توضع في النار لكي تتقد من حجارة أو بشر أو قطران.
الوُقود : - بضم الواو- فتُطلق على عملية الاشتعال.
وهناك في القرآن كلمات تعتبر منظومة الوقود مثل : حطب ـ حصب ـ قطران.
قال تعالى :
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] .
{وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15] .
{سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50].
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (36)
مثنى محمد هبيان
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]
السؤال الأول:
في آية سورة البقرة يقول تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] وفي آية الكهف يقول: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31] فما الفرق ؟
الجواب:
فى سورة البقرة : {مِنْ تَحْتِهَا} [البقرة:25] الكلام عن الجنة قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] وفى سورة الكهف: {مِنْ تَحْتِهِمُ} [الكهف:31] يتكلم عن ساكني الجنة المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا(30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)}. [الكهف:30-31] .
فإذا كان الكلام عن المؤمنين يقول: {مِنْ تَحْتِهِمُ} [الكهف:31] وإذا كان الكلام عن الجنة يقول: {مِنْ تَحْتِهَا} [البقرة:25] .
وقد يقول بعض المستشرقين : إنّ في القرآن تعارضاً، مرةً تجري من تحتها، ومرةً من تحتهم لكنا نقول: إنّ الأنهار تجري من تحت الجنة ومن تحت المؤمنين فليس فيها إشكال ولا تعارض، ولكنّ الأمر مرتبط بالسياق.
السؤال الثاني:
قال تعالى في سورة النساء: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] [النساء:138] وفي سورة البقرة: [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [البقرة:25] ذكر الباء في الآية الأولى: {بِأّنَّ} [النساء:138] وحذفها في الثانية: {أَنَّ} [البقرة:25] مع أنّ التقدير هو: {بأنّ} فلماذا؟
الجواب:
1ـ لفظة {بأنّ} [النساء:138] أكثر من {أَنَّ} [البقرة:25] فالباء الزائدة تناسب الزيادة في ذكر المنافقين وجزائهم.
2ـ إنّ تبشير المنافقين في سورة النساء آكد من تبشير المؤمنين في سورة البقرة، ففي سورة النساء أكّد وفصّل في عذاب المنافقين في عشر آيات ابتداء من قوله في الآية [136] [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ] [النساء:136] وحتى ما بعد الآية[ 145].
أمّا في آية البقرة فهي الآية الوحيدة في تلك السورة التي ذكر فيها كلاماً عن الجزاء وصفات المؤمنين.
3ـ وكذلك جاء بـ (بأنّ) في قوله تعالى في سورة الأحزاب: [وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا] [الأحزاب:47]؛ لأنه تعالى فصّل في السورة جزاء المؤمنين وصفاتهم.
السؤال الثالث:
ما دلالة (المطهّرون )و (المتطهرون )؟
الجواب:
1ـ الذي يبدو ـ والله أعلم ـ أنّ (المطهّرون) هم الملائكة؛ لأنه لم ترد في القرآن كلمة المطهّرين لغير الملائكة، والمُطهَّر اسم مفعول وهي تعني مُطهَّر من قِبَل الله تعالى.
2ـ وبالنسبة للمسلمين يقال لهم: متطهرين أو مطّهِّرين، كما في قوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين َ ] [البقرة:222] و: [وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ] [التوبة:108] و(متطهرين) أو (مطّهّرين) هي بفعل أنفسهم، أي: هم يطهرون أنفسهم.
3ـ ولمّا وصف الله تعالى نساء الجنة وصفهم بقوله تعالى: [وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [البقرة:25] وكذلك وصفت صحف القرآن الكريم بالمطهّرة: [رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً] [البينة:2] فلم ترد إذن كلمة (مطهّرون) إلا للملائكة .
ولذلك فإن هذا المعنى يقوّي القول بأنّ المقصود في الآية: [فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ] [الواقعة:78] هو الذي في اللوح المحفوظ ، وليس القرآن الذي بين أيدينا لأكثر من سبب والله أعلم.
السؤال الرابع:
ما دلالة البناء للمجهول فى قوله تعالى: {رُزِقُواْ} [البقرة:25] ؟
الجواب:
الله تعالى ينسب النعمة والخير إلى نفسه ولا ينسب الشر لنفسه: [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا] [الإسراء:83]، أمّا في الجنة فإنه لا حساب ولا عقاب يقول تعالى: [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] [البقرة:25] .
السؤال الخامس:
لماذا لم تذكر الحور العين في هذه الآية مع نعيم الجنة ؟
الجواب:
كثير من السور لم يذكر فيها الحور العين بالرغم من ذكر الجنات، وللعلم فقد وردت الكلمات التالية في القرآن الكريم :
ـ الحور : أربع مرات في الآيات : الدخان[ 54] الطور [20] الواقعة [22] الرحمن [72].
ـ عين : أربع مرات في الآيات : الدخان [54] الطور [20] الواقعة[ 22] الصافات[ 48]
- {الجَنَّةَ} 66 مرة.
- {جَنَّاتٌ} 69 مرة.
- {جَنَّتَكَ} مرتان.
- {جَنَّتَهُ} مرة واحدة.
- {جَنَّتيِ} مرة واحدة.
- {جَنَّتَانِ} 3 مرات.
- {جَنَّتَيِنِ} 4 مرات
ونلاحظ أنه عندما يذكر القرآن الكريم أزواج أهل الجنة لا يذكر معها الحور العين مراعاة لنفسية المرأة , كما في قوله تعالى: [وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ] [البقرة:25] كما في الآيات : البقرة [25] آل عمران [15] النساء [ 57] فلم يذكر الحور العين مع الأزواج.
السؤال السادس:
لماذا جاء الظرف: {مِن قَبْلُ} في الآية مبنياً على الضم ؟
الجواب:
هناك ظروف يسميها النحويون ( الظروف المقصودة ) منها : قبل , بعد, فوق , تحت, أمام , خلف ويذكر النحاة أنّ لها أربعة أحوال :
1ـ ألاّ تضاف وهي في ذلك نكرات كقول الشاعر :
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء الفرات
فمعنى ( قبلاً ) : فيما مضى من الزمان.
2ـ أنْ تضاف نحو قوله تعالى : [مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الفَجْرِ] [النور:58] و [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] [آل عمران:144] .
3ـ أنْ يحذف المضاف إليه ويُنوى لفظه , وهذا قليل كقوله :
ومن قبلِ نادى كلُ مولى قرابة فما عطفت مولى عليه العواطف
أي : ومن قبل ذلك , ويعامل المضاف كأنّ المضاف إليه مذكور .
4ـ أنْ يحذف المضاف ويُنوى معناه , وتكون عند ذاك مبنية على الضم , وتكون في هذه الحالة معرفة من دون معرّف لفظي, وإنما هي معرفة بمعرّف معنوي , وهو القصد إليها , فبنيت على الضم لمخالفة حالاتها الإعرابية الأخرى التي تكون فيه نكرة أو معرّفة بالإضافة .
شواهد قرآنية :
[للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] [الرُّوم:4]
[وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ] [يوسف:80].
[وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا] [مريم:9] .
[إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ] [يوسف:77] .
[أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ] [القصص:48] .
وقد ورد التعبير {مِن قَبْلُ} كثيراً في القرآن الكريم . وإعراب {مِن قَبْلُ}
من : حرف جر . و { قَبْلُ } ظرف مبني على الضم في محل جر .
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (37)
مثنى محمد هبيان
{إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ} [البقرة:26]
السؤال الأول:
ما المعلومات المتوفرة عن بنية البعوضة ؟
الجواب:
البعوضة هذا المخلوق الضعيف العجيب، يضرب الله سبحانه مثلاً به ليبين للناس أنّ هذا المخلوق الصغير في حجمه هو عظيم في خلقه .
واليكم بعضاً من أسراره :
1ـ البعوضة أنثى .
2ـ لها مائة عين في رأسها.
3ـ لها 48 سن في فمها .
4ـ لها ثلاثة قلوب كاملة في جوفها.
5ـ لها ست سكاكين في خرطومها ولكل واحد منها وظيفته.
6ـ لها ثلاثة أجنحة في كل طرف من أطرافها.
7 ـ مزودة بجهاز حرارة يعمل مثل نظام الأشعة تحت الحمراء يعكس لها لون الجلد البشري في الظلمة إلى لون بنفسجي حتى تراه (رؤية ليلية) .
8ـ مزودة بجهاز تخدير موضعي يساعدها على غرز إبرتها في جسم الإنسان دون أن يشعر، وما يحس به من قرصة هو نتيجة مص الدم.
9ـ مزودة بجهاز تحليل للدم فهي لا تستسيغ أية دماء.
10ـ مزودة بجهاز لتمييع الدم حتى يسري في خرطومها الدقيق جداً أثناء عملية المص .
11ـ مزودة بجهاز للشم تستطيع من خلاله شم رائحة عرق الإنسان من مسافة 60 كم .
12 ـ وأغرب من هذا، فإن العلم الحديث اكتشف حشرة صغيرة جداً تعيش فوق ظهر البعوضة لا ترى إلا بالمجهر، مصداق قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] .
فسبحان الله !!!!!!!
مسائل في الآية :
1ـ لفظ ( بعوضةً ) منصوب بأنه صفة لمثلاً, أو مفعول به ليضرب، و (مثلاً) حال مقدم عليه أو مفعول به ثانٍ ليضرب مضمّن معنى: يجعل .
2ـ اشتقاق البعوض من البعض وهو القطع، وسمي به لقلة جرمه وصغره؛ ولأنّ بعض الشيء قليل بالقياس إلى كله .
السؤال الثاني:
القدامى يفسرون قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] بأنه دلالة على قدرة الله تعالى، فهل هذا هو المقصود بما فوقها؟ أم أن المقصود بذلك ما أثبته العلم الحديث من وجود جرثومة صغيرة لا ترى بالعين المجردة تعيش فوق ظهر البعوضة ؟ فهل تلك الجرثومة هي المقصود بما فوق البعوضة؟
الجواب:
في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] وجوه :
آ ـ الأول ما هو أكبر منها في الجثة والحجم كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب.
ب ـ والثاني ما هو أصغر منها كما ورد أعلاه من أنّ العلم الحديث اكتشف حشرة صغيرة جداً تعيش فوق ظهر البعوضة لا ترى إلا بالمجهر بعد تكبيرها مائة ألف مرة .
والمحققون مالوا إلى القول الثاني؛ لأنّ المقصد من هذا التمثيل تحقير الأوثان فكلما كان المشبه به أشد حقارة كان المقصود في هذا الباب أكمل حصولاً .
وكلما كان الشيء أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان غاية في الصغر لم يحط بعلمه إلا علم الله تعالى.
ج ـ أو تفيد زيادة الوصف إلى أسفل، كقولك : حقير وفوق الحقير , أي أدنى من الحقير في الصفات.
د ـ أي ما فوقها في الدلالة، أي: في الاستدلال على بيان قدرة الله في الأشياء التي يريدها ويخلقها . والله أعلم.
لذلك كلمة (فوق) قد تستعمل للزيادة في الحجم، أي: أكبر منها أو الزيادة في الوصف كما تقول : هو حقير وفوق الحقير يعني هو دون الحقير.
وإنْ قيل : كيف نفهم (فما) في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} ؟
فالجواب: (فما) بمعنى الذي فوقها، ولا يفهم منها أنّ ما دونها غير مخصوص بالكلام، فما فوقها تجمع أمرين , وأصلاً (فوق) في اللغة تأتي بهذين المعنيين وهي ظرف.
السؤال الثالث:
ما دلالة الحياء في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة:26] في الآية ؟
الجواب:
الحياء في اللغة حالة في نفس الإنسان تجعله يُحجِمُ عن شيء، أو يحجم عن كلامٍ استحياءً، فلا يتكلم أحياناً عن فعل ينوي أنْ يفعله، أو فعل شيئاً إذا وُجِه فيه يصيبه الحياءُ، فالحياء حالة نفسية، لكنها لا تنطبق على الباري سبحانه وتعالى, وإنما يستعمل القرآن هذه الطريقة التي يتكلم بها العرب ليفهم من ذلك أن في كتاب الله تعالى يرد- ومن غير تردُّدٍ- ذكرٌ لهذه الأمثال.
و إذا ضرب هذا المثل فالمؤمن الواعي المدرك يعلم أنه حق لأنه سيتفكر, وأمّا الذين كفروا: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] فيرد عليهم القرآن: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26] هذا المثال يكون سبباً للإضلال وسبباً للهداية، والإضلال لا يكون إلا للفاسق؛ لأنه هو الذي اتخذ الضلال له طريقا الآية {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الفَاسِقِينَ} [البقرة:26] والفاسق هو الخارج من طبعه أو الخارج من فطرته ؛ لأنّ المخلوق يولد على الفطرة.
السؤال الرابع:
لماذا جاء الفعل: {يُضِلُّ} في الآية بالصيغة الفعلية دون الصيغة الاسمية ؟
الجواب:
1 ـ هنالك ملاحظة لطيفة وهامة؛ وهي أنه ما كان من شأنه ألا يُفعل إلا مجازاة، وليس من شأنه أنْ يذكر الاتصاف به، لم يأت إلا في تراكيب الأفعال، أي: بالصيغة الفعلية، كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ }[إبراهيم:27] ذكر الله الإضلال وأضافه إلى نفسه بالصورة الفعلية فقط للدلالة على أنّ هذا الأمر طارىء يفعله لمن يستحقه, ولم يُسند هذا الأمر إلى نفسه بالصورة الاسمية للدلالة على أنّ هذا ليس من صفات الله ونعوته. انظر سورة غافر : [34] و [74] وسورة البقرة [ 26].
في حين وصف الشيطان بذلك فقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15].
فجعله وصفاً ثابتاً له ويجدده أيضاً , انظر آيات الحج:[ 3-4] وقال الشيطان عن نفسه : وَلَأُضِلَّنَّه ُمْ وَلَأُمَنِّيَنّ َهُمْ} [النساء:119] فجعل وصف الشيطان الثابت والمتجدد الإضلال .
2 ـ بينما جعل الله وصف ذاته العلية الثابت والمتجدد في الهداية، فقال في سورة الحج : {وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا}[الحج:54] . وانظر أيضاً آية الفرقان : [31] والمائدة [ 16] ويونس :[35] فشتّان ما بين الوصفين .
3ـ وفي قوله تعالى في آية الأعراف[102] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201] بالصيغة الاسمية {مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ؛ لأنّ البصر صفة لازمة للمتقي, وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ولو قيل : يبصرون، لأنبأ عن تجدد واكتساب لا عن صفة دائمة.
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (38)
مثنى محمد هبيان
{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27]
السؤال الأول:
ما سبب اختيار لفظ النقض في قوله تعالى {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ} [البقرة:27] ؟
الجواب:
إنّ النقض يدل على فسخ ما وصله المرء وركّبه , فنقض الحبل يعني حلّ ما كنت قد أبرمتَه، وقطعك الحبل يعني جعله أجزاءً, ونقض الإنسان لعهد ربّه يدلك على عظمة ما أتى به الإنسان من أخذ العهد وتوثيقه ثم حلّ هذا العهد والتخلي عنه، فهو أبلغ من القطع؛ لأنّ فيه إفساداً لما عمله الإنسان بنفسه من ذي قبل.
فانظر وتأمل كيف جعل الله تعالى التخلي عن الميثاق والوعد نقضاً.
السؤال الثاني:
ما صفات الفاسقين المذكورة في الآية ؟
الجواب:
أخبر الله تعالى أنّ الفاسقين هم المبتعدون عن منهج الله وحدد صفاتهم في ثلاث :
1ـ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27] فقد أخبرنا الله بأنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] ثم جاءت الغفلة إلى القلوب بمرور الوقت فنقضوا العهد واتخذوا آلهة من دون الله.
2ـ {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ }[البقرة:27] والله أمر بصلة الرحم ضمن الروابط التي تبدأ بالأسرة ثم الحي فالقرية فالمدينة فكلِّ المجتمع ضِمنَ تكافلٍ اجتماعيٍّ متميِّزٍ.
بينما هؤلاء خالفوا أمر الله وقطعوا هذه الصلة وخالفوا منهج الله.
3ـ {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة:27] الله خلق كل ما في الكون على نظام: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ولكنّ الإنسان المنحرف جاء وأفسد قضية الصلاح في الأرض والكون بأشكال مختلفة.
إنّ غياب منهج الله معناه أنّ الأمور أصبحت على أهواء الناس، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27] تدل هذه الصيغة الاسمية الثابتة أنّ الخسران ليس موقوتاً وإنما أبدي؛ ولذلك سيكون الندم عليها شديداً.
والعجيب أنك ترى الناس يعدون للحياة الدنيا إعداداً قوياً فيرسلون أولادهم إلى مدارس اللغة والجامعات ويتحملون في ذلك ما لا يستطيعون وهم في ذلك يعدونهم لمستقبل مظنون وليس يقيناً؛ لأنّ الإنسان قد يموت وهو شاب أو لا يكمل دراسته في المراحل الأخيرة أو يكمل فتأتيه المشاكل فيضيع عمره بسبب الجرائم والمخدرات أو غيرها .
ولكن اليقين الذي لا شك فيه هو أننا سنلاقي الله تعالى يوم القيامة وسيحاسبنا على أعمالنا, ومع أنّ هذا يقين إلا أن كثيراً من الناس لا يلتفتون إليه، يسعون للمستقبل المظنون، ولا يبذلون جهداً لحمل أبنائهم على الصلاة والعبادة والتزام منهج الله في الحياة, إنهم ينسون النعيم الحقيقي ويجرون وراء الزائل.
السؤال الثالث:
ما دلالة كلمة: {مِنْ بَعْدِ} في الآية27، وما الفرق بينها وبين {خَلْفٌ} ؟
الجواب:
1ـ لفظة (بعد) نقيضة لفظة (قبل) وأظهر استعمال لها في الزمان.
2ـ أمّا لفظة (خلف) فهي نقيضة لفظة : (قُدّام) (وهي في الغالب للمكان) هذا من حيث اللغة. والخلف في اللغة هوالظهر أيضاً.
3ـ أحياناً لا يصح وضع إحداهما مكان الأخرى؛ فلا يمكننا أنْ نضع (خلف) مكان (بعد), ففي هذه الآيات لا يمكن أنْ تحلّ (خلف) محل (بعد)؛ لأنها كلها متعلقة بالزمان.
شواهد قرآنية: {مِنْ بَعْدِ} قال تعالى :
آ ـ {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52] .
ب ـ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} [البقرة:27] .
ج ـ {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الخَاسِرِينَ} [البقرة:64].
د ـ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:109] .
هـ ـ {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ] [البقرة:120] .
و ـ {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
ز ـ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران:8] وكلها متعلقة بالزمان.
4ـ أمّا (خلف) فهي في الأصل للمكان.
شواهد قرآنية :
آ ـ {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] .
ب ـ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}[يس:9].
ج ـ {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ}[البقرة:255].
د ـ {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] أي يلونهم مباشرة كأنهم واقفون خلفهم.
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (39)
مثنى محمد هبيان
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]
السؤال الأول:
ما غرض الاستفهام في الآية؟
الجواب:
إنّ الاستفهام الحقيقي يحتاج إلى جواب، فإذا سألك أحد: كيف حالك؟ قلت: الحمد لله، وهذا جواب لسؤاله.
