المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فهر السلفي
2- أما عن أحكام المبتدع ، فاسم المبتدع يثبت في الجملة لمن وقع في مثل ذلك من مسائل الاجتهاد ثم ينظر إلى حال المعين عند الحكم عليه :
فإن استبانت له الحجة فأعرض عنها بعد التبين فهو مبتدع اسماً وحكماً.
ومن خرج عن هذه الحجة بتأويل غير سائغ فهو مبتدع اسماً وحكماً.
وهذا لا نزاع فيه ؛إذ لا عذر له يمنع إيقاع حكم المبتدع عليه.
3- يبقى النظر الآن فيمن وقع في البدعة في المسائل الاجتهادية بتأويل سائغ ...
يقول شيخ الإسلام بعد كلامه عن الحكم العام بالوعيد مانعاً تعيين المعين الجتهد به :(( وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ إذَا كَانَ بَعْضُ الْأُمَّةِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ فَاسْتَحَلُّوهَ ا أَوْ عَارَضَ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ عِنْدَهُمْ أَدِلَّةٌ أُخْرَى رَأَوْا رُجْحَانَهَا عَلَيْهَا مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ التَّرْجِيحِ بِحَسَبِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ؛ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَهُ أَحْكَامٌ مِنْ التَّأْثِيمِ وَالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفِسْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ فَقَدْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُنْتَفِيَةٌ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ ؛ أَوْ يَكُونُ التَّحْرِيمُ مُنْتَفِيًا فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ مَعَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ . وَإِنَّمَا رَدَدْنَا الْكَلَامَ لِأَنَّ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ - : أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ بِاجْتِهَادِ سَائِغٍ مُخْطِئٌ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الَّذِي فَعَلَهُ الْمُتَأَوِّلُ بِعَيْنِهِ حَرَامًا لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ أَثَرُ التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ لِعَفْوِ اللَّهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا .
وَالثَّانِي : فِي حَقِّهِ لَيْسَ بِحَرَامِ لِعَدَمِ بُلُوغِ دَلِيلِ التَّحْرِيمِ لَهُ ؛ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَتَكُونُ نَفْسُ حَرَكَةِ ذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَتْ حَرَامًا . وَالْخِلَافُ مُتَقَارِبٌ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْعِبَارَةِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ إذَا صَادَفَتْ مَحَلَّ خِلَافٍ)).
فهما إذاً قولان قريبان :
1- إما أن يُقال جهر فلان بالتسمية بدعة ولكن لا يترتب عليه آثار البدعة لكونه مجتهداً متأولاً.
2- وإما أن يقال : جهر فلان بالتسمية ليس بدعة في حقه وهو بدعة في حق فلان الذي لا تأويل له.
ولا فرق بينهما كما قال الشيخ
يبقى النظر في مسألة أخيرة وهي :
سلمنا أن المجتهد في المسائل الاجتهادية يُرفع عنه حكم المبتدع فهل يثبت له الاسم دون الحكم (؟؟)
قلتُ : في الجملة يجوز ثبوت اسم المبتدع دون حكمه ..يقول شيخ الإسلام : ((َلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا ؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَلَا عَاصِيًا)).
فسماه مبتدعاً رغم كونه معذوراً..
ويقول الشيخ العثيمين وسياق كلامه عمن تأول الصفات بتأويل سائغ : ((يجب التفريق بين حكم القول وقائله، والفعل وفاعله، فالقول الخطأ إذا كان صادرا عن اجتهاد وحسن قصد لا يذم عليه قائله، بل يكون له أجر على اجتهاده، لقول النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » . متفق عليه، وأما وصفه بالضلال فإن أريد بالضلال الضلال المطلق الذي يذم به الموصوف، ويمقت عليه، فهذا لا يتوجه في مثل هذا المجتهد الذي علم منه حسن النية، وكان له قدم صدق في الدين واتباع السنة، وإن أريد بالضلال مخالفة قوله للصواب من غير إشعار بذم القائل فلا بأس بذلك؛ لأن مثل هذا ليس ضلالا مطلقا، لأنه من حيث الوسيلة صواب، حيث بذل جهده في الوصول إلى الحق، لكنه باعتبار النتيجة ضلال حيث كان خلاف الحق.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال والتهويل، والله المستعان.)).
قلتُ : لكن الذي عندي والله أعلم أن اسم المبتدع لا يمكن تخليصه من الذم ..وحال المسائل الاجتهادية يختلف عن حال المسائل التي فيها خلاف غير سائغ ..فالمسائل الاجتهادية أخف بكثير جداً..بينما في مسائل الخلاف غير السائغ ورغم كون الواقع فيها قد يكون معذوراً إلا أن اسم المبتدع نافع في التنفير عن بدعته ،ونحن لا نقصد لتنفير الناس عن الاطمئنان لقول من قال بالجهر بالتسمية بل اتباع القائل به جائز في الجملة ..فلا يتضمن الاسم حينها أي حكم بل يكون علماً مجرداً فالأصح رفع الاسم عن المجتهد في المسائل الاجتهادية.
يقول شيخ الإسلام : ((وَهَذَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَةِ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ يَشُكُّ فِيهَا أَوْ يَنْفِيهَا : كَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَة ِ عِنْدَهُمْ فِي شَفَاعَتِهِ وَحَوْضِهِ وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَة ِ عِنْدَهُمْ : فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْعُلُوِّ وَالرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِسُنَّتِهِ كَمَا تَوَاتَرَتْ عِنْدَهُمْ عَنْهُ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كَمَا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْخَاصَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ - الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ وَتَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَرَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَاعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُنَازِعُهُمْ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى تَبْدِيعِ مَنْ خَالَفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ نَازَعَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ فِي تَوَاتُرِ السُّنَنِ عَنْهُ : كَالتَّنَازُعِ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَفِي الْقُسَامَةِ وَالْقُرْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْمَبْلَغَ)).
فإن قال قائل : هذه لنا فهو يرفع اسم البدعة عن تلك المسائل .
قيل له: لا ؛ لأن كلامه صريح في أنه يمنع إطلاق اسم المبتدع على المجتهد ولم يتطرق للمسألة وحكمها؛ ولأنه قد ثبت عن بعض السلف إطلاق اسم البدعة في مسألة الشاهد واليمين التي ذكرها هو-مثلاً- ولا يخفى عليه ذلك.
وإن قال قائل : ولم استدللت بهذا النقل على رفع اسم المبتدع عن المخالف في المسائل الاجتهادية ولم تجعل هذا النقل في رفع الحكم مع بقاء الاسم (؟؟)
قلنا : لأن رفع الحكم لا فرق فيه بين المسائل الاجتهادية وغيرها كما هو معروف من مذهب شيخ الإسلام فلم يبق إلا أنه يقصد رفع الاسم واستعماله في مخاطبة المجتهدين في محال النزاع.
والحمد لله وحده..