بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد؛؛؛
فإن مما لا شك فيه أن المسائل الغيبية لا تثبت إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة، وذلك يعني: أنه كما أننا نحتاج إلى دليل صحيح لإثبات القول بمشاركة الشيطان للرجل في إتيانه أهله إذا لم يذكر اسم الله عز وجل، فكذلك القول بإمكانية الجماع بين الإنس والجن من عدمه؛ لا بد لإثباته والقول به من دليل صحيح تقوم به الحجة.
وليس في قول الله تبارك وتعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}(الرحمن: 56 ، 74) ما يدل على إمكانية هذا الجماع، وذلك أن المقصود من الآية إنما هو: الحور العين، وليس هو: نساء الدنيا، وكما هو معلوم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد ذكر العلامة الآلوسي –رحمه الله- في تفسيره؛ عن ضمرة بن حبيب أنه قال: "الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى: لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور.
ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا، ويعطى الجني منهن؛ لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله، وبهذا فسر البلخي الآية" (روح المعاني 27/119).
بل أقول: إن الناظر في أقوال المفسرين لقول الله تبارك وتعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}(الرحمن: 56 ، 74)، ولغيرها من الآيات التي استدلوا بها على إمكانية هذا الجماع المذكور؛ مِن مثل قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}( الإسراء:64) والمتأمل فيها؛ يجد أنهم لم يخرجوا -رحمهم الله- عما سبق ذكره من آثار ضعيفة لا تقوم بها الحجة، ولا يصلح الاستشهاد بها في إثبات مثل هذا الأمر الغيبي.
بل وتجد من المفسرين من ذهب في تفسير هذه الآية إلى أن المقصود هو: أن للجن جنيات وللإنس إنسيات كما هو قول ضمرة بن حبيب المتقدم، وهذا ما ذكره أيضا ابن كثير، والسيوطي، وغيرهما من المفسرين. (انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/250، والدر المنثور للسيوطي 14/145).
والخلاصة: أن كل هذه الأقوال مما لا دليل عليها؛ لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قول أحد من الصحابة –رضي الله عنهم أجمعين- وبالتالي:
فلا نقول بإمكانية الجماع بين الإنس والجن؛ إذ لا دليل عليه، بل ليعلم: أن من قال به؛ فإنما استدل لقوله بأحد أمرين:
الأمر الأول: آثار ضعيفة ومنكرة لا تثبت، ولا تقوم بها الحجة:
كقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقوم الساعة حتى تكثُرَ فيكُم أولاد الجن من نسائكم، ويكثر نسبُهم فيكم؛ حتى يجادلوكم بالقرآن؛ حتى يردوكم عن دينكم".
وهو منكر جدا كما ذكر الألباني –رحمه الله- (السلسلة الضعيفة- حديث رقم: 5776).
وكقوله –صلى الله عليه وسلم-: "كان أحد أبوي بلقيس جنيا".
وهو منكر كما ذكر الألباني –رحمه الله- (السلسلة الضعيفة- حديث رقم: 5778).
وهذا الأثر ضعفه العلامة الألباني –رحمه الله- مرفوعا، وصححه موقوفا على قتادة.
ثم قال: "فيقال فيه ما قلته في أثر مجاهد الذي قبله وزيادة، وهي: أن الغالب على هذا وأمثاله مما يتعلق ببلقيس أنه من الإسرائيليات، وقد أشار إلى ذلك أبو حيان في تفسيره (البحر المحيط) (7 / 67) بعد أن ذكر معنى هذا الأثر:
(وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ولا في الحديث الشريف).
وقال الماوردي: (والقول بأن أم بلقيس جنية مستنكر من العقول؛ لتباين الجنسين واختلاف الطبعين، وتفارق الحسين؛ لأن الآدمي جسماني والجن روحاني، وخلق الله الآدمي من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، ويمتنع الامتزاج مع هذا التباين، ويستحيل التناسل مع هذا الاختلاف).
حكاه القرطبي عنه (13 / 213)، ثم رده بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقال:
(العقل لا يحيله مع ما جاء من الخبر في ذلك).
قال الألباني: فأقول: نعم العقل لا يحيله، ولكنه أيضا لا يدركه؛ بل إنه يستبعده كما تقدم، فالإيمان به يتطلب نصا صحيحا صريحا، والخبر الذي أشار إليه لا يصح، وهو حديث أبي هريرة هذا.
ثم أشار إلى أثر مجاهد المخرج قبله، وقد عرفت نكارته، وإلى النص القرآني: { وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} وسبق جواب العلامة الآلوسي عنه تحت الأثر المذكور.
ثم رأيت الآلوسي قد صرح بإنكار حديث الترجمة؛ فقال بعد أن ذكره وقول أبي حيان المتقدم:
(والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة الخبر). ثم ذكر قول أبي حيان المتقدم، وزا د:
(... وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات؛ فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل؛ يصفع السائل عنه؛ لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما).
وأقول: عبارته من قوله: (يصفع ...) إلخ؛ غير سليمة؛ فإن السائل لم يذكر في السياق! فلينظر" (السلسلة الضعيفة 12/609).
وكالقول المنسوب إلى مجاهد –رحمه الله-: "إذا جامع الرجل ولم يسمِّ؛ انطوى الجان على إحليله، فجامع معه، فذلك قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ}".
وهو منكر مقطوع كما ذكر الألباني –رحمه الله- (السلسلة الضعيفة- حديث رقم: 5777).
