معمر العاني
المبحث الثاني
سبب نشوء الأضداد
إن لنشوء الأضداد أو حدوثه أسباباً وتسويغاتٍ وآراءً كثيرة يمكن الرجوع إليها في مظانها[45] وذلك تجنباً إلى تكرارها وتفادياً للإطالة والتعداد، واعتقاداً منا بأن الواقع العملي الفعلي في هذا الكتاب يكفي لبيان وقوعه، وتوضيح الكثير من أسبابه وملابساته وإدراك طبيعة نشوئه.
فأسباب نشوء الأضداد بحسب ما جاء في الكتاب نوردها في النقاط الآتية:
أ- تداخل اللهجات:
أشار ابن الأنباري إلى هذا الأمر فقال: "وقال آخرون: إذا وقع الحرف على معنيين متضادين، فمحال أن يكون العربي أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما، ولكن أحد المعنيين لحي من العرب، والمعنى الآخر لحي غيره، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء، وهؤلاء عن هؤلاء، وقالوا: الجون: الأبيض في لغة حي من العرب، والجون: الأسود في لغة حيّ آخر ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر"[46].
ومن الأمثلة التي أوردها ابن الأنباري قوله: "السُدفة حرف من الأضداد، فبنو تميم يذهبون إلى أنها الظلمة، وقيس يذهبون إلى أنها الضوء، وقال الأصمعي: يقال: أسدِف أي: تنحَّ عن الضوء، وقال غيره: أهل مكة يقولون للرجل الواقف على البيت: أسدف يا رجل، أي تنحّ عن الضوء حتى يبدو لنا، قال ابن مقبل:
وليلة قد جعلت الصبحَ موعدها بصُدرة العَنْسِ حتى تَعرفَ السُّدَفا
العنس: الناقة، ومعنى البيت: إني كلفت هذه الناقة السير إلى أن يبدو الضوء وتراه، وقال الآخر:
قد أسدَفَ الليلُ وصاحَ الحِنزابْ
أراد بأسدفَ: أضاء، والحنزاب: الديك، وقالت امرأة تذكر زوجها:
لا يرتدي مَرادِيَ الحريرِ ولا يُرى بسُدْفة الأميرِ
أي: لا يرى بقصر الأمير الأبيض الحسن، وزعم بعض الناس أن السُدفة في هذا البيت: الباب، وأن العرب تذهب بالسدفة إلى معنى الباب.
وقال ذو الرمة:
ولما رأى الرائي الثريا بسُدفةٍ ونشَّت نِطافُ المبقياتِ الوقائعِ[47]
ويروي (ونشت بقايا المبقيات)، السُّدفة في هذا البيت: الظلمة، وقال الآخر:
وأطعَنُ الليلَ إذا ما أسْدَفا[48]
وقال بعض شعراء هذيل:
وماءٍ وردتُ قُبيل الكرى وقد جنّه السَّدَفُ الأدهمُ
أراد بالسدف الظلمة، وقال إبراهيمُ بن هَرْمة:
إليك خاضتْ بنا الظلماء مُسدِفة والبيدُ تقطعُ فِنْداً بعد أفنادِ
المسدفة: الداخلة في الظلمة، والفند: الشمراخ من الجبل، وقال جدُّ جرير المعروف بالخَطَفى:
يرفعن لليل إذا ما أسدفا أعتاق جِنَّانٍ وهامًا رُجَّفا
وعَنَقًا بعد الكلالِ خطفا
ويروى خطيفا، وقال ابن السكيت: قال الفراء: يقال: أتيته بسُدفة، وشُدفة، وسَدفة، وشَدْفة، وهو السَّدَف والشَّدَف"[49].
ويبدو أن هناك عدداً من الألفاظ "تطورت صورةُ بعضاً منها حتى ماثلت البعض الآخر وهكذا رُويت لنا متحدة الصورة مختلفة المعنى"[50].
ب- العوامل النفسية والاجتماعية:
يندرج تحت هذا السبب: التفاؤل والتشاؤم، والتهكم والسخرية.... الخ.
