لَمَّا كان العلم سؤالاً وجوابًا، وكان حسنُ السؤال نصفَ العلم[3]
فحسن السؤال سببٌ في تعلُّم العلم النافع؛ لذا أمر الله به الجاهل؛ فقال: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]، وفي حديث ابن عباس قال: أصاب رجلاً جرحٌ في عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم احتلم فأُمِرَ بالاغتسالِ، فاغتسل فمات، فبلغ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قتلوه قتلهم اللهُ، ألَم يكنْ شفاءُ العِيِّ السؤالَ؟!))[4].
وقال أميَّة بن أبي الصلت:
وقد يقتل الجهلَ السؤالُ ويشتفي
إذا عاين الأمرَ المهمَّ المعاينُ
وفي البحث قِدْمًا والسؤالِ لذي العمى
شفاءٌ، وأشفى منهما ما تُعايِنُ[5]
وقال ابن شهابٍ الزهريُّ: العلم خزانةٌ ومفاتيحُها السؤالُ[6].
وقيل للأصمعي: بِمَ نلتَ ما نلت؟ قال: بكثرة سؤالي، وَتَلَقُّفِي الحكمة الشرود[7].
ودعا معاوية بن أبي سفيان دغفلاً النسابة فسأله عن العربية، وسأله عن النجوم، فإذا رجلٌ عالم فقال: يا دغفلُ، من أين حفظتَ هذا؟ قال: حفظتُ هذا بقلب عقولٍ، ولسان سؤولٍ[8].
ولما نشأ أناسٌ لا يسألون عما يجهلون، ولا يبالون بما يفعلون، وقع من البدع والشرور ما الله به عليمٌ، قال ابنُ رجبٍ: واعلم أن كثرةَ وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنما هو من ترك الاشتغالِ بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي اللهِ ورسوله، فلو أنَّ من أراد أن يعمل عملاً سأل عما شرع اللهُ في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى عنه فاجتنبَه - وقعت الحوادث مقيَّدةً بالكتاب والسنة، وإنما يعمل العاملُ بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامَّتُها مخالفةً لما شرعه الله، وربما عسُر ردُّها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنَّة؛ لبُعدها عنها[9].
واعلم أن الذي يمتنع عن السؤالِ لا يخلو من أمرين، ذكرهما مجاهد حين قال: لا يتعلم العلمَ مستحيٍ ولا مستكبرٌ[10].
وقالت عائشة: "نِعم النساءُ نساءُ الأنصار لم يمنَعْهن الحياءُ أن يتفقَّهن في الدين"[11].
وقد دخل رجلٌ على ابن المبارك وعنده أهل الحديث يسألونه، فاستحيا أن يسألَ، وجعل أهلُ الحديث يسألونه، فنظر ابن المبارَك إليه، فكتب بطاقة وألقاها إليه، فإذا فيها:
إن تلبَّستَ عن سؤالِك عبدَالله
ترجعْ غدًا بخفَّيْ حُنَيْنِ
فأعْنِتِ الشيخَ بالسؤالِ تجِدْه
سلِسًا يلتقيك بالرَّاحتينِ
وإذا لَم تَصِحْ صياحَ الثَّكالى
قمتَ عنه وأنت صفرُ اليدينِ[12]
[3] فتح الباري (1/172) كتاب العلم - باب من سُئل علمًا وهو مشتغل في حديثه.
[4] أبو داود (337) وحسنه الألباني في الجامع الصغير (7812).
[5]جامع بيان العلم وفضله (1/ 378).
[6]جامع بيان العلم وفضله (1/ 374).
[7] المصدر السابق (1/ 381)].
[8] المصدر السابق [(1/ 378)].
[9]جامع العلوم والحكم (94).
[10] البخاري تعليقًا كتاب العلم باب (50) الحياء في العلم، ووصله أبو نعيم في الحلية (3/287) ومن طريقه الحافظ في تغليق التعليق (93) وإسناده صحيح.
[11] البخاري تعليقًا كتاب العلم، ومسلم موصولاً (332) كتاب الحيض.
[12] المحدث الفاصل (ص: 361).