أمّا إذا قلت لولدك وهو يضيع وقته أيام الامتحانات: كيف تضيع وقتك على التلفاز؟ هل تنتظر منه جواباً؟ وكذلك قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة:28] هو استفهام، ولكنه خرج إلى غرض آخر وهو التعجب والإنكار.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين (ثُمَّ) و(ثَمَّ) في الاستعمال القرآني ؟
الجواب:
ثُمَّ ـ بضمِّ الثاء ـ هي حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي كما في هذه الآية، وآية الكهف [37] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37].
ثَمَّ ـ بفتح الثاء ـ هي ظرف بمعنى هناك، كما في آية الشعراء [64] {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآَخَرِينَ} [الشعراء:64].
السؤال الثالث:
جاء الإحياء الأول بالفاء وما بعده بثُمَّ، فلماذا ؟
الجواب:
الإحياء الأول جاء بعد الموت بغير تراخٍ فجاء بالفاء, وأمّا الموت الأول فقد امتد لفترة لا نعلمها، لذلك هو تراخٍ عن الإحياء .
وأمّا الإحياء الثاني فهو كذلك متراخ عن الموت أيضاً . والله أعلم.
السؤال الرابع:
ما دلالة قوله تعالى : {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] ؟
الجواب:
1ـ قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] المراد هو الرجوع إلى حكمه؛ لأنّ الله يبعث من القبور ويجمعهم في المحشر، وذلك هو الرجوع إلى الله تعالى, وإنما وصف بذلك لأنه رجوع إلى حيث لا يتولى الحكم غير الله, كقولك: رجع الأمر إلى الأمير، أي: إلى حكمه.
2ـ الآية دالة على أنّ الإحياء والإماتة بيد الله سبحانه فقط.بدون ألف وسطية
السؤال الخامس :
ما دلالة رسم كلمة {أَمْوَاتاً} بدون ألف وسطية ورسم كلمة {أَحيَاءٌ} بألف وسطية في مواطن أخرى ؟
الجواب:
1 ـ ورد في جميع القرآن الكريم رسم خاص لكلمة {أَحيَاءٌ} حيث وردت بالألف الصريحة لأنّ الحياة حركة ونشاط ,وقد وردت كلمة {أَحيَاءٌ} خمس مرات في القرآن الكريم وكلها بالألف الصريحة وذلك في الآيات :[ البقرة154 ـ آل عمران 169 ـ النحل 21 ـ فاطر 22 ـ المرسلات 26 ].
2 ـ أمّا رسم كلمة{أَمْوَتٌ} فقد جاءت بغير ألف وسطية ليوحي ذلك بالموت وبالسكينة والهدوء , وقد وردت كلمة {أَمْوَتٌ} ست مرات في القرآن الكريم كلها بدون الف صريحة وذلك في الآيات :[ البقرة28 ـ 154ـ آل عمران 169 ـ النحل 21 ـ فاطر 22 ـ المرسلات 26 ].
ومن شواهد هذا الموضوع قوله تعالى :{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] .
{أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:26]
{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل:21]
يرجى الاطلاع في القرآن الكريم على هذه الآيات بالخط العثماني للاطلاع على حذف الألف فيها
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (40)
مثنى محمد هبيان
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]
السؤال الأول:
ما دلالة اللام في قوله تعالى : {خَلَقَ لَكُمْ} ؟
الجواب:
قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ} هذه اللام كأنها للمِلك, فالله سبحانه وتعالى يخاطب هذا الإنسان حتى يرى كيف أكرمه الله عز وجل، وأنه خلق من أجله كل ما في الكون.
علماؤنا يقولون: إنّ هناك شيئين في الكون هما لأجلك؛ أحدهما لتنتفع به مباشرة كالماء والنبات والحيوان، والآخر للاعتبار: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الروم:8] فهذا أيضاً لك حتى يحوزك إلى الإيمان، فإذن {خَلَقَ لَكُمْ} أي: لأجلكم للانتفاع أو للاعتبار.
لذلك يكون المعنى {خَلَقَ لَكُمْ} أي: من أجلكم للانتفاع والاعتبار.
السؤال الثاني:
ما دلالة قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] ؟
الجواب:
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] المفسرون يقولون : استوى، أي: عمد إلى خلقها, أي: ثم عمد إلى خلق السماء بإرادته سبحانه وتعالى، و(الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب)، وقول المفسرين( عمد إلى خلقها) نوع من التأويل المقبول الآن، نحن بحاجة إليه لكي نترجم التفسير القرآني إلى الآخرين.
السؤال الثالث:
هل السماء تدل على المفرد أو الجمع ؟
الجواب:
السماء لفظها لفظ الواحد وكل ما علاك فهو سماء, لكنّ معناها معنى الجمع، ولذلك قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] إشارة إلى تفصيلاتها.
والسماء الدنيا بكل مليارات نجومها هي كحلقة في فلاة قياساً إلى السماء الثانية.
السؤال الرابع:
لِمَ قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ } [البقرة:29] ولم يقل: خلقهنّ ؟
الجواب:
لأنّ التسوية خلقٌ وبناءٌ وتزيين, أمّا كلمة (خلق)، فهي تدل على الإيجاد والبناء، ولو تأملت السموات لرأيت بدعة الخلق ودقّته ونظاماً لا يختلُّ ولا يغيب.
السؤال الخامس:
الظاهر من الآية تقدم خلق الأقوات، وظاهر آية النازعات: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] تأخره، فما القول في ذلك ؟
الجواب:
لفظة (ثم) في آية البقرة لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع، ولا يلزم من ترتيب الإخبار ترتيب الوقوع, كما في آية الأنعام (153ـ154) في قوله تعالى : {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153) ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ } [الأنعام:154] ولا ريب في تقديم إيتاء الكتاب على وصيته للأمة .
السؤال السادس:
ما حكمة الرقم (7) في عدد السماوات؟
الجواب:
عدد السماوات هو اختيار الله تعالى لذلك , والحكمة من هذا العدد لا يعلمها إلا الله سبحانه , لكنّ اللافت للنظر هو تكرار العدد (7) في أمور كثيرة منها :
1ـ عدد طبقات السماء .
2ـ عدد أيام الأسبوع .
3ـ عدد أشواط الطواف حول الكعبة .
4ـ عدد أشواط السعي بين الصفا والمروة .
5ـ عدد أبواب جهنم .
6ـ عدد عجائب الدنيا .
7ـ عدد آيات سورة الفاتحة .
9ـ عدد كلمات شهادة التوحيد ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ).
10ـ عدد المستويات المدارية للإلكترون .
11ـ عدد حصى الجمرات التي يرمي بها الحاج في منى خلال الحج .
12ـ يأمر الله تعالى تعليم الصلاة للطفل عند بلوغه سن السابعة .
13ـ للضوء المرئي سبعة ألوان , وهناك سبعة إشعاعات للضوء غير المرئي .
14ـ تهاجر الطيور بسرب على شكل سبعة .
15ـ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
اللهم اجعلنا منهم . والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (41)
مثنى محمد هبيان
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]
السؤال الأول:
ما دلالة الصيغة الاسمية فى الآية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة:30] ؟
الجواب:
معلوم كما هو مقرر في البلاغة وفي اللغة : أنّ الاسم يدل على الثبوت والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والاسم أقوى من الفعل، وهناك فرق بين أنْ تقول : هو متعلم أو هو يتعلم، هو يتثقف وهو مثقف، هو يتفقه وهو فقيه، هو حافظ أو هو يحفظ، ومن الثوابت في اللغة أنّ الاسم يدل على الثبوت حتى لو لم يقع.
وفي البلاغة عموماً إذا أردت أنْ تذكر أنّ هذا أمر ثابت فتذكره بالصيغة الاسمية قبل أنْ يقع، فتُسأل مثلاً هل سينجح فلان؟ فتقول: هو ناجح قبل أنْ يمتحن؛ لأنك واثق أنه ناجح , كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37] لم يقل: سأغرقهم، هذا في التعبير أقوى دلالة من الفعل.
السؤال الثاني:
قوله تعالى : {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] هل من فارق بين نقدس لك، ونقدسك؟
الجواب:
الفعل (يقدس) فعل متعدٍّ يأخذ مفعولاً به دون حرف الجر اللام، فنقول: نقدس الله، لكنّ الآية أدخلت اللام على الكاف، فما فائدة هذه اللام؟ فائدتُها للتخصيص، أي: التقديس لك لا لغيرك، فالملائكة لا تعصي الله ما أمرها فهي لا تقدس إلا لله، بخلاف البشر الذين قد يقدسون الله ومع تقديسهم لله قد يقدسون غيره.
السؤال الثالث:
ما دلالة كلمة: {خَلِيفَةً} في الآية ؟
الجواب:
في كلمة (خليفة) عدة أقوال :
ـ القول الأول : - وعليه أغلب المفسرين- أنه؛ أي الإنسان، خليفة الله عز وجل في الأرض، وأنّ الله سبحانه وتعالى أوكل إليه أنْ يعمر الأرض، وهو يتولى إعمارها بأنْ يبني هذه البيوت وهذه العمارات والطرق وشق الأنهار وغيرها, وهذه أفعال لا يفعلها من مخلوقات الله أحد، لا الجن يفعلها ولا الطيور ولا الدواب ولا الملائكة إلا إذا كلفهم الله عز وجل أن يفعلوا شيئا فيفعلونه .
وهذا المخلوق ـ الإنسان ـ زُوِّدَ بوسائل بحيث يستطيع أنْ يقوم بالأعمال التي هيأه الله عز وجل لها، فيكون خليفة الله عز وجل في أرضه فيعمر الأرض ، وهذه الأرض موجود فيها المواد والأشياء، وليس هناك في خلق الله سبحانه وتعالى من يجمع هذه الأشياء ويجعل منها حاسوباً إلا هذا الإنسان فهو مُصنِّعٌ في الأرض، وهذه لا تكون إلا بكلمة (كُن فيكونُ) الإلهية.
ـ القول الثاني : يقول : ممكن أنْ يكون هناك خلق قبلنا، فهذا المخلوق الجديد آدم هو خَلَفٌ لذلك الخلق الذي قبلنا.
ـ القول الثالث : أنه خليفة، أي: يخلف بعضهم بعضاً فيتوالد ويتكاثر.
وهذه الآراء جميعاً هي لكبار علمائنا لا نجادل فيها لأنه أمر غيبي، انتهى خلق الإنسان والإنسان الآن يعمل والجدل فيه لا يثمر.
ـ وآخر قسم من العلماء يقولون : المراد الأنبياء وبقية البشر تبعٌ لهم؛ لأنّ الأنبياء يبلّغون شرع الله ويبلّغون رسالاته، فهم بهذا المعنى خلفاء في أنهم ينقلون شرع الله عز وجل، وهذا المعنى تحتمله اللغة ولا مساس فيه بالاعتقاد , لكنّ سياق الآية لا يُسعف في هذا؛ لأنّ سياق الآية الكلام عن آدم قال: إني جاعل في الأرض خليفة، فتساءل الملائكة: ما هذا الخليفة ؟ ولم يعترضوا على الله سبحانه وتعالى،التساؤل فقط للاستفسار والكشف لا غير .
السؤال الرابع:
من أين علمت الملائكة أنّ هذا المخلوق الجديد سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟
الجواب:
لعلمائنا أكثر من قول في علم الملائكة بطبيعة هذا المخلوق، وكلها أقوال محترمة:
ـ الرأي الأول : وهو الذي يميل إليه عدد كبير من العلماء؛ وهو أنّ الحوار في القرآن مختصر، كأنّ الله عز وجل حين قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] كأنّ الملائكة سألت : ما شأن هذا الخليفة؟ ما الخليفة هذا؟ وهم خالو الذهن؟ فقال الله عز وجل : إنّ هذا مخلوق له ذرية، من هذه الذرية من سيُسَبِّحُني ويعبُدُني ويقدِّسُني، ومنهم من سوف يفسد ويسفك الدماء، ومن هنا نفهم لماذا ذكروا تسبيحهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فإذا كان هناك من سيُسَبِّحُ ويقدِّسُ من هذه الذرية فنحن نسبِّحُ ونقدِّسُ، والقسمُ الآخر مفسدٌ يسفكُ الدماء، فما الداعي لإيجاده؟ مجرد سؤال أو للاستفسار بصيغةِ سؤالٍ مؤَدَّبٍ، فسألوا ربهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [البقرة:30] هذا الرأي الأول وقد مال إليه عدد من كبار علمائنا من المفسرين.
ـ الرأي الثاني: يقول : لعل لديهم تجربة سابقة من خلق إنسان سابق أو مخلوق سابق أفسد وسفك دماءً، فقالوا : هذا سيفعل كما فعل الذي قبله .
وخلق إنسان سابق فيه نظر، وليس لدينا دليل وقد يكون , لكنّ هذا هو الحوار الذي حدث بين الله سبحانه وبين ملائكته , حتى أنّ بعض العلماء يسأل ويقول : ما الداعي إلى أنّ الله سبحانه وتعالى يحاورهم؟ والجواب أنّ الله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك في القرآن حتى يعلمنا المشورة والمشاورة فلا ينفرد الحاكم برأيه، فرب العزة يشاور الملائكة ويحدثهم ويذكر لنا هذا الأمر أنه عرض على الملائكة وقال لهم: سيكون كذا فقالوا له: يا رب ما شأنه؟ قال: هذا شأنه: منه من يسفك الدماء ويفسد, ومنه من سيسبحني ويقدسني. وهذا هو واقع الحال؛ فالبشر الآن منهم من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومنهم من يسبح الله عز وجل ويعبده .
ولمَ عرض الباري عز وجل على الملائكة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ؟ وذلك لأنهم مشتغلون في الأرض، ومهمتهم في الأرض، من أجل هذا عرض عليهم، ولا يعقل أنه عرض على كل ملائكة السماء والكون وإنما على فئة لها شغل بهذا المخلوق الجديد وبمكانه، وإبليس كان من ضمن هؤلاء، وهو ليس مَلَكَاً لكنه من ضمن الذين لهم شغل؛ لذلك كُلّف مباشرة : {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ] [الأعراف:12] أُمِر مباشرة بالسجود.
ومما ذُكر: أنه يحتمل أنهم اطلعوا على اللوح المحفوظ , واللوح المحفوظ كُتِبَ فيه كل شيء وما يفعله البشر، فرأوا ما يفعله هؤلاء فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] فهم اطلعوا إمّا بإخبار الله لهم , أو بما اطلعوا عليه في اللوح المحفوظ.
السؤال الخامس:
جاءت قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة في الآيات (30-38) وجاء في آيتي الأعراف [10-11] قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ(10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ(11) }. [الأعراف: 10 - 11] والخطاب فيها بصيغة الجمع وليس بالإفراد لآدم , وقوله تعالى في آية الأعراف 172
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] وقوله تعالى في آية الأحزاب 72 {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فهل يمكن - بعد استعراض جميع الصور القرآنية لجوانب قصة الإنسان والأنفس وآدم - أنْ نبين ترتيب مراحل هذه المسألة ؟
الجواب:
المراحل هي : - والله أعلم -
1ـ خلق جميع البشر كأنفس مجردة عن المادة من آدم عليه السلام حتى قيام الساعة.
2- إعطاء هذه الأنفس صورها الخاصة بها.
3ـ عرض الأمانة على المخلوقات وتعهد الإنسان ( النفس ) بحملها
4ـ أخذ العهد والميثاق من جميع البشر (الأنفس) {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأعراف:172] .
5ـ إخبار الله تعالى للملائكة بأنه جاعل في الأرض خليفة .
6ـ معرفة الملائكة بإفساد بني آدم وسفكهم الدماء عندما كشف الله تعالى عنها غطاء غيب الزمن المستقبل .
7 - خلق جسد آدم عبر المراحل التي بيِّنها القرآن الكريم ، ومن ثمَّ تسويته إنساناً كاملاً ونفخ الروح فيه. وهنا دخل آدم عليه السلام عالم المادة والمكان والزمان وأصبح محكوماً لهذه القوانين.
8ـ تعليم الله تعالى لآدم الأسماء كلها , وإخبار آدم الملائكة بذلك .
9ـ الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم حين الانتهاء من خلق جسده: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} ونفخ الروح فيه : {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر:29] .
10ـ سجود الملائكة لآدم عليه السلام وعصيان إبليس بسبب مادة جسم آدم، كما في قوله تعالى على لسان إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
11ـ إسكان آدم وزوجه جنّة التدريب والاختبار .
12- إغواء إبليس لهما .
13ـ تلقي آدم التوبة من الله تعالى حيث اجتباه الله تعالى وهداه ، وهنا دخل آدم عليه السلام مرحلة النبوة .
14ـ هبوط آدم عليه السلام وذريته إلى الأرض, ووعد الله تعالى بأنْ يرسل لهم رسلاً يحملون لهم الهدى ومنهج الحق . والله أعلم .
السؤال السادس:
ما الدروس المختصرة والعبر المعتبرة من قصة آدم عليه السلام وسجود الملائكة له ورفض إبليس ونزول الجميع إلى الأرض ؟
الجواب:
أولا ً :
القصة فيها عبرٌ كثيرة، ومنها :
ـ إياك والمعاصي فإنها أذلت عزّ {اُسْجُدُوا} وأخرجت آدم من: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} .
ـ فَرِحَ إبليس بنزول آدم من الجنة وما علم أنّ هبوط الغائص في اللجّة خلف الدّر صعود، كم بين قوله لآدم : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] وقوله لإبليس: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الإسراء:63] .
ـ يا آدم لا تجزع من قولي لك: {اخْرُجْ مِنْهَا} فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
ـ تالله ما نفعه عند معصيته عِزُّ: {اسْجُدُوا} ولا خصيصةُ: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ولا فخرُ: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر:29] وإنما انتفع بذلِّ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23].
ـ يا لها لحظة أثمرت حرارة القلق وما زال يكتب بدم الندم سطور الحُزن ويرسلها مع أنفاس الأسف حتى جاءه توقيع : {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] .
ثانياً :
كان أولَ المخلوقات القلمُ ليكتب المقادير قبل كونها وجعل آدم آخر المخلوقات وفي ذلك حِكَم :
1ـ تمهيد الدار قبل الساكن .
2ـ أنه الغاية التي خلق لأجلها ما سواه.
3ـ أنّ أحذق الصنّاع يختم عمله بأحسنه وغايته.
4ـ أنّ النفوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائماً.
5ـ أنّ الله أخّر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزمان وجعل الآخرة خيراً من الأولى , فكم بين قول المَلَك للرسول صلى الله عليه وسلم : {اقْرَا} فيقول : ما أنا بقارىء وبين قوله تعالى : {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] .
6ـ أنّ خلق آدم خلاصة الوجود، فناسب أنْ يكون خلقه بعد الموجودات.
7ـ أنّ من كرامة آدم على خالقه أنه هيأ له مصالحه وحوائجه وأسباب حياته، فما رفع رأسه إلا وذلك كله حاضر.
8ـ أنه سبحانه أراد أنْ يظهر شرفه وفضله على سائر المخلوقات فقدّمها عليه بالخلق.
9ـ أنه سبحانه لما افتتح خلق هذا العالم بالقلم كان من أحسن المناسبة أنْ يختمه بخلق الإنسان فإنّ القلم آلة العلم والإنسان هو العالِم، ولهذا أظهر سبحانه فضل آدم على الملائكة بالعلم الذي خُصّ به دونهم.
