(2)
في ولد الزنا، وهل عليه من وزر أبويه شيء؟
المبحث الأول
ذكر الآية الواردة في المسألة
قال الله تعالى: [ولا تزر وزر أخرى].
المبحث الثاني
ذكر الأحاديث التي يوهم ظاهرها التعارض مع الآية
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر ثلاثة".
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة عاق، ولا مدمن خمر، ولا منان، ولا ولد زنية".
وعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل رسول الله صلى الله عله وسلم عن ولد الزنا فقال: "لا خير فيه، نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد زنا".
المبحث الثالث
بيان وجه التعارض بين الآية والحديث
ظاهر الأحاديث أن ولد الزنا ملوم بفعل أبويه، وأنه بسبب زناهما صار شر الثلاثة، وأنه لا يدخل الجنة، وأنه لا خير فيه، وهذا الظاهر يوهم معارضة الآية؛ التي فيها أن أحدا لا يحمل من إثم غيره شيئا، إلا أن يكون له فيه تسبب، وولد الزنا لا ذنب له في زنا أبويه، ولم يتسبب في زناهما، فكيف جاز أن يلام ويعاقب على فعل ليس له فيه تسبب؟.
المبحث الرابع
مسالك العلماء في دفع التعارض بين الآية والأحاديث
أولا: مسالك العلماء في حديث: "ولد الزنا شر الثلاثة":
للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يعارض الآية:
وعلى هذا المسلك الجمهور من العلماء، وقد اختلفوا في تأويل الحديث على مذاهب:
الأول: أن هذا الشر _ الذي يلحق ولد الزنا _ إنما هو في حال إذا عمل الولد بعمل أبويه.
وهذا التأويل روي من قول سفيان الثوري عند روايته للحديث، وهو اختيار المناوي، والألباني.
وأيد الألباني هذا التأويل بما روي عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولد الزنا شر الثلاثة، إذا عمل بعمل أبويه".
قال: (وهذا التفسير، وإن لم يثبت رفعه، فالأخذ به لا مناص منه؛ كي لا يتعارض الحديث مع النصوص القاطعة في الكتاب والسنة أن الإنسان لا يؤاخذ بجرم غيره). أهـ
المذهب الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بكلامه هذا إنسانا بعينه، كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع أذيته له ولد زنا،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو شر الثلاثة"، باعتبار أذاه.
وهذا التأويل جاء مرفوعا من حديث عائشة رضي الله عنها،فعن عروة قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة"، فقالت: يرحم الله أبا هريرة، أساء سمعا، فأساء إجابة، لم يكن الحديث على هذا، إنما كان رجل يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه مع ما به ولد زنا"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو شر الثلاثة".
واختار هذا التأويل: أبو جعفر الطحاوي، وأبو محمد ابن حزم.
ولأبي جعفر تأول آخر في معنى الحديث حيث قال: (يحتمل أن يكون المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالبا عليه، فيكون بذلك شرا ممن سواه، ممن ليس كذلك). أهـ
وهذا التأويل ذكره أيضا في الجواب على حديث: "لن يدخل الجنة ولد زنية" وسيأتي.
المذهب الثالث: أن شر الأبوين عارض، وولد الزنا نطفة خبيثة، فشره في أصله، وشر الأبوين من فعلهما.
وهذا التأويل قاله ابن القيم؛ فإنه ذكر حديث: "لا يدخل الجنة ولد زنا"، ثم حكى قول ابن الجوزي: إنه معارض لآية: [ولا تزر وازرة وزر أخرى] ثم قال ابن القيم: (ليست معارضة بها إن صحت فإنه لم يحرم الجنة بفعل والديه، بل لأن النطفة الخبيثة لا يتخلق منها طيب في الغالب، ولا يدخل الجنة إلا نفس طيبة، فإن كانت في هذا الجنس طيبة دخلت الجنة، وكان الحديث من العام المخصوص.
وقد ورد في ذمه أنه شر الثلاثة، وهو حديث حسن، ومعناه صحيح بهذا الاعتبار، فإن شر الأبوين عارض، وهذا نطفة خبيثة، فشره في أصله، وشر الأبوين من فعلهما). أهـ
ويرد على هذا القول: أن النطفة إنما خبثت بفعل الأبوين، والولد المتخلق منها لا ذنب له في خبثها، فكيف يكون خبيثا وهو لم يقصد الخبث، ولم يتسبب فيه؟! وعليه فالإشكال باق ولم يتم دفعه.
المذهب الرابع: أن معنى الحديث أن ولد الزنا شر الثلاثة نسبا.
وهذا تأويل السرخسي حيث قال: (وتأويل الحديث: "شر الثلاثة نسبا" فإنه لا نسب له، أو قال ذلك في ولد زنا بعينه نشأ مريدا، فكان أخبث من أبويه.
