لــــ د. ترحيب الدوسري في رسالته توصل إلى أن قول الصحابي حجه
إذا لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا ؟
قال في رسالته :
فهذا هو موطن النـزاع .
والذي عليه العلماء السابقون و الأئمة المتبوعون أبوحنيفة ومالك والشافعي وأحمد – رحمهم الله تعالى – و جمهور أصحابهم أنه حجة .
قال أبوحنيفة – رحمه الله - : إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته ، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات عن الثقات ، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم ، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب … فلي أن أجتهد كما اجتهدوا . انتهى
وقال– أيضاً - :- ( ما بلغني عن صحابي أنه أفتى به فأقلده ولا أستجيز خلافه ) .
وقال– أيضاً- :- ( عليك بالأثر وطريقة السلف ، وإياك وكل محدثة ؛ فإنها بدعة ) .
بل قال فيمن هو دونهم :- ( من كان من أئمة التابعين وأفتى في زمن الصحابة وزاحمهم في الفتوى و سوغوا له الاجتهاد ، فأنا أقلده ، مثل شريح ، و الحسن ، ومسروق بن الأجدع ، وعلقمة )
وعن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة يقول : إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الثقات أخذنا به ، فإذا جاء عن أصحابه لم نخرج عن أقاويلهم ، فإذا جاء عن التابعين زاحمتهم .
قال محمد بن حمدان بن الصباح:- ( ... وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه ، و إن كان عن الصحابة والتابعين ، وإلا قاس وأحسن القياس ) .
وقال الحسن بن صالح: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه .
و قد اتضح تمسكه بهذا الأصل في تطبيقاته الفقهية حيث قال: من رغب عن سيرة علي رضي الله عنه في أهل القبلة فقد خاب وخسر .
وقال– أيضاً – : ما ملكت أكثر من أربعة آلاف درهم منذ أكثر من أربعين سنة إلا أخرجته ، وإنما أمسكها لقول علي رضي الله عنه : ( أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ؛ ولولا أني أخاف أن ألجأ إلى هؤلاء ما تركت منها درهماً واحداً )
قال نعيم بن حماد ثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول:- إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين . وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم . وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم .
وأما جمهور الحنفية فهم على قول إمامهم .
وأما الإمام مالك –رحمه الله - فتصرفه في "موطئه " دليل على أنه يرى أن قول الصحابي حجة
قال الشاطبي –رحمه الله – في الموافقات :- ( ولما بالغ مالك في هذا المعنى –أي اتخاذ الصحابة قدوة وسيرتهم قبلة – بالنسبة إلى الصحابة أو من اهتدى بهديهم واستن بسنتهم جعله الله تعالى قدوة لغيره في ذلك ، فقد كان المعاصرون لمالك يتبعون آثاره ويقتدون بأفعاله ، ببركة اتباعه لمن أثنى الله ورسوله عليهم وجعلهم قدوة ) .
قال العلامة الفقيه حسن بن محمد المشاط المالكي في كتابه ( الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة ) : وهذا هو المشهور عن مالك .
وأما الإمام الشافعي –رحمه الله – فمنصوص قوله قديماً وحديثاً هو أن قول الصحابي حجة
فقد قال رحمه الله في كتابه الأم–و هو من الكتب الجديدة -:-ما كان الكتاب أو السنة موجودين ، فالعذر على من سمعهما مقطوع إلا بإتباعهما . فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو واحد منهم . ثم كان قول الأئمة :- أبي بكر أو عمر أو عثمان - رضي الله عنهم - إذا صرنا فيه إلى التقليد ، أحب إلينا ، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة ، فنتبع القول الذي معه الدلالة ؛ لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزمه الناس ، ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر ، وقد يأخذ بفتياه ويدعها ، وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ، ولا يعتني العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام ، وقد وجدنا الأئمة ينتدبون، فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا و أن يقولوا فيه ، ويقولون ، فيخبرون بخلاف قولهم ، فيقبلون من المخبر ، ولا يستنكفون عن أن يرجعوا لتقواهم الله ، وفضلهم في حالاتهم ، فإذا لم يوجد عن الأئمة ، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الأمانة ، أخذنا بقولهم ، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم .
ثم قال :- والعلم طبقات .
الأولى :- الكتاب والسنة ، إذا ثبتت السنة .
الثانية :- الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة
الثالثة :- أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا نعلم له مخالفاً منهم .
الرابعة :- اختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم .
الخامسة :- القياس على بعض هذه الطبقات ) انتهى كلامه
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :- ( هذا كله كلامه في الجديد .
ثم قال : قال البيهقي- بعد أن ذكر الكلام السابق ، وفي الرسالة القديمة للشافعي بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم - قال :- وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ أمر استدرك فيه علم أو استنبط وآراؤهم لنا أجمل و أولى بنا من رأينا ومن أدركنا ممن نرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا . وكذا نقول ولم نخرج من أقوالهم كلهم .