ثالثاً :
الله سبحانه وتعالى كتب عذر آدم قبل هبوطه إلى الأرض ووسمه بالخلافة قبل الهبوط، فقال : {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ونبّه الملائكة على فضله وشرفه .
والمحب يقيم عذر المحبوب قبل جنايته، فلمّا صوّره على باب الجنة أربعين سنة؛ لأنّ دأب المحب الوقوف على باب الحبيب, ورمى به في طريق ذل: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا} [الإنسان:1] لئلا يُعجب بموقف: {اسْجُدوا} وكان إبليس يمر على جسده فيعجب منه، ويقول : لأمر قد خلقت , ثم يدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول : لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سلُطت عليَّ لأعصينك، ولم يعلم أنّ هلاكه على يده, رأى طيناً مجموعاً فاحتقره فلمّا صوّر الطين دبّ فيه داء الحسد، فلمّا نفخ فيه الروح مات الحاسد, فلمّا بسط له بساط العز عرضت عليه المخلوقات فاستحضر مدّعي: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} [البقرة:30] إلى حاكم: {أنبِئُوني} [البقرة:31] وقد أخفى الوكيل عنه بينة {وَعَلَّمَ} [البقرة:31] فنكسوا رؤوس الدعاوي على صدور الإقرار، فقام منادي التفضيل في أندية الملائكة ينادي {اسْجُدُوا} فتطهروا من حَدَثِ دعوى: {وَنَحْنُ} [البقرة:30] بماء العذر في آنية: {لَا عِلْمَ لَنَا} [البقرة:32] فسجدوا على طهارة التسليم، وقام إبليس ناحيةً لم يسجد لأنه خَبَثٌ وقد تلون بنجاسة الاعتراض، وما كانت نجاسته تُتلافى بالتطهير؛ لأنها عينية، فلما تمّ كمال آدم جرى القدر بالذنب ليتبين أثر العبودية في الذل.
ولمّا علم الله أنّ ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته ولا قدحاً في حكمته علّمه كيف يعتذر إليه: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] .
السؤال السابع:
ما وجه الاختلاف في قصة آدم بين سورتي البقرة والأعراف؟
الجواب:
مقدمــة :
أولا ًـ ذكر الله تعالى قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن الكريم في سبع سور؛ وهي [ البقرة ـ الأعراف ـ الحجر ـ الإسراء ـ الكهف ـ طه ـ ص ].
ثانياً ـ تبدأ هذه القصة في سورة البقرة من أقدم حدثٍ فيها حين أبلغ الرب سبحانه وتعالى ملائكته بقراره في أنْ يجعل في الأرض خليفة، وذلك قبل خلق آدم, وذكر فيها مراجعة الملائكة لربهم في هذا القرار مبدين عدم رغبتهم في هذا الاستخلاف لأسباب ذكروها , فقطع الله عليهم تخوفهم وظنونهم بعلمه الذي لا يحد , ثم ذكر اختبار المفاضلة الذي أجراه الله بين آدم والملائكة ففضلهم فيه آدم , وثبت بذلك أنّ آدم جدير بالاستخلاف في الأرض.
هذه الأولويات ذكرت في أول سورة من القرآن وفي أول قصة من السورة ولم يذكرها في مكان آخرفي كل القرآن , و قد جاءت القصة في سورة البقرة مبنية على ركنين:
آ ـ تكريم آدم، ويتجلى في :
1ـ ذكر استخلاف آدم في الأرض: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
2ـ تفضيل آدم على الملائكة بتعليمه الأسماء كلها مما لا يعلمه الملائكة.
3ـ إسجاد الملائكة له.
ب ـ تكريم العلم، ويتجلى في :
1ـ إثبات العلم الشامل لله.
2ـ نفي العلم عن الملائكة إلا ما علمهم إياه رب العزة.
3ـ إثبات التعليم لآدم بما يصلح أنْ يقوم به أمر الخلافة ويستقيم.
والاستخلاف الناجح لا بدّ له من أمرين :
آ ـ أنْ يكون للخليفة حق التصرف والتدبير فيما استخلف فيه.
ب ـ أنْ تكون له القدرة على هذا التصرف حسب العلم والقدرات التي أعطاها الله للإنسان .
ونستطيع أنْ نقول بشكل مجمل إنّ القصة في سورة البقرة مبنية بشكل رئيس على تكريم آدم, وكل الجوانب الأخرى المذكورة من العلم والاستخلاف إنما تخدم هذا التكريم.
أمّا قصة آدم في سورة الأعراف، فهي ليست مبنية على هذا الأمر، بل لها غرض آخر وقد وقع فيها التكريم ثانوياً , وقد ذكرت القصة في سورة الأعراف في سياق العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم وفي سياق غضب الله سبحانه، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5) } [الأعراف:4-5].
وبناء على ذلك بنيت القصة في كل سورة على ما جاء في سياقها , وهذا ما سوف يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى:
1 ـ معصية إبليس :
جاء في البقرة قوله تعالى: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:34].
بينما جاء في الأعراف قوله: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11].
فقد جمع لإبليس في سورة البقرة الإباء والاستكبار معاً للدلالة على شناعة معصيته بحق آدم الذي أكرمه الله وعلّمه, ولم يقل مثل ذلك في كل القرآن الكريم، بل هو إمّا أن يقول: {أَبَى} [البقرة:34] وإمّا أن يقول:{وَاستَكبَرَ} [البقرة:34] ولم يجمعهما إلا في هذا الموضع .
فالفرق واضح بين التعبيرين بحسب موقف التكريم.
2 ـ سكن الجنة والأكل :
قال في البقرة : {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
وقال في الأعراف : {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19].
واليك الفروق بين التعبيرين في الآيتين :
https://majles.alukah.net/imgcache/2023/02/45.jpg
فقد أسند القول لنفسه في البقرة {وَقُلْنَا} [البقرة:35]، وهذا في مقام التكريم والتعظيم , وناسب هذا أنْ يذكر {رَغَداً} في البقرة دون الأعراف.
وقال في البقرة :{وَكُلاَ} بالواو، بينما قال في الأعراف:{فَكُلاَ} بالفاء والواو لمطلق الجمع والفاء تفيد التعقيب والترتيب , أي: أنّ الواو أوسع من الفاء؛ لأنّ من جملة معانيها معنى الفاء , فإذا قلت لشخص ما : ادخل وكل , كان له الحق في أنْ يأكل متى شاء على حسب رغبته ومتى أكل كان موافقاً للأمر , ولو قلت له : ادخل فكل , كان عليه أنْ يأكل في عقب الدخول ولو تأخر لكان مخالفاً للأمر ويحق لك أنْ تمنعه .
إضافة إلى أنه أعاد ضمير الجنة في البقرة مع الأكل: {وَكُلاَ مِنْهَا} ولم يعده في الأعراف , فأنت ترى أنه ذكر الجنة وضميرها في البقرة وهو المناسب لمقام التكريم فيها، ولم يفعل مثل ذلك في الأعراف.
ـ الظرف: {حَيٍثُ شِئتُمَا} في البقرة يحتمل أنْ يكون للسكن والأكل جميعاً، والمعنى: اسكنا حيث شئتما وكلا حيث شئتما .
وأمّا التعبير في الأعراف: {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} فلا يحتمل إلا أنْ يكون للأكل : فكلا من حيث شئتما ولا يصح تعليقه بالسكن، أي: لا يصح أنْ يُقال : اسكنا من حيث شئتما .
لذلك المشيئة والتخيير في البقرة أوسع؛ لأنها تشمل السكن والأكل، بخلاف الأعراف، وهذا مناسب لمقام التكريم.
3 ـ الزلة :
قال في البقرة : {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة:36].
وقال في الأعراف: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22].
الزلة قد تكون في المكان نفسه ,وأمّا التدلية فلا تكون إلا إلى أسفل , ذلك أنها من التدلية في البئر , أمّا الزلة فقد لا تكون إلى أسفل .
ومعنى {فَدَلَّاهُمَا} [الأعراف:22] أي: أنزلهما من مكان إلى مكان أحط منه , فخفف المعصية في البقرة وسماها زلة مراعاة لمقام التكريم بخلاف الأعراف .
4 ـ معاتبة الرب لآدم :
لم يذكر في البقرة معاتبة الرب سبحانه لآدم وزوجه على معصيتهما مراعاة لمقام التكريم، بخلاف الأعراف فقد ذكر أنه عتبهما عليها فقال : {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] .
ولا شك أنّ مرتبة العتاب أدنى من عدمه .
ثم انظر كيف ناسب هذا العتاب لأبوي البشر في الجنة عتاب أبنائهما في الدنيا في الآية التي سبقت هذه القصة: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10].
5 ـ التصريح بالمعصية :
طوى في البقرة تصريح آدم عن نفسه بالمعصية ولم يذكرها إكراماً له، في حين ذكرها في الأعراف فقال : {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
ذكر الله تعالى ندم المعاقبين من بني آدم في الأعراف فقال: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)} [الأعراف:4-5] .
فانتهت بـ {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5] وذكرت الآية عن ندم آدم عليه السلام بـ {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23] فانظر كيف اتفق الندمان على أمر واحد وهو الظلم، فقال آدم: {ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23] وقال أبناؤه: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5].
ثم انظر إلى التناسب بين العقوبة ومقدار الظلم؛ فقد قال آدم: {ظَلَمْنَا} بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث للدلالة على أنها زلة طارئة وليست معصية إصرار, بينما قال أبناؤه: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات على الظلم والإصرار، فتاب على الأولين وأهلك الآخرين .
فسبحان الله ؛ ما أبدع هذا الكلام وأعظمه!!!
6 ـ التوبة على آدم :
في مقام سورة البقرة ذُكر أنّ آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه, علماً بأنه لم يذكر فيها أنّ آدم طلب من ربه المغفرة ومع ذلك ذكر أنه تاب عليه.
وفي مقام سورة الأعراف ذُكر أنّ آدم طلب من ربه المغفرة ولم يذكر أنه تاب عليه.
فانظر إلى تناسب سياق البقرة مع مقام التكريم وسياق الأعراف مع مقام العتاب والمؤاخذة , ثم قل: جلّ قائل هذا الكلام.
7 ـ الوعد بالعودة إلى الجنة مع اتباع الهدى :
قال في البقرة : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] .
ولم يقل مثل ذلك في الأعراف , والتكريم واضح في هذه الآية؛ إذ فيها وعد لمن تبع الهدى بالعودة إلى الجنة حيث لا خوف ولا حزن.
قال في البقرة: {تَبِعَ} [البقرة:38] بالتخفيف ولم يقل ـ اتّبع ـ بالتشديد كما في آية طه، حيث قال : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123] ؛ وذلك للأسباب التالية :
آ ـ الفعل بالتشديد يفيد المبالغة , فاكتفى في البقرة بالأخف من الحدث، ولم يشدد عليهم تخفيفاً على البشر مراعاة لمقام التكريم.
ب ـ الفعل (تبع) تردد في سورة البقرة أكثر من أي سورة أخرى في القرآن، فوضعه في مكانه الذي هو أليق به.
ج ـ جاء التخفيف في البقرة مع إسناد القول إلى نفسه سبحانه : {قُلْنَا اهْبِطُواْ} [البقرة:38] بينما جاء التشديد مع إسناد القول إلى الغائب: {قَالَ اهْبِطَا} [طه:123] والله سبحانه يظهر نفسه في موقف التلطف والتكريم.
د ـ في البقرة جاء الفعل بواو الجماعة {اهْبِطُواْ} [البقرة:38]، بينما جاء الفعل بالتثنية في طه : {قَالَ اهْبِطَا} [طه:123].
هـ ـ نهاية آية البقرة تتعلق بالآخرة: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] أي: في الآخرة، ونهاية آية طه تتعلق بالدنيا والآخرة: {فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123] أي: لا يضل في الدنيا ؛ لأنّ الضلال إنما يكون فيها، وأمّا في الآخرة فينكشف الغطاء ويصبح الناس كلهم على بصيرة . وقوله: {وَلَا يَشْقَى} [طه:123] متعلق بالآخرة؛ لأنّ الدنيا لا تخلو من الشقاء بدليل قوله تعالى لآدم : {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
فلمّا كانت آية طه تتعلق بالدنيا والآخرة بخلاف آية البقرة زاد في بناء الفعل إشارة إلى زيادة متعلَّقه.
وآية طه تضمنت أمرين هما : مجاهدة الضلال في الدنيا، والفوز بالآخرة، وآية البقرة تضمنت الفوز في الآخرة, والحالة الأولى تتطلب عملاً أكثر وأشق، فجاء بالفعل الدال على المبالغة والتكلف للأمر الشاق, وجاء بالفعل الخفيف للعمل الخفيف .
وقد تقول : أفلا يتطلب الفوز في الآخرة مجاهدة الضلال في الدنيا؟
والجواب:
إنّ الفوز في الآخرة على مراتب بعضها أعلى من بعض , وليس كل الناجين في الآخرة ممن كانوا يجاهدون الضلال في الدنيا أو لم يضلوا في أمر من الأمور .
فمجاهدة الضلال والتحري لعدم الوقوع فيه مرتبة عالية تتطلب جهداً ومشقة في العمل , فوضع كل فعل في المكان الذي يقتضيه تماماً
8 ـ التناسب بين القصة وخاتمة السورة :
في البقرة: قال الله عن إبليس: {وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ}[البقرة:34]، وقال في خاتمة البقرة : {فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} [البقرة:286].
في الأعراف قال الله سبحانه: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11] وقال: {فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}[الأعراف:13].
وقال في خاتمة السورة: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَه ُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206].
9 ـ الغرض من الوسوسة :
قال في الأعراف : {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا} [الأعراف:20].
فذكر أنّ الغرض من الوسوسة هو أنْ يبدي لهما السوءات المخفية واللام هنا هي لام العاقبة وقد وقع ذلك فعلاً كما في الآية [22] وعقب على ذلك بقوله: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] .
ونلاحظ هنا الأمور التالية :
آ ـ ذكر كلمة ( لباس) مع التقوى فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف:26] فاللباس والريش يواري السوءات الظاهرة، ولباس التقوى يواري السوءات الباطنة.
ب ـ ثم حذّر الله ذرية آدم فقال: {يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا} [الأعراف:27] .
وفي قوله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف:27] نُسب النزع الذي هو فعل الله إلى إبليس؛ لأنّ سببه أكل الشجرة وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لمن الناصحين.
ج ـ أمر الله بأخذ الزينة عند كل مسجد، فقال :{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] .
والزينة هي الريش واللباس , وعقب بعد ذلك بقوله : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
د ـ ثم انظر بعد ذلك كيف قال في عذاب أهل جهنم: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41].
فأنت ترى أنّ الشيطان نزع عن أبوينا اللباس في الجنة, وهو في هذه الدنيا حريص على أنْ يفتننا لنتعرى من اللباس الظاهر والباطن , ولا يرضى في الآخرة إلا بأن نتسربل من سرابيل جهنم , أعاذنا الله وإياكم منها ومن أنْ يكون لنا منها مهاد وغواش . ونسأل الله العافية.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (42)
مثنى محمد هبيان
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]
السؤال الأول:
ما دلالة استخدام: {أَنْبِئُونِي} [البقرة:31] فى الآية وليس (نبِّئونى) ؟
الجواب:
هذه الظاهرة استعمال (نبّأ) و(أنبأ) مضطردة في القرآن الكريم .
1ـ أنبأ : وردت في أربعة مواضع في القرآن كله، وسنجد أنها جميعاً فيها اختصار زمن، أي: فيها وقت قصير، وليس فيها وقت طويل.
2ـ أما (نبّأ) فوقتها أطول في الاستعمال، وقد وردت في ستة وأربعين موضعاً.
آ ـ لاحظ {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] بمفهوم البشر التعليم يحتاج إلى وقت؛ ولذا قال: علّم، ولم يقل: أعلم، والله تعالى أقدر آدم عليه السلام على وضع هذه الأسماء .
و الأسماء كلها، أي: هذا الشيء اسمه كذا , وهذا المخلوق اسمه كذا، وهكذا، ورب العالمين يمكن أنْ يقول: كن فيكون، لكنْ أرادت الآية أنْ تبيّن أنه لقّنه هذه الأشياء بوقت، كما أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان باستطاعته أنْ يقول: كن فيكون.
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ} [البقرة:31]؛ وقد تمّ استعمال (عرضهم) لأنّ فيها العاقل وغير العاقل. {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} [البقرة:31] ، ولم يقل: {نبّؤني} لأن الإجابة لا تحتاج إلى تطويل؛إذ المطلوب هو الاسم فقط؛ هذا بخلاف قوله تعالى: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:32] ؛ فإن ما تعلّموه تعلموه على وقت.
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [البقرة:33] آدم يقول: هذا اسمه كذا وانتهى، وهكذا، الإنباء بكل اسم على حدة لا يأخذ وقتاً، ولهذا قال: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [البقرة:33] {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [البقرة:33] واحداً واحدا،ً وهذا لا يحتاج إلى وقت.
السؤال الثاني:
ما دلالة قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [البقرة:31] ولم يقل: عرضها ؟
الجواب:
لأنّ فيها العاقل وغير العاقل حيث عُلّمَ آدمُ عليه السلام الأسماء كلها، والله عرض المخلوقات والأشياء من العقلاء وغيرهم فغلّب العقلاء .
وأمّا كيف عرضهم فهذا غيبٌ نؤمن به .
السؤال الثالث:
ما دلالة استعمال: {هَؤلاءِ} [البقرة:31] في الآية ؟
الجواب:
هؤلاء : أصلها أولاء، والهاء للتنبيه وهي تستعمل للعقلاء، لكن إذا اجتمع العقلاء وغيرهم يغلّب العقلاء فيُشار إلى المجموع بكلمة (هؤلاء) للقريب و(أولئك) للبعيد.
السؤال الرابع:
ما خطوط تحديد تأنيث الفعل وتذكيره مع الملائكة في القرآن الكريم ؟
الجواب:
نحوياً : يجوز تأنيث الفعل أو تذكيره؛ لأنه جمع تكسير.
بيانياً : هناك خطوط تحدد تأنيث الفعل وتذكيره مع الملائكة في القرآن الكريم، وهي :
1ـ كل فعل أمر يصدر إلى الملائكة يكون بالتذكير: {اسْجُدُوا} [البقرة:34] {أنبِئُوني} [البقرة:31] {فَقَعُواْ} [الحِجر:29].
2ـ كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يأتي بالتذكير: وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:23] ـ وَالمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:166] وَالمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5].
3ـ كل وصف اسمي للملائكة يأتي بالتذكير: {المَلَائِكَةُ المُقَرَّبُونَ} [النساء:172] وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] {مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125] {مُرْدِفين} [الأنفال:9] ـ {مُنزَلِينَ} [آل عمران:124] .
4ـ كل فعل عبادة يأتي بالتذكير : {فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحِجر:30] [ص:73] {لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6] ؛ لأنّ المذكر في العبادة أكمل من عبادة الأنثى؛ ولذلك جاء الرسل كلهم رجالاً.
5ـ كل أمر فيه شدة وقوة حتى لو كان عذابين أحدهما أشد من الآخر فالأشد يأتي بالتذكير, نحو قوله تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [الأنفال:50] فجاءت {يتوفى} بالتذكير؛ لأنّ العذاب أشد {وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [الأنفال:50].