الأمر الثاني: قصص وحكايات وروايات ممن سوى المعصوم –صلى الله عليه وسلم-، ومثل هذا كما هو معلوم ومتقرر لا تقوم به الحجة، ولا يصلح الاستشهاد به في إثبات الأمور الغيبية:
قال الإمام الألباني –رحمه الله-: "( فائدة ): ذكر الذهبي في (الميزان) من رواية الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد قال: سمعت شيخنا أبا محمد بن عبد السلام السلمي (يعني: عز الدين) يقول- وجرى ذكر ابن عربي الطائي-:
(وهو شيخ سوء شيعي كذاب. فقلت له: وكذاب أيضا؟ قال: نعم؛ تذاكرنا بدمشق التزويج بالجن، فقال ابن العربي: هذا محال؛ لأن الإنس جسم كثيف والجن روح لطيف، ولن يعلق الجسم الكثيف الروح اللطيف. ثم بعد قليل رأيته وبه شجة! فقال: تزوجت جنية فرزقت منها ثلاثة أولاد، فاتفق يوما أني أغضبتها، فضربتني بعظم حصلت منه هذه الشجة، وانصرفت، فلم أرها بعد).
وعلق الذهبي رحمه الله على تكذيب العز بن عبد السلام للشيخ ابن عربي بقوله:
(وما عندي أن محيي الدين تعمد كذبا؛ لكن أثرت فيه الخلوات والجوع فسادا وخيالا وطرف جنون).
والغرض من ذكر هذه الفائدة إنما هو تذكير القراء بأن العلماء يستنكرون أشد الاستنكار إمكانية التزاوج بين الإنس والجن؛ لاختلاف طبيعة خلقهما، حتى اتهموا من ادعى ذلك بالكذب أو بنوع من الجنون، وأحلاهما مر.
فما نسمعه في هذا الزمان من أن بعض النسوة يشعرن وهن في فراش الزوجية بالمجامعة ممن لا يرينه، إن هو إلا من وسوسة الشيطان، وتلاعبه ببني الإنسان، ويستغل ذلك بعض أولئك الذين يتعاطون مهنة استخراج الجني من الإنسي، ويرتكبون في أثناء ذلك أمورا- غير تلاوة القرآن والمعوذات- مما هو غير وارد في السنة، مثل : مكالمة الجني وسؤاله عن بعض الأمور الخفية، وعن دينهم ومذهبهم! وتصديقهم في كل ما يخبرون به! وهم من عالم الغيب، لا يمكن للإنس أن يعرفوا مؤمنهم من كافرهم، والصادق من الكاذب منهم، وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حرم إتيان الكهان وتصديقهم؛ لأنهم ممن يوالون الجن، وهؤلاء كانوا يسترقون السمع ويلقون إلى أوليائهم من الإنس ما استرقوا ويخلطون معه أكثر من مئة كذبة؛ كما في (الصحيح).
أقول : إذا كان إتيان هؤلاء محرما؛ فبالأولى أن يكون محرما إتيان أوليائهم من الإنس الذين يخاطبون الجن مباشرة ويستخدمونهم، ويقضون لهم بعض مصالحهم، ليضلوهم عن سبيل الله؛ كما كان الأمر في الجاهلية، وذلك قوله تعالى: { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (السلسلة الضعيفة 12/602).
وقال –رحمه الله-:
"ثم إن الآلوسي -رحمه الله- جاء بغريبة أخرى؛ فقال:
(ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال:
كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن، وقالوا إن هاهنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال؟! فقال: ما أرى بذلك بأسا في الدين؛ ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجكِ؟ قالت: من الجن! فيكثر الفساد في الإسلام).
ووجه الغرابة استدلاله على الإمكان المذكور بهذا الأثر عن مالك! وهو باطل -في نقدي- سندا ومتنا....
إلى أن قال: وأما المتن؛ فإني أستبعد جدا -على فقه الإمام مالك- أن يقول في تزويج الإنسية بالجني: (ما أرى بذلك بأسا في الدين)! ذلك لأن من شروط النكاح -كما هو معلوم- الكفاءة في الدين على الأقل. فلا يجوز تزويج مسلمة بكافر، بل ولا بفاسق، فمن أين لوليها وللشهود أيضا أن يعلموا أن هذا الجني كفؤ لها، وهم لا يعرفونه؟! فإنه قد ظهر لهم بصورة رجل خاطب وجميل! ولا يمكن رؤيته على حقيقته بنص القرآن الكريم.
وقد يتمثل بصورة أخرى إنسانية أو حيوانية، وحينئذٍ كيف يمكن تطبيق الأحكام المعروفة في الزوجين -كالطلاق والظهار والنفقة وغيرها- مع اختلاف طبيعة خلقهما؟! تالله! إنها من أغرب الغرائب أن يخفى مثل هذا البُطل -بل السُّخف- على العلامة الآلوسي -غفر الله لنا وله-.
وأغرب من ذلك كله قول ابن تيمية في رسالة (إيضاح الدلالة في عموم الرسالة- ص: 125- مجموعة الرسائل المنيرية):
(وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف)!!
وأقول: نعم؛ هو معروف بين بعض النسوة الضعيفات الأحلام والعقول، ولكن أين الدليل الشرعي والعقلي على التوالد أولا، وعلى التزواج الشرعي ثانيا؟! هيهات هيهات!
وقد علمت مما ذكرته تحت الحديث السابق قبل هذا إنكار العز بن عبد السلام والذهبي على ابن عربي الصوفي ادعاءه أنه تزوج جنية!! وأنه رزق منها ثلاثة أولاد!! وأنه لم يعد يراها فيما بعد!!! وانظر كلام المازري المبطل لدعوى ابن عربي فيما يأتي تحت الحديث التالي، وهو من الأحاديث التي تساعد على تصديق خرافة التزاوج بين الإنس والجن؛ كمثل أثر مجاهد هذا والحديث الذي قبله". (السلسلة الضعيفة 12/606).
وبهذا تم المقصود، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.