ومثال ما جاء على سبيل التفاؤل قول ابن الأنباري:
"والسليم حرف من الأضداد، يقال: سليم للسالم، وسليم للملدوغ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن في الحي سليماً، أي: ملدوغاً، وقال الشاعر:
يُلاقي من تذكرِ آل ليلى كما يلقى السليمُ من العدادِ
العِداد: العلة التي تأخذ الإنسان في وقت معروف نحو الحُمَّى الرِّبع، والغِب، وما أشبه ذلك؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما زالت أكلة خيبر تعادّني، فهذا أوان قطعت أبهري، والأبهر: عرق معلق بالقلب إذا انقطع مات الإنسان، قال الشاعر:
وللفؤاد وجيبٌ تحت أبهره لَدْمَ الغلام وراءَ الغيب بالحجرِ
وقال الأصمعي وأبو عبيد: إنما سُمي الملدوغ سليماً على جهة التفاؤل بالسلامة، كما سميت المهلكة مفازة على جهة التفاؤل لمن دخلها بالفوز. وأخبرنا أبو العباس عن سلمة عن الفراء قال: قال بعض العرب: إنما سمي الملدوغ سليماً لأنه مُسلَمٌ لما به. قال أبو بكر: الأصل منه مُسلَم، فصرف عن مُفعل إلى فعيل كما قال الله عز وجل: "تلك آيات الكتاب الحكيم" أراد المحكم[51].
ومما جاء بسبب الاستهزاء والتهكم قول ابن الأنباري:
"ومما يشبه الأضداد أيضاً قولهم للعاقل: يا عاقل، وللجاهل إذا استهزءوا به: يا عاقل؛ يريدون: يا عاقل عند نفسك، قال عز وجل: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 48-49] معناه: عند نفسك، فأما عندنا فلست عزيزاً ولا كريماً، وكذلك قوله عز وجل فيما حكاه عن مخاطبة قوم شعيب شعيبًا بقولهم: {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أرادوا: أنت الحليم الرشيد عند نفسك، قال الشاعر:
فقلت لسيدنا يا حل يمُ إنك لم تأسُ أسْوًا رفيقا
أراد: يا حليم عند نفسك، فإنما عندي فأنت سفيه!" [52].
جـ- التغير في الوحدات الصرفية:
إن المتتبع لكتاب ابن الأنباري يستشعر أثر الاشتقاق الصرفي، والتباس الصيغ المختلفة في خلق الأضداد. ومن الأمثلة التي أوردها ابن الأنباري على التحول في الصيغ الصرفية ومن ثم حدوث الضدية قوله: "والعائذ حرف من الأضداد، يكون الفاعل: ويكون المفعول، يقال: رجل عائذ بفلان، بمعنى "فاعل" ويقال ناقة عائذ أي: حديثة النتاج وهي مفعولة؛ لأن ولدها يعوذ بها، وجمعها عُوذ، وقال أبو ذؤيب:
وإن حديثاً منك لو تبذلينه جنى النحل في ألبان عوذ مطافل
مطافيل أبكار حديث نتاجها تُشاب بماء مثل ماء المفاصل
قال الأصمعي: المفاصل: منقطع الجبل من الرملة، وفيه رضراض وحصى صغار، فالماء يرق عليه ويصفو، وقال أبو عبيدة: المفاصل: مسايل الوادي، وقال أبو عمرو: المفاصل: مفاصل العظام، وقال الآخر:
لا أُمتِع العُوذَ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل"[53]
فالفاعل أتى للفاعل والمفعول، وتأتي ألفاظ على فعول تنصرف للفاعل والمفعول.
ومنه قول ابن الأنباري: "والرغوث مثله؛ يقال: رغوث للتي يرغثها ولدها، فيكون للمفعول، ويقال: رغوث للولد الذي يرغثها، فيكون للفاعل"[54].
ويأتي فعيل على فاعل ومفعول، قال ابن الأنباري: "والقنيص حرف من الأضداد؛ يقال القنيص: للقانص، ويقال: للمفعول أيضاً: قنيص، ويكون القنيص بمعنى الفعل والمصدر، قال الشاعر:
تَقنِصُك الخيلُ وتصطادُك الط يرُ ولا تُنكَعُ لهوَ القنيصْ
معنى تنكع: تُخلّى والقنيص، وتُمتَّع بلهوه"[55].