أمّا في قوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [محمد:27] فجاء الفعل {تَوَفَّتْهُمُ} بالتأنيث؛ لأنّ العذاب أخف من الآية السابقة .
وكذلك في قوله تعالى: {وَنُزِّلَ المَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان:25] بالتذكير، وقوله تعالى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ} [فُصِّلَت:30] و {تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدْر:4] بالتأنيث.
6ـ لم تأتِ بشرى بصيغة التذكير أبداً في القرآن الكريم، فكل بشارة فيه تأتي بصيغة التأنيث كما في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ} [آل عمران:39] ـ {قَالَتِ المَلَائِكَةُ} [آل عمران:45] .
من الناحية النحوية :
إذا كان الفاعل مؤنثاً أنّث فعله بتاء ساكنة في آخر الماضي، وبتاء المضارعة في أول المضارع، نحو : قامت هند، وتقوم هند .
وهذا قد يجب، وقد يجوز .
فيجب تأنيث الفعل :
ـ إذا كان الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على مؤنث حقيقي التأنيث، نحو : هند قامت أو هند تقوم
ـ أو مجازيَّ التأنيث، نحو : الشمس طلعت، أو الشمس تطلع .
ـ إذا كان الفاعل اسماً ظاهراً متصلاً بعامله مباشرة، حقيقي التانيث، كقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} [آل عمران:35].
ويجوز تأنيث الفعل في ثلاثة مواضع:
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه (نائب الفاعل،اسم الفعل الناسخ) اسماً ظاهراً حقيقي التأنيث منفصلاً عن الفعل، مثل : سعى بين الصفا والمروة المؤمنة, ويجوز : سعت .
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه جمع تكسير، نحو : ذبلت الأوراق، ويجوز : ذبل الأوراق .
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه اسماً ظاهراً مجازي التأنيث، نحو : اندلعت الحرب, ويجوز: اندلع الحرب .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (43)
مثنى محمد هبيان
{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}[البقرة:32].
السؤال الأول:
أحياناً تختم الآيات بـ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] وفى آيات أخرى {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] فما الفرق بينهما؟
الجواب:
إذا كان السياق في العلم وما يقتضي العلم يقدّم العلم، وإلا يقدّم الحكمة، وإذا كان الأمر في التشريع أو في الجزاء يقدّم الحكمة.
و حتى تتضح المسألة نقدم هذه الشواهد القرآنية:
في تقديم العلم :
آ ـ قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:32] السياق في العلم، فقدّم العلم.
ب ـ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26] هذا تبيين، معناه هذا علم.
ج ـ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6] فيها علم، فقدّم {عَليم}.
د ـ قال في المنافقين: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:71] هذه أمور قلبية .
هـ ـ قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] من الذي يطلع على القلوب؟ الله، فقدّم العليم.
شواهد قرآنية في تقديم الحكمة :
الجزاء حكمة وحُكم , و من الذي يجازي ويعاقب؟ هو الحاكم،و تقدير الجزاء حكمة .
آـ قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] هذا جزاء، هذا حاكم يحكم ويقدر الجزاء والحكم, فقدّم الحكمة، وليس بالضرورة أنْ يكون العالم حاكماً، وليس كل عالم حاكماً.
ب ـ قوله تعالى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:139] هذا تشريع والتشريع حاكم فمن الذي يشرع ويجازي؟ الله تعالى هو الذي يجازي وهو الذي يشرع .
ج ـ قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ(84)} [الزُّخرُف: 83 - 84].
ولذلك عندما يكون السياق في العلم يقدّم العلم، وعندما لا يكون السياق في العلم يقدّم الحكمة.
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (44)
مثنى محمد هبيان
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33]
السؤال الأول:
ما أحرف النداء التي استعملت في القرآن الكريم ؟
الجواب:
1ـ المنادى هو المطلوب إقباله بحرف نداء ظاهر أو مقدر.
2ـ وحروف النداء في اللغة هي [يا ـ أيا ـ هيا ـ آ ـ أي ـ الهمزة]، ولم يرد في القرآن الكريم سوى الحرف (يا).
3ـ الحرفان [ أيا ، هيا ] ليسا إلا [ يا ] مسبوقة بالهمزة أو الهاء.
السؤال الثاني:
ما دلالة لفظة : {كُنتُم} [البقرة:33] في آية البقرة 33؟
الجواب:
الآية موضع السؤال: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] جاءت بعد الآية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ولِمَ لمْ يقل في غير القرآن: (يعلم ما تبدون وما تكتمون)؟
1ـ هذا الذي جرى في الملأ الأعلى يليق بذلك الموضع ولا ندري على وجه التحديد ما المراد بتلك العبارات التي قيلت وما المراد بهذه الأسماء التي سُئِلَ عنها؛ لأنّ الإشارة كانت بصيغة العقلاء فما الذي عُرِض أمام الملائكة؟ وما الذي سئل عنه الملائكة؟ ما عندنا خبر صحيح عنه، وهو وقع فعلاً، وكان اختباراً للملائكة، وفي الوقت نفسه كان اختباراً لآدم .
2ـ لمّا طلب الله من الملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] أعلنوا عجزهم وقالوا: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة:32] أي: ما عندنا علم إلا الذي علمتنا إياه .
3ـ عند ذلك قال تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ } [البقرة:33]، هذا الإنباء الذي بُنيَ على التعليم {وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، والتعليم هنا قد يراد به التلقين؛ حيث إنّ آدم عليه السلام لُقِّن؛ أي: حُفِّظ، وهو لديه في دماغه خلايا متخصصة للغة فاستقبلت هذا الذي حُفِّظَ إياه واستطاع أنْ يسترجعها عندما احتاج إليها، فبدأ آدم يتكلم ويخبر بهذه بالأسماء، إذن آدم نجح في الاختبار الذي لم ينجح فيه الملائكة؛ لأنّ الملائكة غير مهيئين للخلافة في الأرض، وأهم ركيزة من ركائز الخلافة في الأرض اللغة.
4ـ الملائكة عندما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] هذا القول كان فيه شيء من الإحساس أنهم هم أفضل من هذا المخلوق، هذا في داخلهم ولم يصرحوا به .
والملائكة في داخلهم كأنما أحسوا أنهم أميز من هذا المخلوق ولما أُمروا بالسجود سجدوا طاعة لله.
لكن لأنه سيكون من ذرية هذا المخلوق من يفسد؛ربما يكون قد دخل في نفس بعضهم أنهم أميز منه وأفضل، وهذا الذي أشير إليه في: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33] أي: في نفوسكم شيء مكتوم في صدوركم لم تصرحوا به، وما كانوا يعتقدون أنهم كتموه عن رب العزة.
5ـ وعندما ننظر في الآية نجد حذفاً مقدراً؛ لأنه لمّا قال الله عز وجل: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ} [البقرة:33] دلَّ على شمول علم الله سبحانه وتعالى لكل الجزئيات ولكل دقائق الأمور، وكما يقول العلماء عن علم الله سبحانه: (يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن وما لو كان سيكون، كيف كان يكون) هذه كلمة قديمة لعلمائنا لبيان عظيم علم الله سبحانه وتعالى وشموله وسعته، فعلم الله سبحانه وتعالى شامل.
لذا قال علماؤنا بوجود الحذف المقدر في قول الله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33]، فالذي يعلم الغيب يعلم الشهادة من باب أولى ؛ أي أن هنالك حذفاً، وتقدير المحذوف: (أعلم غيب السموات والأرض وأعلم شهادتهما، وأعلم ما تبدون الآن وفي المستقبل، ويقابله :وما تكتمون الآن وفي المستقبل).
6ـ هي إذن ثلاث صور:
آ ـ أعلم غيب السموات والأرض، والحذف (وأعلم شهادتهما).
ب ـ والثانية: أعلم ما تبدون الآن وفي المستقبل، وما تكتمون الآن وما تكتمون في المستقبل.
ج ـ والثالثة : وما كنتم تكتمون وما كنتم تبدون في الماضي.
7ـ إذن {كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] أخذت الحيز الثالث من الكتمان في الماضي؛ ولذلك جاءت: {كُنتُمْ} لأنّ تبدون في الحاضر وما كنتم تكتمون في الماضي.
8ـ فإذن مجيء {كُنتُمْ} أشارت وأشعرت بهذا الحذف الموجود في المكانين؛ حتى تستكمل صورة معرفة علم الله سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى يعلم غيب السموات والأرض ويعلم شهادتهما، ويعلم ما تبدي الملائكة الآن وفي المستقبل وما تكتم الآن وفي المستقبل.
من أين علمنا (تكتم)؟ من {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] وما كنتم تكتمون في الماضي وما كنتم تبدون .
من أين علمنا (ما كنتم تبدون)؟ من وما تبدون الآن، كل واحدة صار فيها هذا الحذف.
فإذن مجيء {كُنتُم} هو الذي أرشد إلى هذا الفهم العام الشامل الذي فهمه علماؤنا و فهمه العربي أيضاً.
9ـ هذا التفصيل مراد؛ لأنهم أبدوا شيئاً وكتموا شيئاً، والكلام عن غيب السموات والأرض كلام عام، لكنّ الملائكة بخصوصيتهم أبدوا شيئاً {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] هذا أبدوه وبعضهم - كما قال علماؤنا - كتم شيئاً في نفسه ما صرّح به: وهو أنّ هذا المخلوق الذي سيفسد نحن أكرم منه؛ لأننا نحن لا نفسد والآيات لم تفصح، لكن ما معنى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] في مقابل: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] ؟
الملائكة لا ينكرون ولا يعترضون؛ لأنه معلوم من صفتهم عدم الاعتراض فهو شيء حاك في نفوسهم وأظهره بعضهم في العبارة فلا بدّ من الجمع بين الآيات والفهم في ضوء نسق الآيات، ونحن لا نتألّى على الله أوعلى العبارة القرآنية، لكنّ هذا الذي يُفهم.
الملائكة قالوا كلاماً، وهذا الكلام لا يمكن أنْ يدخل في إطار الاعتراض على موقف أو حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وليست لديهم القدرة على المحاجة والمناقشة وهذه قدرة الإنسان خلقه الله تعالى على هذا، أمّا هم فلا يناقشون ولا يحاجون ، وإذا ما نظرنا في العبارة فهمنا ما ذكره علماؤنا. والله أعلم .
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (45)
مثنى محمد هبيان
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:34]
السؤال الأول:
هل كان إبليس مأموراً بالسجود لآدم؟
الجواب:
نعم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم أمراً عامّاً {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:34] وأمر إبليس بالسجود أمراً خاصاً: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] .
من جهة أخرى فإنّ كلمة {الكَفِرِين} بدون ألف وسطية قد وردت (84) مرة في القرآن الكريم علماً أنّ كلمة ( الكافرين ) قد وردت بالألف الصريحة في رسالة النبي عليه السلام إلى ابني ( الجلندي ) مما يدل على أنّ الكتابة المعتادة خلال فترة نزول القرآن الكريم وكتابته لم تكن هي الكتابة الفريدة التي اختص الله بها للقرآن الكريم .والله أعلم.
السؤال الثاني:
لماذا جاء ذكر إبليس مع الملائكة عندما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم، مع العلم أنّ إبليس ليس من جنس الملائكة؟
الجواب:
الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم في آية سورة البقرة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:34]، وأمر إبليس على وجه الخصوص في آية سورة الأعراف:{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، فليس بالضرورة أنْ الله تعالى أمر إبليس بالسجود مع الملائكة، لكنه تعالى أمر الملائكة بالسجود كما في آية سورة البقرة، وأمر إبليس وحده بالسجود لآدم أمراًخاصاً به في آية أخرى.
السؤال الثالث:
لماذا استخدمت كلمة (إبليس)مع آدم ولم تستخدم كلمة (الشيطان)؟
الجواب:
قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ} [البقرة:34] وفي سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11] إبليس هو أبو الشياطين، كما إنّ آدم أبو البشر، وبداية الصراع كان بين أبي البشر وأبي الشياطين والشيطان يُطلق على كل من كان كافراً من الجن، أي: على الفرد الكافر من الجنّ.
السؤال الرابع:
ما الفرق بين إبليس والشيطان في القرآن الكريم ؟
الجواب:
ورد ذكر إبليس في القرآن في 11 آية، بينما ورد ذكر الشيطان في 68 آية، وقد يظن كثير من الناس أنهما بمعنى واحد وأنهما لمخلوق واحد، وليس الأمر كذلك .
إبليس:
علَمٌ على مخلوق خلقه الله تعالى من النار وقيل: كان اسمه عزازيل وجعله الله في عداد الملائكة وقام بعمله ما شاء الله أنْ يقوم، ثم نازع ربه الكبرياء والعظمة فاستكبر عن طاعته وعصى ربه فطرده الله من رحمته ومن وظيفته، وأُهبط إلى الأرض يتهدد ويتوعد بإغواء بني آدم، وسيظل كذلك إلى أن تقوم الساعة.
ولغوياً الكلمة مشتقة من : أبلس الرجل إذا انقطع ولم تكن له حجة وأُبلس، أي: سكت وأُبلس من رحمة الله، أي: يئس منها وندم وقالوا: ناقة مِبلاسٌ، أي: لا ترغو من الخوف والإبلاس: هو السكوت من شدة الخوف والغم.
انظر قصة إبليس في القرآن في آيات سورة ص [75 ـ 83]، وكذلك في طه [116] وفي الكهف [50] .
أمّا استخدام القرآن للمعاني اللغوية لكلمة (إبليس) فانظر الآيات : الروم [ 12 ] الأنعام [44] وغيرها.
الشيطان :
هذه الكلمة هي صفة قد يتصف بها إبليس، وقد يتصف بها غيره من الجن والإنس، ويظهر ذلك في تصرفاتهم وأفكارهم ومكائدهم وأخلاقهم.
وقيل: إنّ كلمة (شيطان) مشتقة من (شَطَنَ) بمعنى بَعُد عن الحق، أي: إنّ عمل الشيطان هو إبعاد الناس عن الحق والخير أو من الفعل (شاط) بمعنى احترق من الغضب وتشيطن الرجل: إذا صار كالشيطان في فعله .
لذلك فكلمة (إبليس) هي الاسم العلم لهذا المخلوق، وإنّ كلمة (الشيطان) هي صفة له ولغيره.
وقد وصف الله تعالى بها إبليس حتى التصقت به فصار الناس يظنون أنها خاصة به، ولكنّ آيات القرآن بينت أنّ إبليس غير الشيطان، كما في آيات سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ(34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) }. [البقرة]. .
ولاحظ جملة: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة:36] ليتبين كيده وتزيينه ووسوسته.
وانظر إلى الآية في سورة طه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه:120] فإبليس هو الوسواس وهو الشيطان، ولكنه ليس وحده في هذه الدنيا فكما أنّ إبليس وذريته من كفرة الجن وهم شياطين الجن ومردته فإنّ هنالك أيضاً شياطين من الإنس لا يقلون عنهم خبثاً وكفراً وفساداً.
قال تعالى :{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112].
وقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ }[البقرة:14].
اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ونعوذ بك ربنا أنْ يحضرون . اللهم آمين.
***
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (46)
مثنى محمد هبيان
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]
السؤال الأول:
ما العبرة من هذه الشجرة المنهي عنها في الآية ؟
الجواب:
العبرة الأساسية من هذه الشجرة: إياك أنْ تقترب من الشيء المنهي عنه من الله سبحانه، وهي مثل الشهوة في حياتنا و(من حام حول الحمى يوشك أنْ يقع فيه) حتى لو كنت من الصالحين . والله أعلم.
السؤال الثاني:
نهى الله سبحانه آدم وزوجه عن الاقتراب من الشجرة، فأكلا منها ووقعا في النهي، فلِمَ قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا} [البقرة:35] ولم يقل: و(لا تأكلا)؟
الجواب:
نهى الله تعالى آدم عن القرب من الشجرة؛ حتى لا تضعف نفسه عند مشاهدة ثمارها فتتوق نفسه للأكل من ثمرها، ولو نهي عن الأكل لاقترب منها وعندها سيقاوم نفسه التي تريد تناول ثمارها، وأما إذا ابتعد عنها فلن تتوق نفسه إلى ثمار لم يرها.
السؤال الثالث:
خاطب تعالى آدم وحده، ومرة خاطب آدم وحواء، فهل كان الخطاب مرة واحدة بصيغ متعددة ؟ وكيف نفهم الصيغ المتعددة في الخطاب؟
الجواب:
من الذي قال :إنّ الخطاب مرة واحدة؟ ربنا قال في القرآن: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة:35] {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] هذا الخطاب غير ذاك الخطاب. {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123] {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38].
ولمّا قال: {وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف:19] هذا غير: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] وهذا في وقت آخر.
السؤال الرابع:
ما اللمسة البيانية في استخدام كلمة: {وَزَوْجُكَ} [الأعراف:19] بدل زوجتك في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [الأعراف:19] ؟
الجواب:
لغوياً الأصل هو كلمة (زوج)، وفي اللغة الضعيفة تستعمل زوجة، ففي اللغة يقال: المرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة. أمّا استخدام كلمة (زوجة) فهي لغة ضعيفة رديئة؛ فالأولى والأصح أنْ تستخدم كلمة (زوج)، ولذا استخدمها القرآن الكريم في الآية.
السؤال الخامس:
ما الفرق بين الزوج والبعل ؟
الجواب:
البعل هو الذكر من الزوجين، ويقال: (زوج) للأنثى والذكر، وفي الأصل (البعل) في اللغة من الاستعلاء و يعني: السيد القائم المالك الرئيس ، وهي عامة.
وبعلُ المرأة: سيّدها، وسُمِّيَ كلُّ مستعل على غيره بعلاً: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخَالِقِينَ} [الصافات:125]؛ لأنهم يعتبرونه سيدهم المستعلي عليهم، والأرض المستعلية التي هي أعلى من غيرها تسمى بعلاً، والبعولة هي العلو والاستعلاء، ومنها أُخِذ (البعل) زوج المرأة؛ لأنه سيدها ويصرف عليها والقائم عليها.
الزوج هو للمواكبة؛ ولذلك تطلق على الرجل والمرأة هي زوجه وهو زوجها: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة:35] .
كما أنّ الزوج يأتي من المماثلة سواء كانت النساء وغير النساء: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] أي: أمثالهم ونظراءهم {وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] أي: ما يماثله، و(البعل) لا يقال للمرأة، وإنما يقال لها (زوج) : {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ} [النور:31] حيث يُنظر به الشخص ولا ينظر به المماثلة .
ولذلك هم يقولون: أنه لا يقال في القرآن (زوجه) إلا إذا كانت مماثلة له، قال: {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} [التحريم:11] لم يقل زوج فرعون؛ لأنها ليست مماثلة له، امرأة لوط وامرأة نوح؛ لأنها مخالفة له، هو مسلم وهي كافرة، فلم يقل (زوج)، وإنما ذكر الجنس {اِمْرَأَةَ} ولو قال: (زوج) يكون فيها مماثلة .
ولمّا كانت المسألة مع سيدنا إبراهيم عليه السلام تتعلق بالإنجاب قال: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] لأنه هنا يراد به الجنس وليس المماثلة .
إذن (الزوج) للمماثلة، والمرأة للجنس الرجل كرجل والمرأة كامرأة، وقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فيهن مماثلة؛ لأنهن على طريقه وهنّ جميعاً مؤمنات؛ وأزواجه في الدنيا أزواجه في الآخرة.
