محاضرات منتدى تراث الرمضاني الثالث
3 - الأسرة ودورها في التحصين القيمي للأبناء




قضية تزكية النفوس بالقيم والأخلاق تعد ركيزة من ركائز الإسلام الأساسية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، وجاءت أحاديث كثيرة جدا تتكلم عن باب الأخلاق، وأن المسلم عليه أن يهتم بهذا الجانب، وأنه من الأمور التي يحصل بها الأجور والحسنات وتكفر الذنوب والسيئات وترفع في الدرجات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وإِنَّ اللَّه يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيَّء»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا». والأحاديث التي تدعو إلى هذا الأمر كثيرة، ما بين ذكر الفضائل والوصية بها، وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاك الرجل الذي طلب الوصية قائلا: أوصني يا رسول الله، قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن في هذه الوصية العظيمة أن الأخلاق جزء عظيم من رسالة الإسلام، فضلا عن أنها جزء كبير من أعمال المسلمين.
ما يميز أهل الإسلام
وإن ما يميز أهل الإسلام عن غيرهم هو التخلق بالأخلاق الكريمة، والتزامهم بهذه الأخلاقيات والقيم منهج حياة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد مدحه الله -جل وعلا- بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
رسالة مهمة
فمن خلال هذه النصوص نفهم أن لدينا رسالة مهمة، وأنّ علينا واجبا كبيرا تجاه أنفسنا من جهة، ثم واجبا علينا تجاه الآخرين، والآخرون هم من قال الله -عزوجل- فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6)، يقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: «علّموهم وأدّبوهم»؛ فالتعليم والتأديب يعد من المهام العظيمة التي أوكل الله بها أولياء الأمور في الأسرة، الزوج والزوجة، الأب والأم، هم الرأس في هذا البيت وهذه المملكة، ولهم دور كبير في قضية بناء القيم والأخلاق بالنسبة لأبنائهم.
كل مولود يولد على الفطرة
ولقد أعطى الله -سبحانه وتعالى- الإنسان القدرة على التأثير في الآخرين، ولا سيما في مرحلة البناء الإنساني، سواء الجسدي أم العقلي، ودور الوالدين في هذه القضية دور كبير، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه»، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين بأن الأصل أن الإنسان يخرج إلى هذه الحياة على فطرة التوحيد، ما الذي يجعل هذه الفطرة تنتكس ولا تنمو؟ هو قيام الوالدين بتنشئة الأبناء النشأة التي يريدانها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بشّر بمن يُرزق بالبنات فيقوم بتربيتهن ورعايتهن ويُحسن إليهن حتى يتوفاه الله أو يتوفاهن الله، بشّره بأن يكن له حاجزا من النار، قال بعض الصحابة: واثنتين يا رسول الله؟ قال: واثنتين، قيل: وواحدة؟ قال: وواحدة.
خير للإنسان في الدنيا وفي الآخرة
فدور التربية يكون خيرا للإنسان، يراه في الدنيا برا وإحسانا، وفي الآخرة يكون بالأجور وتكفير الذنوب ورفع الدرجات، ويكون حاجزا بين العبد وبين النار، بل سيُنادى الوالدان يوم القيامة ويُعطون درجة عالية في الجنة فيسألان الله -عز وجل-: من أين لنا هذه الدرجة؟ يجيب الله -عز وجل-: بدعاء ولدك الصالح لك، وينشأ ناشئ الفتيان منا، على ما كان عوّده أبوه، فالعادة التي يعتاد عليها الأبناء هي غرس الوالدين.
الأسلوب النبوي
ما الأسلوب النبوي الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يتعامل به مع الناشئة؟
أولا: التعامل بالثقة
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع الناشئة بالثقة، أن تكون هناك ثقة متولدة ما بين هذا الابن وما بين الوالدين، وإعطائه الإحساس بالمسؤولية، وهذه من أهم الأمور التي تغرسها في أبنائك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان النموذج العالي في تربية الأمة عموما وتربية الأبناء على وجه الخصوص، ومن ذلك ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الأرقم بن أبي الأرقم الذي كانت داره في مكة المكرمة هي مكان الالتقاء بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الصحابة، قيل: إن الأرقم كان عمره في ذلك الوقت أقل من عشرين سنة، وهذا فيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُربي أتباعه على قضية الإحساس بالمسؤولية.