ويأتي مُتفعل على فاعل ومفعول، قال ابن الأنباري: "والمتظلم حرف من الأضداد، يقال للرجل الظالم: متظلم وللمظلوم متظلم، قال نايفة بني جعدة:
وما يشعرُ الرمحُ الأصم كعوبُه بثورة رهط الأبلخِ المتظلمِ
الأبلخ: المتكبر، والمتظلم: الظالم. وقال المخبل:
وإنا لنُعطي النَّصف من لو نَضِيمه أقرَّ ونأبى نخوةَ المتظلمِ
ويقال: قد تظلم الرجل إذا ظلم، وطلب النصرة، وقد تظلم إذا ظلم، قال الشاعر:
تظلَّمني مالي خديجٌ وعقَّنى على حين كانت كالحَنِيِّ ضُلُوعي
وقال الآخر:
تظلمني مالي كذا ولوَى يدي لوى يدَه اللهُ الذي هو غالِبُهْ
أراد: ظلمني"[56].
ويبدو أن (تمام حسان) لم يجانب الصواب عندما أقر بأن المبنى الصرفي صالح لأن يعبِّر عن أكثر من معنى واحد ما دام غيرَ متحقق بعلامةٍ ما في سياق ما، فإذا تحقق المعنى بعلامة أصبح نصاً في معنى واحد بحسب القرائن اللفظية والمعنوية والحالية على السواء[57].
د- المجاز:
لا يخفى على كل ذي بصيرة في اللغة أثر المجاز في ازدياد مفردات اللغة ومعانيها، وهو مظهر من مظاهر التطور الدلالي فيها، والعربية لغة التوسع المجازي، "وباب المجاز مفتوح على مصراعيه، كما يقول أحد الباحثين العرب[58]، "والمجاز القديم مصيره إلى الحقيقة"[59].
وأقر ابن الأنباري أن المجاز سبب في حدوث ضدية عدد من الألفاظ من خلال ما عرضه من مواد لغوية في كتابه، ويرى آل ياسين أن قول ابن الأنباري: "ومما يشبه الأضداد" قصد به المجاز وإن لم يصرح بذلك[60]، ونقل الباحث أيوب سالم رأي آل ياسين في رسالته الأضداد في اللغة العربية ونسبه إلى نفسه من غير أن يشير إلى صاحب الرأي.
ومن الأمثلة على أثر المجاز قول ابن الأنباري: "ومن الحروف أيضاً الظعينة: المرأة في الهودج، والظعينة: الهودج، وقد يقال للمرأة وهي في بيتها: ظعينة، والأصل ذاك، وقال ابن السكيت: يقال: بعير ظَعُون إذا كان يحمل الظعائن، قال زهير:
تبصَّرْ خليلي هل ترَى من ظعائنٍ تحمّلنَ بالعلياءِ من فوقِ جُرثُمِ[61]
وأنشدنا أبو العباس:
إنَّ الظعائنَ يوم حزمِ سُوَيقةٍ أبكينَ عندَ فراقهنَّ عُيونا
وقال أبو عكرمة الضبي: قال بعض أهل اللغة: لا يقال للمرأة ظعينة حتى تكون في هودج على جمل، فإن لم يجتمع لها هذا الأمران لم يقل لها ظعينة"[62].
ويرى عدد من اللغويين أن مثل هذه اللفظة قد تطورت دلالتها إلى مجال آخر لعلاقة مكانية أو سببية بين مدلولين فكانت من الأضداد[63].
ولم يقتصر المجاز على قول ابن الأنباري: "ومما يشبه الأضداد" كما ذكر آل ياسين، وإنما يتعدى إلى ألفاظ أخرى لم يصرح بها، ونجد دلالتها في كلامه[64].
هـ- القلب والإبدال:
قال ابن الأنباري: "و(صار) حرف من الأضداد. يقال: صرتُ الشيءَ إذا جمعته، وصرته إذا قطعته وفرقته، وفسر الناس قول الله عز وجل: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] على ضربين؛ فقال ابن عباس: معناه: قطعهن، وقال غيره: معناه: ضمهن إليك، فالذين قالوا معناه قطعهن قالوا: "إلى" مقدمة في المعنى، والتأويل: فخذ أربعة من الطير إليك، فصرهن أي: قطعهنَّ، وقال الفراء: بنو سليم يقولون: فصرهن، وقال: أنشدني الكسائي عن بعض بني سليم:
وفرعٍ يَصيرُ الجيدَ وَحْفٍ كأنه على اللِّيتِ قِنوانُ الكُرومِ الدوالحِ
أراد يضم الجيد.