السؤال السادس:
أشار القرآن إلى الشجرة التي أكل منها آدم: هذه الشجرة وتلكما الشجرة، فأين كانت الشجرة التي أشار إليها الخالق؟
الجواب:
1ـ كلمة (الشجرة) وردت في القرآن في ثلاث آيات في شجرة الجنة التي أكل منها آدم، وقد وردت الشجرة في تحذيرهما منها {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] فهي قريبة منهما حتى يتعرفاها، حتى لا يقول آدم وحواء إنه اختلطت عليهما بغيرها، فاستعمل{هَذِهِ}.
2ـ لمّا جاء إبليس لغوايتهما قرّبهما منها إلى أنْ أوصلهما إليها: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ}[الأعراف:20] فإذن هما قريبان، واستعمل هنا أيضاً {هَذِهِ}.
3ـ لكن لمّا ذاقا الشجرة وبدت لهم سوءاتهما وأحسّا بما ارتكباه، والإنسان عندما يرتكب جرماً يهرب منه فابتعدا عنها، فقال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22] فاستعمل {تِلْكُمَا} لبعدهما أولاً؛ ثم للتهويل من شأنها.
السؤال السابع:
ما سبب تقديم وتأخير كلمة{رَغَداً} في آيتي سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ} [البقرة:58] ؟
الجواب:
1ـ العيش الرغد أو الأكل الرغد هو الهنيء الذي لا جهد معه. الآية الأولى الكلام مع آدم عليه السلام بالترخيص بسكن الجنة أولاً: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة:35] ثم بالأكل من الجنة {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة:35] ثم بمطلق المكان: {حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] .
2ـ في الآية (35) قدَّم {رَغَدًا} على مشيئة الأكل، بينما أخّر{رَغَدًا}على مشيئة الأكل في الآية (58)؛ والسبب أنّ الآية الأولى في الجنة وكلها رغد؛ لذلك قدّمها، أمّا الآية الثانية فهي في الدنيا، والرغد فيها قليل فلذلك أخّرها .
ولو وضعهما موضعاً واحداً لكان المعنى أنهما متساويان في الرغد، وهذا بعيد؛ فليس من المعقول أنْ تتساوى الجنة والدنيا في الرغد .
السؤال الثامن:
ما التوجيه الإعرابي لكلمة: {رَغَدًا} [البقرة:35] ؟
الجواب:
عندنا توجيهان من حيث الإعراب:
آ ـ بعض النحويين ابتكر مصطلح (نائب مفعول المطلق)؛ لأنّ أصل العبارة: وكلا منها أكلاً رغداً، أكلاً : مفعول مطلق، ورغداً: صفة للمفعول المطلق، فلما حُذِف المفعول المطلق وبقيت صفته قال : هذه نائب عن المفعول المطلق.
ب ـ ومنهم من قال: لا، هي صفة لموصوف محذوف، والموصوف مفعول مطلق. تستطيع أن تقول: هي صفة لمفعول مطلق محذوف، كأنك تبين أن غايتها وهدفها أنها تصف شيئاً أو تقول : إنها نائب لمفعول مطلق.
السؤال التاسع:
ما أسماء الجنة التي وردت في القرآن؟ وما معانيها؟
الجواب:
1ـ الجنة : هو الاسم العام لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وأصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية ومنه الجنين لاستتاره في البطن والجان لاستتاره عن العيون والمجن لستره ووقايته الوجه والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه .
2ـ دار السلام : قال تعالى : {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام:127] فإنها دار السلامة من كل بلية ومكروه وهي دار الله واسمه سبحانه (السلام ) وتحيتهم فيها سلام .
3ـ دار الخلد : وسميت بذلك لأنّ أهلها لا يظعنون عنها أبداً قال تعالى : {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].
4ـ دار المقامة : أي أقاموا فيها أبداً لا يموتون ولا يتحولون منها أبداُ . قال تعالى : {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:35] .
5ـ جنة المأوى : قال تعالى : {عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى} {النَّجم:15} [النجم:15] والمأوى : من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر .
6ـ جنات عدن :{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النحل:31] وكلمة :عدن تعني الإقامة وهذا الاسم لجملة الجنان وهي كلها محل إقامة .والله أعلم ( من كتاب لابن الجوزية بتصرف ).
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (47)
مثنى محمد هبيان
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]
السؤال الأول:
في قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] ذكر (فأزلهما) (فأخرجهما) بالمثنى، ثم ذكر آدم عند التلقّي بالمفرد دون حواء؛ فما دلالة هذا الاختلاف؟
الجواب:
هو نبيٌّ، والنبي هو الذي أُنزل عليه وليس زوجه فهو النبي الذي يتلقى وليس زوجه، والتبليغ أصلاً كان لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك)، (وعلّم آدم الأسماء)، (اسجدوا لآدم)، الكلام كان مع آدم والسياق هكذا، فقال: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37]، وهذا ليس تحقيراً لحواء.
وكذلك في آيات سورة طه: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] فلم يذكر حواء، و {فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] لم يذكر حواء، و {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] لم يذكر حواء، السياق هكذا.
فتلقى آدم؛ لأنّ آدم هو المنوط به التواصل مع الله سبحانه وتعالى بالوحي.
السؤال الثاني:
{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] قرأها ابن عباس {فَتَلَقَّى آدَمَ} [البقرة:37] فما وجه الاختلاف؟
الجواب:
هذه القراءة بالنصب:{فَتَلَقَّى آدَمَ من رَّبِّه كَلِمَاتٌ} [البقرة:37] الكلمات فاعل. هذه القراءة التي هي بالنصب فيها تكريم لآدم؛ إذ تلقته الكلمات كما يُتلقى الساقط إلى الأرض لئلا يهلك، تلقته الكلمات ليتوب. لم يقل: (فتلقت آدم من ربه كلمات)؛ لأن {كَلِماتٍ} مؤنث مجازي، والمؤنث المجازي يجوز فيه التذكير والتأنيث.
ثم الأمر الآخر: هناك فاصل بين الفعل والفاعل؛ لأنّ وجود الفاصل يحسّن التذكير ، حتى لو لم يكن الفاعل مؤنثاً مجازياً ،أوحتى لو كان مؤنثاً حقيقياً كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ}[الممتحنة:12] ما قال: إذا جاءتك، فكيف إذا كان المؤنث مجازياً ؟!!!! فقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}[البقرة:37] تلقته الكلمات؛ لأنّ آدم سقط، ولأنّ المعصية سقوط فتلقته الكلمات لئلا يهلِك، ومسألة تقديم وتأخير المفعول به على الفاعل مسألة جائزة طالما أمن اللبس.
السؤال الثالث:
ما الفرق بين استخدام الجمع والمثنى في الآيات: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [البقرة:36] و {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه:123] ؟
الجواب:
الذي يوضح قراءة الآيات، في البقرة كان الخطاب لآدم وزوجه: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) } [البقرة: 35 - 36].
أما في طه فالخطاب لآدم: {لَا تَظْمَؤُا} [طه:119]، {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ} ، {فَتَشْقَى} [طه:117]، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى} [طه:121].
فكان الكلام في طه: {اهْبِطَا} [طه:123] لآدم وإبليس وحواء تابعة لآدم ، و {اهْبِطُواْ} [البقرة:36] في البقرة أي آدم وحواء وإبليس.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (48)
مثنى محمد هبيان
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]
السؤال الأول:
أين جواب الشرط في هذه الآية؟
الجواب:
فإما يأتينكم : هي (إنْ وما) جمعتا معاً إنّْ شرطية وما الزائدة بين أداة الشرط وفعل الشرط وجملة {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة:38] هي جواب إنّ والفاء رابطة لجواب إنّ وجملة: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة:38] فهي جواب لـ {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة:38] . أي :
من : اسم شرط في محل رفع مبتدأ.
تبع : فعل ماض في محل جزم فعل الشرط , والفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
هداي : مفعول به , والضمير مضاف إليه .
فلا : الفاء رابطة , و(لا) حرف نفي .
خوف : مبتدأ مرفوع .
عليهم : جار ومجرور , وشبه الجملة في محل رفع خبر , والجملة في محل جزم جواب الشرط، والشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ "من".
السؤال الثاني:
قال في البقرة: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة:38] وقال في طه: {فَمَنْ اتَبِعَ هُدَايَ} [طه:123] فما الفرق؟
الجواب:
يحتمل - والله أعلم - أنّ فعل (تبع) لا يلزم منه مخالفة الفعل قبله , بينما الفعل (اتبع) على وزن (افتعل) يشعر بتجديد الفعل .
وقصة آدم عليه السلام لبيان فعله فجيء بـ {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة:38]، وأمّا في طه فقد جاء بعد قوله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] و {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] فناسب (اتبع) [طه:123] أي: جدد قصد الاتباع .
السؤال الثالث:
ما معنى قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] في القرآن الكريم ؟ و كم مرة ورد في القرآن ؟
الجواب:
ورد قوله تعالى : {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في القرآن الكريم في إثني عشر موضعاً في الآيات: [ البقرة 38 ـ 62 ـ 112 ـ 262 ـ 274 ـ277 ـ آل عمران 170 ـ المائدة 69 ـ الأنعام 48 ـ الأعراف 35 ـ يونس 62 ـ الأحقاف 13 ] .
ومعنى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا خوف عليهم أمامهم , فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت , فأمّنهم الله تعالى منه , ولن يحزنوا على ما خلّفوه بعد وفاتهم في الدنيا . والله أعلم . جعلني الله وإياكم منهم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (49)
مثنى محمد هبيان
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]
السؤال الأول:
ما دلالة كلمة الآيات : {بآياتِنا} فى هذه الآية ؟
الجواب:
الآيات جمع آية، وهي الشيء الذي يدل على أمر من شأنه أنْ يخفى، ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات؛ لأنها وضعت لإرشاد الناس إلى الطرق الخفية في الرمال، وسميت جُمَل القرآن آيات؛ لأنها ترشد الضالّ في متاهة الحياة إلى طريق الخير والفلاح.
السؤال الثاني:
ما دلالة هذه الآية ؟
الجواب:
لمّا وعد الله في الآية السابقة متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] كان مقتضى التقسيم أن يقول مثلاً : ومن لم يتبع هداي ولكنه عدل عنه ليبرز القسم الثاني مسجلاً عليه الكفر وهم أصحاب العذاب الدائم فقال : {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] وجاء بالصيغة الاسمية الدّالة على الثبوت والاستمرار لبيان أنّ صحبتهم للنار ليست لمجرد الاقتران بل للديمومة والخلود .
السؤال الثالث:
ما دلالة رسم كلمة {أَصْحَبُ} بدون ألف وسطية في كل القرآن الكريم ؟
شواهد قرآنية: { لَا يَسۡتَوِيٓ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۚ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ }
الجواب:
وردت كلمة {أَصْحَابُ} في القرآن الكريم في (78) موضعاً كلها بدون ألف وسطية لتوحي بالتصاق المثل بهم .ويوحي ورود كلمة: {أَصْحَابُ النَّارِ} {أَصْحَابُ الجَنَّةِ} {أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} بدون ألف وسطية بالخلود والالتصاق والقرب والتشابه سواء في الجنة أو في النار . والله أعلم .
( انظر المصحف لرؤية حذف الألف في كلمة ( أصحاب ) حيث أنه مكتوب بالخط القرآني العثماني ).
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (50)
مثنى محمد هبيان
﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ٤٠) [البقرة: 40]
السؤال الأول:
أغلب السور يضرب المثل بقصة موسى؛ فما دلالة هذا؟ وما اللمسة البيانية في تكرار قصة موسى؟
الجواب:
ليست قصة موسى عليه السلام هي القصة الوحيدة التي تتكرر في القرآن، لكن قصة موسى فيها تفاصيل كثيرة وأطيل فيها وذُكرت أكثر من القصص الأخرى؛ لأنّ تلك الأقوام بادت وهلكت ولم يبق منها أحد، أمّا بنو إسرائيل فباقون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومستمرون إلى الآن وكان لهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم حوادث ومواقف وعداء وهم إلى الآن مستمرون على مواقفهم إلى ما قبل يوم القيامة، فإذن التكرار له دلالته؛ لأنهم سيبقون معكم إلى ما شاء الله وهم يحاربونكم ويفعلون ويمكرون، فذكر أفعالهم مع موسى وكيف آذوه و لقد أوذي موسى عليه السلام كثيراً فصبر وفي الحديث «رحم الله أخي موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر».
وذكر القرآن كثيراً من أحوالهم وأفعالهم، فلا نعجب أنْ يفعلوا مثل هذه الأشياء أو أكثر معنا حتى نتعظ ونعرف كيف كانوا يفعلون .
والقوم لا يزالون وليس كبقية الأقوام الذين انقرضوا مثل قوم عاد وصالح ولوط؛ لأنّ اليهود بقوا وبقي كتابهم المحرف معهم وبقي لهم مواقف، وسيبقى لهم مواقف:﴿وَقُلۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِۦ لِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱسۡكُنُواْ ٱلۡأَرۡضَ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ جِئۡنَا بِكُمۡ لَفِيفٗا١٠٤﴾ [الإسراء: 104] ؛ ولذلك كان ذكرهم واستمرارهم باستمرار بقائهم ووجودهم.
السؤال الثاني:
هذه أول قصة تأتي بعد قصة خلق آدم عليه السلام؛ فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
بعد أنْ قصّ الله علينا قصة خلق آدم، وموقف آدم منه وتجربته مع الشيطان في إحدى الجنات ثم نزوله إلى الأرض مسلحاً بمنهج الله ومحمياً بالتوبة بدأت مهمة آدم على الأرض.
بعد تلك القصة أراد الله سبحانه أنْ يعرض علينا موكب الرسالات وكيف استقبل بنو آدم منهج الله بالكفر والعصيان، فاختار جلّ جلاله قصة بني إسرائيل؛ لأنها أكثر القصص التي تتضمن معجزات، وأنبياء بني إسرائيل من أكثر الأنبياء الذين أُرسلوا لأمة واحدة وليس معنى هذا أنهم مفضّلون، ولكن لأنهم كانوا أكثر الأمم عصياناً وآثاماً فكانوا أكثرها أنبياءً.
كانوا كلما خرجوا من معجزة انحرفوا، فتأتيهم معجزة أخرى فينحرفون، وهكذا حَكَمَ الله عليهم لظلمهم أنْ يتفرقوا في الأرض ثم يتجمعوا مرة أخرى في مكان واحد ليذوقوا العذاب والنكال على معاصيهم وكفرهم.
ولذلك أخذت قصة بني إسرائيل ذلك الحجم الضخم في كتاب الله وفي تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أضف إلى ذلك أن موسى عليه السلام كان من أولي العزم من الرسل.
السؤال الثالث:
ما معنى: ﴿إِسۡرَٰٓءِيلَ) في الآية ؟
الجواب:
إسرائيل مأخوذة من كلمتين (إسر) و (إيل)، والأولى في العبرية معناها: عبد مختار مصطفى، والثانية معناها: الله، فيكون معنى الكلمة (صفوة الله)، والاصطفاء هنا ليعقوب وليس لذريته، وقد ابتُلي يعقوب ابتلاء كثيراً استحق به أنْ يكون صفياً لله .
وإسرائيل هو يعقوب ابن إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم وإبراهيم أنجب إسحاق وإسماعيل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل.
والله سبحانه عندما يخاطب بني إسرائيل يقول: ﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ﴾ ولكنّ الله سبحانه حين يخاطب المسلمين لا يقول لهم: اذكروا نعمة الله، وإنما يقول: ﴿ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ﴾ ؛ لأنّ بني إسرائيل ماديون ودنيويون فكأنّ الله يقول لهم: ما دمتم ماديين ودنيويين فاذكروا نعمة الله المادية عليكم.
ولكننا - نحن المسلمين - أمة غير مادية والماديون يحبون النعمة، وغير الماديين يحبون المنعم ويعيشون في معيّته.
السؤال الرابع:
قوله تعالى: ﴿وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ٤٠) [البقرة: 40] اختار تعالى لفظ العهد لليهود ولم يقلhttps://majles.alukah.net/image/gif;...wUheQuAgwIADs=أوفوا وعدكم) فهل لهذا من بُعدٍ آخر؟
الجواب:
هذا من لطائف القرآن خاطبهم الله تعالى باسم التوراة المعروف عندهم، أليست التوراة تسمى عندهم العهد؟ !!!
لذلك الكلمة مزدوجة الدلالة لأمرين: لأنها تأمرهم بالتزام أوامر الله وتأمرهم بالتزام وصايا الله تعالى المبثوثة في طيّات العهد القديم والتي فيها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (51)
مثنى محمد هبيان
﴿وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۢ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ*َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ٤١﴾ [البقرة: 41]
السؤال الأول:
ما دلالة الباء في قوله تعالى: {بِ*َٔايَٰتِي} ؟
الجواب:
عندما تشتري أمراً ما من السوق تقول: اشتريت هذا بمئة درهم، فانظر إلى الباء في (بمئة) دخلت على ثمن السعر، وتكون الباء مع الذاهب، وهنا {بِ*َٔايَٰتِي}[البقرة:41] أي: الآيات ذهبت .
وفي الآية {وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ*َٔايَٰتِي} [البقرة: 41] دخلت الباء على آياتي، لتعلمنا أنّ اليهود جعلوا آيات الله تعالى كدراهم واشتروا بها عرضاً من أعراض الدنيا لا قيمة له؛ لذلك جاء وصفه بـ ﴿قَلِيلٗا ﴾ [البقرة: 41]لأنهم بذلوا أنفس شيء واشتروا به حظاً قليلاً.
السؤال الثاني:
لماذا جاءت ثمناً قليلاً، مع أنها وردت في القرآن (ثمناً) وحدها ؟
الجواب:
الثمن هو العوض، والبخس دون قدر الشيء، أي: لا يناسب قدره.
الثمن القليل جاء حيثما ورد في الكلام عن حق الله سبحانه وتعالى ومعنى ذلك أنّ العدوان على حق الله سبحانه وتعالى مهما بلغ فهو ثمن قليل.
وعندما يكون الكلام عن الآيات ﴿وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ*َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ﴾ [البقرة: 41]
فأي ثمن يناسب آيات الله عز وجل؟ لا شيء، ومهما كان الثمن فهو قليل. ولا يفهم من قوله تعالى (ثمنا قليلا) أنه يمكن أنْ يشتروا بآياته ثمناً كثيراً كلا وإنما هو بيان بأنّ هذا الثمن الذي أخذتموه لا يقابل آيات الله، وهو قليل في حق الله سبحانه وتعالى، وكل ثمن يؤخذ مقابل ذلك فهو قليل مهما عظُم .
وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ١٧٤﴾ [البقرة: 174] أي أنّ هذا الذي اشتريتموه هو قليل وإنْ كان في نظركم كبيراً وعندما يبيع الإنسان دينه بدنياه، يقول القرآن له: هذا الذي بعت به هو قليل ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَشۡتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ مَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ١٧٤﴾ [البقرة: 174]؛ لأنهم أكلوا ثمن شرائهم مقابل آيات الله سبحانه وتعالى، فسماه قليلاً مهما كان نوعه.
في القرآن الكريم وفي تسع آيات منه وصف الثمن بأنه قليل تحقيراً لشأنه وتهويناً من قدره، وفي هذه الآيات التسع يتحدث القرآن الكريم عن الشراء بثمن قليل، وهو: إمّا أنْ ينهاهم عن ذلك أو يثبته لهم بأنهم فعلوا ذلك وما قبضوه قليل.
