البنيوية: عوامل النشأة وأسباب التقوض
عمر السنوي الخالدي
مقدمة:
معلومٌ أنَّ التطوُّر هو سُنَّةُ الطبيعَةِ؛ لذلك فإنَّ نظْرةَ الإنسان إلى الفنِّ والجَمالِ تَتَغيَّر أيضًا وتتطوَّر لأسباب مختلفة ومتعدِّدة، ومن مظاهر هذا التغيُّر في المجال الأدبيِّ: تطوُّر الإبداعات الأدبية وتعدُّد أجناسها وأنواعها، وهو تطوُّر صاحبَتْه ثورة في الأساليب والدراسات والتحليلات والقراءات... وهكذا ظهرت عدة مناهج تتبنى مبادئ معيَّنةً في مقاربة العمل الأدبي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: المنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي وغيرها.
وفيما يلي عرض مقتضب يحتوي على التعريف بمنهج باتَ يُصطلح عليه بـ"المنهج البنيوي"، فما معنى البنيوية في النقد الأدبي؟ ومتى كانت نشأتها؟ وكيف نشأت وانتعشت؟ ومِن أين أفادت؟ وما هي مبادئها؟ ومَن هُم روَّادها في العالم الغربي أولًا والعربي ثانيًا؟ وهل يا ترى استمرت أم تقوَّضَت؟!
تعريف البنيوية:
لتوضيح مفهوم مصطلح البنيوية لا بد أولًا من الوقوف على الدلالة اللغوية له، فبالعودة إلى المعاجم اللغوية يتبيَّن أنها تحدَّرت من "بَنى يبْني بناءً"، فهي إذن الصورة أو الهيئة التي شُيِّد عليها بناءٌ ما، وكيفية ذلك التركيب[1]، ولا يعني ذلك عملية البناء نفسها أو الموادَّ التي تتكون عملية البناء منها؛ وإنما تعني كيفية تجميع هذه الموادِّ وتركيبها وتأليفها لكي نكوِّن شيئًا ما ونخْلقه؛ بهدف تأدية وظائف وأغراض معينة.
أما على صعيد المعنى الاصطلاحي الوضعي، فالبنيوية هي النظر في التصميم الداخلي للأعمال الأدبية بما يشمله من عناصرَ رئيسةٍ تتضمن الكثير من الرموز والدلالات، بحيث يتبع كلُّ عنصر عنصرًا آخَر.
متى وأين ظهرت البنيوية في النقد الأدبي؟
ظهرت البِنْيَوية في نواحٍ عديدة من نواحي الحياة، والذي يُهِمُّنا هنا هو الحديث عن ظهورها في النقد الأدبي.
إن المدرسة البنيوية، أو المنهج البنيويَّ لم يظهر في الساحة النقدية الأدبية اللغوية إلا في منتصف القرن العشرين[2]، وتحديدًا في فرنسا في عقد الستينيَّات من القرن العشرين، وذلك عندما قام (تودوروف) بترجمة أعمال الشكلانيين الروس إلى اللغة الفرنسية[3] في كتاب بعنوان: "نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس".
مصادر البنيوية وروافدها:
أول مصادر البنيوية وأهمها هي حركة الشكلانيين الروس، والتي ظهرت في روسيا بين عامي 1915 و1930، وقد دعت إلى العناية بقراءة النص الأدبي من الداخل؛ لأن الأدب من منظورهم يُعدُّ نظامًا ألْسُنِيًّا ذا وسائط إشارية (سيميولوجية) للواقع، وليس انعكاسًا للواقع. ولذلك استبعدوا علاقة الأدب بالأفكار والفلسفة والمجتمع والتاريخ.
أما المصدر الثاني فـ "هو (النقد الجديد) الذي ظهر في أربعينيّات القرن العشرين وخمسينياته في أمريكا، فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنية [عزرا باوند]، وأنه لا حاجة فيه للمضمون، وإنما المهم هو القالب الشعري [هيوم]، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاتِه [جون كرو رانسوم]"[4].
