أفول الكلمات
نهى الطرانيسي







أَجلس على جانب الكرسيِّ - مُقوَّسةَ الظهر - بالقرب مِن طاولة اكتست بالأوراق البيضاء، يتنقَّل نظري تارَةً إلى الحائط، وأخرى إلى أركانٍ منتهيةٍ بالأوراق البيضاء، لا يَهدأ ولا يستقرُّ كالضَّبُع الضارية تَبحث عن فريسة تستحوذ عليها.




وإن خالَفت عيني هذا السكون بحيرتها وانشغالها، والصمت التام الذي لا تَخشاه الحشرات من الانطلاق بعَبثها، ما زلتُ ساكنةً مكاني، كأني على موعد مع المجهول، أنتظره بدون أجَلٍ محددٍ، مُطأطَأة الرأس، وأصابعي تداعب عيني؛ علَّها تُذهب انشغالَها وحيرتها!




أشعر ببراحة العقل وفضائه حين تَخفِت الكلمات مِن ورقة، وتتلاشى وتذهب إلى فضاء أوسعَ لَمَّا يُكتَشف بعدُ!

سألتُ نفسي في خَلواتي: أين تذهب الكلمات حين تنساها عقولُنا؟! ألها مَخبأٌ داخلنا لا نَعلمه، أم تُعاقبنا برحيلها إل مَحلٍّ غير معلوم؟!

تَمددتُ بكامل طاقتي، وأطلقتُ العِنان لجسدي لأن يُطلق تثاؤبًا كبيرًا، لعله يكون سببًا لإغلاق فُوَّهة الفراغ القابعة بعقلي!




تركتني الكلماتُ وحملتْ بجَعْبتِها الصورَ والخيال دون وداعٍ، تحاملتُ على نفسي، وإن كنت أُعاني صُداعًا وتصدُّعًا يزداد قوةً مع بطشِ الهواء بجَنبات العقل المسكين!




افترشتُ من شعري مَهدًا لرأسي، أطلقتُ تنهيدةً، بدأت بالاسترخاء أكثر مع خشخشة احتكاك الشعر الضعيف، ظلَّت الأهداب مترددةً بين اللقاء والفراق، الصعود والهبوط!




تشابهتُ والكراسيَّ الجامدةَ مُبعثرةً، لا فرق بيننا إلا بعُلوِّ صدري وانخفاضه، وصوت أنفاسي الضعيف يصل همسًا إلى أُذني، خشيتُ صلابةَ الكرسيِّ وصبرَه، تخيَّلتُه واقفًا يتمدَّد بأعضائه الخشبية؛ ليزيل تعبَ الجمود، وأبقى أمامه كرسيًّا مهملًا؛ ليَلهوَ هو بوقتِ راحته!




فأقبلتْ امرأةٌ تمدَّدت بجانبي، ضمَّتني بذراعيها هامسة: (ألا تَذكريني؟!)، لم يهمَّني إن كنتُ أعرِفها أم لا، لكني اطمأننتُ لضمَّتِها وصوتها، وما يَملَؤه مِن شجنٍ وحنينٍ!




حدَّقتْ بوجهي كي تساعدني لعلي أتذكَّر! (أنا مِن عُمرِ هذا القلم المبكِّر وتلك الورقة، نشأت مِن باطنك، ملأَتِني شجنًا وحبًّا، وشوقًا التهبتْ منه الأسطرُ، نهايةً بألَمٍ حارق كوى أضلُعي، حتى أحييتِني بأمل ظلَّ دائمًا معي كلَهفة لقاء المطر العذبِ بأرض جَرداء).




بادرتُها بصوت خافتٍ: (أأنت أحد أبطال قصصي السابقة؟! أعتذر لعذابك وألَمك!).

ربَّتَتْ على كتفي: (ليس ملامةً مني، فلا تَحزني لشأني، تلك حياتنا وأقدارنا، خلَقنا العليم لنملأَ خيالكم).