أمّا في قضية الوصية والشهادة فى سورة المائدة فتركه مجملاً {ثَمَناً} ليشمل كل الأشياء المادية والمعنوية وحتى لا يكون هناك نوع من التحايل.
ألا يمكن أنْ يتعاور الوصف بالبخس والقليل بعضهما مع بعض؟ يمكن إذا أُريد بالبخس ما هو ليس من قدر الشيء الذي بيع، و هذا لا يستقيم مع آيات الله؛ لأنه ليس هناك شيء بقدر الآيات لذلك لا يستقيم إلا القلّة.
السؤال الثالث:
ما الفرق بين القيمة والثمن ؟
الجواب:
1ـ القيمة هي المساوية لمقدار المثمّن من غير نقصان ولا زيادة .
2ـ الثمن قد يكون كذلك أو زائداً والمُلْكُ لا يدل على الثمن، فكل ما له ثمن مملوك وليس كل مملوك له ثمن، قال تعالى: ﴿وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ*َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا﴾ [البقرة: 41].
وقال في سورة يوسف: ﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۢ بَخۡسٖ﴾ [يوسف: 20] فأدخل الباء في الثمن قال الفراء : هذا لأنّ العروض كلها أنت مخير في إدخال الباء فيها، إنْ شئت قلت : اشتريت بالثوب كساء وإنْ شئت قلت : اشتريت بالكساء ثوباً أيهما جعلته ثمناً لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم والدنانير وضعت الباء في الثمن؛ لأنّ الدراهم أبداً ثمن.
السؤال الرابع:
إلى من يرجع الضمير {بِهِ} في الآية ؟
الجواب:
الضمير (به) راجع إلى ﴿لِّمَا مَعَكُمۡ﴾ [البقرة: 41]؛ لأنهم كانوا يعلمون من كتابهم صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أول يهود خوطبوا بالإسلام وأول كافر به من أهل الكتاب .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن" (52)
مثنى محمد هبيان
﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ ﴾ [البقرة: 43]
السؤال الأول:
لماذا يأتي الخطاب في الحديث عن الصلاة والزكاة في القرآن للمؤمنين، أمّا في الحج فيكون الخطاب للناس ؟
الجواب:
الصلاة والزكاة كان مأمورا بهما من تقدّم من أهل الديانات، كما جاء في قوله تعالى عن إسماعيل عليه السلام : ﴿وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا٥٤ وَكَانَ يَأۡمُرُ أَهۡلَهُۥ بِٱلصَّلَوٰةِوَ ٱلزَّكَوٰةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِۦ مَرۡضِيّٗا٥٥ ﴾[مريم:54-55] وكذلك في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا٣١﴾ [مريم: 31] وفي الحديث عن بني إسرائيل ﴿وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ ﴾ [البقرة: 43].
أمّا الحج فهو عبادة خاصة للمسلمين، وعندما يكون الخطاب دعوة للناس إلى الحج فكأنها هي دعوة لدخول الناس في الإسلام أمّا إذا كانت دعوة الناس للصلاة والزكاة فهم أصلاً يفعلونها في عباداتهم. والله أعلم.
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القرآن"(53)
مثنى محمد هبيان
﴿ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ﴾ [البقرة: 46]
السؤال الأول:
ما دلالة قوله تعالى (ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ) [البقرة:46] في الآية ؟
الجواب:
لا شك أنّ قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ) في هذه الآية تعني اليقين والجزم والإيمان المطلق باليوم الآخر , وهذا من الأمور الرئيسية والأساسية للإيمان لكل مؤمن ,وبدون هذا اليقين لا يوجد إيمان , وهذا ما عليه إجماع المفسرين دون استثناء .
وما سوف نناقشه هنا وفي السؤال الذي يليه هومناقشات لغوية لموضوع الظن والرجحان واليقين للفعل ( ظنّ ) حيث يمكن أن يكون له أكثر من معنى وحسب السياق .
وعندما يجزم شخص بأمرٍ وهو ليس له وجود فهذا هو الجهل, والجاهل شر من الأمي؛ لأنّ الأمي لا يعلم، ومتى علم فإنه يؤمن .
فإذا كانت القضية غير مجزوم بها ومتساوية في النفي والوجود، فإنّ ذلك يكون شكاً, فإنْ رجحت إحدى الكفتين على الأخرى يكون ذلك ظناً .
والله سبحانه يقول في الآية: (ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ) [البقرة:46] ولم يقل مثلاً: الذين تيقنوا أنهم ملاقوا ربهم , فلماذا؟
الجواب: إن مجرد الظن أنك ملاقٍ الله سبحانه وتعالى يجعلك تلتزم بالمنهج الرباني، فما بالك إذا كنت متيقناً !! بل المطلوب للمؤمن أن يكون متيقنا بشكل كامل .
ومثال ذلك: هب أنك سائر في طريق وجاء شخص يخبرك أنّ هذا الطريق فيه لصوص، فمجرد هذا الكلام يجعلك لا تمشي في هذا الطريق إلا إذا كنت مسلحاً أو معك أشخاص آخرون , فأنت تفعل ذلك للاحتياط , إذن فمجرد الظن دفعنا للاحتياط .
وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: (ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ) [البقرة:46] فمجرد رجحان القضية في الذهن يدفعك لليقين يجعلك تلتزم بمنهج الله، فتقي نفسك من عذاب عظيم , لذلك لا بدّ من اليقين في هذا الأمرلأنه من أسس الإيمان , وبدون ذلك ينتفي الإيمان .
قيل أن الشاعر المعري قال في آخر حياته:
زعم المنجّم والطبيب كلاهما=لا تحشر الأجساد قلت إليكمـا
إنْ صح قولكما فلست بخاسر=أو صح قولي فالخسار عليـكما
فكل مكذب بالآخرة خاسر , والنفس البشرية لا بدّ لها أن تعترف وتوقن أنّ هناك حشراً أمامها وتعمل لذلك , وإلا فالخسارة ـ كل الخسارة ـ ستلاقيه.
ثم يقول الله تعالى: (وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ) [البقرة:46] فالرجوع إلى الله تعالى أمر يقيني، فما دمت قد جئت للدنيا مخلوقاً من الله, فأنت لا محالة سترجع إليه , وهذا اليوم يجب أنْ نحتاط له حيطة كبرى لأنه يوم عظيم؛ قال تعالى: (فَكَيۡفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ يَوۡمٗا يَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَٰنَ شِيبًا١٧) [المزَّمل:17] .
ونحن نحتاط لأمور دنيوية لا تساوي شيئاً بالنسبة لأهوال يوم القيامة . فكيف لا نتمسك بمنهج الله تعالى , ونوقن بأننا سنلاقي الله تعالى وأنْ نعمل لذلك ألف حساب !!!!.
السؤال الثاني:
ما دلالة الفعل ( ظنّ) في القرآن الكريم ؟
الجواب:
1ـ الظن هو التردد بين طرفي الاعتقاد غير الجازم , وقال الراغب : الظن اسم لما يحصل من إمارة , ومتى قويت أدتْ إلى العلم , ومتى ضعفت لم تتجاوز حد الوهم , ولذلك :
آ ـ فإنّ الفعل ( ظنّ ) قد يستعمل للشك أو للاعتقاد الراجح المظنون, كما في قوله تعالى : ﴿ٓ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ ﴾ [البقرة:230] .
ب ـ وقد يأتي الفعل ( ظنّ ) بمعنى : اليقين , لأنّ الظنّ فيه طرف من اليقين , ولولاه كان جهلاً , كما في قوله تعالى :
(ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ) [البقرة:46] .
(إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ﴾ [الحاقة:20] .
والفرق بينهما في القرآن ضابطان :
آ ـ أنه حيث وُجِدَ الظنُ محموداً مثاباً عليه , فهو اليقين , كما في قوله تعالى : ﴿إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ٢٠ فَهُوَ فِي عِيشَةٖ رَّاضِيَةٖ٢١ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٖ﴾ [الحاقة: 20ـ22] , وحيث وُجدَ مذموماً متوعّداً بالعقاب عليه , فهو الشك , كما في قوله تعالى : ﴿بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُون َ إِلَىٰٓ أَهۡلِيهِمۡ أَبَدٗا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورٗا﴾ [الفتح:12].
ب ـ وكل ظن اتصل به ( أنّ) المشددة ,أو(أنْ) المخففة منها, فالمراد به اليقين والتأكيد :
* شواهد على ما اتصل به ( إنّ) المشددة: قوله تعالى :
(إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ) [الحاقة:20].
﴿وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلۡفِرَاقُ﴾ [القيامة:28] .
* شواهد على ما اتصل به ( أنْ) المخففة : قوله تعالى :
﴿وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ﴾ [التوبة:118], أي بتقدير : ( أنّه لا ملجأ).
﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبٗا﴾ [الجن:12] أي بتقدير : ( أنّه لن نعجز).
وللعلم فإنّ ( أنْ) المخففة في الآيتين السابقتين قد خففت من (أنّ) المشددة بتقدير ( إنّه) وضمير الشأن محذوف .
كما أنّ كل ظنٍ اتصل بـه ( إنْ) الخفيفة فهو شك , كقوله تعالى :
(إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ) [البقرة:230] .
2 ـ ومثل ذلك أيضاً فعل (عَلِمَ ) , فما اتصل بـ(إنّ) المشددة فذلك يفيد التوكيد , كما في قوله تعالى : ﴿ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ﴾ [الأنفال:66] .
﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ ۡ﴾ [محمد:19] .
3ـ ما ذهب إليه بعضهم من أنّ كل ظنٍّ ورد بعده (أنْ ) الناصبة فالمراد به الشك، فهذا يردّه قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهٞ يَوۡمَئِذِۢ بَاسِرَةٞ٢٤ تَظُنُّ أَن يُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةٞ﴾ [القيامة:24-25] وهذا موطن يقين لا موطن شك.
4ـ قال بعضهم : إنّ الظن ليس بيقين عيان , وإنما هو يقين تدبر , وهذا يرده قوله تعالى : ﴿وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا﴾ [الكهف:53], وهذا يقين عيان .
5ـ يظهر مما سبق أنّ الأصل في الظن أن يكون شكاً , وهذا الشك يتردد بين القوة والضعف , فقد يكون ضعيفاً قريباً من الوهم , وقد يقوى حتى يكون يقيناً .
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القران" (54)
مثنى محمد هبيان
﴿يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٧ ﴾
السؤال الأول:
ما دلالة تفضيل بني إسرائيل في الآية ؟
الجواب:
1ـ قوله تعالى ﴿وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٧ ﴾ [البقرة:47] هؤلاء أتباع موسى عليه السلام في زمانه قبل مجيء عيسى عليه السلام , وأتباع كل نبي مفضّلون على العالمين في زمانهم قبل أنْ يأتي النبي الآخِر محمد صلى الله عليه وسلم, وليس معنى العالمين كل الأمم إلى قيام الساعة .
ولذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٧ ﴾ [البقرة:47] يعني على عالمي زمانكم؛ وذلك لأنّ الشخص الذي سيوجد بعدهم ليس بموجود ولم يدخل بعد في العالمين، فمثلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق على الإطلاق لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، ولو كان موجوداً لَفَضَلَهم بالتأكيد.
2ـ لاشك أنّ المقصود منهم هم المؤمنون؛ لأنّ عصاتهم مسخوا قردة وخنازير.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين النِّعمة والنَّعمة في القرآن ؟
الجواب:
آ ـ النِّعمة : - بكسر النون- هي المنة وما يُنعِم به الرجل على صاحبه.
ب ـ وأما النَّعمة: - بفتح النون- فهو ما يٌتنَعَّم به في العيش ﴿وَنَعۡمَةٖ كَانُواْ فِيهَا فَٰكِهِينَ٢٧﴾ [الدخان:27].
ج ـ أنعُم : هي جمع قِلَّةٍ لنعمةٍ , كقوله تعالى ﴿شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٖ﴾ [النحل:121] ونِعَمٌ جمع كثرة، كقوله تعالى ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ ٞ﴾ [النحل:18] .
السؤال الثالث:
ما النعم التي ذكرها الله في القرآن وأنعمها على بني إسرائيل ؟
الجواب:
ذكر القرآن الكريم بعض النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وعدَّ منها عشرة :
آ ـ ﴿وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ٤٩﴾ [البقرة:49].
ب ـ ﴿وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُم ۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ٥٠﴾ [البقرة:50].
ج ـ ﴿وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ٥١﴾ [البقرة:51].
د ـ ﴿وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ٥٣﴾ [البقرة:53].
هـ ـ ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ٥٤﴾ [البقرة:54].
و ـ ﴿ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ٥٦﴾ [البقرة:56].
ز ـ ﴿وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ٥٧﴾ [البقرة:57].
ح ـ ﴿وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَدٗا وَٱدۡخُلُواْ ٱلۡبَابَ سُجَّدٗا وَقُولُواْ حِطَّةٞ نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطَٰيَٰكُمۡۚ وَسَنَزِيدُ ٱلۡمُحۡسِنِينَ٥ ٨﴾ [البقرة:58] نعمة؛ لمحو الذنوب بدخول الباب سجداً.
ط ـ ﴿وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ٦٠﴾ [البقرة:60].
ي ـ ﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱذۡكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ٦٣﴾ [البقرة:63].
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير"من روائع البيان في سور القرآن" (55)
مثنى محمد هبيان
(وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ)
السؤال الأول:
ما دلالة الاختلاف في الشفاعة والعدل بين آيتي سورة البقرة (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48] و (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ١٢٣) [البقرة:123] ؟
الجواب:
العدل معناه: ما يعادل الجُرم الذي هو الفدية.
وإيصال هذا المال أو المبلغ لمستحقه في حال قيام الإنسان بجريمة أو ما شابه لأهل المرتكب عليه الجريمة أو الشخص نفسه، هذا الإيصال له أسلوبان:
1ـ الأول أنْ يرسل وفدَ صُلحٍ وشفاعة حتى يقبلوا ما يقدِّمه لهم فيبدؤوا أولاً بإرسال الوفد ثم يذهب بالفدية أو المقابل.
2ـ والصورة الأخرى أنْ يذهب ابتداء فيقدم ما عنده، فإذا رفض يذهب ويأتي بوسطاء يشفعون له.
والآيتان كل واحدة منهما نظرت إلى صورة, فنفى الصورتين عن القبول فيما يتعلق بالأمم التي آمنت قبل اليهود بشكل خاص حتى يؤمنوا بالله تعالى ورسوله محمد وبكتابه:
آ ـ الآية الأولى (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48] هذه الصورة الأولى تقدمون الشفاعة، و الشفاعة لا تقبل، والفدية لا تؤخذ.
ب ـ الآية (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ١٢٣) [البقرة:123] هذه الصورة الثانية.
والجمع بين الآيتين على بُعد ما بينهما أنه كل آية نظرت في صورة , فالأولى نظرت في صورة والثانية نظرت في صورة , ومع ذلك انتفت كلتا الصورتين, وهذا يعني أنه لا يمكن أنْ يقبل منكم إلا أنْ تتبعوا هذا النبي الكريم محمداً ﷺ, وبدون ذلك لا تقدموا الشفاعة ابتداء ولا تأتوا بالشفاعة لأنً هذا كله لا يُقبل , والذي يقبل منكم هو الإيمان بالرسول محمد عليه السلام والقرآن الكريم .
وكأنّ ذلك نوع من التيئيس؛ لأنّ الإنسان إذا ارتكب جرماً إمّا أن يذهب بالعدل ،أي: المال المقابل للجرم إلى القبيلة، فإذا رُفِض يذهب ويأتي بالشفعاء، أو العكس يأتي بالشفعاء أولاً حتى يقبلوا العدل منه.
والقرآن الكريم يأَّس بني إسرائيل من الحالتين: لا يقبل منكم عدل ابتداء وبعده شفاعة, ولا شفاعة ابتداء ثم يأتي العدل بعد ذلك , ولا ينفعكم إلا أنْ تتبعوا محمداً ﷺ.
ملخص الجواب للشيخ الشعراوي رحمه الله تعالى :
1ـ المعنى العام :
بشكل عام الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم , أمّا المؤمنون فلهم الشفاعة رزقنا الله تعالى إياها وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة .
والعربي الذي يقع في كريهة يحاول أعوانه الدفاع عنه بمقتضى الحمية، فإنْ لم يستطيعوا حاولوا بالملاينة بدل المخاشنة، فإنْ لم تغن عنه الحالتان لم يبق عنده إلا فداء الشيء بالمال, فإنْ تعذر ذلك تعلل بما يرجوه من شفاعة الأخلاء والإخوان .
ومن كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية، ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة.
فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة.
2ـ المعاني اللغوية :
آـ (يَوۡمٗا) [البقرة:48] : هو يوم القيامة وهو بذاته لا يُتَّقى فلا بد منه, وإنما المقصود اتقاء ما يحصل في ذلك اليوم من الشدائد والعقاب.
ب ـ الشفاعة: ضم غيره إلى وسيلته, والشفع ضد الوتر؛ لأنّ الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصبح شفعاً بعد أنْ كان وتراً .
ج ـ العَدل : هو الفدية، وأصله ما يساوي الشيء قيمة وقدراً وإنْ لم يكن من جنسه.
والعِدل والعديل : هو المِثلُ أو هو المساوي للشيءِ في الجنسِ والجرمِ، تقول : عندي عِدلُ شاتِكَ أو عِدلُ غلامِكَ إذا كان شاة تعدل شاة، وغلاماً يعدل غلاماً , فإن أردت قيمَتَه من غير جنسه فتحتَ العَين.
والعَدلُ ضِدُّ الجورِ، والعديلُ الذي يعادِلُك في القدر والوزن.
د ـ (وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) : أي ليس لهم من يمنعهم وينجّيهم من عذاب الله.
هـ ـ جزى : بمعنى قضى، وقضاء الحقوق يوم القيامة إنما يقع في الحسنات.
سؤال :
هل الفائدة من قوله تعالى (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا) [البقرة:48] هي نفس الفائدة من قوله: (وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨﴾ [البقرة:48] ؟
جواب :
معنى القسم الأول من الآية (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا) [البقرة:48] أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء , وأمّا النصرة فهي أنْ يحاول تخليصه من حكم المعاقِب.
سؤال :
قدّم المولى عز وجل (الشفاعة ) على ( العدل ) في الآية ( 48 )، بينما قدّم (العدل ) على ( الشفاعة ) في الآية (123 )، فما الحكمة من التقديم والتأخير؟
جواب :
آ ـ الآيتان المذكورتان في نفس السورة، وهما :
الآية الأولى (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48].
الآية الثانية (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ١٢٣) [البقرة:123].
والملاحظ أنّ صدر الآيتين واحدٌ وعجزهما مختلف أي :
ب ـ الآيتان [ 48 ] و[123 ] سبق كلٌ منهما نفس الآية أي أنّ الآية [ 47 ] و [122 ] هي نفسها؛ وبيان ذلك: قال تعالى:
(يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٧ ) [البقرة:47].
(َٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ١٢ ٢) [البقرة:122].
والمقصود بـ (وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ) أي: على عالمي زمانكم , وهو من باب عطف الخاص على العام؛ لأنّ النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور على عالمي زمانهم بما أعطوا من الملك والرسل والكتب في زمانهم ؛ فإن لكل زمان عالماً .
