أحكام تشريعية من آيات قرآنية بتأثير
دلالة بعض التراكيب النحوية: الاستثناء والحال
د. مأمون ((محمد هاني)) فوزي الخُزاعيّ [*]
ملخص البحث:
اقتصرت هذه الدراسة على الآيات التي تحمل دلالة لغوية أو نحوية على حكم شرعي، ولم أتطرق إلى الآيات الأخر التي لم يستنبط منها الفقهاء حكماً بمقتضى قواعد النحو واللغة، وحين أجد في الحكم المُستَنْبط آراء متعددة فإنني لا أذكر إلا ما يستند إلى دليل نحوي أو لغوي, وقد لاحظت أن بعض الفقهاء ينفردون في الاستدلال على حكم الآية بدليل نحوي أو لغوي, في حين لم يستدل الآخرون بهذا الدليل، فأذكر رأي الفقيه القائم على أساس نحوي أو لغوي, دون غيره, وخصصت هذا البحث لبيان أثر دلالة بعض الموضوعات النحوية وهي: (الاستثناء والحال) دون غيرهما من الموضوعات النحوية؛ فالاستثناء ومقتضاه إخراج المستثنى من أن يعُمُه حكم المستثنى منه، وفي ضوء ذلك تخصيص له يميزه عن باقي أفراد المستثنى منه، وقد وردت أحكام شرعية كثيرة مبنيّة على هذا الأسلوب, وليس هذا من قبيل الحصر بل من قبيل الاختصار؛ متمنياً فيما بعد أن يوسع نطاق البحث ليشمل كافة الموضوعات النحوية، للوقوف على دور اللغة العربية الغراء في التقدم والرقي للأمة الإسلامية والعربية، وكل ذلك يبرهن على أن القرآن كان ولا يزال وسيظل خير عون للدارسين والمتخصصين في الأبحاث الفقهية والنحوية واللغوية، فضلاً عن إعانته الباحثين في العلوم الأخرى، فهو كتاب نحوٍ ولغةٍ وتشريع, وإني إذ أضع هذا البحث بين يدي المعنيين بهذا اللون من الدراسة، فإني لأرجو منهم خالص الدعوات في أن يجعلني الله من المخلصين له في كل عمل أبتغيه حتى يؤتي ثماره في النفع لخيري الدنيا والآخرة, سائلاً المولى جلّ جلاله أن يوفقنا لما فيه خير الشريعة ولغتها الغراء.
Abstract
This study focused on Quranic Verses which have a linguistic or a grammatical significance to legal judgment, and I did not cite in other verses which Muslim jurists did not derive any legal judgment according to the rules of grammar and ********. when I find several views in the cited rule I cite only by opinion that. is based on a grammatical or a linguistic evidence. I noticed some Muslim jurists depend on their knowledge on the rule of quranic verse by according to grammatical or linguistic evidence while others did not take this evidence, I cite the opinion of the jurist but I do not cite other opinion which is not based on non-grammatical or linguistic basis. This research is held to demonstrate the effect of some grammatical issues and they are: (The exception and the status) without other grammatical topics; The exception means extracting (the excepted thing) from (the included thing) without being in its rule and in a particular, we distinguished (the excepted thing) from the rest of (the included types). many jurisprudence rules were mentioned which is based on this method. The **** but a few , briefly ; Hoping to expand in my research to include all grammatical subjects to determine the role of the Arabic beautiful ******** in the progress and prosperity of the Islamic Arab nation, all of that prove that the holy Quran is still and will remain as before the best support and the specialists in all fields such as doctrinal, grammatical and linguistic researches as well as It helps researchers in other sciences and It is a book for grammar, ******** and legislation, I put this research in the handles of specialists who are interested in this kind of this study, I ask them the sincere Supplications that may God makes me be loyal to him in all work which I do to fructify the benefit and the interest for a better world and the best of in the. Hereafter. Asking Allah Almighty to help us all for the good of Islamic legal system and its beautiful ******** and may Allah-exalted and majestic guide. us all to right path and lead us to success in this life and the after .
المقدمة:
الحمد لله الذي جعل من آياته اختلاف الألسنة والألوان، والصلاة والسلام على أفصح الخلق وأفضلهم سيدنا محمد الذي أكرمه الله تعالى بالحكمة والبيان، وعلى آله وأصحابه الذين تفقهوا في الدين بتفقههم بلغة القرآن, أما بعد: فإن من أجلِّ نعم الله على الإنسان أن يمنحه موهبة التفقه في الدين، ويدلَّهُ على مسالك ذلك التفقه، ليُلهمه الرشد فيما يقول وفيما يفعل، حيث يقول الرسول e: "مَنْ يُرد اللهُ به خيراً يُفَثهْهُ في الدين ويلهمهُ رُشْدهُ"([1]).
وقد تعددت الطرق، واختلفت السُبل في الوصول إلى فهم الأحكام التي جاءت بها شريعة السلام، إلا أن جميع تلك الطرق تعود في تفصيلها وبيانها التي نزل بها كتاب الله، ووردت بها سنة رسوله e، تلك هي لغة العرب التي أودع الله فيها من الأسرار البيانية ما جعلها تفي بكل ما يستجد من أمور في حياة المسلمين, وهذا هو الذي حدا بالمسلمين –منذ العصور الإسلامية الأولى– للاهتمام بهذه اللغة، وللوقوف على مكنوناتها وخفاياها، فشمروا عن ساعد الجد، وبذلوا –للعناية بها– قصارى جهدهم، ولاسيما أيام أن شعروا بأن الخطر يهدد كيانها بعد أن دخل الإسلام من هم من غير العرب، فانتشر اللحن بين أبنائهم وباتت اللكنة اللسانية تُنذر بضياع فصاحتهم وبلاغتهم.
وقد استمرت الجهود في الحفاظ على العربية مع تعاقب الأزمان، واختلاف الأنسال، وبرز –طيلة القرون التي مرت– أفذاذ من العلماء استغرقوا حياتهم كلها بالبحث والتدقيق في مسائل هذه اللغة، والخوض في فنونها وآدابها، فكان كل واحد منهم يقدم خدمة لها من خلال ما يلقي الله في رُوعه من تلك الآداب والفنون، فأظهروا للناس لطائفها وبيَّنوا جمالها، ووضحوا رونقها وبهاءها, وقد ألقى الله في رُوعي أن أكتب في موضوع يخدم اللغة من جهة والشريعة من جهة ثانية، وقد وجدت فقهاء الشريعة استنبطوا بعض الأحكام من آيات القرآن التشريعية واستدلوا عليها بأدلة نحوية ولغوية، فقررتُ أن أتناول بعض الآيات لأبيّن أثرها النحوي واللغوي في أحكام الشريعة، فكان هذا البحث الذي أقدمه بين يدي القارئ الكريم.
تعريف الدلالة:
هي مصدر دلّ يدل دلالة, ولأئمة اللغة آراء في الباب الصرفي الذي ينتمي إليه الفعل (دلّ)، فقد جعله جمهورهم من باب (ضَرَبَ يَضْرِبُ) بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع([2])، وذهب بعضهم إلى أنه من باب (نَصَرَ يَنْصُرُ) بفتح عين الماضي وضم عين المضارع([3])، وأرجعه قسم آخر إلى باب (عَلِمَ يَعْلَمُ) بكسرها في الماضي وفتحها في المضارع([4])، وفي لفظة (دلالة) لغات ثلاث، لأنه يقال: (دَلالة، ودِلالة، ودُلالة)، فتح الدال وكسرها وضمها إلا أن الفتح أعلى([5])، ويقال فيه أيضاً: (دُلولة) بالضم وقلب الألف واواً([6]).
وقد جاء الفعل (دلّ) لمعانٍ متعددة: منها أنه يكون بمعنى هدى وأرشد، ورد في لسان العرب قوله: "ودل فلان إذا هدى"([7])، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الدالَّ على الخير كفاعله"([8]), وحيث إن الدلالة –هنا– ترشد وتهدي إلى استيضاح الحكم الشرعي من القواعد النحوية، فإن المراد بها الهداية والإرشاد([9]).
أثر دلالة الاستثناء:
1. جواز التجارة:
قال الله تعالى: ﴿يا أيُّها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم﴾ [سورة النساء: آية 29].
فقد دلت هذه الآية على حرمة أكل الأموال بالباطل، بأي وجه من الوجوه، إلا أن العلماء استنبطوا منه جواز التجارة بالأموال, والمراد بالتجارة هنا العقود المباحة المتعلقة بتقليب الأموال لأجل الربح فيها، لأن هذا اللفظ ورد في اللغة لمعنى البيع والشراء([10])، وورد بمعنى أعم من هذا وهو: "تقليب المال لغرض الربح"([11]).
الدليل النحوي:
إن التحريم ورد على الأموال الموصوفة بالباطل، وقد استثنى التجارة بقوله: (إلا أن تكون تجارة) لأنها مستثناة من الأموال المفيدة بأكلها بالباطل، والاستثناء واقع على محل (أن تكون) العاملة في التجارة، لأنها إما ناقصة و(تجارة) بالنصب خبرها، واسمها عائد على الأموال كما يرى بعض النحاة، منهم الكوفيون والأخفش واختاره أبو عبيد([12])، فيكون الاستثناء متصلاً، لأن المعنى حينئذٍ يصير: إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراضٍ، فإن أكل الأموال بالباطل قد يحصل بعدة طرق ولكنه استثنى منها التجارة المتراضى عليها التي ليس فيها أكلٌ للأموال بالباطل، ولذلك نفى عنها أن تكون موصوفة بالأكل بالباطل([13]).
وإمّا أن تكون تامة بمعنى (تقع أو تحصل)، و(تجارة) بالرفع فاعلاً لها فيكون الاستثناء منقطعاً على جعل التجارة ليست من جنس الأموال المأكولة بالباطل، والمعنى لكنه إذا "وقعت تجارة عن تراضٍ فهو مباح"([14]) لأن سيبويه وغيره من البصريين يقدّرون الاستثناء المنقطع بـ (لكنَّ) المشددة من حيث المعنى لكونه جملة مستقلة عما قبله([15])، وقدّرها غيرهم بـ(لكنْ) المخففة لورود ذلك عن العرب فقد قالوا إلا ضرَّ وما زاد إلا نقص" أي لكن ضر ونقص([16])، والراجح كون الاستثناء منقطعاً لما يأتي:
إن فريقاً من أكابر النحاة رجحوا الانقطاع فيه، منهم ابن الأنباري والنحاس ومكي بن أبي طالب([17])، والزمخشري([18]).
المنقطع أنسب للمقام في هذه الآية لأن المنقطع معناه أن يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والتجارة الموصوفة بالتراضي –التي هي المستثنى– ليس من جنس الأموال المأكولة بالباطل التي هي المستثنى منه، أما لو نصبت التجارة على أن الاستثناء متصل لم يحصل التناسب بين جعلها تجارة عن تراضٍ وبين جعلها أموالاً مأكولة بالباطل، وقد أشار النحاس إلى هذا حينما قال: "النصب يفيد من جهة المعنى"([19]).
2. حكم المنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة من الحيوانات المأكولة:
قال الله تعالى:﴿حُرّمتْ عليكم المَيْتَة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله به والمنخنقةُ والموقوذةُ والمترديةُ والنطيحة وما أكل السّبعُ إلا ما ذكيتم﴾[سورة المائدة: آية 3].
المنخنقة: هي التي تموت خنقاً، والموقوذة: هي التي ترمى أو تضرب بشيء حتى تموت، والمتردية: هي التي تسقط من علو فتموت، والنطيحة: هي التي تنطحها أخرى فتموت([20]), وقد دلّت هذه الآية على تحريم أكل الحيوانات الموصوفة بتلك الأوصاف، ثم استثنت ما ذبح منها؛ لأن التذكية في اللغة الذبح([21])، وقد اتفق العلماء على حِلِّ أكل هذه الحيوانات بعد ذكاتها إذا لم تبلغ درجة اليأس من حياتها، وذلك إذا غلب على الظن أنها تعيش مع هذه الحالة، واختلفوا فيما إذا بلغت بها تلك الأوصاف درجة اليأس من حياتها، هل تحللها الذكاة أو لا؟
فذهب فريق منه إلى أن الذكاة تحللها، ما دامت فيه حركة تدل على الحياة، وقد نقل هذا عن ابن عباس والزهري، وهو مذهب الحنفيّة، ومالك في أحد قوليه، والمشهور من رأي الشافعي([22]).
وذهب فريق آخر إلى أن الذكاة لا تحللها إذا يئس من حياتها، ونُقل هذا عن زيد بن ثابت وهو المشهور من رأي مالك، ونقل عن الشافعي أيضاً([23]).
الحُجّة النحوية:
قال الفريق الأول: إن الاستثناء في قوله: ﴿إلا ما ذكيتم﴾ استثناء متصل، وبما أن الاستثناء المتصل: ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه فإن التي تذكى تكون من جنس التي تقدمت أوصافها، ولكنها أُخرجت من حُكم التحريم، فيكون المعنى حُرمتْ عليكم تلك الأشياء إلا "ما أدركتُم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح([24]) وإلى هذا ذهب الزمخشري.
أما الفريق الثاني: فقد ذهبوا إلى أن الاستثناء منقطع، لأن التي تذكى ليست من جنس التي تَقَدّم ذكرها لأنها بالذكاة تَخْرُج من كونها منخنقة أو موقوذة أو نطيحة، حينئذٍ يكون إطلاق اسم الاستثناء عليها مجازاً، لأن الاستثناء إنما يُطلق على ما يكون مُخرجاً من جنسه، فـ (إلاّ) هنا للاستدراك بمعنى (لكن)، وإنما تُقدر (إلا) في المنقطع بـ (لكن) لأنها "لا يشترط أن يكون ما بعدها بعضاً مما قبلها"([25]).
إذن فيكون المعنى في الآية حَرُمتْ عليكم المذكورات لكن ما ذكيتم من غيرها فهو حلال لكم. والراجح هو الرأي الأول لما يأتي:
إن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلاً، أما المنقطع فلا يصار إليه إلا إذا تعذر المتصل، ولا يتعذر في هذه الآية كونه متصلاً، لأن التي تذكى من جنس المُنْخنقة وما عطف عليها من حيث كونها حيوانات كلها، إلا أنها اكتسبت صفة الحِلْ بالذكاة المستفادة من صلة الموصول المستثنى وهي "ذكيتم".
لو جعلناه مُنْقطعاً فإنه يحتاج إلى تقدير خبر لـ(ما) لأنها تكون مبتدأ ويجب أن يُقدّر لها الخبر، فيقال: إلا ما ذكيتم فهو حلال. وبجعله متصلاً لا يحتاج إلى ذلك، وعدم التقدير أولى.
3. توبة قُطّاع الطريق:
قال الله تعالى: ﴿إنما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَوْنَ في الأرض فساداً أن يُقتّلوا أو يُصلّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجُلهم من خلال أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خِزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم* إلا الذين تابوا من قبل أن تَقْدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفورٌ رحيم﴾.
دلّت هذه الآية على حكم التائبين عن قطع الطريق، وقد أجمع العلماء على سقوط الحد عمّن تاب منهم قبل القدرة عليه، لأنه حق الله، أما حقوق الآدميين فلا تسقط عنه إلا أن يؤديها لهم، ولم ينقل خلاف عن العلماء في هذا الحكم([26]).
الحجة النحوية في ذلك:
إن قوله: ﴿إلا الذين تابوا﴾ قد استثني من عموم قوله: ﴿الذين يحاربون﴾ وموضعهُ النصب لأنه استثناء من موجب([27])، وإنما سقط عنهم حق الله دون حق العباد، لأن المستثنى هو الموصول في ﴿الذين تابوا﴾ واسم الموصول يتضح بصلته، وصلته هنا جملة ﴿تابوا﴾، فكان المستثنى موصوفاً بصفة التوبة، والتوبة إنما تكون بين الله وبين العبد لا بين العبد ونظيره.
4. إكراه المؤمن على الكفر:
قال الله تعالى: ﴿مَنْ كفر بالله من بعد إيمانه إلا مَنْ أُكره وقلبُهُ مُطمئنٌ بالإيمان ولكن مَنْ شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذابٌ عظيم﴾ [سورة النحل: آية 106], وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية حكم المؤمن الذي يُكره على الكفر، وقد اتفقوا على أنهُ يُرخّص له التلفظ بكلمة الكفر إذا كان قلبه باقياً على إيمانه([28]).