قال أبو بكر: واستضعف الفراء مذهب من قال: صرهن قطعن، وقال: لا نعرف صار بمعنى قطع إلا أن يكون الأصل فيه صرى فقدمت الراء إلى موضع العين وأخرت العين إلى موضع اللام، كما قالوا: عاث في الأرض وعثا، وقاع على الناقة وقعا"[65].
و- دلالة الفعل على السلب والإيجاب:
عرض ابن الأنباري ذلك في صيغة الفعل: (أخفى) فقال: "وأخفيت حرف من الأضداد، يقال: أخفيت الشيء إذا سترته، وأخفيته إذا أظهرته، قال الله عز وجل: {إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] فمعناه: أكاد أسترها، وفي قراءة أبي: "أكاد أخفيها من نفسي فكيف أطلعكم عليها"... ويقال: معنى الآية: إن الساعة آتية أكاد أظهرها، ويقال: خفيت الشيء إذا أظهرته ولا يقع هذا –أعني الذي لا ألف فيه- على الستر والتغطية، قال الفراء: حدثنا الكسائي عن محمد بن سهل عن وقاء عن سعيد بن جبير أنه قرأ "أكاد أخفيها" فمعنى أخفيها أظهرها، وقال عبيدة بن الطيب ...:
يَخْفِي التراب بأظلاف ثمانية في أربعٍ مسُّهن الأرضَ تحليلُ
أراد يظهر التراب.." [66].
ز- دلالة الألفاظ على المفرد والجمع:
قال ابن الأنباري: "و(ضِعْف) حرف من الأضداد عند بعض أهل اللغة، يكون ضعف الشيء مثله، ويكون مثليه، قال الله عز وجل: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. قال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة: معناه: يجعل العذاب ثلاثة أعذبة. قال: وضعف: الشيء مثله، وضعفاه: مثلاه. وقال أبو عبد الله هشام بن معاوية: إذا قال الرجل: إن أعطيتني درهماً فلك ضعفاه معناه: فلك مثلاه، قال: والعرب لا تفرد واحدهما، إنما تتكلم بها بالتثنية، وقال غير هشام وأبي عبيدة: يقع الضعف على المثلين. وقال أبو بكر: وفي كلام الفراء دلالة على هذا"[67].
وبعد ذكر أسباب حدوث الأضداد كما وجدتها ظاهرة في كتاب ابن الأنباري لا بد من الإشارة إلى أمرين:
أحدهما: أن الكثير من آراء العلماء التي تشتمل على أسباب حدوث الأضداد إنما ساقوها بالاعتماد على أضداد ابن الأنباري.
الآخر: هناك تباين في آراء العلماء حول سبب حدوث الأضداد في لفظة الجون مثلاً، فبعضهم يرجعها إلى تداخل اللهجات، وابن فارس يردها إلى أصل الوضع اللغوي، في حين يردها علي عبد الواحد وافي إلى الاقتراض من اللغات الأخرى، ويرى إبراهيم أنيس: أن هذه المادة قد حدث فيها مخالفة صوتية أدت إلى الأضداد[68].
وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها: أن هناك عدداً من الألفاظ لم تصل فيها آراء العلماء إلى أحكام دقيقة، لذا ينبغي الوقف عليها من جديد من خلال البحث والتدقيق للخروج بنتائج حاسمة.
2- أنواع الأضداد في الكتاب:
أورد ابن الأنباري عدداً من أنواع الأضداد لا نكاد نجدها مرتبة ترتيباً معيناً، وإنما كانت موزعة على الكتاب كله، وسأورد ما تتبعته في النقاط التالية:
1- الأضداد في الأسماء:
قال قطرب: "الحرفة من الأضداد، يقال: قد أحرف الرجل إحرافاً، إذا نما ماله وكثر، والاسم الحرفة من هذا المعنى. قال: والحرفة عند الناس: الفقر، وقلة الكسب، وليست من كلام العرب إنما تقولها العامة"[69].
2- الأضداد في الأفعال:
"وأسررت من الأضداد أيضاً، يكون أسررت بمعنى: كتمت وهو الغالب على الحرف، ويكون بمعنى أظهرت، قال الله عز وجل: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] فمعنى أسروا هنا: كتموا، وقال تبارك وتعالى في غير هذا الموضوع: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54]، فقال الفراء والمفسرون: معناه: وأظهروا الندامة عند معاينة العذاب، واحتجا بقول الفرزدق:
ولما رأى الحجاج جرّد سيفه أسرّ الحروري الذي كان أضمرا[70]
معناه: أظهر الحروري"[71].
3- الأضداد في الحروف:
"و(أو) حرف من الأضداد، تكون بمعنى الشك في قولهم: يقوم هذا أو هذا، أي: يقوم أحدهما، وتكون معطوفة في الشيء المعلوم الذي لا شك فيه كقول جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربَّه موسى على قدر[72]
أراد: وكانت، وقال توبة بن الحُمير:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
أراد: وعليها،..... وتكون: أو بمعنى التخيير كقولك للرجل، جالس الفقهاء أو النحويين، فمعناه: إن جالست الفريقين فأنت مصيب أيضاً، وتكون أو بمعنى بل كقوله عز وجلّ: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، فمعناه: بل يزيدون...." [73].
4- الأضداد في المصادر:
"ومن الأضداد التفطر، التفطر: أن لا يخرج من لبن الناقة شيء، والتفطر: الحلب، والتفطر: الانشقاق، قال الله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]" [74].
5- الأضداد في المشتقات:
"والسارب أيضاً من الأضداد، يكون السارب: المتواري من قولهم: قد انسرب الرجل، إذا غاب وتوارى عنك، فكأنه دخل سرباً، والسارب: الظاهر، قال الله عز وجل: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، ففي المستخفي قولان: يقال هو المتواري في بيته، ويقال هو الظاهر، وفي تفسير السارب قولان أيضاً؛ يقال: هو المتواري، ويقال: هو الظاهر البارز، قال قيس بن الخطيم:
أنَّى سربتِ وكنتِ غيرَ سروبِ وتُقرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
ويروي: أنى اهتديت، أراد: أي ظهرت وكنت غير ظاهرة، وقد يفسر على المعنى الآخر، ومن قال: السارب: الظاهر، قال: سرب الرجل يسرب سرباً: إذا ظهر"[75].
6- الأضداد في الضمائر:
لم يرد في أضداد ابن الأنباري إلا الضمير (نحن)، قال: "ومما يشبه حروف الأضداد (نحن)، يقع على الواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث؛ فيقول الواحد: نحن فعلنا، وكذلك يقول الاثنان والجميع والمؤنث، والأصل في هذا أن يقول الرئيس الذي له أتباع يغضبون بغضبه ويرضون برضاه، ويقتدون بأفعاله: أمرنا ونهينا وغضبنا ورضينا؛ لعلمه بأنه إذا فعل شيئاً فعله تُبّاعه، ولهذه العلة قال الله جل ذكره: أرسلنا، وخلقنا، ورزقنا، ثم كثر استعمال العرب لهذا الجمع حتى صار الواحد من عامة الناس يقول وحده: قمنا، وقعدنا، والأصل ذلك..." [76].
7- الأضداد في الظروف:
أورد ابن الأنباري ثلاثة من الظروف هي دون، فوق، وراء. قال ابن الأنباري: "وراء من الأضداد، ويقال للرجل: وراءك، أي خلفك، ووراءك أي: أمام؛ قال الله –عز وجل–: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] فمعناه من أمامهم، وقال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] فمعناه: وكان أمامهم، وقال الشاعر:
ليس على طول الحياة ندمْ ومن وراء المرء ما يُعلمْ
أي: من أمامه، وقال الآخر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
أي قدامي..."[77].
8- الأضداد في الأصوات:
"ومن الأضداد أيضاً قولهم: طرطبت بضأنك طرطبةً، وهي بالشفتين إذا دعوتها إليك، وطرطبت بها طرطبة: إذا زجرتها عنك"[78].
9- الأضداد في الأعلام:
"ومنها أيضاً يعقوب، يكون عربياً لأن العرب تسمي ذكر الحجل يعقوباً، ويجمعونه يعاقيب، قال سلامة بن جندل:
أودى الشباب حميداً ذو التعاجيب أودى وذلك شاو غير مطلوب
ولى حثيثاً وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه ركض اليعاقيب"[79]
10- الأضداد في الألوان:
"ومما يشبه حروف الأَضداد (الأحمر)، يقال: أحمر للأحمر، ويقال: رجل أحمر، إذا كان أبيض، قال أبو عمرو بن العلاء (154هـ): أكثر ما تقول العرب في الناس: أسود وأحمر، قال: وهو أكثر من قولهم: أسود وأبيض، وأنشد ابن السكيت لأوس بن حجر:
وأحمر جعدا عليه النسور وفي ضبنه ثعلب منكسر
وفي صدره مثل جيب القنا ة تشهق حيناً وحيناً تهر
قوله: في ضبنه معناه: وفي إبطه، والثعلب: ما دخل من طرف الرمح في جُبَّة السنان، وقوله: تشهق حيناً: شهيق الطعنة: أن تدخل الريح فيها فتصوت، وتهرُّ معناه: تُقبقب".