وأما المصدر الثالث فهو ذيوع صيت علم اللسانيات الحديث، والذي يتقاطع مع المدرسة الشكلانية الروسية، ولعل هذا المصدر هو أهمُّ مصادر البنيوية، ولا سيما "ألسنية دي سوسير" الذي يُعد رائد الألسنية البنيوية، بسبب محاضراته (دروس في الألسنية العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته، وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) فإن الاتجاهات البنيوية كلها قد خرجت من ألسنيَّته، فيكون هو قد مهَّد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظامًا لغويًّا خاصًّا، وفرَّق بين اللغة والكلام: فـ(اللغة) عنده هي نتاج المجتمع للملكة الكلامية، أما (الكلام) فهو حدَث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتية للمتكلم[5].
وأما المصدر الرابع فهو ما يسمَّى "حلقة براغ"، وهي حلقة دراسية مكوَّنة من ثلة من علماء اللغة في براغ - عاصمة التشيك، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها "ماتياس" لكن المحرِّكَ الرئيسَ لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسية "ياكبسون" الذي تنقَّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلَّ بشَّر بآرائه، وكان له دَور فعَّال في نشر الوعي بالنظرية الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين، ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صبَّ سوسير زَيْتَه ونسجتْ الشكلية خيوطه، وأخذوا يتحدَّثون بشكل صريح متماسك عن بنائية اللغة[6].
هل تختلف البنيوية عن الشكلانية؟
لا شكَّ في أنَّ ثمة فرقًا بينهما، فبالإمكان رصد نقاط الاختلاف بينهما، المتمثِّلة أساسًا في كون الشكلانية وضَعتْ "أسُس الاختلاف بين الشكل والمضمون داعيةً إلى الاعتناء أكثر بالشكل على حساب المضمون، أما البنيوية فقد حاولت دمجَ الشكل في المضمون، والدالِّ في المدلول (المعنى)؛ لأن الدالَّ الواحد لا بد من أن يُنتِج مدلولاتٍ مختلفةً لشخصين أو متلقِّيَين اثنين مختلفَين حسب التجارب الفردية، وعليه يصير النص واحدًا والقراءات متعدِّدة"[7].
لماذا نشأت البنيوية؟
تَقدَّمَ في بداية المبحث أنَّ التجديد والتطوير هو أمر طبيعي، وعليه فإنَّ المنهج البنيوي إنما نشأ في مجال النقد الأدبي مواكبةً لمتطلبات العصر وثقافته وما توصَّل إليه العلْمُ آنذاك.
ومِن عوامل النشوء توفُّر المقدِّمات التي سلفَ ذكرُها، والتي كانت من مصادر هذه المدرسة وروافدها، كما اتفق العديد من الدارسين والنقاد على أن الشكلانية والبنيوية قد ظهرتا معًا كردِّ فعلٍ ضدَّ اللاعقلانية الرومانسية، وعلى التحليلات التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي، ويُقصد بذلك تلكم النزعة الماركسية بالدرجة الأولى[8].
يقول ديتش: "أدَّت الثورة ضد المجمل الأدبيِّ - مع استعماله للتاريخ والسيرة استعمالًا غير محدَّد - إلى ثورةٍ من نَحو ما على التاريخ والسيرة، أو قُل: أدَّت إلى القول بأنَّ هذين أَدَاتان لا حاجة للنَّاقِد بهما؛ فالمَهمَّة الأولى للنَّاقد هي أن يصِف الآثار الأدبيَّة بدقَّة مستقصية، وأن يجد قِيمتها على أساسٍ مِن ذلك الوصف، فتركَّز الاهتمام على تحليل الأثَر الأدبيِّ معزولًا عن أيَّة قرينة، بدلًا من الإجمال التاريخيِّ لعصرٍ من العصور"[9].
يتبع