والدليل النحوي لهم:
إنّ ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿إلا مَنْ أُكره﴾ مستثنى من حكم ما قبله، وقد اختلف في المستثنى منه: فقال بعضهم: المستثنى منه ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿ولكن مَنْ شرح﴾ لجواز حذف الجواب إذا دل عليه دليل([29]) لفظي كهذه الآية، أو معنوي كقوله تعالى: ﴿حتى إذا جاءوُها وفُتِحًتْ أبوابها﴾ [سورة الزمر: آية 73] أي دخلوها، قال سيبويه: سألتُ الخليل عن جواب مثل هذا الكلام فقال: "إن العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم"([30]).
ولذلك أوجب بعض النحاة حذفه إذا دل الدليل عليه، منهم ابن هشام، وحينئذٍ يكون المعنى: من كفر بالله بعد إيمانه غير المكرهين فعليهم غضب.
وقال آخرون: المستثنى منه ﴿هم﴾ في: ﴿عليهم﴾ التي تضمنها جواب الشرط المحذوف وتقديرهُ: فعليهم غضب إلا مَنْ أكره فلا غضب عليه([31]).
والرأيان قويان كلاهما، إلا أنني أرى رجحان الثاني لما يأتي:
إن حكم عدم جواز التلفظ بكلمة الكفر كان سبباً فيه غضب الله المستفاد من جواب الشرط المقدر، فجعل الاستثناء منه أولى من جعله من الشرط.
أصحاب الرأي قدروا (إلاّ) بمعنى غير، وهي إنما تقدر بهذا المعنى إذا كانت وصفاً([32])، وجعلها للاستثناء هنا أنسب من جعلها صفة، لأن المقصود استثناء المكره من حكم الكفر وليس المقصود وصف من كفر بالإكراه، فضلاً أن جعل (إلا) للاستثناء تركٌ لها على لفظها، وجعلها صفة لا بد من تأويلها بـ(غير) وتركها على لفظها أولى، لأنها أم الباب في الاستثناء كما أشار إلى ذلك سيبويه، وغيره من النحاة([33]). وهذا المستثنى مُقيد بحال لا بد من تحققها لانطباق الحكم عليه، وهو كون قلبه مطمئناً بالإيمان حال تلفظه بكلمة الكفر، لأن الله استثناه من هذه الحال المدلول عليها بقوله: ﴿وقلبه مُطمئن بالإيمان﴾. فهي جملة خالية من المستثنى، والمعنى مَنْ كفر بالله فعليه غضب الله إلا مَنْ أكره في حال اطمئنان قلبه بالإيمان.
5. هل اللعان شهادة أم يمين؟:
قال الله تعالى: ﴿والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسُهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين﴾ [سورة النور: آية 6].
بينت هذه الآية أحكام حق اللعان الذي يثبت للزوج إذا رمى زوجته بالزنا، والحكم القائم عنا على القواعد النحوية هو: هل إن اللعان شهادة أم يمين؟
فذهب بعض العلماء: إلى أنها شهادة مؤكدة باليمين، فلا يلاعن إلا مَنْ كان ممن تصح منه الشهادة واليمين، وهو مذهب الحنفية([34]), وذهب آخرون: إلى أنها يمين، فيجوز أن يلاعن من صح يمينه([35]) وبه قال الشافعي.
الدليل النحوي:
احتج الفريق الأول بأن الملاعن هو الزوج، وقد سماه الله تعالى شاهداً لأنه استثناه من لفظ الشهداء، فقوله: إلا أنفسهم مستثنى من: ولم يكن لهم شهداء وهو استثناء متصل، المستثنى فيه من جنس المستثنى منه.
واحتج الفريق الثاني: بأن من قال: أشهد بكذا فإن معناه في اللغة أحلف وأقسم به([36])، ولما تعلق لفظ الجلالة بالشهادة في قوله: أربع شهادات بالله كان المراد باللعان المُعبِر عنه بالشهادة اليمين.
والراجح هو رأي الفريق الأول: لأن في تخصيص اللعان باليمين تعطيلاً لمعنى الاستثناء، أمّا في حَمْله على الشهادة: فإن فيه إعمالاً للاستثناء، فيدل على أن اللعان شهادة، وإعجالاً للجار والمجرور وهو لفظ الجلالة فيدل على اليمين، وحينئذٍ يكون المراد به، الشهادة المؤكدة باليمين، وتفسيره بهذا المعنى أولى؛ لشموله على ما يدل عليه الاستثناء، وما تدل عليه اللغة من أن معنى أشهد بكذا: أحلف وأقسم.
يتبع