قال البيهقى:- وقال في موضع آخر :- فإن لم يكن على القول دلالة من كتابٍ ولا سنةٍ كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أحب إليّ أن أقول به ؛ من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم ، وحكام ....فإن اختلفوا صرنا إلى القول الذي عليه دلالة وقلّ ما يخلو اختلافهم من ذلك . وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر. فإن تكافؤا نظرنا إلى أحسن أقاويلهم مخرجاً عندنا . وإن وجدنا للمفتين في زماننا أو قبله اجتماعاً في شيء لا يختلفون فيه تبعناه . وكان أحد طرق الأخبار الأربعة ، وهي كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ثم القول لبعض أصحابه ،ثم اجتماع الفقهاء.
فإذا نزلت نازلةٌ لم نجد فيها واحدةً من هذه الأمور فليس في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي.فهذا كلام الشافعي رحمه الله ورضي عنه بنصه).
قال ابن القيم–رحمه الله - :- ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع عنه بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له .
و قال– أيضاً -:- ( أما القديم فأصحابه مقرون به وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة .
وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جداً ؛ فإنه لا يحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة وغاية ما يتعلق به من نقل ذلك أنه يحكي أقوالاً للصحابة في الجديد ثم يخالفها ؛ ولو كانت عنده حجة لم يخالفها .
وهذا تعلق ضعيف جداً ؛ فإن مخالفة المجتهد الدليل المعين لما هو أقوى في نظره منه لا يدل على أنه لا يراه دليلا من حيث الجملة . بل خالف دليلاً لدليلٍ أرجح عنده منه .
وقد تعلق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقاً لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص بل يعضدها بضروب من الأقيسة فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر.
وهذا - أيضاً - تعلق أضعف من الذي قبله . فإن تظاهر الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديماً وحديثاً ولا يدل ذكرهم دليلاً ثانياً وثالثاً على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل ). انتهى كلامه رحمه الله .
قال الربيع بن سليمان:- ( قال الشافعي : لا يكون أن تقول إلا عن أصل ، أو قياس على أصل .
والأصل : كتاب أو سنة ، أو قول بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الناس ) .
قال يونس بن عبدالأعلى:- ( قال لي محمد بن إدريس الشافعي : لا يقال للأصل : لم ولا كيف ).
وقد أطلت النقل عن الإمام الشافعي في تقرير مذهبه لأني قد رأيت جلّ من كتب في علم أصول الفقه ينسب إليه قولاً جديداً وهو عدم قوله بحجية قول الصحابي بناء على بعض تخريجات بعض المنتسبين إلى مذهبه أخذاً من تصرفات الإمام نفسه مع بعض الأدلة .
ولأن نسبة القول إلى أحد الأئمة – لا سيما وقد اشتهر عنه ما يخالفه صريحاً من قوله - قضية هي في غاية الخطورة ، مع ما تورثه من كثرة في الأخذ والرد في تصحيح أو تزييف ما نسب إليه
وأما كون الإمام أحمد - رحمه الله تعالى – من القائلين بحجية قول الصحابي فهذا القول أشهر من علم في رأسه نار ؛ ذلك أنه – رحمه الله – قد جعل الاعتماد على قول الصحابي هو الأصل الثاني من أصول مذهبه. بل إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل.
قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في مسائله:- قلت لأبي عبدالله : حديث عن رسول الله مرسل برجال ثبت أحبُّ إليك ، أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت ؟
قال أبو عبدالله – رحمه الله - : ( عن الصحابة أعجب إليّ ) .
ومما يدل على احتجاجه بقول الصحابة –رضي الله عنهم – قوله في كتابه ( السنة ) :- ( بل حبهم سنة ، والدعاء لهم قربة ، والاقتداء بهم وسيلة ، والأخذ بآثارهم فضيلة ).
وقال عبدوس بن مالك العطار:- سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل -رضي الله عنه-يقول : ( أصول السنة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم ، وترك البدع ، وكل بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصومات ، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين …..)
قال ابن القيم-رحمه الله-:- وأئمة الإسلام كلهم على قبول قول الصحابي.
بإختصار : والراجح أنه حجة وهو قول الإمام أحمد، ونُسب لمالك وهو مذهب الشافعي في القديم، وإن كان الشافعية يقولون: إن مذهب الإمام الشافعي الجديد: إنه لا يحتج بقول الصحابة.
لا، ابن القيم -رحمه الله- يقول: حتى مذهب الشافعي في الجديد: أنه يحتج بقول الصحابي. وإنما توهم ذلك توهما أن الشافعي -رحمه الله- لا يحتج بقول الصحابي، لما رأوه إذا ذكر قول الصحابة عضده بأقيسة، فظنوا لما عضده بأقيسة أنه لا يحتج، هذا ما يلزم، يعني لا يلزم من كون المجتهد مثلا يأتي بأدلة أخرى مثلا، أن الدليل الذي أورده مثلا لا يعتبر دليلا، لا، بل من الزيادة في الاستدلال.
والله أعلم