قال: وذلك لأن لأولاد الزنا من الحرمة ما لسائر بني آدم، ولا ذنب لهم، وإنما الذنب لآبائهم، كما ذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تتأول في أولاد الزنا: [ولا تزر وازرة وزر أخرى]. أهـ
المذهب الخامس: أن ولد الزنا إنما يذم لأنه مظنة أن يعمل عملا خبيثا.
وهذا تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (وولد الزنا إن آمن وعمل صالحا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال لا على النسب، وإنما يذم ولد الزنا لأنه مظنة أن يعمل عملا خبيثا، كما يقع كثيرا، كما تحمد الأنساب الفاضلة لأنها مظنة عمل الخير، فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم) أهـ
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث وعدم قبوله:
وهذا المسلك حكاه ابن عبد البر عن الإمام مالك.
وإليه ذهب أبو بكر الجصاص في كتابه (أحكام القرآن)؛ فإنه حكم على الحديث بالضعف، لشذوذه، ومخالفته للأصول، لكنه في كتابه (الفصول في الأصول) ذهب إلى قبول الحديث مع تأويله، على نحو ما جاء في المذهب الثاني، حيث قال: (وأما حديث أبي هريرة _ في ولد الزنا أنه شر الثلاثة _ فإنما معناه عندنا أنه أشار به إلى أشخاص بأعيانهم، فحكم فيهم بهذا الحكم؛ لعلمه صلى الله عليه وسلم بأحوالهم التي يستحقون بها ذلك). أهـ
وممن ذهب إلى تضعيف الحديث: ابن الجوزي؛ فإنه أورده في (العلل المتناهية)، وقال: لا يصح.
وقد جاء عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، ما يدل على معارضتهم للحديث: فعن عائشة رضي الله عنها، أنها كانت إذا قيل لها في ولد الزنا: هو شر الثلاثة، عابت ذلك وقالت: ما عليه من وزر أبويه، قال الله: [ولا تزر وازرة وزر أخرى]. (سنده صحيح)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال في ولد الزنا: لو كان شر الثلاثة لم يتأن بأمه أن ترجم حتى تضعه. (سنده صحيح)
وعن ميمون بن مهران، أنه شهد ابن عمر صلى على ولد زنا فقيل له: إن أبا هريرة لم يصل عليه، وقال: هو شر الثلاثة. فقال ابن عمر: هو خير الثلاثة. (سنده ضعيف)
وروي نحو ذلك عن عكرمة، والشعبي.
ثانيا: مسلك العلماء في حديث: "لا يدخل الجنة ولد زنية":
للعلماء في دفع التعارض بينه وبين الآية مسلكان:
الأول: مسلك قبول الحديث، وتأويله على معنىً لا يعارض الآية:
وقد اختلف أصحاب هذا المسلك في تأويل الحديث على مذاهب:
الأول: أن المراد بالحديث هو من تحقق بالزنا حتى صار غالبا عليه:
وهذا التأويل قال به أبو جعفر الطحاوي، وهو اختيار الألباني.
قال الطحاوي بعد أن ساق الحديث: (هذا الحديث أريد به من تحقق بالزنا وكثر منه حتى صار غالبا عليه، فاستحق بذلك أن يكون منسوبا إليه، فيقال: هو ابن له، كما ينسب المتحققون بالدنيا إليها، فيقال لهم: بنو الدنيا، لعملهم لها، وتحققه بها، وتركهم ما سواها، وكما قد قيل للمتحقق بالحذر: ابن أحذار، وللمتحقق بالكلام: ابن الأقوال، وكما قيل للمسافر: ابن سبيل، وكما قيل للمقطوعين عن أموالهم، لبعد المسافة بينهم وبينها: أبناء السبيل، كما قال الله تعالى في أصناف أهل الزكاة: [إنما الصدقت للفقراء]، حتى ذكر فيهم ابن السبيل...، ومثل ذلك ابن زنية، قيل لمن قد تحقق بالزنا حتى صار بتحققه به منسوبا إليه، وصار الزنا غالبا عليه، أنه لا يدخل الجنة بهذه المكانة التي فيه، ولم يرد به من كان ليس من ذوي الزنا الذي هو مولود من الزنا) أهـ
المذهب الثاني: أن الحديث محمول على الغالب؛ فإن ولد الزنا في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه، فلا يعمل عملا يدخل به الجنة.
وهذا التأويل قال به ابن حبان، وهو اختيار الآلوسي.