ج ـ والحق أن أمة الرسول ﷺ هي أفضل منهم؛ لأنّ الله أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: (وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ) وأشهد المسلمين فضل نفسه؛ قال تعالى: (قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ٥٨) [يونس:58] وشتان مَن مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه .
قال رسول الله ﷺ : «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله» .
والله يقول : (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ ١١٠) [آل عمران:110] .
فالحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.
د ـ سياق الآيات التي قبلها :
لقد سبق الآية 48 الآيات من [48:40] وهي قوله تعالى :
(يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ٤٠ وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۢ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِ*َٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ٤١ وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ٤٢ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ٤٣ ۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ٤٤ وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ٤٦ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ٤٧ وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48:40] .
وهذه الآيات تؤكد كمال غفلة بني إسرائيل عن القيام بحقوق النعم التي أنعم الله عليهم بها وليربط بما بعده من الوعيد الشديد بالترغيب والترهيب , فذكّرهم بنعمه أولاً ثم عطف على تحذيرهم من طول نقمه بهم يوم القيامة إنْ لم يؤمنوا برسوله ﷺ ويتابعوه على ما بعثه به , فإنه لا تنفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: ( مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خُلَّةٞ وَلَا شَفَٰعَةٞۗ ٢٥٤) [البقرة:254] .
أمّا الآية الآية[122] المذكورة سابقا؛ ففيها تكرير التذكير لبني إسرائيل وحثهم على اتباع الرسول الأمي ﷺ الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه، وأنْ لا يحملهم الحسد للعرب على مخالفته وتكذيبه .
هـ ـ نعود الآن إلى أصل السؤال :
1ـ نلاحظ في قوله تعالى (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا) [البقرة:48] أي: هناك نفسان نفس جازية، والثانية مجزي عنها .
2ـ ففي الآية [48] المعنى العام لها أنه سيأتي إنسان صالح ـ حتى تقبل شفاعته عند الله ـ فيقول: يا رب أنا سأشفع لفلان أو أقضي حق فلان .
فنفس الإنسان الصالح جازية والأخرى مجزي عنها, لكن لا تقبل شفاعته؛ لأنه يشفع لكافر وبالتالي لا يؤخذ منه عدل، أي: فدية، ولا يسمح بأي مساومة أخرى .
ففي هذه الآية بدأ عجزها بالشفاعة، وهي تعود على النفس الأولى في الآية .
3ـ أما الآية الثانية [123] فيتحدث الله تبارك وتعالى عن النفس المجزي عنها قبل أنْ تستشفع بغيرها وتطلب منه أنْ يشفع لها, بعد أنْ يكون قد ضاق بالكافر الحيل وهذا اعتراف بعجزه فيقول يارب : ماذا أفعل حتى أكّفر عن ذنوبي، فلا يقبل منه , كما في قوله تعالى في سورة السجدة الآية [12]: (وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ١٢) [السجدة:12] فيكون رد الحق سبحانه كما في الآية [14] (فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَآ إِنَّا نَسِينَٰكُمۡۖ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡخُلۡدِ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ١٤) [السجدة:14] .
فهم عرضوا على ربهم أن يكّفروا عن سيئاتهم بأنْ يعودوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً فلم يقبل الله منهم هذا العرض, وكما في قوله تعالى في سورة الأعراف: ( فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشۡفَعُواْ لَنَآ أَوۡ نُرَدُّ فَنَعۡمَلَ غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ قَدۡ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ٥٣) [الأعراف:53] حيث خرج الاستفهام إلى النفي، أي: ما لنا من شفعاء .
وجاء بـ (قد) والفعل الماضي (قَدۡ خَسِرُوٓاْ) لتأكيد النتيجة النهائية، وهي الخسران.
لذلك هنا النفس المجزي عنها هي التي تطلب التكفير والفداء فبدأ عجزها بـ(عَدۡلٞ) .
4ـ الملخص:
النفس الأولى: الجازية يناسبها الآية الأولى؛ لأنها بدأت بطلب الشفاعة ,أمّا النفس الثانية: المجزي عنها, فيناسبها الآية الثانية؛ لأنها بدأت بتقديـم الفداء .
5ـ والمعنى العام للآيتين أنّ الله تعالى لا يقبل ممن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ ولا يخلّص منه أحد ولا يجير منه أحد , وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه للكافرين الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها , وكما قال تعالى في القران الكريم :
(إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَ ةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ١٦١) [البقرة:161].
(إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ٣٦) [المائدة:36].
(فَٱلۡيَوۡمَ لَا يُؤۡخَذُ مِنكُمۡ فِدۡيَةٞ وَلَا مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ مَأۡوَىٰكُمُ ٱلنَّارُۖ هِيَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ١٥) [الحديد:15].
( َإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ ٧٠) [الأنعام:70].
(فَمَا لَهُۥ مِن قُوَّةٖ وَلَا نَاصِرٖ١٠) [الطارق:10] .
( وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيۡهِ ٨٨) [المؤمنون:88].
(فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ٢٦) [الفجر:25-26] .
(مَا لَكُمۡ لَا تَنَاصَرُونَ٢٥ بَلۡ هُمُ ٱلۡيَوۡمَ مُسۡتَسۡلِمُونَ ٢٦) [الصافات:25-26].
(فَلَوۡلَا نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرۡبَانًا ءَالِهَةَۢۖ بَلۡ ضَلُّواْ عَنۡهُمۡۚ ٢٨) [الأحقاف:28] .
(وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48].
(وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلۡمُجۡرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ رَبَّنَآ أَبۡصَرۡنَا وَسَمِعۡنَا فَٱرۡجِعۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ١٢) [السجدة:12] .
السؤال الثاني:
ماذا عن تذكير وتأنيث لفظة (شَفَٰعَةٞ) في القرآن الكريم ؟
الجواب:
1ـ في آية البقرة [48] قوله تعالى (وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ) [البقرة:48].
آ ـ ذكّر الفعل (يُقۡبَلُ) مع الشفاعة؛ لأنّ الشفاعة هنا لمن سيشفع، أي: للشافع وهو مذكر .
ب ـ الشفاعة ليست مؤنثة حتى تكون الشفاعة مطلقة .
ج ـ إذا فصلت بين المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي يجوز التذكير والتأنيث، تقول : ذهب إلى الجامعة فاطمة, وذهبت إلى الجامعة فاطمة، هكذا إذا كان هناك فصل، لكنْ : ذهبت فاطمة لا يجوز غير هذا: ذهبت فاطمة.
د ـ أمّا المؤنث المجازي، فتقول: طلعت الشمس، وطلع الشمس، ابتداء فهذا مؤنث مجازي .
2ـ في آية البقرة[ 123] أنّث الفعل، فقال: ( وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ ١٢٣) [البقرة:123] ؛لأنّ المقصود هي الشفاعة نفسها وليس الكلام عن الشفيع .
3ـ في آيات يس 23 قوله تعالى: ( لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ٢٣) [يس:23] والنجم [26] قوله تعالى : ( لَا تُغۡنِي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡ*ًٔا ٓ٢٦) [النجم:26] أنّث الفعل؛ لأنّ المقصود هي الشفاعة نفسها.
السؤال الثالث:
قال تعالى فى سورة لقمان: ( وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ ٣٣) [لقمان:33] وفي البقرة قال: (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا) [البقرة:48] . فما الفرق بين الوالد والولد والنفس؟
الجواب:
1ـ لا ننسى أنه في سورة لقمان ذكر الوالدين والوصية بهما ( وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ ١٥) [لقمان:15] والسورة تحمل اسم لقمان (وَالِدٌ) وهي مأخوذة من موقف لقمان وموعظته لابنه وكيف أوصاه, ووصية ربنا بالوالدين ، وقد وردت ضمن وصية لقمان لابنه، إذن هذه أنسب أولاً مع اسم السورة ومع ما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر بهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفاً .
2ـ في البقرة لم يذكر هذا، وإنما جاءت كلمة (نفس) عامة تقع على الروح وعلى الذات .
3ـ وذكر الوالد والولد في آية لقمان مناسب لما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر، مع ملاحظة أن قوله تعالى: ( وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ) [لقمان:15] خاص بالدنيا، بينما في هذه الآية (لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ) [لقمان:33] الأمر متعلق بالآخرة الآخرة, لذلك يتبين أنّ المصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما وما وصّى به في السورة لا يمتد إلى الآخرة, وأنّ هذه المصاحبة ستنقطع في الدنيا، وهي ليست في أمور الآخرة .
إذن هذه مناسبة لقطع أطماع الوالدين المشركين في الحصول على نفع ولدهما إن كان مؤمنا أو دفعه شيئا عنهما في الآخرة, إضافة إلى أنها مناسبة لما ورد في السورة من ذكر الوالدين والأمر بالمصاحبة لهما ونحوه.
السؤال الرابع:
ما دلالة حذف العائد المقدر (فيه) مع الآيات عندما يستعمل الفعل (يجزي) كما في آية البقرة[ 48] (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ) [البقرة:48] وآية لقمان (وَٱخۡشَوۡاْ يَوۡمٗا لَّا يَجۡزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ ٣٣ ) [لقمان:33] وآية البقرة [123] (لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ) [البقرة:123] بينما ذُكرت (فيه) مع آيات أخرى، كما في آية البقرة (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١ ) [البقرة:281] وآية النور (يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ٣ ٧) [النور:37] فما الفرق ؟
الجواب:
آ ـ جملة الصفة عادة يكون فيها عائد أي (ضمير) يعود على الموصوف قد يكون مذكوراً وقد يكون مقدّراً، وهنا مقدر, أي: أن النحاة يقدرون : لا يجزي فيه, هذا من حيث التقدير، وهو جائز الذكر وجائز التقدير؛لأنه ذكرها في مواطن أخرى: (وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ) [البقرة:281] فالأمران جائزان، وقد ذكرا في مواطن.
ب ـ يبقى لماذا اختار عدم الذكر؟ والجواب أنّ الحذف عادة يفيد الإطلاق عموماً، فعندما تقول : فلان يسمعك أو فلان يسمع، (يسمع) أعم، يقول الحق أو يقول، (يقول): أعم، يعطي المال أو يعطي، يعطي أعمّ. وعدم ذكر المتعلقات يفيد الإطلاق، إذن هو الآن أظهر التعبير بمظهر الإطلاق ولم يذكر (فيه)؛ لأنه أظهره بمظهر الإطلاق.
ج ـ يبقى السؤال لماذا لم يذكر هنا و ذكر في مواطن أخرى؟
والجواب: لو (جزى فيه) والد عن ولده , أي لو دفع ( في ) يوم القيامة هل هذا الجزاء يختص بهذا اليوم أو بما بعده؟ والجواب: هو بذلك اليوم.
ولو (جزى) والد عن ولده بدون( فيه) لو جزى عنه يعني لو قضى عنه ما عليه، هذا الجزاء سيكون الجنة , والجزاء ليس في ذلك الوقت وإنما أثر الجزاء سيمتد، أي أنّ الجزاء سيكون في هذا اليوم ولكنّ الأثر هو باق، ولذلك حيث قال: (لَّا يَجۡزِي) لم يقل https://majles.alukah.net/image/gif;...wUheQuAgwIADs= فيه ) في كل القرآن.
شواهد قرآنية بدون ( فيه ):
(وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ٤٨) [البقرة:48] ما قال (فيه).
(وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡ*ٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ١٢٣) [البقرة:123] ما قال (فيه).
شواهد قرآنية مع ( فيه ):
(وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١) [البقرة:281] أي تُوَفَّى في ذلك اليوم ؛ فإمّا يذهب للجنة وإمّا إلى النار.
(يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ٣ ٧) [النور:37] في ذلك اليوم وبعدها ليس فيه تقلب؛ لأنه يذهب للجنة، وذِكر (فيه) خصصها باليوم فقط .
ولمّا قال: (ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ) [البقرة:281] هذا في يوم القيامة وليس مستمراً يومياً، والذي في الجنة تُوُفِّيَ عمله والذي في النار تُوُفِّيَ عمله، والتَّوفِّي هو في يوم القيامة وأثر التَّوفيةِ إمّا يذهب إلى الجنة وإمّا إلى النار، وتقلُّبُ القلوب والأبصار هو في يوم القيامة ثم يذهب أصحاب الجنة إلى الجنة وأصحاب النارإلى النار، ولا يعود هناك تقلب قلوب ولا أبصار.
ولو جزى والدٌ عن ولده لكان أثر الجزاء ليس خاصاً في ذلك اليوم، وإنما يمتد إلى الخلود إلى الأبد، ولذلك لم يذكر (فيه) وأخرجه مخرج الإطلاق، لذلك حيث قال: (لا تجزي) ولم يقل (فيه) يكون لنفي المتعلق وإطلاق الأمر.والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القران" (56) https://islamsyria.com/storage/NewAr...ران-56.jpg
مثنى محمد هبيان
(وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ٤٩ )
السؤال الأول:
ما دلالة كلمة ( ءََالِ ) في الآية، وليس أهل؟
الجواب:
الآل : هم الأهل والأقراب والعشيرة، وكلمة (آل) لا تضاف إلا لشيء له شأن وشرف دنيوي ممن يعقل، فلا تستطيع مثلاً أن تقول: آل الجاني، بل تقول: أهل الجاني.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين ( يُذَبِّحُونَ ) [البقرة:49] و(وَيُذَبِّحُونَ) [إبراهيم:6] ؟ أي لماذا ذكر (الواو) في آية ابراهيم ؟
الجواب:
في سورة البقرة قال تعالى: (وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ٤٩ ) [البقرة:49] وفي سورة إبراهيم قال تعالى: (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ٦ ) [إبراهيم:6] .
1ـ في البقرة جعل سوء العذاب هو تذبيح الأبناء، أي: (بَدَل) لأنّ السؤال في قوله تعالى: (وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ) [البقرة:49]، ما هو سوء العذاب؟ والجواب: (يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ) [البقرة:49]، هذه بدل من (يسومونكم)، وهذه الجملة بدل لما قبلها فسّرتها ووضحتها، والبدل يكون في الأسماء والأفعال وفي الجُمَل.
2ـ وأمّا في سورة إبراهيم قال تعالى: (يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ) [إبراهيم:6] وهنا ذكرالله أمرين : سوء العذاب بالتذبيح وبغير التذبيح، وكان التعذيب لهم بالتذبيح وغير التذبيح باتخاذهم عبيداً وعمالاً وخدماً وبالإهانات أيضاً، وموسى عليه السلام يذكِّرهم هنا بنعم الله عليهم فيذكر لهم أموراً.
و الواو عاطفة في آية سورة إبراهيم : (وَيُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ) [إبراهيم:6] ووجهه أنه في سورة إبراهيم تقدّم قوله تعالى : (وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ ٥) [إبراهيم:5]ﯛ وهي أوقات عقوبات, إلى أن قال : (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ٥ ) [إبراهيم:5] واللائق أنْ يعدد امتحانهم تعديداً يؤذن بصدق الجمع عليه لتكثر المنة , ولذلك أتى بالعاطف ليؤذن بأن إسامتهم العذاب مغاير لتذبيح الأبناء وسبي النساء , وهو ما كانوا عليه من التسخير , بخلاف المذكور في آية البقرة , فإنّ ما بعد (يَسُومُونَكُمۡ)تفسير له , فلم يعطف عليه .
وربما يقول قائل: إنّ السياق واحد والتعبير مختلف، فلماذا؟ والجواب أنّ هذا لا يوحي بملاحظة أو علامة استفهام أمام هذا التغير, حتى في واقع الحياة أنت أحياناً تذكر لشخص أموراً ولا تذكر أموراً أخرى، يعني تذكر أموراً لا تحب أنْ تشرحها كثيراً وفي موقف آخر تقولها، والآيات تتكامل مع بعضها وتضيف إطاراً آخر حتى تكتمل .
السؤال الثالث:
قال تعالى في البقرة [49] :( يُذَبِّحُونَ) [البقرة:49] وفي آية الأعراف [141] (يُقَتِّلُونَ) [الأعراف:141] فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
1ـ بشكل عام، القتل أعم من الذبح، والقصة في الأعراف مبنية على العموم والتفصيل، بينما في البقرة لم تذكر إلا هذه الآية، فناسب لفظ التقتيل في الأعراف دون البقرة.
2ـ ذكر القرآن قول فرعون في الأعراف :(سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ) [الأعراف:127] وقال في الآية[141]: (يُقَتِّلُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ) [الأعراف:141] وهو المناسب فقد فعل ما قاله وهدّد به.
3ـ في آية البقرة جعل (يُذَبِّحُونَ) [البقرة:49] هنا بدلاً من يسومونكم، بدل فعل من فعل، وخصّ الذبح بالذكر لعظم وقعه عند الأبوين؛ ولأنه أشد على النفوس.
4ـ القصة في الأعراف فصّلت في ذكر الحوادث قبل موسى وبعده، وذكرت فتنة فرعون لبني إسرائيل وذكرت مجيء موسى إلى فرعون وتبليغه بالدعوة. وذكرت موقف فرعون من السحرة وتهديد فرعون لبني إسرائيل بالقتل والإذلال والإيذاء، حتى قالوا لموسى عليه السلام: (قَالُوٓاْ أُوذِينَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِيَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ) [الأعراف:129] وذكرت الآيات التي حلت بفرعون وقومه فناسب العموم في الأعراف العمومَ في اللفظ وهو التقتيل، فقال تعالى :( يُقَتِّلُونَ)لأنّ القتل أعم من الذبح.
5ـ كما أنه لم يرد في البقرة ذكر لهارون عليه السلام، بخلاف سورة الأعراف حيث ورد فيها (رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ)[الأعراف:122] وحيث إنّ ذكر موسى وهارون أعم من ذكر موسى وحده فناسب العموم للعموم، وناسب ذلك ذكر التقتيل؛ لأنّ القتل أعم من الذبح . والله أعلم.
السؤال الرابع:
ربنا تعالى قال في سورة البقرة: (وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ)[البقرة:49] وفي إبراهيم قال على لسان سيدنا موسى: (إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ) [إبراهيم:6] أنجاكم ولم يقل هنا: نجّاكم. فلماذا ؟
الجواب:
هناك فرق بين الصيغتين فعّل وأفعل : (فعّل) فيها تمهل وتلبّث، بينما (أفعل) فوقتها أسرع و أقصر وأقل, لذلك (نجّى) يفيد التمهل والتلبّث والبقاء، مثل علّم وأعلم، لأنّ (علّم) تحتاج إلى وقت، أمّا (أعلم) فهو إخبار.
و موسى عليه السلام يعدد النعم عليهم فقال : (أَنجَىٰكُم) [إبراهيم:6] فأنهى الموضوع بسرعة ، كما قال تعالى: ( وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُم ۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ)[البقرة:50] لأنهم لم يمكثوا في البحر طويلاً فقال: أنجيناكم، وحتى في إبراهيم عليه السلام قال: (فَأَنجَىٰهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِۚ) [العنكبوت:24] ولم يقل : ( نجّاه) ؛ لأنه لم يلبث كثيراً في النار.
السؤال الخامس:
قال تعالى في هذه الآية: (يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ)فما الفرق بين الأبناء والأولاد؟
الجواب:
آ ـ الأبناء، أي: الذكور جمع ابن، وهي للذكور، مثل قوله تعالى: (يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ) [البقرة:49].
