قضاء القاضي بما علمه من ملابسات الخصومة
نافع بن عثمان الأنصاري


من أهم المسائل الفقهية في موضوع القضاء، مسألة قضاء القاضي بما علمه من ملابسات القضية أو الخصومة، وهذه المسألة من مشاهير مسائل الخلاف بين الفقهاء - رحمهم الله تعالى -، وقد لخصنا مذاهبهم وأدلتهم في هذا البحث المختصر.
مذهب الحنفية: لفقهاء الحنفية -رحمهم الله- تفصيل فيما يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه وما لا يجوز، فإن كانت القضية في حد من حدود الله -تعالى- فلا يجوز للقاضي أن يحكم فيها بعلمه، وإن كانت في حقوق الآدميين فإما أن يكون علمه بعد توليه القضاء أو قبله، فإن علمه بعد تولي القضاء في مكان عمله جاز له أن يقضي بما علم منه، وإن كان قبل توليه القضاء لم يجز[1].
دليلهم: استدلوا على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه في الحدود بما روي عن أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: "لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي[2]، وبأن الحدود مندوب إلى سترها، وأنها تدرأ بالشبهات، وليس من درئها اكتفاء القاضي بعلمه.
واستدلوا على جواز قضاء القاضي بعلمه في حقوق الآدميين بحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمنعن رجلا هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه))[4]، وذلك لما اشتكت إليه أن زوجها أبا سفيان يقتر عليها في النفقة، فحكم لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يطالبها ببينة على ما قالت لما علمه من حال أبي سفيان - رضي الله عنه -، وأنه إذا جاز أن يحكم بما شهد به الشهود، وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه وهو على علم أولى[3]، وبقول النبي-صلى الله عليه وسلم-، قال لهند - رضي الله عنها -: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
مذهب المالكية: ذهب المالكية إلى أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا، لا في الحدود ولا في حقوق الآدميين، وله إذا اطلع على شيء أن يرفعه لغيره من القضاة ويكون شاهدا[5].
دليلهم: يستدل لهم على عدم جواز قضاء القاضي بعلمه في الحود ـ بما سبق في مذهب الحنفية، وعلى عدم جواز قضائه بعلمه في حقوق العباد أم سلمة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار))[6]، ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - يقضي على نحو ما يسمع لا على ما علمه من ملابسات الخصومة، وبحديث الأشعث بن قيس، قال: "كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "شاهداك أو يمينه"، ففي الحديث حصر الحجة في الشاهد والبينة، وليس فيه علم القاضي، وأيضا فإن أن قضاء القاضي بعلمه قد يؤدي إلى تهمته وعدم ثقة الناس فيه، ولو فتح الباب في ذلك لما أمن على كثير منهم الحكم بما يشتهي خصوصا في هذا الزمن الذي تغيرت فيه النفوس، فسد ذريعة هاتين المفسدتين متجه في هذا الموطن، والشرع لم يعتد بعلم القاضي ولم يجعله حجة في باب النكاح؛ لأن النكاح لا ينعقد بالقاضي وشاهد آخر، فكذلك في غيره من الأبواب لا يكون حجة في الخصومة.
مذهب الشافعية: للشافعية في هذه المسألة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: موافق لمذهب الحنفية (لا يقضي به في الحدود ويقضي به في حقوق الآدميين) إلا أن الشافعية لم يفرقوا بين ما علمه في ولايته وبين ما علمه قبلها، وهذا القول الأظهر والصحيح عند الشافعية[7].
الوجه الثاني: موافق لمذهب المالكية، (وهو المنع مطلقا) وقد سبقت أدلة ذلك[8].
الوجه الثالث: جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا (في الحدود وغيرها، علِم به قبل عمله أو بعده)[9].
مذهب الحنابلة: في مذهب الحنابلة في هذه المسألة روايتان:
الرواية الأولى: موافقة لمذهب المالكية والأظهر عند الشافعية (وهو المنع مطلقا). وهذه الرواية هي المذهب[10].
الرواية الثانية: موافقة للوجه الثالث عند الشافعية، وهو جواز قضاء القاضي بعلمه مطلقا (في الحدود وغيرها، علِم به قبل عمله أو بعده)[11].
مذهب الظاهرية: أن حكم القاضي بعلمه واجب، قال ابن حزم: "وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء، والقصاص، والأموال، والفروج والحدود، وسواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته"[12].
الترجيح: الترجيح والمناقشة: من خلال العرض السابق لأدلة أصحاب المذاهب الأربعة يترجح لدي -والله أعلم- أن الذي تقتضيه الأدلة الشرعية منع قضاء القاضي بعلمه مطلقا.
ويجاب عن أدلة الجواز بأن حديث أبي سعيد الخدري عام، وحديث أم سلمة خاص فيقدم عليه، وأما حديث هند: فأجاب عنه الإمام ابن القيم بما ملخصه: أنه فتوى وليس قضاء، ويدل على ذلك عدم حضور أبي سفيان، ولو كان حكما لم يقض عليه في غيبته، والحكم على الغائب عن مجلس الحكم الحاضر في البلد غير ممتنع وهو يقدر على الحضور ولم يوكل وكيلا لا يجوز اتفاقا[13].
وأما القياس على الشهادة فلا يصح؛ لأنه معارض بنص ظاهر فهو فاسد الاعتبار. والله أعلم.
_________________
[1] بدائع الصنائع (7/7)، شرح فتح القدير (7/314) وفي وجه أن الإمام يقضي بعلمه في حد القذف والقصاص والتعزير الأشباه والنظائر (1 / 255).
[2] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/144)، والخرائطي في مكارم الأخلاق (ص/ 107). وقال ابن الملقن في البدر المنير (9/609): "إسناده صحيح إليه" يعني إلى بكر..وقال ابن القيم في الطرق الحكمية: (1/287) "صح عن أبي بكر".
[3] أخرجه أحمد (3/19، 50، 61) والترمذي (2/30) و ابن ماجه (4007) و الحاكم (4/506) و قال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".وصححه الألباني في الصحيحة (1/271).
([4]) متفق عليه، أخرجه البخاري(13/406)، ومسلم (5/129).
[5] انظر: شرح ميارة على مختصر خليل (1/104) التاج والإكليل لمختصر خليل (11/73)، البجهة (1/122).
[6] متفق عليه، أخرجه البخاري (17/402)، ومسلم (5/128).
[7] انظر: المجموع (20/162) تحفة المحتاج في شرح المنهاج (43/142)
[8] انظر المراجع السابقة.
[9] انظر المراجع السابقة.
[10] انظر: الكافي (4/464)، الإنصاف (11/251).
[11] انظر: الكافي (4/464)، الإنصاف (11/251).
[12] المحلى (9/426).
[13] ينظر: الطرق الحكمية (1/288) المبدع (10/61)، شرح الزركشي (3/371).