قال ابن حبان: (معنى نفي المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ولد الزنية دخول الجنة _ وولد الزنية ليس عليهم من أوزار آبائهم وأمهاتهم شيء _ أن ولد الزنية على الأغلب يكون أجسر على ارتكاب المزجورات، أراد صلى الله عليه وسلم أن ولد الزنية لا يدخل الجنة، جنة يدخلها غير ذي الزنية، ممن لم تكثر جسارته على ارتكاب المزجورات) أهـ
المذهب الثالث: أن المراد بالحديث: أن ولد الزنا لا يدخل الجنة إذا عمل بعمل أبويه.
وهذا التأويل قال به البيهقي، والحافظ ابن حجر، فيما نقله عنه السخاوي.
المذهب الرابع: أن المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة مع السابقين الأولين.
وهذا التأويل قال به المناوي، قال: (وذلك لأنه يتعثر عليه اكتساب الفضائل الحسنة، ويتيسر له رذائل الأخلاق). أهـ
المذهب الخامس: أن المراد بالحديث: أنه لا يدخل الجنة بعمل أصليه:
بخلاف ولد الرشد؛ فإنه إذا مات طفلا وأبواه مؤمنان ألحق بهما، وبلغ درجتهما بصلاحهما، على ما قال الله تعالى: [والذين ءامنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمن ألحقنا بهم ذريتهم]، وولد الزنا لا يدخل بعمل أصليه، أما الزاني فنسبه منقطع، وأما الزانية فشؤم زناها _ وإن صلحت _ يمنع من وصول بركة صلاحها إليه.
وهذا التأويل قال به الطالقاني.
المذهب السادس: أن الحديث في تغليظ وتشديد على ولد الزنية، تعريضا بالزاني؛ لئلا يورطه في السفاح، فيكون سببا لشقاوة نسمة بريئة.
وهذا التأويل قال به الطيبي، قال: (ومما يؤذن أنه تغليظ وتشديد: سلوك ولد الزنية في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر، ولا ارتياب أنهم ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا). أهـ
المسلك الثاني: مسلك تضعيف الحديث:
حيث ذهب جمع من العلماء إلى أن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فوصفه بالإضراب الدارقطنيـ، وضعفه ابن حجر، وحكم عليه بالوضع: ابن الجوزي، والسيوطي، وابن عراق، وابن طاهر، والعجلوني، والشوكاني.
ثالثا: مسالك العلماء في حديث: "نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحب إلي من أعتق ولد زنا":
هذا الحديث لم يصححه أحد من العلماء حسب ما وقفت عليه، وقد تأوله الطحاوي بعد روايته له: بأنه محمول على من تحقق بالزنا حتى صار غالبا عليه.
وتأوله السندي: بأن المراد أن أجر إعتاقه قليل، وذلك لأن الغالب عليه الشر عادة، فالإحسان إليه قليل الأجر، كالإحسان إلى غير أهله.
المبحث الخامس
الترجيح
التحقيق أنه لا يصح في المسألة إلا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولد الزنا شر الثلاثة"، وأما بقية الأحاديث فلا يصح منها شيء.
والذي يظهر لي في معنى حديث أبي هريرة: أن ولد الزنا هو شر الثلاثة شؤما بالزنا، وأن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "شر الثلاثة" أي: أشد الثلاثة تضررا بالزنا، وذلك لأن الأبوين إذا تابا وسترا على نفسيهما فقد اندفعت عنهما معرة الزنا، فلا يعلم أحد بحالهما، وأما الابن فلا يزال شؤم الزنا يلاحقه طيلة حياته، فهو معروف بين الناس بأنه ولد زنا، ولا يستطيع بحال أن يتخلص من ذلك، ومن هذا الباب أصبح شر الثلاثة، أي: شر الثلاثة شؤما بالزنا، وهذا لمعنى لا يلزم منه أن يكون ابن الزنا ملوما بزنا أبويه، أو أنه يعاقب على ذلك، بل هو بريء كل البراءة من إثم أبويه، وإذا كان صالحا لم يلحقه من شؤم الزنا إلا وصفه به، ولا يلحقه من إثم أبويه شيء.
وقد جاء في السنة إطلاق الشر على الضرر، وإن لم يكن الموصوف به آثما أو ملاما عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أنزلت عليه: [والمرسلات عرفا] فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية فقال: اقتلوها، فابتدرناها لنقتلها، فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقاها الله شركم كما وقاكم شرها".
ففي هذا الحديث تسمية النبي صلى الله عليه وسلم مبادرة الصحابة لقتل الحية شرا، وليس في وصفه صلى الله عليه وسلم لفعلهم بالشر ما يدل على كراهته له أو تحريمه، وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم شرا باعتبار الضرر الذي يلحق بالحية؛ لا باعتبار أن الفعل شؤم، أو أن فاعله آثم. والله تعالى أعلم.