تأمين المستقبل


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
حينما يبدأ ربُّ الأسرة مشروعَ تكوينِ أسرته وتنشئتها لا بد أن يكون مع ذلك همُّ تأمينِ مستقبلهم المعيشي، وهذا عين العقل، لكن ما يقع فيه الأغلب اعتماده على طرقٍ وآليات لا تفي ببناء هذا المستقبل غير المعروف، وهذا أمر بدهيٌّ - أن المستقبل غير معروف - بل كل ما نفعل إزاءه من تخطيط وأحلام تحت مشيئة الله، وكلُّ هذا معلومٌ عند المسلمين! وإذا كان ذلك معلومًا فأين أثر ذلك في عملنا في تأمين مستقبل أُسَرِنا؟

نتفق على أهمية هذا المشروع - تأمين المستقبل - ولكن غالب الطرق التي يُبنى بها هذا المشروع لا تكفُل مستقبلًا آمنًا! فضلًا عن إذا كنا مطالبين بكفالة المستقبل (المعيشي)!

تأمل ماذا قال إبراهيم عليه السلام تجاه هذا الأمر: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

هذا أحد أعظم عناصر تأمين المستقبل، هو صدقُ اللجوء إلى الله، وعظيمُ التوكُّل عليه في حفظهم وإعانتهم ورزقهم.

ودونك هذه الآية، يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] هلَّا وجدت عنصرًا في تأمين مستقبلهم ومستقبلك، غير أنك تأمرهم بالصلاة وتحضُّهم عليها.

وهنا لا بد من ذكر القاعدة العامة في الغاية من خَلْقِ الخَلْقِ، يقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وبعد ذلك يكون هنا جوابٌ للتساؤلات من هذا الغاية في قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 57، 58].

ونحن هنا لا نلغي عمل الإنسان في مصلحة دنياه، وأعتقد أن القارئ لا يفوته ذلك، فالحديث عن أهمية شيء لا يلزم منه نفي المكمِّل له، بل حتى لا يلزم نفي ضده أحيانًا، ولكن نتكلم عن العناصر الأقوى والوسائل الكبرى التي تُقِرُّ عينَ الأبوينِ على الأسرة.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] فهلا وجدت غير إيمانك وعملك الصالح وإيمانهم وعملهم الصالح في تأمين مستقبلهم، وهذا يأخذنا إلى بُعْدٍ آخَرَ من تأمين المستقبل، وهو الذي لا يقتصر مَداهُ في الدنيا؛ بل الأمر في الدارين.

إن العبد إذا أصلح ما بينه وبين الله واستقام على دين الله مؤتمرًا بما أمره الله، منتهيًا عما نهاه الله، يرجو رحمة الله، ويخشى عذابه، كان هذا من أعظم عناصر صلاح وأمان حياته وحياة أسرته في الدارين، وكلنا قرأ قصة الخَضِر وموسى عليه الصلاة والسلام حين بنى الخَضِر الجدار، وكان الجواب أنه لغلامينِ يتيمينِ كان أبوهما صالحًا، لقد أمَّن الله مستقبلهما بصلاح الأب، يقول تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

لقد رأينا وسمعنا الكثير عن تِلْكُم القصص فيمن ورَّث الملايين، لكنها لم تصل لورثته، وربما وصلتهم لكنها أفسدتهم، بل ربما فرَّقتهم، فكان حاصل هذا الجمع كأنما لم يُجمع بل أسوأ والعياذ بالله.

ولا بد أن نُشيرَ - كما تقدَّمَ - إلى أن العدلَ والتوازُنَ سِمةٌ في هذه الشريعة العظيمة، فالمؤمن لا يترك- كما هو معلوم بالضرورة- العملَ في دُنْياه بما يصلح له ولأسرته، وبما يكفل عيشهم، ويحفظ ماء وجوههم، فقد روى البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «..أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ..»؛ الحديث، فهذا أمرٌ معلوم، وهو سببٌ ضروري يؤدي لنتيجة، وتركه كذلك، كمثل العطشان الذي لا يرتوي ويطلب من الله الارتواء دون حركة وطلب.

ونلاحظ في الحديث أن الضابط هو أن تترك عندهم ما يُغنِيهم، وهو أفضَلُ مِن تركِهم عالةً على النَّاس يَبسُطونَ أيديَهم طلبًا للقُوتِ؛ إذًا فالضابط ليس فيه الابتذال والإسراف إلى حدِّ المكروهات، وربما التجاوزات المحرمة والخاطئة في كسب المال، وكذلك المبالغة في التكهنات المستقبلية التي ربما قادت لسوء الظن بالله، وتحميل النفس ما لا تحتمل!

فقضيتنا إذًا هي في الانهماك في الطلب المادي الصِّرْف في الأمان المعيشي الصِّرف، وهذا المفهوم الخاطئ كما فهمنا من سياقات النصوص، والمطلب هو بذل الوسائل الحقيقية في تأمين المستقبل ببُعْدَيه الدنيوي والأخروي بالدعاء كما في دعوة إبراهيم، وإصلاح النفس أولًا كما في قصة جدار الغلامين وبإصلاحهما، كما أمَرنا الله بأمرهم بالصلاة والاصطبار عليها، وقد أثنى الله على إسماعيل عليه السلام بمثل ذلك، قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]، قال السعدي في تفسيره: (أي: كان مقيمًا لأمر الله على أهله، فيأمرهم بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود، وبالزكاة المتضمنة للإحسان إلى العبيد، فكمل نفسه، وكمل غيره، وخصوصًا أخص الناس عنده وهم أهْلُه؛ لأنهم أحق بدعوته من غيرهم {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه، ارتضاه الله وجعله من خواصِّ عباده وأوليائه المقربين، فرضي الله عنه، ورضي [هو] عن ربه).

هذا هو البناء الحقيقي لمستقبل آمن، أصلِحْ نفسَك وأصلِحْهم يصلح الله لك نفسك وإيَّاهم!

اللهم أصلِحنا وأصلح بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، ربنا هَبْ لنا من أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أعيُنٍ، واجعلنا للمتقين إمامًا.
منقول