المظاهر الحسية المختلف فيها - المظاهر الوجدانية:
بقلم: أبي يزيد سليم بن صفية / مرحلة الدكتوراه بكلية الدعوة/ الجامعة الإسلامية بالمدينة
ب- المظاهر الحسّية المختلف فيها:
إنّ مواعظ القرآن قد تحدّث عند سامعها اضطراباً, وصياحاً, وصعقاً, وربّما موتاً.
وهذه الآثار لم تكن موجودة في جيل الصحابة وإنما وجدت في عصر التابعين ومن بعدهم, فأنكرها بعضهم, وأجازها الآخرون.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وله -أي: سماع مواعظ القرآن- في الجسد آثار محمودة من خشوع القلب, ودموع العين, واقشعرار الجلد.
وقد ذكر الله هذه الثلاثة: في القرآن, وكانت موجودة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى عليهم فى القرآن.
وَوُجِد بعدهم في التابعين آثار ثلاثة: الاضطراب, والاختلاج والإغماء أو الموت, والهيام.
فأنكر بعض السلف ذلك إما لبدعتهم, وإما لحبهم.
وأما جمهور الأئمة والسلف: فلا ينكرون ذلك, فإنّ السبب إذا لم يكن محظوراً, كان صاحبه فيما تولّد عنه معذوراً" [1].
وفيما يلي بيان مفصّل لآراء السلف رحمهم الله في هذه الآثار المحدثة:
- الرأي الأول: يرى أصحابه أنّ هذه الأحوال مذمومة, مبتدعة.
ومن جملة ما استدلوا به: أنّ هذه الآثار محدثة مبتدعة لم تكن في جيل الصحابة الذين هم أكمل الناس إيماناً وأشدهم خشوعاً, ولأنّ هذه الأفعال والآثار من سمات الخوارج والمبتدعة, وأنّ أغلبها ناشئ عن رياء, وفيما يلي بعض النقول عن السلف في ذلك:
- عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله؛ تدمع أعينهم, وتقشعر جلودهم.
قلت: إنّ ناساً هاهنا إذا سمعوا ذلك, تأخذهم عليه غشية.
فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" [2].
- وعن أبي حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط, والناس حوله فقال: ما هذا ؟ فقالوا: إذا قرئ عليه القرآن أو سمع اللهَ يُذْكَر, خرَّ من خشية الله.
قال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله, ولا نسقط !!" [3].
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئِل عن القوم, يُقرأ عليهم القرآن فيصعقون, فقال: ذلك فعل الخوارج" [4].
- وعن جابر بن عبد الله أنّ: "ابن الزبير رضي الله عنه قال: جئت أبي, فقال: أين كنت ؟ فقلت: وجدت أقواماً يذكرون الله, فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله, فقعدت معهم, فقال: لا تقعد بعدها !.
فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في, فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن, ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا, أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر؟.
فرأيت ذلك كذلك فتركتهم" ( [5]).
- وسُئِل محمد بن سيرين: عن الرجل يقرأ عنده فيصعق؟ فقال: ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط, ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن وقع فهو كما قال" ( [6]).
- قال القرطبي رحمه الله -بعد أن ذكر أحوال الصحابة عند سماع الذكر-: "لا كما يفعله جهال العوام, والمبتدعة الطغام؛ من الزعيق, والزئير, ومن النهاق الذي يشبه نهاق الحمير, فيقال لمن تعاطى ذلك, وزعم أن ذلك وُجْدٌ وخشوع: لم تبلغ أن تساوي حال الرسول صلى الله عليه وسلم ولا حال أصحابه في المعرفة بالله, والخوف منه, والتعظيم لجلاله" ( [7]).
- الرأي الثاني: فإنهم يرون أنّ أصحاب هذه الآثار مغلوبٌ عليهم, ليس لهم حيلة في دفع, أو ردّ هذه الأحوال.
وقد شهد بعض الصحابة من تلاميذهم بعضاً من هذه الأحوال ولم ينكروا عليهم, لعلمهم أن حيلتهم تضعف عن مقاومة ذلك.
فعن أبي وائل قال: "خرجنا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومعنا الربيع بن خيثمة, فمررنا على حدَّادٍ, فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار, فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط.
ثم إنّ عبد الله مضى كما هو, حتى أتينا على شاطئ الفرات على أتون ( [8]), فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه, قرأ هذه الآية: (( إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً )) -إلى قوله- (( دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً )) ( [9]) فصعق الربيع, ثم غشي عليه.
فاحتملناه فأتينا به أهله -قال- ورابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق, فرابطه إلى المغرب فأفاق, ورجع عبد الله إلى أهله" ( [10]).
قال الشاطبي رحمه الله معلِّقاً على هذه القصّة: "فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابي, ولم ينكر عليه, لعلمه أنّ ذلك خارج عن طاقته, فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه فلا حرج إذاً" ( [11]).
و عن قتادة قال: "دخل على عمر بن عبد العزيز رجل يقال له: ابن الأهتم, فلم يزل يعظه, وعمر يبكي حتى سقط مغشياً عليه" ( [12]) .
يتبع إن شاء الله: