يقول الأستاذ / عبدالله الهذلول في مقال له بعنوان :
الانفتاح الثقافي: ابن تيمية نموذجًا
يمثل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عند كثيرٍ من المسلمين في هذا العصر مرجعاً في علوم الشريعة ، وهو إمام بلا شك في سائر فروعها ، والمطالع لسيرة ابن تيمية الشمولية يجد أنه ـ رحمه الله ـ كانَ واسع النظر عند بحثه وتدريسه ، واسع النظر ـ أيضًا ـ ومطيلاً له في كتب خصومه ، عارفًا بما عندهم ، عالمًا بما يخالفهم .
وأول ما يطالعه الباحث في انفتاح ابن تيمية الثقافي هو : انفتاحه داخل النسق الثقافي في موسوعيته الشاملة للعلوم ، فهو :
المفسر
والمحدث
والعالم بالعقائد
والفقيه
والأصولي
والناظم للشعر
والفيلسوف
والباحث
والفلكي
والسياسي
والمؤرخ ـ وهذا جانب لم يشتهر به ، ولكن بعض المؤرخين وصفوه به كالذهبي ـ والنحوي ـ وقد استشهد بكلامه ابن هشام وجمُعت آراؤه النحوية في كتاب ـ .
ومع ذلك فهو في الغالب متميز في جميع الفنون ، حتى يظن المطالع لفرع من علومه أنه متخصص في هذا الفن أو أنه في أحسن الأحوال أجود ما لديه من الفنون ـ وقد يكون كذلك ـ ولكنه في الغالب يصدم عندما يرى النفس نفسه أو أجودَ منه في الفنون الأخرى .
وعلى سبيل الانفتاح خارج النسق الثقافي تتعدد الصور .
ففي العقيدة : اطلع على موروث كثير من الفرق المعاصرة له وحاورها وجادلها ، في كثيرٍ من الأحيان بأدواتها كالمعتزلة وأهل الكلام حينما درس علم الكلام والفلسفة ، ثم أصبح يضرب أصولهم ببعضها ، ويشكل على أصولهم من خلال فروعهم وتطبيقاتهم كما في درء تعارض العقل والنقل ، فأتى على بنيانهم من الأساس ، ولم يناقشهم ـ كما يفعل البعض ـ من خلال قواطع لا يؤمنونَ بها أصلاً ، وقد سار على تلك الطريقة مع : النصارى في الجواب الصحيح ، ومع الجهمية في بيان تلبيس الجهمية ، ومع الأشاعرة والمتصوفة والشيعة والخوارج والمرجئة وسائر المخالفين .
وبالجملة فإنَّ ابن تيمية سلفي لا بالتقليد وإنما بالبحث والتنقيب .
وفي الفقه : اطلع على فقه الإمام أبي حنيفة ومدرسة الرأي ، وفقه الإمام مالك ومدرسة الأثر ، ثم عرج على أصول الشافعي ، وخلص إلى آراء ـ وإن وافقت في كثير منها آراء الحنابلة ـ إلاّ أنها منطلقة من نظر بين مدرستي الرأي والأثر ، حتى اشتهر عنه تقسيمه للمذاهب الفقهية وتميزها على كتب وأبواب الفقه .وهذا نتيجة ـ بالتأكيد ـ لدراسة فاحصة لها .
وفي مجال التفسير : يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أنه يطالع قبلَ تفسير الآية أكثر من مئة تفسير ، ثم يخلص إلى نتيجة قد لا تكون موجودة فيها ، وإنما خلص إليها من جمعه للمرويات ونظره في الآراء والاتجاهات .
ومن البدهي أن هذه التفاسير المئة ليست كلها على كفِّ مساواة في المعتقد وطريق النظر والتفسير العقلي منها والنقلي .
وعلى الصعيد العملي التطبيقي يمثل نموذج ابن تيمية المجاهد صورة مشرقة للانفتاح .
فعلى صعيد الجهاد بالسنان : فإنه قاتلَ التتار ووقف مع من يحسبونَ خصومًا له ، وهذا وإن عدَّ وجهًا مشرقًا لانفتاحه ، إلاّ أن وعده إياهم بالنصر وجزمه بذلك وجهٌ آخر أكثر إشراقًا .
وعلى صعيد جهاده باللسان : ما تميز به من حضور مجالس المناظرات التي فيها ـ كما هو معلوم ـ يطرح كل صاحب رأي ما يراه بدون أدنى تحرز ويجلب بخيل ورجل في عرض وتسويق فكرته وأدلتها وأوجه الخطأ في فكرة الخصم ، وعلى الرغم من كل هذه العقبات والصعوبات والتحديات إلاّ أنه كان يحضر المناظرات في مجلس السلطان ـ أحيانًا ـ وعلى مرأى ومسمع من العامة والخاصة ـ أحايينَ كثيرة ـ دونَ أنْ يخاف التلبيس على العامة ، وقد ذكر بعض المؤرخين حكاية تدل على أخذ ابن تيمية بالانفتاح الثقافي وتأييده له أنه وقفَ في صفٍ مقابل لخصومه من طوائف أخرى على ملأ من الناس ، فكان ـ كما تعبر الرواية ـ بحرًا ثجاجًا صادف بحيرات ، وكانوا ذرات صادفت جبلاً راسخًا ، وكان لا يكل ولا يمل من المناظرة ، بل كان يطلب المناظرة والمحاورة ابتغاءً للحق وطلبًا له ، دونَ أن يتوجسَ أو يخافَ التلبيسَ على العامة .
ـ أيضًا ـ تمثل أسلمة شيخ الإسلام لبعض العلوم وسعيه في تنظيرها وتقويمها شرعيًا وجهًا مشرقًا لانفتاحه ، وكذلك تجديده لبعض العلوم الشرعية الأخرى وتنقيته وتصفيته لها ، وهو ما أظن المستشرق جولد زيهر قصده حينما قال :
وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض. . فجّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يُفجّر حتى الآن! .
وحسبه أنَّ الأمة لم تشهد بعد عصر الصحابة مجددًا ومصلحًا مَثُلَ كمثله في شخصيته وظاهرته الثقافية .
http://www.islamtoday.net/articles/s...185&artid=8884