خجِلتُ وتمنَّيتُ ذَهابها بعيدًا، كنتُ أنظر إلى يدي وكأنها تلطَّختْ بعَبراتها التي لا تَنضُب، حتى وقعت على أطراف أصابعي صورةٌ لشابَّة ملأت البراءة والحياةُ عينَيها، وقبلَ التحقُّق من ملامحها أسرعتُ إلى التحقُّق من حامل الصورة!




ساد حوار عقولنا والعين تُترجم، وأطبَق فمي على لساني وجرَّده من حقه، وأخيرًا: (يا إلهي، أنت صاحب القلب الشهيد الذي لم يَذُق حلاوة اللقاء والخصام؛ بل وُئِدَ يوم مولده).




ومع تزايُد رَجفتي، واضطراب سواد عيني - هرَبًا من الستار الدمعيِّ الشفَّاف - أقبلَتِ الصغيرة تحمل دُميتها، وكفُّها الأخرى بكفِّ أُمها، لهما نفس الملامح وقسمات الوجه، حتى الملابس التي اكتسحها الترابُ الأبيض، جلَسا بعيدًا يُراقبان باهتمامٍ فتاةً خجولاً تُخفي حبَّها، وقد فضَحتْها عذوبةُ ابتسامتها، وبريقُ عينَيها، وشرودُها الدائمُ!




(علمتُ الآن، هذا يوم حسابي، تأتونني اليوم لزيادة آلامي؛ لتستغلُّوا فراغ عقلي ونذالة الكلمات برحيلها، لقد تألَّمْتُ مثلكم ومعكم، ووانتابتْني انتفاضةُ عند الانتهاء مِن قصصِكم، ولازَمني الشرودُ للتفكير بكم وتنظيم كلماتكم، أرجوكم لا تُرهقوني فوق إرهاق نفسي أطوارًا)!




(مِن فضلكم، رأفةً بحالي، هدِّئُوا مِن حِدَّة توتُّركم ونظراتكم التي كالسهام المصوَّبة إلى قلمي تُريد الفتكَ به، لم أَشأ العذابَ، الألَمَ، الجرح، الصراخَ، الأحزان.

لِمَ لا نقول: إننا التقينا في مكان بعيد كالمكان الذي لجأتْ إليه كلماتي بعد الفِراقِ؟! مكان لا أذكره أو أعرِفه، أو أستطيع معرفته، فتآلفْنا واتَّفقنا ضمنيًّا بالمشاركة على الأوراق)!




ردَّ ذو القلب الشهيد: (لك أن تَسعَدي فخرًا أننا مِلكُكِ كالعبيد والجواري، ساقنا الله إليكِ لنقوم بما خلَقنا مِن أجله من التمثيل والحديث، ومَلْءِ الفراغات بالوصف الشائق، وفي النهاية نَهوي إليها سقوطًا من الإجهاد، ونَستمتع على الرغم من ذلك، لكنَّ حيرتَنا وألَمَنا أننا لا نعيش إلا حياةً واحدة بقصة واحدة لا نستطيع تغييرها)!




(لا أُخفي عليكم أني فكَّرتُ في نَحْر هذا القلم، لعل إعدامه يَشفي بعض ما بداخلكم).




فانزعجتِ الفتاةُ المليئة بالحب قائلةً: (وتَخسرين قواكِ؟! ورؤيتك لنا؟! فلا أحدَ يستطيع رؤيتنا والحديث معنا وفَهمنا ومعايشتنا سواكِ)!




بعد أن هدَأ جناحا الحكيم الهدهد واستقرَّ بِمَقْرُبةٍ مني: (أترحلين وتقصفين الأقلام بعد أن عاهدناك وتتركيننا؟! والقادمون الجدد بأحرفهم المستقبلية لمن ستَتركينهم؟!)




(لا تَدَعي ضبابَ الخوف يُسطِّر الفزعَ بسمائكِ، بل دَعي الأمل، وأحبَّاؤك الجدد يَنقشُون ويُزخْرِفون لوحاتٍ لطالَما اشتاقتْ نفسُك إليها بعد هروبها إلى حقيبة المجهول داخلك، تَعرَّفي إليهم، وابسُطي لهم جناحَ التآلف، ولا تتوجَّسي منهم خِيفةً؛ بل انضمِّي إلى وسَطهم، وسطِّري أُولى كلماتك).