ب ـ أما الأولاد فجمع ولد، وهي عامة للذكور والإناث (يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيٓ أَوۡلَٰدِكُمۡۖ لِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۚ ) [النساء:11] الذكر والأنثى (وَٱلۡوَٰلِدَٰت يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ)[البقرة:233] والإرضاع للذكور والإناث.
السؤال السادس:
ما دلالة رسم كلمة ( بلاء ) بصورتين مختلفتين في القرآن الكريم , وهما (بَلَآءٞ) و(بَلَٰٓؤٞاْ) ؟
الجواب:
وردت كلمة (بَلَآءٞ) بصورتها العادية في محل رفع ثلاث مرات في القرآن الكريم كله .
ووردت كلمة(بَلَٰٓؤٞاْ) بصورتها المختلفة مرتين فقط وهي في محل رفع , وذلك لتبين البلاء ووضوحه وأنه بلاء مبين , خاصة لسيدنا إبراهيم عليه السلام حينما اختبره الله بذبح ابنه إسماعيل بيده لا بيد غيره , فهو بلاء صعب جداً على النفس.وللعلم فإن الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى .
(بَلَآءٞ):
(وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ)[البقرة:49].
(وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ) [الأعراف:141].
(وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ)[إبراهيم:6].
(بَلَٰٓؤٞاْ):
(إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ) [الصافات:106].
(وَءَاتَيۡناهم مِّنَ ٱلۡأٓيَٰتِ مَا فِيهِ بَلَٰٓؤٞاْ مُّبِينٌ) [الدخان: 33].
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القران" (57)
مثنى محمد هبيان
(وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُم ۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ)
السؤال الأول:
ما اللمسة البيانية في ورود لفظة (اليَمّ) 8 مرات في قصة موسى، ووردت لفظة (البحر) 8 مرات في القصة نفسها، ووردت لفظة (البحرين) مرة واحدة؟
الجواب:
1ـ القرآن الكريم يستعمل اليم والبحر في موقفين متشابهين، كما في قصة موسى عليه السلام؛ فمرة يستعمل اليم ومرة يستعمل البحر في القصة نفسها .
2ـ اليمّ كما يقول أهل اللغة المحدثون : إنها عبرانية وسريانية وأكادية، وهي في العبرانية (يمّا) وفي الأكادية (يمو). (اليمّ ) وردت كلها في قصة موسى ولم ترد في موطن آخر , ومن التناسب اللطيف أنْ ترد في قصة العبرانيين وهي كلمة عبرانية.
واليم يستعمل للماء الكثير, وإنْ كان نهراً كبيراً واسعاً فيستعمل اليم أو البحر .
3ـ لكن من الملاحظ أنّ القرآن لم يستعمل (اليم) إلا في مقام الخوف والعقوبة، ولم يستعمل اليم في مقام النجاة.
قال تعالى: (فَإِذَا خِفۡتِ عَلَيۡهِ فَأَلۡقِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ) [القصص:7] هذا خوف، (فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُ مۡ فِي ٱلۡيَمِّ) [الأعراف:136]، (فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ) [طه:78] هذه عقوبة.
4ـ أمّا (البحر) فعامة، وقد يستعمله القرآن الكريم في مقام النجاة أو العقوبة, واستعمل القرآن كلمة (البحر) في النِّعم لبني إسرائيل وغيرهم،وفي نجاة بني إسرائيل ولم يستعمل (اليم).
وقد استعمل القرآن كلمة (البحر) في النجاة والإغراق فقال : (وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُم ۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ) [البقرة:50].
واستعملها في الإغراق والإنجاء فقال : (وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ) [الأعراف:138] أي: أنجيناهم .
5ـ اللغة تفرق بين البحر والنهر واليم: النهر أصغر من البحر، والقرآن أطلق اليم على الماء الكثير. ويُشتق من اليم ما لم يشتق من البحر, مثلاً: (ميموم) أي: غريق؛ لذلك كلمة ( اليم ) تناسب الغرق، والعرب لا تجمع كلمة (يم) فهي مفردة , وقالوا: لم يُسمع لها جمع ولا يقاس لها جمع، وإنما جمعت كلمة بحرعلى (أبحر وبحار) وهذا من خصوصية القرآن في الاستعمال, كونها خاصة بالخوف والعقوبة .
(وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ)[البقرة: 51]
السؤال الأول:
ما الفرق بين قوله تعالى في آية البقرة [51] (وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ) [البقرة:51] وآية الأعراف [142] (وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَ ا بِعَشۡرٖ)[الأعراف:142] ؟
الجواب:
قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذۡ وَٰعَدۡنَا مُوسَىٰٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗ ثُمَّ ٱتَّخَذۡتُمُ ٱلۡعِجۡلَ مِنۢ بَعۡدِهِۦ وَأَنتُمۡ ظَٰلِمُونَ) [البقرة:51] وقال في سورة الأعراف: (وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَ ا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ) [الأعراف:142] آية فيها إجمال , وآية فيها تفصيل .
لكن لماذا الإجمال في موضع والتفصيل في موضع آخر؟ لو عدنا إلى سياق سورة البقرة نجد أنه ورد فيها هذه الآية فقط في هذا المجال، بينما في المشهد نفسه في سورة الأعراف فيه تفصيل كبير من قوله تعالى: (وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَ ا بِعَشۡرٖ فَتَمَّ مِيقَٰتُ رَبِّهِۦٓ أَرۡبَعِينَ لَيۡلَةٗۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَٰرُونَ ٱخۡلُفۡنِي فِي قَوۡمِي وَأَصۡلِحۡ وَلَا تَتَّبِعۡ سَبِيلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ) [الأعراف:142] إلى قوله (وَكَتَبۡنَا لَهُۥ فِي ٱلۡأَلۡوَاحِ مِن كُلِّ شَيۡءٖ مَّوۡعِظَةٗ وَتَفۡصِيلٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ فَخُذۡهَا بِقُوَّةٖ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُوْرِيكُمۡ دَارَ ٱلۡفَٰسِقِينَ) [الأعراف:145] فالكلام طويل والقصة والأحداث في المواعدة مفصلة أكثر في الأعراف, ولم تذكر في البقرة؛ لأنّ المسألة في البقرة فيها إيجاز, فناسب التفصيل في سورة الأعراف والإيجاز في سورة البقرة, لذا جاء في تفسير آيات الأعراف أنّ موسى عليه السلام صام ثلاثين يوماً ثم أفطر فقال تعالى: صم، فصام عشرة أيام أخرى، أمّا في سورة البقرة فجاءت على سبيل الإجمال (أربعين يوماً).
السؤال الثاني:
ما دلالة قوله تعالى: (مِنۢ بَعۡدِهِۦ) [البقرة:51] في الآية ؟ ولماذا لم يقل مثلاً: (بعده)؟
الجواب:
آية البقرة في بني إسرائيل وتعداد نعم الله عليهم وعصيانهم مع ظهور الآيات, وهم بعد أنْ أغرق آل فرعون اتخذوا العجل بلا مدة فاصلة، فجاء بمن فقال: (مِنۢ بَعۡدِهِۦ) [البقرة:51] ولم يقل: (بعده)؛ لأنها تفيد الزمن الطويل والقصير, بينما (مِنۢ بَعۡدِهِۦ) تفيد الابتداء، أي: فعلوا ذلك مباشرة بعد إنقاذهم من البحر .
وكذلك الأمر في الآية التالية رقم [52] (ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ) [البقرة:52] فجاء بـ (من بعد) للدلالة على أنّ عفو الله جاءهم مباشرة بعد اتخاذهم العجل، والله أعلم
السؤال الثالث:
ما دلالة لفظة (وَٰعَدۡنَا) [البقرة:51] في الآية ؟
الجواب:
الوعد هو الإخبار بشيء سارّ، والوعيد هو الإخبار بشيء سيء.
السؤال الرابع:
لماذا استعمل لفظة (لَيۡلَةٗ) [البقرة:51] في الآية ؟
الجواب:
وَعْدُ اللهِ تعالى لموسى عليه السلام كان لإعطائه المنهج لإبلاغ بني إسرائيل.
وعندما يتكلم الدين عن الزمن يتكلم دائماً بالليلة, والسبب أنك تستطيع أنْ تحدد الزمن بمجرد أنْ تنظر إلى القمر فتقول: هذا القمر هلالا أو بدرا أو أول الشهر. أمّا قرص الشمس في النهار فلا يحدد لك في أي وقت من الشهر نحن .
والبدوي في الصحراء يستطيع أنْ يحدد لك الزمن بالتقريب بالليالي فيقول لك مثلاً : هذا القمر ابن كذا ليلة. والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القران" (58)
مثنى محمد هبيان
(وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ)
السؤال الأول:
ذكر الله الفرقان في هذه الآية (وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ) [البقرة:53] ولم يذكره في سورة القصص (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص:43]
ما الفرق بين الكتاب والفرقان؟ ولماذا؟
الجواب:
1ـ الكتاب هو التوراة، والفرقان هي المعجزات التي أوتيها موسى كالعصا، والمعجزات الأخرى؛ وهي تسع آيات , والفرقان هو الذي يفرّق بين الحق والباطل. , لذا قد يكون الفرقان وصفاً للتوراة , وهو أيضاً وصف للقرآن , قال تعالى : (تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان:1].
2ـ لكنّ السؤال: لماذا قال في الأولى: (الكتاب والفرقان)، وفي الثانية قال: (الكتاب) فقط؟
والجواب أنّ السياق هو الذي يحدد.
فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن بني إسرائيل (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ) [البقرة:40]، من الذي شاهد الفرقان؟ شاهده بنو إسرائيل وفرعون الذين كانوا حاضرين , لكنّ الناس الآخرين لم يشاهدوا هذا الشيء , فلمّا تكلم مع بني إسرائيل خصوصاً كان الخطاب لهم وهم الذين شاهدوا قال: (ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ ) وقال: (لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ) [البقرة:53].
وأمّا الثانية فقال: (وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ مِنۢ بَعۡدِ مَآ أَهۡلَكۡنَا ٱلۡقُرُونَ ٱلۡأُولَىٰ بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ) [القصص:43] .
فلمّا قال: (بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ)[القصص:43] لم يقل: الفرقان؛ لأنهم لم يشاهدوا هذا الشيء , بل قال: (ٱلۡكِتَٰبَ)[القصص:43] لأنّ الفرقان ذهب وبقي الكتاب , والكتاب بصائر للناس. والله أعلم.
السؤال الثاني:
جاء في الآية (وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ)[البقرة:53] وجاء في آية آل عمران (أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ)[آل عمران:186] فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
في هذا الباب ما نراه في القرآن الكريم في (ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ) فإنه على العموم إذا كان المقام مقام مدح وثناء أظهر الله ذاته ونسب إتيان الكتاب إلى نفسه، فيقول: (ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ) وإذا كان المقام مقام تقريع وذم، قال: (أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ).
شواهد قرآنية في إسناد الإيتاء إلى نفسه في مقام المدح والثناء :
البقرة [53،121، 146] الجاثية [16] الأنعام [114] الرعد [36] القصص [52] العنكبوت [47] النساء [54].
شواهد قرآنية في مقام الذم ويُبنى فيها فعل الإيتاء للمجهول :
البقرة [101، 144، 145] آل عمران [19، 23، 100،186، 187] النساء [44، 47، 51] المائدة [57] التوبة [29] الحديد [16].
****
(وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ)
السؤال الأول:
ما الفرق بين الفاءين في قوله تعالى: (فَتُوبُوٓاْ) (فَٱقۡتُلُوٓاْ) في الآية ؟
الجواب:
الفاء الأولى للسبب؛ لأنّ طلب التوبة سببه الظلم, والفاء الثانية للتعقيب؛ لأنّ القتل من تمام التوبة، والمعنى : فأتبعوا التوبة القتل .
السؤال الثاني:
ما النفحات الفكرية والإضاءات البيانية في الآية ؟
الجواب:
1ـ أوحى الله إلى موسى عليه السلام أنّ شرط توبتهم قتل النفس، كما أنّ القاتل عمداً لا تتم توبته إلا بتسليم نفسه حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه.
2ـ قوله (فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ) [البقرة:54] أي: توبة بعيدة عن الرياء نابعة من القلب وهو مطّلعٌ على ضمائركم , ولو كانت توبتكم على غير ذلك فقد تبتم إلى الناس، وذلك مما لا فائدة فيه؛ لأنكم أذنبتم إلى الله فوجب أنْ تتوبوا إلى الله بارئكم.
3ـ جاء في التفاسير :أمر الله أن يقتلَ منْ لم يعبد العجلَ ،مَن عبده قتلاً حقيقياً , فيكون المعنى من قوله: (فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ)[البقرة:54] أي: استسلموا للقتل، وهو المعنى الأقرب، وقيل المعنى: ليقتل بعضكم بعضاً.
4ـ قوله: (ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ) [البقرة:54]؛ لأنّ حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وهو متناهٍ ، وضرر الآخرة وهو غير متناه؛ ولأنّ الموت لا بدّ منه فليس في تحمل القتل إلا التقديم والتأخير, وأمّا الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم.
5ـ قوله: (فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ)[البقرة:54] هوإمّا من قول موسى عليه السلام كأنه قال : إن فعلتم فقد تاب عليكم, وإمّا أن يكون خطاباً من الله لهم على طريق الالتفات بتقدير : ففعلتم ما أمركم موسى فتاب عليكم بارئكم .
السؤال الثالث:
ما دلالة حذف حرف الألف (يَٰقَوۡمِ) من حرف النداء(يا) في الآية ؟
الجواب:
حُذفَ حرفُ الألف من حرف النداء ( يا ) في جميع القرآن الكريم , ويوحي ذلك بأنّ النداء لا بدّ أن يكون من قرب حتى يكون تأثيره مؤكداً , فعبّر عن القرب بحذف حرف الألف .
ومثل ذلك كلمات : (يَٰٓـَٔادَمُ) (يَٰرَبِّ) (يَٰبَنِيٓ) (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ) (يَٰصَٰلِحُ).
والله أعلم .
-
رد: مختارات من تفسير " من روائع البيان في سور القرآن"
مختارات من تفسير "من روائع البيان في سور القران" (59)
مثنى محمد هبيان
﴿ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾
السؤال الأول:
قال هنا : (مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ)[البقرة:56] ، وقال في آية البقرة: (مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ) [البقرة:109] بينما لم يذكر (من) في آية آل عمران (بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ) [آل عمران:100] فما دلالة ذلك ؟
الجواب:
بشكل عام (مِن) للابتداء . تقول مثلاً : سافرت من مكة إلى المدينة , أي ابتداء السفر من مكة . وعندما تذكر ( من ) تكون للفترة أو للمسافة القصيرة لأنها ذكرت الابتداء , وبدون
( من ) يمكن أن تكون للفترة أو للمسافة القصيرة أو الطويلة . انظر إلى قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ مِن فَوۡقِهَا﴾ [فصلت:10] فذكرهنا ( من ) ليدل على أنّ الرواسي ملتصقة بالأرض ليس بينها وبينها فراغ , بينما قال تعالى : (أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ﴾ [الملك:19] لم يذكرهنا ( من ) لأنّ بينهم وبين السماء مسافة طويلة .
1ـ في آيتي البقرة (وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤۡمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهۡرَةٗ فَأَخَذَتۡكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ٥٥ ثُمَّ بَعَثۡنَٰكُم مِّنۢ بَعۡدِ مَوۡتِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة:55ـ56 ]معناها أنّ الله لم يتركهم مدة طويلة ميتين .
2ـ وفي آية البقرة ﴿وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ [البقرة: 109]
ذكر الله فيها أنّ كثيراً من الكفار يتمنون لو أنهم ردوا المسلمين من بعد الإيمان كافرين أي بلا مهلة (حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم) فهم يتمنون الإسراع في تكفيرهم، وأنْ ينقلوهم فوراً من حالة الإيمان إلى حالة الكفر.
بينما في آية آل عمران (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ) [آل عمران:100] ففيها تحذير للمسلمين من إطاعة الكافرين؛ لأنهم ينفثون فيهم أوهامهم وضلالهم شيئاً فشيئاً حتى يردوهم مع مرور الزمن كافرين, وليس معناه أنهم ينقلونهم فوراً من الإيمان إلى الكفر.
لذلك الأولى مقام تمنٍّ، والثانية مقام تحذير.
والله أعلم.
﴿وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ﴾
السؤال الأول:
قدّم المفعول به، وهو(أَنفُسَهُمۡ) [البقرة:57] على الفعل، وهو (يَظۡلِمُونَ) [البقرة:57] فما دلالة هذا التقديم ؟
الجواب:
إنّ في تقديم المفعول به على فعله تأكيداً وتنويهاً:
آـ فيه تأكيد على أنّ حالهم كحال الجاهل بنفسه، فالجاهل يفعل بنفسه ما يفعله العدو بعدوّه .
ب ـ وفيه تنويه لك أيها المسلم أنّ الخروج من طاعة الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً فيه ظلم، ولكنه ظلمٌ لنفسك قبل ظلمك لغيرك.
السؤال الثاني:
ما الفرق بين قوله تعالى فى سورة البقرة : (وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) [البقرة:57] وفي آل عمران : (وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) [آل عمران:117] بدون (كانوا) ؟
الجواب:
في العموم عندما يتكلم القرآن عن الحال، أي: الوقت الحالي وليس الزمن الماضي يقول: (أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) وعندما يتكلم عن الأقوام البائدة القديمة الماضية يقول: (كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ) [البقرة:57] . فيستعمل ( كانوا ) للدلالة على الزمن الماضي .
انظر كذلك الآيات : العنكبوت [ 40] التوبة [70] الأعراف [160]
السؤال الثالث:
ما دلالة اختلاف رسم كلمة (ٱلۡغَمَامَ) و(ٱلۡغَمَٰمَ) في القرآن الكريم؟
الجواب:
وردت كلمة (ٱلۡغَمَٰمَ) في القرآن الكريم ( 4) مرات , إثنان منها بالألف الوسطية , وإثنان :بدون ألف وسطية , والحالتان هما :
الحالة الأولى : (ٱلۡغَمَامَ)
﴿وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ ﴾ [البقرة:57].
﴿هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَ ةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ﴾ [البقرة:210].
جاءت (ٱلۡغَمَامَ) بألف وسطية في سورة البقرة لتدل أنّ الغمام لم يكن مضموماً وإنما كان متفرقاً, حيث كان بنو إسرائيل في شك من الإيمان بموسى عليه السلام حتى يروا الله جهرة . وتعني آية البقرة 210 أنهم ينتظرون رؤية الله مظللاً بالغمام منفصلاً عن الملائكة .
الحالة الثانية :(ٱلۡغَمَٰمَ)
(وَقَطَّعۡناهم ٱثۡنَتَيۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمٗاۚ وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَيۡنٗاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡغَمَٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ١٦٠ ) [الأعراف:160].
(وَيَوۡمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلۡغَمَٰمِ وَنُزِّلَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ تَنزِيلًا) [الفرقان:25].
جاءت كلمة (ٱلۡغَمَٰمَ) بدون ألف وسطية مما يوحي بأنّ الغمام كان قريباً من بعضه , وبذلك كان الظل وارفاً , وكان هذا جزاء للأمة التي ذكرها الله من قوم موسى(وَمِن قَوۡمِ مُوسَىٰٓ أُمَّةٞ يَهۡدُونَ بِٱلۡحَقِّ وَبِهِۦ يَعۡدِلُونَ) [الأعراف:159].
وآية الفرقان تعني أنّ الغمام كان كثيفاً يوم القيامة . والله أعلم .