" الرشوة وأخواتها "
فضيلة الشيخ : زيد بن مسفر البحري
( أما بعد : فيا عباد الله )
حديثنا في هذا اليوم عن " الرشوة وأخواتها " وقبل أن أتوغل في هذا الحديث أيصح أن يقال : " هذه معاملة لها أخوات ؟ أو تلك المعاملة هي أخت تلك المعاملة " ؟
فالجواب / يصح ، ولذا في مصنف ابن أبي شيبة : ( أن عمر بن العزيز رحمه الله قال عن العينة قال هي أخت الربا )
والعينة : هي أن يبيع الإنسان سلعة له على شخص بمبلغ مؤجَّل ثم يشتريها منه قبل أن يفرغ من السداد بأقل من الثمن الذي في ذمته " وهذا ربما يقع كثيرا في معارض السيارات ممن يتعامل بتقسيط السيارات ونحوها ، فلا يجوز لك إذا بعت على شخص سلعة وبقي في ذمته ريال واحد لا يجوز أن تشتريها منه بأقل من الثمن الذي بعتها عليه . والعينة وردت كما عند أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد ، سلَّط الله عليكم ذُلَّا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) وعند أحمد ( حتى يراجعوا دينهم ) تنطق بتثليث الراء ، تقول [ الرِّشوة – الرُّشوة- الرَّشوة ] بضم الراء وبفتحها وبكسرها . و ( الرشوة ) مأخوذة من " الرشا " الذي هو الحبل الذي يُتوصل به إلى إخراج الماء من البئر ، لأن الرشوة يتوصل بها " إلى إحقاق باطل أو إبطال حق " ظهرت رائحتها في هذه الأزمان أكثر من ذي قبل ، والسبب أن الناس غفلوا عن الآخرة وأقبلوا على الدنيا ، وأصبحت هموم الدنيا بين أعين كثير من الناس ، وقد أخبر عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر منه كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ المال من حلال أم من حرام )
وفي رواية النسائي : ( أصاب المال من حلال أو حرام )
كل ذلك من أجل أن يسعد بهذا المال المحرَّم ويُسعد أهله ، ولا يستحضر أنه ربما يكون هذا المال وبالا عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث كعب رضي الله عنه ومن حديث أبي بكر رضي الله عنه عند الطبراني : ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به )
فقد يكون هذا المال وبالا على الإنسان وعلى ماله وعلى أسرته . عدَّها العلماء من كبائر الذنوب ، وقد نقل ذلك الذهبي رحمه الله في كتابه " الكبائر " فيجب الحذرُ منها . لها صور متعددة ، فمن صورها : " ما يعطى الموظف من المال لتمرير معاملة يراد منها إحقاق باطل أو إبطال حق "
لو قال قائل : هو لم يظلم أحداً ، الحق هو هو ،لكن لدى الرجل معاملة تأخرت فأراد أن يستحثَّ بها حتى تخلص له ، فلا يجوز أن يأخذ على ذلك شيئا ، الموظف لا يجوز أن يأخذ شيئا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه : أنت عامل لدى الدولة تأخذ مرتبا ،فلا يجوز لك أن تأخذ شيئا ، فبمقتضى العمل الذي وُضعت فيه يجب أن تقوم بعملك على أكمل وجه ، ولا تُزيَّف الأسماء ، هذه هدية ، هذه عطية ، هذه إكرامية ، هذه ليست لك يا فلان وإنما هي للأولاد - سبحان الله – متى عرفت أولاده ؟! ولذلك في الصحيحين : ( لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقال له ابن اللُّتبية عاملا على الصدقة ، فرجع فقال يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي لي ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب ، فقال إني أولي الرجل منكم على العمل فيأتي ويقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ )
أجلس في بيتك وانظر هل هذا الرجل الذي أعطاك هذه الهدية وقال هذه إكرامية فهل يعطيكها ؟ ( أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يُغل أحدكم شيئا إلا أتى به يحمله يوم القيامة )
فلا تُزيَّف الحقائق ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها )
الآن يسمون الخمر بالشراب الروحي ، من باب الترويج والتسويق لها . أن الدولة قد توكل موظفاً للبحث عن شركة ليرسي عليها مشروع ، ولا يلزم أن يكون من قِبل الدولة ، وإنما في أي شركة ، فيأتي إلى شركة ويقول أنا أرسي عليكم هذا المشروع نظير كذا وكذا من المال ، فهذا فيه تزوير وخيانة وغش للأمة ، بل فيه إبطال حق ، حق من ؟ حق الأمة ، وحق صاحب تلك الشركة ، إذا كانت هذه الشركة خاصة بأشخاص ، ولذلك أنت وكيل ، فلو وكَّلتك الدولة أو وكَّلك صاحب الشركة فأنت وكيل ، والوكيل أمين ، فيجب أن تبحث عمَّا هو الأصلح لهذا المُوكِّل الذي وكَّلك في بيع أو في شراء ، لا تبحث عن مصلحتك أنت ، فلو أعطيك سيارتي لتبيعها ، فيجب أن تبيعها نصحا لي ، لا أن تبيعها بأقل من أجل محاباة ، أو تبيعها بأكثر وتأخذ الزائد، لأن بعضا من الناس يسأل يقول : بعض الناس يعطيني سلعته من سيارة أو غيرها ، فيقول بعها لي يا فلان بألف ريال ، فيبيعها له بألف ومائة ، فيأخذ المائة – هذا حرام إلا في حالة واحدة – إن قال لك يا فلان بع هذه بألف وما زاد فهو لك ، فلا إشكال هنا ، أما أن يقول لك بعها بألف ثم أنت تبيعها من حيث لا يشعر ومن غير اتفاق تبيعها بأكثر وتأخذ هذا الزائد ، فإن هذا حرام ، ولذلك قال عز وجل عن أصحاب الكهف : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ }الكهف19، وكَّلُوه { فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً } من باب تحقيق المصلحة لهؤلاء الموكلين الذين وكَّلوه .
يتبع...