وكذلك أن يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام في جيش وهو أميرهم وكان عمره قرابة العشرين عاما، هذه قمة بناء الثقة في الأبناء، وهناك من الأعمال الكثيرة جدا قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بغرس المبادئ والقيم النظرية في داخل قلب هذا الناشئ، ثم بعد ذلك يُدخله النبي - صلى الله عليه وسلم - في الواقع العملي معه، ثم بعد ذلك يعطيه الفرصة لكي يطبق ما سمع وقرأ وما رآه من تطبيق عملي.
رجل يحبه الله ورسوله
وأيضا عندما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - الراية لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في غزوة خيبر، «لأعطين الراية لرجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله»، هذا شيء كبير في قضية بناء الثقة في نفوس الأبناء، وهذه قيمة كبيرة أن تؤسس ابنك على تحمل المسؤولية وأن تعطيه الفرصة لكي يبرز هذا الشيء فيه، لا تقل عندي حنان زائد وأخاف على أبنائي من الخطأ، ثم تقوم أنت بالأعمال عنهم؛ فماذا لو انشغلت عنهم يوما وانشغلت أمهم كذلك فمن سيقوم بمهامهم عندها؟ وأعرف بعض الناس حتى في التدريس يقوم الأب والأم بحل الواجبات عن أبنائهم! بهذا تكون قد قتلت الإبداع الذي فيه، وقدرة التحليل التي بداخله، ولم تعطه المجال ليجيب حتى لو أخطأ ثم يعرف أخطاءه. وبعض الناس قد قتل ابنه اجتماعيا ولم يجعل له قيمة، وأصبح عنده تبعية وصار إمّعة للآخرين؛ بسبب عدم تربيته على مثل هذه التربية التي ربى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه.
ثانيًا: احترام حقوق الأبناء
كذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحترم حقوق الأبناء، وهذه قيمة أن يكون لك رأي وعندك فرصة للتعبير، وأن تتكلم وتأخذ حقوقك كاملة، ولا نستطيع أن نتعدى على حقوقك إلا بعد إذنك، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في مجلس واستقى ماءً، فلما شرب كان عن يمينه عبدالله بن عباس وكان غلاما، وكان عن شماله ناس من أشياخ بدر ومنهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فلما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - التفت إلى الغلام وقال: هل تأذن أن أعطيه لأبي بكر؟ فقال هذا الغلام: لا، لا أؤثر بنصيبي فيك أحدا يا رسول الله. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - احترم رأيه، واحترم حقه وأعطاه الإناء فشرب منه قبل أبي بكر وغيره من الصحابة، وهذا فيه تطبيق عملي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام الصحابة كبارهم وصغارهم. فيجب علينا أن نحترم حق الأبناء ولا نتعدى عليهم، إذًا لابد علينا أن نقوم بهذا الأمر ونحن نبني جوانب الشخصية.
إتاحة الفرصة لأبنائنا للتعبير عن ذاتهم هذا شيء رائع، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان في مجلس ويسأل سؤالا للجميع كبارا وصغارا، ويحاول الجميع أن يجد الجواب الصحيح من خلال ما سمع من سؤال، مثل المؤمن كمثل شجرة لا تتساقط أوراقها وتؤتي أكلها كل حين، فضرب الناس بشجر البوادي، عبدالله بن عمر لما رجع إلى البيت بعدما أجاب النبي عن السؤال وقال: هي النخلة، قال عبدالله بن عمر: والله يا أبي لقد وقع في نفسي أنها النخلة. قال عمر -رضي الله عنه-: والله لو قلت لكان أحب إليّ من كذا وكذا، فلم ينهره بل شجّعه على ذلك، وحثه على المشاركة في المرات القادمة. وهذا فيه التقدير للذات والتعبير عن النفس.

د. خالد سلطان السلطان