11- الأضداد في التراكيب:
"وقال قطرب: من الأضداد قولهم: قد ثللت عرشه، إذا هدمته وأفسدته، وأثللت عرشه، إذا أصلحته، قال أبو بكر: ليس عندي كما قال قطرب، إذ كان ثللت يخالف لفظ أثللت فلا يجوز أن يُعد في الأضداد حرف لا يقع إلا على معنى واحد، والمعروف عند أهل اللغة ثللتُ عرشه: أهلكته، يقال: قد ثُل عرش فلان، وثلَّ عرشه، وأثلَّ الله عرشه، إذا أهلكته، والثلل: هو الهلاك، قال زهير:
تداركتما الأحلاف إذ ثُلَّ عرشها وذبيان إذ زلت بأقدامها النَّعل"
3- منهجية ابن الأنباري في الأضداد:
يعدُّ كتاب ابن الأنباري مرحلة متقدمة من مراحل التأليف اللغوي في هذا الباب، إذ تأثر بمحاولات من سبقه كالأصمعي وابن السكيت وزاد عليها أضداداً عدة، بحسب معرفته ومبلغ علمه، كما زاد عليها من الحجج والشواهد الكثير، مما جعله موسوعة ضخمة في هذا المجال.
وعندما تتبعت مواد الكتاب وجدت فيها الكثير من الملحوظات على منهجيته اشتملت على طريقة ترتيبه للمواد وشروحه واستطراداته، ولا يمكن أن نحصر هذه الملحوظات في مبحث صغير كهذا، إلا أنني سأورد ذلك بإيجاز أرجو أن يكون غير مخل، وذلك في النقاط الآتية:
أ- منهجيته في ترتيب الألفاظ:
لم يلتزم ابن الأنباري بترتيب معين في كتابه كما جرت العادة في ترتيب المعاجم العربية، فسار على منهج سابقيه من مؤلفي الأضداد، فقد بدأ على غير ضابط معين في ترتيب مواده، فالمادة الأولى هي: كلمة ظن، قال ابن الأنباري: "فأول ذلك الظن، يقع على معانٍ أربعة: معنيان متضادان: أحدهما: الشك، والآخر: اليقين الذي لا شك فيه..."[80].
وقد طال الحديث عنها في صفحات عدة، في حين نجد أن الحروف التي تسبق الظاء قد جعلها في نهاية كتابه. ولم يلتزم ابن الأنباري بترتيب الأسماء متتالية، أو الحروف متتالية، أو الأفعال، وإنما كان يقدم ويؤخر كيفما شاء، إلا أننا نجد بين الحين والآخر ترتيباً في الأفعال أو الحروف التي يوردها، فقد بدأ في المادة الثانية بأفعال الشك واليقين أو الناصبة لمفعولين، "قال بعض أهل اللغة: رجوت حرف من الأضداد يكون بمعنى الشك والطمع، ويكون بمعنى اليقين"[81].
ونراه يورد أضداد الألوان مرتبة في وسط كتابه، قال: "ومنها أيضاً: الأخضر، يقال: أخضر للأخضر، وأخضر للأسود..." [82].
ويورد ابن الأنباري أضداد الأعلام مرتبة في نهاية كتابه، قال: "ومنها أيضاً إسحاق، يكون أعجمياً مجهول الاشتقاق... ويكون عربياً من أسحقه الله إسحاقاً.." [83].
ومن منهجيته في الترتيب ما يأتي:
- يأتي بالألفاظ المتقاربة المعنى كما في شرى وباع[84].
- يأتي بأن المصدرية والفعل المضارع في ثلاثة مواضع متتالية[85].
- يأتي بالتراكيب اللفظية متتالية[86].
- يأتي بوصف للمؤنث ويتبعه بوصف للمذكر[87].
يتبع